Lo racional y lo irracional en nuestra herencia intelectual
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Géneros
فريق «المرجئة» يمثل التسامح المقبول، وهم يرون إرجاء الحكم على المذنب إلى يوم القيامة، فيكون لله حسابه.
إذا كان الخوارج قد خرجوا على علي، فقد شايعه فريق «الشيعة». حق الخلافة له ولأولاده من بعده. (16)
وما زلنا في البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري). ظهور التضاد الفكري بين المعتزلة والخوارج في مسألة الذنوب الكبيرة، وبين المعتزلة وأهل السنة في مسألة صفات الله، ثم ظهور تضاد فكري آخر بين القدرية (وهم من المعتزلة) الذين يجعلون للإنسان إرادة حرة مسئولة، والجبرية الذين جعلوا كل فعل بمشيئة الله وحده. ملخص لأمهات المسائل التي عرضت لعقول أسلافنا عندئذ، وكيف كانت مسائل انبثقت من حياتهم، ولم تعد بالمسائل التي تؤرقنا اليوم؛ لأنها بعيدة عن حياتنا، باستثناء مسألة واحدة قد تكون باقية ما تزال، هي الخاصة بحرية إرادة الإنسان أو جبرها.
مسألة حرية الإرادة ومسئولية الإنسان عن فعله؛ كيف نشأت؟ واصل بن عطاء في حلقة شيخه الحسن البصري عندما ألقى السؤال لأول مرة عن مرتكب الذنب الكبير. واصل يطرح إجابته بالقول ب «المنزلة بين المنزلتين». رأيه لم يعجب شيخه الحسن البصري، فاعتزل عنه واصل؛ ومن ثم جاء اسم «المعتزلة». رأي «واصل» متفرع عن قوله ب «القدر» (أي بحرية إرادة الإنسان في فعله، بغير حرية الإنسان في اختياره لا يكون «العدل» مفهوما في ثوابه وعقابه). جهم بن صفوان يعارض واصلا، ويجعل كل شيء بإرادة الله وحده. المسألة الخاصة بصفات الله؛ أهي الذات الإلهية نفسها كما قال المعتزلة، أم هي قائمة وحدها كما ذهب الصفاتية؛ أي أهل السنة؟ (17)
ما زلنا في البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري). رجال اللغة والنحو يمثلون الحركة العقلية خير تمثيل. لم يكن هؤلاء مبتوري العلاقة بحياة الناس الفعلية كما هم اليوم. مراجعة المفكرين للقرآن ابتغاء الهداية فيما عرض لهم من مشكلات، اقتضى الوقوف عند نصه اللغوي. الخليل بن أحمد؛ لو وضعت عبقرية الخليل في اليونان لكانت أرسطو، أو في أوروبا النهضة لكانت نيوتن. يضع الخليل أول معجم للغة، ولأول مرة يضع للشعر العربي بحوره. ترتيبه الحروف في المعجم بحسب مخارجها عند النطق؛ فأقصاها مخرجا يرد أولا في الترتيب، وأدناها إلى الشفتين يرد آخرا؛ ومن ثم بدأ بحرف «العين»، ومن ثم كذلك سمى معجمه ب «العين»؛ لأن «العين» أول حرف عولج لكونه أقصى الحروف مخرجا من الحلق. تقسيم منطقي رياضي لما «يمكن» أن تجيء عليه الألفاظ من حيث طريقة بنائها، سواء وقع في تاريخ اللغة بالفعل أن وردت تلك الألفاظ، فتدلنا «الخانات» الفارغة في ذلك التقسيم على ما يجوز للعرب استحداثه من ألفاظ اللغة استجابة لما يطرأ لهم من ظروف جديدة. الخليل يجمع «الشواهد» التي تبين معاني الألفاظ بطرائق استخدامها. مقارنة ذلك بتيار فلسفي معاصر لنا يجعل معنى اللفظة مرهونا بوقوعها في جملة تحتويها، وإلا ظلت بغير معنى. لما كان معظم «الشواهد» أبياتا من الشعر القديم، التفت الخليل باهتمامه إلى الشعر وطريقة نظمه. (18)
البصرة تلتزم ضرورات المنطق في دراسة علمائها للغة. ما ورد على ألسنة القدماء مما لا ينساق مع تقسيماتهم المنطقية عدوه شاذا، مثلهم مثل بروقرسطس الأسطوري. إمام البصرة في هذا الاتجاه هو سيبويه تلميذ الخليل بن أحمد، يدعى كتابه المشهور في النحو ب «الكتاب»، بلغ علم النحو العربي أعلى ذراه في الكتاب بغير سوابق تدريجيه تمهد لبلوغه هذا المرتقى. الأمثلة كثيرة في ميادين الفكر والثقافة لظهور النتاج الضخم دفعة واحدة. في كتاب سيبويه إحالات إلى أسلاف له في مواضع كثيرة، لكن ذلك لا ينفي الكمال المفاجئ في تنسيق البناء. عقلانية البصرة وصرامة منطقها في دراسة اللغة والنحو اقتضى أن تنشأ في الكوفة مدرسة معارضة تجعل الرواية عن السلف - لا ضرورات المنطق - مدارها في القول والرفض. الكسائي في الكوفة يناظر سيبويه في البصرة. اختلاف البصرة والكوفة على هذا النحو ربما جاء صدى لاختلافهما السياسي؛ فأهل البصرة لم يكونوا من أهل الجزيرة العربية، فكان همهم ألا يجعلوا الأسلاف العرب مقياسا، بل منطق العقل الإنساني هو عندهم المقياس، وأهل الكوفة من أصول عربية؛ ولذلك اتجهوا إلى الإعلاء من شأن السلف في اللغة والنحو.
الفصل الرابع: مصباح العقل يشتد توهجه (19)
هذه هي الوقفة الثالثة على الطريق، وقد اخترنا لها مدينة بغداد في القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري). بث الدعوة سرا لانتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس. تركيز الدعوة في الكوفة - لولائها لآل البيت - وفي خراسان لنقمة الموالي (وهم الفرس المسلمون) على الأمويين. الأمويون عرب خلص أرادوا السيادة للعرب على غيرهم حتى لو كان غيرهم من المسلمين؛ هنا تحالفت السياسة مع الثقافة في الهدف، فإذا كان الخلاف السياسي بين من أراد الخلافة للعرب من غير بني أمية ومن أرادها مقصورة على بيت الرسول، فكذلك كان الخلاف الثقافي قائما بين من أراد التعصب للثقافة العربية وحدها، ومن اعتز بالثقافات الأخرى العريقة كالثقافة الفارسية؛ الأولون هم حزب بني أمية، والآخرون هم الموالي المؤيدون لأن تكون الخلافة في آل البيت؛ من هنا التقت شيعة علي مع الساخطين من الموالي.
نجحت الدعاية السياسية لبني العباس، وبويع أبو العباس بالخلافة سنة 750م. اتهام بني أمية بالجور وابتزاز أموال الناس والظلم وإيثار الدنيا على الآخرة؛ وإذن فأسلافنا كان فيهم ما في البشر من طباع حسنة وسيئة. بعد أن استنفد بنو العباس حلفاءهم في الوصول إلى الخلافة، انقلب خليفتهم الثاني (أبو جعفر المنصور) على أبي مسلم الخراساني. (20)
تلك المقدمات السياسية في سطوة بني العباس وقتلهم لأبي مسلم الخراساني، أنتجت نتائج ثقافية، منها اللامعقول ومنها ما يدور في دنيا العقل؛ فمن اللامعقول الذي نتج ارتداد الفرس إلى عالم الوهم والخرافة في ردتهم إلى ثقافاتهم القديمة ليقاوموا بها ثقافة العرب، تأليه الفرس الساخطين لأبي مسلم الخراساني، تيارات من زندقة: من ذلك حركة «سنباد» وحركة «الراوندية»، وكما ارتد المجوس إلى مجوسيتهم (تعاليم زرادشت) ارتد أتباع «ماني» و«مزدك» إلى عقائدهم المانوية والمزدكية.
Página desconocida