لم أشك تأخر راتب ولا طول كد. غير أن الذمة وقفت بيني وبين ذاك الخفض الذي كنت فيه، رأيتني أنقد المال وليس لي فيه حق، يحبس القروي ويضرب لكل قرش من قروشه وأنا قاعد على الكرسي الفخيم يسير الحجاب بين يدي ليوسعوا لي الطريق. تلك لعمر الله سرقة سيعاقبني فؤادي عليها ولو عفا الله عنها.
فقلت: أبعد بذلك المال وأبعد بتلك المقاعد! وكتبت إلى السلطان رسالة برقية أسأله فيها نقلي إلى وظيفة أحسن القيام بمهامها، فرأى أن ينقلني عضوا إلى المجلس الأعلى بنظارة المعارف مع زيادة راتبي زيادة تبلغ حد الكفاية، فصدرت الإرادة السلطانية بذلك، فأسرعت إلى جمعية الرسومات وودعت من استطعت أن أراه من رفاقي وداع من لا يرجو التلاقي أبد الدهور، وخرجت أيمم نظارة المعارف، وأنا لا أدري أفيها أحد يعرفني أم ليس لي فيها أحد، فدخلتها خائفا مترددا كمن يلج غابات لا يدري ما وراءها.
أنا بنظارة المعارف
قلت أرى أن أذهب إلى «المحاسبه جي»؛ وهو بمنزلة مدير الحسابات في الحكومة المصرية، فأرسلت إليه بطاقتي مع الحاجب، فبادر إلى استدعائي لعنده ، فلما توسطت حجرته نهض واقفا وتقدم نحوي خطوات، ومد إلي يمينه محييا. وهذا المحاسبه جي رجل اسمه شكري بك الحسيني، ينمى إلى بيت من بيوتات الحسب في المقدس، قدم الآستانة فصاهر أحد الباشاوات المعروفين، وبذا نال من الترقي ما جعله بالمكان الذي رأيته فيه، فلما جلست إليه أقبل علي يحادثني، فأخبرني أن زهدي باشا ناظر المعارف لم يحضر، وسألني الانتظار إلى وقت حضوره ليدخل بي إليه ويعرفني به. قلت: ما في الانتظار من بأس. ثم ما لبثنا أن أخبرنا الحاجب بحضور الباشا، فتركني شكري بك مكاني وبعد دقائق قضاها عنده جاء فأخذني معه وأدخلني إلى حضرته، فإذ هو رجل كهل بادن منتفخ الوجه، ذو لحية بيضاء تبدو في خلالها شعرات سود هي من بقايا ما ترك الشباب، فتقدمت مشيرا بالسلام، فرفع يمينه قليلا جوابا لسلامي وأومأ إلي أن اجلس فجلست، ثم التفت نحوي ليكلمني فقال: هل سبقت لك خدمة في الحكومة؟
قلت: نعم، كنت من أعضاء جمعية الرسومات، بقيت فيها نحو العامين، والآن نقلت إلى المعارف. - هل حلفت اليمين القانونية؟ - هل يبقى مستخدم في خدمته عامين ينظر في أعمال الحكومة من غير أن يحلفوه اليمين؟! - حسن، وماذا تعرف؟ - لا أعرف شيئا. - وكيف يجعلونك عضوا بمجلس المعارف الأعلى إذا كنت لا تدري شيئا؟! أمدرسة هذه جيء بك لتتعلم فيها؟
فرأيت كلام الرجل غليظا كطبعه، فقلت في نفسي: الرأي أن أكلمك بما تفهم، فاللهم عفوا عما سيجري على لساني، لا أنطق به مختارا بل مضطرا، وقلت: إنما قلت لا أعرف شيئا تأدبا، وإلا فإني من أكبر الراسخين في اللغة العربية واللغة التركية، يشهد الملايين ممن قرءوا ما أكتب أني من شعراء الطبقة الأولى ومن الكتاب الآخذين بنواصي الكلام؛ نظرت في العلوم قديمها وحديثها، قريبها وبعيدها، فأصبت منها الحظ الأوفر. هذا وأنا أحسن الكتابة والكلام باللغة الفرنساوية، وأخذت من فنون علمائها ما لم يفز بمثله غيري، ولي مؤلفات بالعربية والتركية هي حجة العلم لنقض الجهل. فجعل الرجل يستمع حديثي ويتأمل وجهي كمن يريد أن يبلو محدثه، فعلمت أني كبرت في عيني هذا الناظر الغبي، وأيقنت بعدها أن خير ما يحفظ للمرء كرامته في عاصمة الملك العثماني هو أن يكون مدعيا لما ليس فيه من المزايا. وكان شكري بك جالسا أمام زهدي باشا غارقا في صمته يصغي إلى حديثنا ولا يشاركنا فيه، فقال له الناظر مشيرا نحوي بيسراه: خذ هذا وادخل به إلى المجلس. فسلمت وخرجت وأنا لا أدري كيف أكتم ضحكا يكاد يغلب علي هنالك، فأمسك شكري بك بيدي ونزل بي إلى قاعة المجلس الأعلى.
فلما ولجنا الباب رأيت مكانا رحبا في وسطه مكتبة مستطيلة كالخوان، على طرفها الكائن بصدر المكان رجل كالقبرة، يكاد لا يجده متفقده لولا عمامة كقرص من الجبن الكريتي تشرف على مكانه، وعلى الجانب الأيمن للداخل أعضاء كلهم معممون، وعلى الجانب الأيسر آخرون على رءوسهم الطرابيش. فتقدم بي شكري بك إلى الجالس بصدر المكان وغمز ذراعي قائلا: هذا هو الرئيس حيدر أفندي. ولما صرنا أمامه قدمني إليه وتركنا وانصرف، فدار الرئيس بعينيه في الجلوس، ثم التفت نحوي قائلا: ما ثم مكان خال، الأعضاء أكثر من الكراسي عددا، فاجلس إلى جانبي حتى يخرج أحد الجالسين فتجلس مكانه، وخاطب الحاضرين يعرفهم بي، فسماني لهم وبالغ في مدحي كما أسر إليه شكري بك قبل انصرافه، هنالك ارتفعت الأيدي بالسلام وابتسمت الثغور ترحيبا. ثم خرج بعض المعممين فجلست مكانه، وإني لأجيل ناظري يمنة ويسرة لأنظر ما يصنع هذا الجمع، فرأيت في الموضع القريب من باب القاعة رجلا ربعة القامة، كث اللحية أسودها، ممتلئ الجسم، على ناظرتيه «نظارة» بيضاء يقرأ بها أوراقا أمامه ويوقع تحتها، فدلتني هيئته وأطواره على أنه رب فضل، وعلمت بعدها أنه أمر الله بك الشهير، وكان في مواجهتي رجل نحيف الجسم ذو لحية سوداء أيضا اسمه راسخ أفندي، حادثته قليلا فظهر لي من حديثه أنه أصاب حظا من العلوم الآلية، وأنه يقول الشعر ويجيده بالتركية والفارسية على الأسلوب القديم، فقلت في نفسي هذا مجلس المعارف الأعلى، ولا بد أن يكون هؤلاء الرجال من جلة أهل الفضل والمتقدمين على كثير من علماء زمانهم، فخير لمثلي أن يختار السكوت لكيلا ينكشف جهله وتصاب مقاتله. فإذا تعودت الأعمال ووقفت على حقائق الأشياء أتيت لهم بما يتجدد لي من رأي تكون وراءه فائدة تستفاد.
وبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل قيل لي إنه أحد كتاب قلم المجلس، قد زرر «سترته» أدبا، وأمسك أوراقه بيديه وتقدم حتى قارب مكتبة صغيرة هي على يسار الرئيس، فوضع عليها الأوراق ووقف ينتظر الأمر، فقال لي راسخ أفندي: الآن يقرأ الكاتب علينا ما ينبغي أن ننظر فيه من الأوراق. فإذا انتهى من تلاوتها أبان كل منا عما يرى. فإذا رآها على ما يجب وافق عليها، وإذا رأى موضعا للإعراض اعترض. فتناول الكاتب ورقة تلاها بصوت عال وأنا أسمعه وأتأمل حال الأعضاء، فرأيت واحدا يسر لمن هو جالس إلى جانبه حديثا، وآخر يكتب كتابا، وثالثا يأكل الحمص، ورابعا أثقل النعاس هامته، وخامسا يقرأ جريدة في يده، وإذا كلهم كما قال الحسن بن هانئ:
كأن أرؤسهم والنوم واضعها
على المناكب لم تخلق بأعناق
Página desconocida