المسيو لامبروس نيقولاييدس.
حكمت بك.
وكان بسيواس منفيان؛ أحدهما علي غالب بك، هو مدير الأوراق بنظارة المعارف، وثانيهما عادل بك؛ وهو أحد خزنة الكتب في مكتبة عبد الحميد التي بقصره. لقد صددنا عن هذين الرجلين لأن المتقدم الذكر منهما أحد الجواسيس الذين فتكوا بالأرواح فتك الذئاب حتى ضرب بالسيف الذي ضرب به المظلومين، والثاني رجل مذموم الأخلاق مملول الود لا يدانيه أحد من الناس. وقدم سيواس بعد ذلك منفيان: أحدهما ألبوز بك حمو عبد الحميد، وثانيهما توفيق بك متولي زاده أحد أشراف إزمير. وكان ألبوز بك يقبض كل شهر راتبا قدره 150 جنيها، وكان بسيواس منفيون غير الذين ذكرت أسماءهم، وعددهم أكثر من الخمسين والمائة. غير أنهم فرقوا في أنحاء الولاية، فأسكن فريق منهم توقاد وأسكن فريق آماسيا وأسكن الباقون بلادا أخرى داخلة في الولاية.
وقد عن لي في بعض أيامي رأي، فدعوت بمن تقدم ذكرهم من الإخوان وقلت لهم: «هذه حياة لا لذة فيها؛ نظل في سيواس حتى تفنينا الأيام ونرى إلى وطننا وقد أشفى على الهلاك، كل يوم يموت منه عضو، والظالم الجبار سالمته الأيام، فما أظنه يموت وفي الوطن حياة ترجى.» فقال قائلهم: وما رأيت لنا في الأمر؟ قلت: ما عندي رأي مختمر، وإنما دعوتكم لنتشاور في الأمر جميعا، ولكن ينبغي أن نعلم أن سبيل العمل فيما نتحدث فيه محفوفة بالمكاره، فمن أحس في نفسه ضعفا فليتنكبها، إنا نريد أنصارا ذوي عزم. لو أن في قلبي أقل الريب في صدق أحدكم ما خاطبتكم في مثل هذا الأمر، اطلبوا التدبر والتأمل، ثم انظروا ما ينبغي أن نبدأ فيه. إني أظن أن الرأي في تأليف جمعية سرية تكون على الطريقة الماسونية أو تقرب منها؛ على ألا تكون ثم رئاسة تستهوي القلوب ويتخاصم عليها الإخوان. إنا قليلون والثبات يكثرنا عددا، ولنتخير من أشراف سيواس من نأمن غدره ونثق بمروءته ومن هو جدير بنصرتنا أو مشاركتنا في بلوانا إذا حم القضاء. هذا أمر لا يستطاع الفراغ منه في مجلس واحد، والأيام بيننا، وسنزداد في كل التئام نلتئمه رأيا جديدا.
قالوا: من لنا بالسلاح والعدة؟
قلت: السلاح والعدة لهما رجال غيرنا، وإنما علينا أن نحكم تدبيرنا ونتولى استكمال جمعيتنا. فإذا أتت نوبة السلاح والعدة نظرنا في ذلك، ولن تأتي تلك النوبة إلا وحولنا رجال أولو بأس ونجدة.
فرضي الإخوان رأيي ووعدوني بالنظر فيه، ثم توالت اجتماعاتنا، فكنا نتفق على أشياء ونختلف على أشياء، حتى اتفقنا على ألا نتفق، وسلك كل بعد ذلك طريقا، وانقسمنا جماعات وكلنا أقل من أن نكون جماعة واحدة. غير أني لم أعلم على أحد من الإخوان ما يزري بحريته ولا ما يستحدث ريبا في نجدته. وقد فرق الدهر بيني وبينهم بعد إعلان الدستور ونحن متوادون ، لم يبدل أحدنا بسياسته سياسة، صبرنا على مضض الأيام ووقفنا في وجه الحكومة البائدة غير صاغرين، ولو كان والي سيواس غير رشيد باشا عاكف لقضينا الأيام في ظلمات السجون، ولكن الوالي كان حرا شهما وكان منفيا مثلنا؛ فهذا خفف ويلاتنا وجعلنا في مأمن من كيد الخائن. ولقد ذاق مر العذاب إخواننا الذي نفوا إلى خربوط وقسطموني وغيرهما، وابتلوا بولاة لو سألهم عبد الحميد أن يقتلوا الأجنة في البطون لأطاعوا.
كيف مرت أيامي بسيواس؟
العامة تقول: «الغريب أعمى ولو كان بصيرا»، هذا مثل يصدق في. إن سيواس أرض عثمانية وأنا رجل عثماني؛ فهي إذن بلدي وأنا ابنها. غير أن الغربة غربة الدار واحدة، كل أرض لم يسبق للمرء علم بها هي دار اغتراب له. وقد كانت أوائل أيامي في سيواس أيام شدائد، ضقت ذرعا حتى لا أدري أين أذهب وإلى من ألتجئ، ولولا إخواني الأحرار الذين تقدم ذكرهم لبلغ بي الحرج أقصى حدوده، وما لبثت أن استأنست بالدار وأهلها واتخذت لي رفقة صالحة من نازليها ومن أشرافها، ثم أخذت أجوب مسارحها وألم بساحاتها، فصرت بعد ذلك كأني بعض أهلها.
ولقد علمت أن الحكومة في غنية عن خدمتي، وأن المراد من وظيفتي اسمها دون حقيقتها، ورأيت الموظفين يخفون عني أوراق الحكومة التي تتضمن شيئا من أسرارها، فاخترت ملازمة الدار، وألقي في روعي أن قراءة الكتب قد تستحدث نسيانا لمصائبي وتفيدني ما لا أعلم، فجعلت أتحرى أسفارا أقتطف فوائدها وأقتبس من معارفها. فإذا حظ البلدة منها قليل، فاشتريت من القصص الفرنساوية ما أدخلت في غفوة من أعين الرقباء، فجعلت أقرؤها وأستعين بها على مغالبة البطالة، وأعارني إخواني الأحرار مما عندهم من الكتب، فشفت داء صدري وطابت بها أوقاتي، وأحببت أن أقضي بعض ساعاتي في التأليف، ولكن خوفني الأصدقاء من شر ذلك، قالوا: قد يتصل بالحكومة أمرك فتدخل الشرطة دارك وتروع أهلك وحسبهم ما لقوه بالآستانة، وإذا ظهر شيء تكون كتبته حرفوه وزادوا على ما فيه ورموا بك رمية لا نجاة لك بعدها ، فأقمت بسيواس ما أقمت لم أؤلف رسالة ولا كتبت فصلا من رسالة سوى كتابين.
Página desconocida