أما الجنرال أحمد جلال الدين باشا فلم يأذن له عبد الحميد بالسفر، وقال له: أنا أعرف أن الغازي مختار باشا حاسد لك، وأعرف أنك صلب في عنادك، وأخشى أن تذهب إلى مصر فيقع بينكما ما يستحدث أمورا عظيمة، فأخر سفرك في عامنا هذا، وربما تدبرت لك في سبب جديد يؤدي إلى مقصودك. فلم يجد الجنرال بدا من الرضاء.
وروي أن ابن هولو لما كثر مغالبوه وبدت لمنازليه مقاتله عمد إلى مصاولتهم بكل حيلة يتنبه لها ذهنه، ولو كان فيها خراب الملك ودثور آثاره؛ حتى عرف ذلك الأجانب قبل العثمانيين، فقال له ذات يوم المسيو «كمبون» سفير فرنسا بالآستانة إذ ذاك: عجزت دول أوروبا عن حل المسألة الشرقية في أعوامها المديدة ويوشك أن تحلها أنت فيما دون العام! ونقل هذا الكلام ناقله إلى عبد الحميد، فحقدها عليه واستبقى الانتقام إلى زمان يهون فيه الانتقام، وكان أعداء عزت والمعية المصرية واقفين لهما بالمراصيد، فلما سافر البرنس عزيز إلى نجد أقاموا «يلديز» وأقعدوها، وبالغوا في وصف ما سيتلو ذلك من الفتن، وقالوا: هو أمر الخلافة آن لأعوانه أن يجاهروا به. ثم أظهروا القلق من ذهاب الإمارة إلى جهة العريش، وما برحوا بعبد الحميد حتى حملوه على أن يأمر بزيادة الجنود في العقبة ليكونوا على أهبة إذا عاد الأمير مجتازا بالطور. فأيقن الحزب الهدائي أن النصر حالفهم وأن قد عقدت رايات المجد على سيدهم. وسخر الله للصيادي أمرين تذرع بهما إلى الإثراء والإيقاع بأعدائه؛ فقصد إليه أولياء وقف «طشيوز» وكالوا له المال كيلا، ولحقت بهم دائرة البرنس حليم طالبة مظاهرتها في قضية العلماء والسيدة نزاكت هانم قبل أن نظرت بالمحكمة المختلطة بمصر في 14 فبراير سنة 1898، ووجد خليل الله هنالك صدرا رحيبا ومنزلا آهلا، وحملت الهدايا البلورية من «كارلسباد» وكان الأمر مقضيا.
وبينا أبو الهدى وشيعته في غرورهم يفرحون بما حل بعزت وأعوانه من خيبة وخسران إذ روعهم الله بالسفرة الشكيبية، فنزلت على رءوسهم نزول القضاء المبرم، فبدلوا بأنس القرب وحشة النوى، وبخفض العيش عناءه، وطارت الرسائل البرقية بين السيد الصيادي وحبيبه بمصر؛ فانتعشت أرواح عزت وحزبه وأخذت الحظوة مأخذها الأول. فأصابت الإمارة المصرية حظها وقالت: لست بتاركتك يا «يلديز» هذه المرة، واعتصمت بحبل منها لا يرث بتقادم الزمان وتقلب الحدثان. ولقد صدق المتنبي إذ قال:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
ولا يطمعن القارئ الكريم في بيان شيء من السفرة الشكيبية؛ فتلك قصة تكفي فيها الإشارة ولا يحتمل الأدب من أمرها أكثر من الإشارة.
وقد رأى بعضهم هم المعية ونصبها في استرضاء أناس من الأحرار العثمانيين وإسكاتهم، والسعي في إرجاعهم إلى الظالمين؛ ليجزوا نواصيهم ويرتاحوا من صراخهم المستمر لإيقاظ الأمة، فأجمعوا بينهم على أن يدعوا وجود جمعية سرية بمصر تسمى «جمعية شفق»، وأن هذه الجمعية ذات شأن عظيم، وأن لها من الأسرار ما لو كشف عنه الغطاء لحارت فيه العقول، فطربت المعية لهذا الخبر طرب الثمل وقالت في نفسها: الآن دار فلكي سعدا وأتاني الدهر مسالما. غدا أستطلع هذه الخفايا وأبعث بها إلى «يلديز» كعبة الآمال. وما كان إلا مثل رجع الطرف وإذا على أبوابها أقوام أكلت السنة الممحلة غواربهم ومناسمهم، أقبلوا يدفع بعضهم بعضا، فقيل لهم: هاتوا ما عندكم من الأسرار، قالوا: بل هاتوا أنتم ما عندكم من الدنانير وأسمعونا رنينها في أكفنا وأرونا لمعانها بأعيننا، فتلك المفاتيح لهذه الكنوز، فانفتحت لهم ميازيب الجو تهمي نضار خالص، وما ناب المستخبرين من «شفق» إلا احمرار بقي كالورس على وجوههم.
وقد كاد يفوتني ذكر «الماركي» المشهور الذي كان معتمد إحدى الدول العظمى بمصر؛ فلقد كان مستشار الإمارة باطنا وصديقها ظاهرا، وثقت بوده وأخذت برأيه حتى أحدث الجفاء بينها وبين اللورد كرومر، وكان «الماركي» يبشر الإمارة بقرب خروج الإنكليز من مصر، ويعدها من لدن حكومته بالنصر التأييد، فذاع بين الناس أن هذا المستشار أشار على الإمارة بالسعي في انتحال الخلافة ، مظهرا لها مكان الدولة العثمانية من الخطر، مذكرا إياها بأن الخلافة أخذت من مصر وأنها ستعود إلى مصر، زاعما أن دولة أيدت محمد علي الأول حتى تبوأ سرير الإمارة المصرية الجديرة بأن تتوج سليل مجده بتاج الخلافة، فوقعت هذه البشائر من القلب الفتي وقع القبول، ولكن عظم المطلب وقلة الأنصار ثنيا عنان الصبا. وهنالك لعبت أنامل الرقباء فجاءت الأنباء ساكن «يلديز» وفيها من الزيادات ما قدر على إيجاده أربابها، وكان من تلك الزيادات أن المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني والمرحوم عبد الله النديم المصري سبقا الناس إلى إقرار البيعة بالخلافة الجديدة للخليفة الجديد.
وليس في قراء كتابي هذا من يكون نسي كيف كان غضب عبد الحميد وكيف حظر على الإمارة المصرية أن تزور الآستانة، كما أنه ليس بينهم من نسي كيف ساء هذا الغضب المعية المصرية، وكيف بذلت جهد طاقتها في استرجاع الرضاء الحميدي. لو شئت أن أستقصي تلك الأعمال لرأيت هذه الصحائف أضيق من أن تسع قليلها. غير أني لست تاركا كل ما أعلم. ولا أريد أن أخرج من هذه الدنيا كاتما حقا أنا من شهوده، وتأبى ذمتي أن يعلن الدستور العثماني وينقرض أشياع الاستبداد، فيظهر بعد ذلك بعضهم مغالطين قائلين: الآن نلنا المراد، هذا عيدنا ويوم فوزنا، وما هو بعيدهم ولا بيوم فوزهم لو أنصفوا قليلا.
نعم أن المعية حاربت أحرار العثمانيين وحاربت حرية الأمة العثمانية بأسرها. هذا أمر ينبغي أن يسطر في تاريخها؛ فهي هي التي استعانت على جماعة من شبان العثمانيين بذهبها وحاجتهم وقد قطع عنهم المدد وامتنع عليهم الرزق. فلما غلبتهم على أمرهم وجهتهم إلى الآستانة. وقد اتخذت ذلك عادة لها، فصارت كلما صفا ما بينها وبين «يلديز» زادت في الاقتراح؛ فيوما تطلب الفوز بوقف ويوما تطلب الإنعام بقصر. وكلما تكدر ذلك الصفاء عمدت إلى استغواء أناس من أسرى الاغتراب ومطرودي الحظ؛ فقدمتهم على مذابح الظلم.
Página desconocida