كان أبو العلاء ينصرف إلى الشطرنج واللهو في خانات المعرة ليريح باله من شكوكه، ولكن فكرته لا تفارقه؛ فهو حائر بين هذه المذاهب جميعها، فهل من حل لهذه المعضلة؟
وفيما كان يفكر، ذات يوم، في الأحداث السياسية، وما يروى من الأخبار والآراء العجيبة الغريبة المتضادة عن «الفاطمي» - الحاكم بأمر الله - الذي ولي الحكم صبيا تحت كنف الأوصياء، ثم اشتد ساعده فاستبد بهم وبه، ودانت لهيبته أعاظم الرجال في دولته، وخرت لها جبابرتها ساجدة. كان يفكر عصر النهار في تلك المعضلات المستعصية على الحل، فذهل عن العشاء، ولكن خادمه نبهه إلى ذلك، فتعشى وعاد إلى تفكيره.
وفيما هو كذلك إذا ببابه يقرع، ففتح ودخل شيخ ومعه شيخ آخر يسأل أبا العلاء خلوة به، فعرفه أبو العلاء من صوته بعد سنين، وذكر أنه الشيخ الذي كان يلفت سمعه في مجلس أبيه، فصرف الضرير خادمه ليخلو له المكان بزائريه الكريمين.
وبدت على وجه أبي العلاء المتجهم أمارات الاستئناس، وكانت جلسة طويلة تلتها جلسات أطول. وإليك خبرها ...
دعوة أبي العلاء
كانت تشغل بال أبي العلاء أخبار المعز لدين الله الفاطمي الذي دانت له مصر على يد قائده جوهر. وكان دوي تلك الكلمة التي سمعها المعري من أبيه عن هؤلاء الفاطميين لا يزال في أذنيه؛ فهو دائم التفكر بها. وزاده هياما بهم ما رواه أحد المحدثين عن المعز، أنه دعا عدة من شيوخ كتامة في يوم بارد فرأوه في مجلس مفروش باللبود وحوله كساء وعليه جبة، وحوله أبواب مفتحة تفضي إلى خزائن كتب، وبين يديه دواة وأوراق، فقال: «يا إخواننا، أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد، فقلت لأم الأمراء، وإنها الآن بحيث تسمع كلامي: أترى إخواننا يظنون أننا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب ونتقلب في المثقل والديباج والحرير والفنك والسمور والمسك والخمر والقباء كما يفعل أرباب الدنيا؟ ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضركم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم، واحتجبت عنكم. وإني لا أفضلكم في أحوالكم إلا بما لا بد لي منه من دنياكم وبما خصني الله به من إمامتكم. وإني مشغول بكتب ترد علي من المشرق والمغرب، أجيب عنها بخطي. وإني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما يصون أرواحكم، ويعمر بلادكم ويذل أعداءكم ويقمع أضدادكم، فافعلوا، يا شيوخ، مثل ما أفعله، ولا تظهروا التكبر فينزع الله النعمة عنكم، وينقلها إلى غيركم. وتحننوا على من وراءكم ممن لا يصل إلي كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل، ويكثر الخير، وينتشر العدل. وأقبلوا بعدها على نسائكم والزموا «الواحدة» التي تكون لكم، ولا تشرهوا إلى التكثر منهن والرغبة فيهن، فينغص عيشكم، وتعود المضرة عليكم، وتنهكوا أبدانكم، وتذهب قوتكم، وتضعف نحائزكم؛ فحسب الرجل الواحد الواحدة. ونحن محتاجون إلى نصرتكم بأبدانكم وعقولكم. واعلموا أنكم إذا لزمتم ما أمرتكم به، رجوت أن يقرب الله بكم علينا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب بكم. انهضوا رحمكم الله ونصركم.»
كان أبو العلاء في ذلك المساء يفكر بهذا الكلام الذي رأى فيه دستورا جديدا لم يسمع بمثله عن حياة الملوك في كل عصر، فتمنى الاتصال بمثل هؤلاء الأئمة والقادة الذين ينهجون للناس نهجا جديدا قويما، فهاجت قريحته فقال:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستباحوا كيدها
Página desconocida