ما كان أغناها عن الحالين!
فصفق الشيخان حتى كادا أن يخرجا من جلدهما، كما عبر الجاحظ. أدركا أن مدعوهما سباق قد لا يبلغ داعي الدعاة غايته، فقال له الداعي: يا أخانا أبا العلاء، كان في نيتنا أن نلقي إليك بالدعوة أقساطا لأنها تسع مراتب، ولكننا وجدناك في المرتبة العليا فطرة وغريزة، فرأينا أن تضييع الوقت إثم، فوجب علينا، والحالة هذه أن نراعي استجابتك لنا، ونلقي دعوتنا عليك تباعا الليلة؛ فلعلك تدعو غيرك إلى الحظيرة، فيشد أزرنا بك، أعطنا الآن صفقة يمينك.
فمد أبو العلاء يمينه معاهدا على كتم السر الذي أتعبه حمله طوال الحياة، ومات ولم يبح به لأحد، حتى ولا لداعي الدعاة المؤيد في الدين - أبي نصر هبة الله بن موسى - الذي تصدى له في آخر العمر، كما يعلم كل من له إلمام بأدب المعري، ولكن الداعي عرف صاحبه فكان سكوت، وكفى الله المؤمنين القتال.
ووجم أبو العلاء بعد إعطاء صفقة يمينه، وأطبق شفتيه إطباقة صارمة تنم عن تصور وتصميم، ثم التفت إلى الناحية التي يأتيه منها الصوت، فقال الداعي: «اعلم، يا أحمد، أن لكل عصر إماما، ولا بد للناس من إمام يأخذون عنه.» ثم أفاض في شرح جميع الرموز التي سأله عنها البارحة، فإذا هي - في عرفهم - دلالة صارخة على «قائم الزمان الأخير»، ثم انتقل به إلى شرح شعائر الإسلام من الصلاة والزكاة والطهارة وغير ذلك من الفرائض، ففسرها بأمور مخالفة للظاهر.
وتنحنح الداعية وسعل سعالا اهتز له أبو العلاء، وسكت الشيخ قليلا ثم قال: اعلم، يا أحمد بن عبد الله، أن هذه الأشياء وضعت على جهة الرموز لمصلحة العامة وسياستهم، حتى يشتغلوا بها عن بغي بعضهم على بعض ، وتصدهم عن الفساد في الأرض. هي حكمة من الناصبين للشرائع، وقوة في حسن سياستهم لأتباعهم، وإتقان منهم لما رتبوه من النواميس ونحو ذلك.
ونظر الداعي إلى أبي العلاء التفاتة مستنطق يقرأ أسرار الصدور على صفحات الوجوه، فأدرك أن أبا العلاء يعتقد كل الاعتقاد أن أحكام الشريعة كلها موضوعة على سبيل الرمز لسياسة العامة، وأن لها - أو ليس لها - معاني أخر غير ما يدل عليه الظاهر، فأسرع الداعي به ونقله إلى الكلام في الفلسفة، وحثه على النظر في كلام أفلاطون، وأرسطو، وفيثاغوروس، ومن في معناهم، ونهاه عن قبول الأخبار بالسمعيات، وزين له الاقتداء بالأدلة العقلية والتعويل عليها.
فرد عليه أبو العلاء بابتسامة نصف ساخرة حين سمعه يحضه على التبصر بكلام الفلاسفة، وكأنه يقول له ما قاله ذلك الرجل السائل المسيح عما يعمل ليرث ملكوت السموات.
فتوقف الداعي وأخذ ينظر إلى رفيقه، وأبو العلاء لا يدري لماذا سكت، ولكنه عرف أن هناك سببا فقال لداعيه: ما خطبك؟
فأجابه الداعي: إن الانتقال إلى الدعوة السابعة يقتضي زمنا طويلا.
فصاح به أبو العلاء: إن عقل من تدعوه أكبر بكثير من الزمن الطويل الذي تريد، هلم بنا، عجل علي فلست أصبر.
Página desconocida