قال عزت بك: إن أبا الهدى أرسلني إليك لتأذن لولي الدين في الذهاب إليه؛ وهو يقول لك: لا تخف عليه، إنه بمنزلة ولدي ولا يصيبه عندي سوء، وما أدعوه إلا لأعاتبه عتاب الآباء للأبناء.
قال أحمد جلال الدين: أعدت الآن رسالتك بمسمع من غريمك، وها أنا ذا أعيد جوابي لك بمسمع منه أيضا. بلغ عني أبا الهدى أن يده لأقصر من أن تصل إلى ولي الدين بشر، وأنا لا أمنع ولي الدين عن زيارته إذا هو شاءها، ولكنني أمنعه بعد ذلك أن يدخل لي بيتا. ثم التفت نحوي وقال: وأنت ماذا تريد؟
قلت: أرى ما تراه.
ولقد أظهر أحمد جلال الدين من النخوة ما أوثره له مع أجمل الثناء. أما عزت بك فرجع إلى أبي الهدى وأخبره الخبر، فوقع على فؤاده كالسهم إذا أصاب صميمه، وسكنت عواصف الغضب في فؤاد عدو لو ظفر بي لأحرقني بالنار.
وكان بنفسي شيء في رجوع مراد الداغستاني إلى الآستانة. وقد اختلفت الروايات فيها، فزعم جماعة أن عبد الحميد استرضاه، وقال آخرون: لا بل التمس هو من الأسباب للرجوع حين نفدت دراهمه. وإذ كان رجوع الداغستاني هو على يد جلال الدين سألته يوما أن يخبرني بما وقع، فأخبرني أن عبد الحميد استدعاه ذات يوم وقال له: رأيت أن أؤخر إعلان الدستور إلى أجل غير محدود؛ وذلك لأن الأمة لم تكن متهيأة له، فأما وقد عرفت مزاياه وظهر من أبنائها من يهجرون أوطانهم ويستصغرون المهالك في طلبه، فقد آن لنا أن نهبهم طلبتهم. ولكن هذا لا يتم وفي أوروبا مثل مراد وغيره يملئون الصحف ويواصلون الجهاد، ومثلي لا يرضى بأن يقول فيه الناس إنه خاف جماعة من رعيته خرجوا عليه فأعلن الدستور مكرها لا راضيا. فاذهب إلى هؤلاء الناس وقل لهم أن يرجعوا إلى بلدهم، وليمر على رجوعهم بعض الشهور وأنا أحلف لك بشرف المتقدمين من أجدادي أني أعلن الدستور بعد ذلك.
قال أحمد جلال الدين: فخرجت من عند عبد الحميد وأنا أكاد أطير فرحا، وقلت في نفسي: لا يوثق بكلام هذا الرجل ولكنه آلى يمينا لا يحنثها أبدا. فأدركني الحاج علي باشا رئيس قرناء السلطان إذ ذاك وقال: أمرني مولاي أن أبلغك صدور الإرادة إلى البنك العثماني باعتماد كل ما تطلبه من المال على حساب السلطان، فتبسمت له ابتسامة ازدراء عرف المراد منها، وخرجت ولم أجاوبه بشيء، ولما التقيت بمراد الداغستاني ورفاقه قبل مراد بغير شرط، إلا أن رفاقه طلبوا المال وقالوا إن علينا ديونا ولا نستطيع أن نسافر قبل قضائها. ومنهم من رضي أن يكف عن الكتابة في طلب الدستور على أن ينقد مالا يعيش به في أوروبا، وألا يكره على العودة إلى الآستانة. فأديت سفارتي وقلت إنني لم أكلف بسماع اقتراح. وقلت لهم: أنا لا أحب الدخول في أمور مالية، ولكنني سأكتب إلى السلطان مطالبكم، ولا أدري إن كان يرضاها أم يأباها، ولما جيء لي بالكتاب وقد كتب على ما يريدون أمسكت القلم بيدي وقلت: وددت لو انكسرت يميني ولم أكتب مثل هذا الكتاب. أما مراد الداغستاني فلم يرض بالمال الذي أمر به السلطان، ولكنه اقترض مني ألفي فرنك ليشتري بها بعض الهدايا لبنتيه، وتم الأمر ورجع مراد إلى الآستانة.
وقد أنفق أحمد جلال الدين في سفرته هذه من ماله الخاص نحو العشرين ألف جنيه، ولما سئل عن مقدار ما أنفق قال: لم أعده إلى الآن. إن هو إلا قطرة من جود مولاي السلطان. ولم يستعض عن ذلك كثيرا ولا قليلا.
وإذ وفق الله أحمد جلال الدين إلى استرجاع أكثر الأحرار واستراح عبد الحميد قليلا من سهر الليالي ومراقبة العباد، وبقي جواسيسه لا يتهمون إلا رجالا ممن لا يخرجون من أسوار الآستانة؛ راع ذلك حساد جلال الدين وقالوا: لقد فاز عند السلطان أيما فوز، فلا تنفع فيه الوشاية ولا يضره الحسد، ولكن المحاسدين لا يملون والأعداء لا يغفلون. وقد عرف ذلك أحمد جلال الدين قبل وقوعه، فقال للأحرار الذين خاطبهم في ترك النضال: إني منذ اليوم من الهالكين؛ أسعى لأرجعكم. وهذا السعي ينفعكم ولا يضركم ويشرح صدر السلطان، غير أن لي أعداء سيجعلون نجحي وبالا علي. وقد صدق فأله وجعلوا نجحه وبالا عليه، وذكروا عند عبد الحميد أن أحمد جلال الدين لو لم يكن متواطئا مع الأحرار لما استطاع إسكاتهم. وكيف خاب غيرهم في مخاطبتهم وأفلح هو؟! ولم يثق الأحرار بكلامه ولا يثقون بكلام غيره؟! فصدق عبد الحميد هذه الأكاذيب وقلب لأحمد جلال الدين صفحته لما رابه أمره، فأذكى له العيون والأرصاد وأقصاه عن حظوته، وتخذه لنفسه محاربا ولسطوته مغالبا.
شهدت كل هذا بعيني وأنا إذ ذاك بالآستانة أزور منزل جلال الدين وأغشى مجالسه، ولو بلي غيره بما بلي لنجا بنفسه من بين تلك الشدائد، ولاطرح عن كاهله أعباء ينوء بها كل قوي النفس صبور على المكاره.
رأيت قوما يطرقون باب هذا الشهم ويتهافتون على موائده ويتخاطفون هباته، ثم يرمونه بسهام لا تخطئ. وقد رأيت أحمد جلال الدين قليل التفرس؛ وأهل الجرأة لا تفرس لهم، وإنما يتحرى البواطن ويستقري السرائر كل قلق الجأش مستطار الفؤاد. فإذا استرسل جلال الدين في حديثه لم يبال بمن حضر مجلسه من الناس كراما كانوا أم لئاما. وقد يبلغ عبد الحميد أن جلال الدين قال فيه كذا وكذا، وأنه نال منه بحضرة كثيرين، فيسر له الحقد ويضمر له الانتقام. ولقد انتقم منه بأن سلط عليه فهيما المشهور، كان رجاله يطوفون بيت جلال الدين ليلا حذرين خائفين أن يحس بهم أحد ممن في البيت فيطول همهم.
Página desconocida