ثم في نهاية العام، توفيت السيدة هدى شعراوي. عندما رفعت ورفيقاتها الحجاب عن وجوههن علانية، لم يكشفن عن وجوههن فحسب وإنما كن يكشفن عن قلوبهن وإرادتهن؛ كيما تستعيد المرأة المصرية كل ما فقدته خلال القرون الماضية في حياتها المادية وفي كرامتها، تلك المرأة التي استغلت في أغلب الأحيان نسيانا أو جهلا بأن القرآن الكريم، لو قرئ بإمعان، لا يسمح للمسلمين على الإطلاق بتعدد الزوجات. كانت مناضلة بلا عدوانية، دائمة النشاط، مستعدة دوما لطلب النصيحة والمعونة ممن يستطيع منحهما، وكان وجهها الهادئ النبيل الذي لا ينسى فيض طاقة وعذوبة ... بيد أنك أنت يا سيزا من تملك حق التحدث عنها.
209
وفي نهاية عام 1947 كنا نتخلص بالكاد من الخوف الكبير من الكوليرا، وكان يمكن لهذا المرض أن يسبب كارثة لولا حكمة وفعالية الإجراءات التي اتخذت على الفور؛ فقد علمنا بذلك عندما كنا في مرسيليا لحظة إبحارنا. وأظن أننا، ونحن على ظهر الباخرة، بعيدين عن الأخبار الدقيقة، كنا في منتهى القلق. لم نكن وحدنا القلقين، وككل ربات البيوت، قمت باتباع القواعد الصحية الضرورية المطلوبة في مثل هذه الحالة بدقة. وكان الجميع في بيتي يطيعني، بيد أنه لم يقبل أحد منهم تناول الموز المغلي، وكان ذلك منهم سلوكا طفوليا.
وتطوعت ابنتي مع غيرها من الفتيات والنساء للمساعدة في التطعيم العام. لم تكن قد مارست إعطاء الحقن من قبل قط، وكانت أولى زبائنها التي اختارتها امرأة قوية من الدرب الأحمر بدا عليها الذعر. قالت لها أمينة بصوت حاسم: «هيا معي! لا تخافي؛ فمعي لن يؤلمك ذلك أبدا.» وغرزت إبرتها بجرأة في ذراع على قدر كبير من السمنة أتاح للإبرة أن تدخل وحدها. وبعد هذا النجاح، قامت بتطعيم مئات الناس حتى الوجه القبلي؛ حيث ذهبت بصحبة فريق من الصليب الأحمر.
حفلت سنوات ما بعد الحرب بلقاءات سعيدة. وكان أول هذه اللقاءات لقاؤنا مع أندريه جيد. كان عائدا من الأقصر، وكان ينزل ضيفا على أسرة «فييت
Wiet ». وقد صحبه جاستون فييت
210
لمنزلنا ذات صباح. كان طه في مكتبه يحدث الحب أحيانا منذ النظرة الأولى، وكذلك الود، ولقد كان هذا اللقاء الأول بين طه وجيد واحدا من هذه المرات. كان طه يعجب بجيد، ولا شك، ولكن من بعيد قليلا؛ فهما لا يتشابهان كثيرا. غير أنهما ما إن التقيا حتى تفاهما على الفور إثر مناقشة عفوية كانا فيها كلاهما على رأي واحد، وأظن أن كلا منهما قد تعرف في الآخر هذا الانفتاح الروحي النادر والبساطة الكلية. وقد عاد جيد لزيارتنا وتقاسم معنا بعض وجباتنا، وعرفت ما يحب: الشيري براندي، والجانرك. ولاحظ طه أن جيد أعجب بالسجائر التي كان يدخنها، وهي سجائر «الميراكل»، فأرسلنا له منها إلى باريس، وأسعده ذلك.
وكان عدد من أصدقاء أمينة أعضاء سابقين في جماعة «الطلبة» فيما أظن، قد قرروا أن يقدموا عرضا لمسرحية «أوديب» لأندريه جيد، لا بشكل تمثيلي، وإنما بإلقاء حوارها إلقاء. فحضر جيد إلى البيت للاستماع إلى تمارينهم.
فجأة انتبهنا إلى أننا لم نعد نرى بوضوح، وأن السماء غدت في منتصف النهار سوداء تماما، تعبرها من حين لآخر نقاط حمراء غريبة. وأذكر أن آنية أزهار رقيقة كانت تحوي فيما أظن أزهار الخوخ، غدت وهي فوق البيانو الأسود، جميلة بشكل غريب. كنا مذهولين إلى حد ما، وظن أناس أنها نهاية العالم؛ فشهدنا اعترافات علنية. وكان جيد الذي أثار ذلك اهتمامه إلى حد بعيد يستمر في متابعة هذا المشهد الغريب لا يصرفه عن متابعته شيء آخر؛ فقد جلس على درج المدخل ولم يرض بالعودة إلا عندما عادت الشمس إلى الظهور ثانية بشكل تدريجي.
Página desconocida