سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، فأي شيء رآه الكفار في أنفسهم وفي الآفاق حتى عرفوا أنه الحق؟ وأي حق عرفه من جحد الديانة؟
ألا نرى أنا جهلنا أنفسنا التي من جهلها كان حريا ألا يعلم غيرها؟
فتنهد أبو العلاء وقال: هذا ما يشغل بالي، لا بل حرمني النوم. أين كنتما فلم تأتيا لتفريج كربتي وتبديد حيرتي؟ لا نوم الليلة ...
وطال الجدال بينهم، وطلب أبو العلاء الاستزادة، فلم يزده الداعي، وضرب له موعدا الليلة القادمة، وانصرف الشيخان من عنده بعدما أكلا التين والفستق.
وقال أبو العلاء للشيخين: لا نوم الليلة، ولكن الشيخين ناما نوما هادئا مطمئنا؛ لأن فوزهما كان عظيما، أما نظما في سلك الدعوة أثمن درة كانت واسطة العقد الخالدة؟
أما شيخ المعرة فبات وباتت له ليلة دونها ليلة الذبياني. إنه لا يعنيه راعي النجوم كالنابغة؛ فسيان عنده غاب أو آب. الظلم مسارح الأفكار، والليل أخفى للويل.
لقد طار نوم أبي العلاء، فاستيقظت قريحته. ألقى رأسه على مخدته فتواردت عليه الخواطر، فطفق يهمهم ويدمدم، يردد ألفاظا معلومة يقلبها على جميع وجوهها. ظل يفعل ذلك حتى غفا قبيل الصبح بقليل. ولم يستيقظ «المدعو» العظيم إلا على أذان العصر، وهو يحسبه أذان الفجر، فتغدى وعاد إلى أبيات شعره ينقحها ويهذبها.
وكان بين آونة وأخرى يصيح بخادمه: ماذا من النهار يا غياث، أين صارت الشمس؟
وكان الخادم يتعجب من حال سيده؛ فما تعود منه هذه الأسئلة.
ولما أذن المغرب أمر غياثا أن يهيئ شيئا يتنقل به. وجاء الشيخان في ميعادهما، فرحب أبو العلاء بهما أجمل ترحيب وأحره، وكانت مقدمة قصيرة ناقش فيها شيخيه، وأخيرا عرض عليهما أبياته التي نظمها أمس بعد ذهابهما:
Página desconocida