كان البيت الواقع في شارع رمسيس بيت السنوات الأولى الضاحك. أما بيت شارع البارودي، الذي أصبح شارع سكوت مونكرييف في الزمالك، فقد كان في نظر طه البيت الكامل.
166
كان بسيطا غير كبير. وقد وسعنا من القاعة المطلة على الحديقة بحيث تضاعفت مساحتها. كانت هذه الحديقة لطيفة، معزولة عن الطريق، وتفصل بين مدرسة الفنون الجميلة وحدائق أخرى. كان فيها قليل من الزهور وقليل من الأشجار، وأرض معشوشبة بلا ممرات سوى ممر واحد مبلط في أسفل عدة درجات تنزل من القاعة، وكان ثمة أوراق خضراء وجنبات معترشة تتسلق الجدران الآجرية حتى تصل إلى الشرفة الخشبية. أما المدخل فضيق وطويل يقع المكتب على يساره، وغرفة الطعام والقاعة اللتان لا يفصلهما شيء على يمينه، وثمة درج خشبي في قاع الدهليز يفضي إلى غرف النوم. وكنت قبل التوسيع قد جعلت المكتب في غرفة تقع على المطل، وكان جميلا جدا، بيد أن طه كان يستقبل كثيرا من الزوار، وكان الصعود إلى هذين الطابقين يتعب البعض منهم. وكنت أغتاظ كثيرا عندما كان «جوغيه
Jouguet »
167 - الذي لم يكن شابا على الإطلاق - يصر على الصعود، في حين كان طه على استعداد تام للنزول إليه. لكنه كان خطيرا أيضا إلى حد ما؛ أولم نكتشف ذات مساء حية نائمة بهدوء على الدرجة قبل الأخيرة من الدرج الثاني وعلى مسافة خطوتين من غرفة مؤنس؟ كنت مذعورة، لكن مؤنس الذي كان يدرس وراء مكتبه بدا هادئا تماما مثلما بدا أيضا مساء الزلزال الأرضي عندما استيقظت مذعورة وصرخت: «مؤنس! هناك جرذ في غرفتي.» لكنه كان بالقرب مني يقول لي بهدوء: «لا يا أمي، هذا ليس إلا زلزالا أرضيا.»
على أنه بعد فحص هذه الحية في المختبر تبين أنها من نوع غير سام، وبعد التفتيش بدقة على السطح، لم نعثر على شيء آخر.
وسرعان ما شهد هذا البيت حياة مضطربة. فقد كانت أيامنا تلتهم بسرعة فائقة، إلا أن ذلك كان أخاذا، وخاصة تلك اللقاءات التي كانت تتم بوجه خاص مع أناس قادمين من خارج مصر والتي كانت تزداد بنسبة مثيرة. وكان ينتج عنها محاورات خصبة بالنتائج وتبادل الأفكار وإسهامات مختلفة بقدر ما كان ينتج عنها أيضا حجارة جديدة من أجل البناء الذي كان طه يتابع إنشاءه بكتبه ونشاطه ... حجارة جديدة للآخرين أيضا ولا شك.
وكان الطفلان يقاسماننا هذه الحياة الخصبة؛ فقد كانت أمينة تبدأ دراساتها الجامعية، وتبعها مؤنس بعد ذلك بسنتين.
وكانت آحاد الزمالك تتضخم، وكان من الصعب أحيانا إنزال كل الناس في البيت. ويبدو لي أننا كنا مسرورين بهذه اللقاءات التي كانت تجري في جو من الود والبساطة، وكان ثمة أصدقاء جدد ينضمون إلى الأصدقاء القدامى. ولم تكن صداقتهم في أغلب الأحيان تضيع خلال سنوات الحرب القادمة وحتى عودة السلام.
كان مؤنس وأمينة ينشران في البيت مرحهما ونزواتهما. كانا يأتيان برفاقهما. وإني لأدهش اليوم أنه على الرغم من أنه كان لكل منهما أسلوبه وقناعاته المطلقة وما يفضله، فإنهما لم يظلا على هامش الحياة في البيت، وإنما كانا يختلطان بصورة عفوية وحرة مع الكبار. إن محمود خليل وريمون
Página desconocida