56

ورفع ابن الحر رأسه في بطء وقال: أيها الشجعان، لا أحسبكم تظنون بي الجبن عن خوض الحروب حرصا على بقية ضئيلة من الحياة، فلقد كنت كما تعلمون في صدر الأخطار كلما دعاني الواجب. ولكني رأيت هذا الأمر قد صار إلى منازعة الأطماع بعد أن ذهب الأخيار إلى القبور. فإذا أنا اليوم قاتلت فلن يكون قتالي إلا في سبيل بعض من يريد شراء عرض من أعراض هذه الدنيا. ولن أبذل في سبيل هؤلاء نقطة من دماء المسلمين. لا، لن أكون في مثل هذا أبدا!

فعاد السكون لحظة أخرى طويلة، وتردد الرجال بم يجيبون وهم حائرون بين هيبة شيخهم وبين حنقهم من تخذيله إياهم. ثم انفجروا غاضبين، وجعل كل منهم يلقي إليه سهما من قوله. وقام ابن الحر غاضبا مما جبهوه به، وقال في صوت متهدج: لقد بلغتم من عمكم ما بلغتم، فحسبكم. إنها كلمة لا أقول غيرها، لن أدخل في شيء من هذه الفتن الجامحة.

فطأطئوا رءوسهم حزنا وقاموا وهم يكتمون ما على ألسنتهم من ألفاظ الحنق، ولكن المجشر التفت نحوه وهو منصرف وقال: أوتحسب يا أبا الأشرس أنك تقيم في دارك آمنا؟ والله لتعودن إلينا إذا رأيت الطلب حثيثا في آثارك. والله لن يتركك ابن أبي عبيد في أمنك هذا. اقعد ما شئت فسوف يحتوشك الكلاب. ولئن عدت يوما إلى ما ندعوك إليه الآن لتجدننا سراعا إلى تلبية ندائك.

ثم سار الجمع وهم صامتون، وعاد ابن الحر إلى مجلسه من ابنة عمه فأفضى إليها بما كان، وجعل يحدثها ويعيد عليها حجته التي رد بها أصحابه، وكأنه أراد بذلك أن يقوي نفسه، إذ أخذ يشعر أنه قد خانهم فيما عاهدهم عليه من قبل.

ونظر إلى سلمى ينتظر جوابها ويستوحي خاطرها، فقالت وقد علمت ما يريد: أحسنت والله يا أبا الأشرس لو أن المختار تركك آمنا في بيتك.

فأطرق ابن الحر حينا وهو صامت، ثم رفع رأسه وتكلف الابتسام وقال لامرأته في حزن: سنرى ما يفعل ابن أبي عبيد.

ثم انتقل معها بالحديث إلى حيث كانا من قبل يتناجيان.

ومر الصيف ومضى من بعده الشتاء، وأقبل الربيع في موكبه تهب فيه الريح رخاء، وتسرح السحب البيضاء في السماء الصافية، والمرج يزهو في حلته الخضراء، والزهر يبسم للحياة الجديدة. ولكن ابن الحر لم يكن في بيته؛ لأنه كان قد خرج مع سبعمائة من أصدقائه الشبان إلى المدائن وعسكروا هناك يستجمون بعد رحلة طويلة هبطوا فيها من الجبل.

لقد صدق ما تنبأ به المجشر عندما قال لابن الحر منذ عام إن المختار لن يتركه في الكوفة آمنا في عزلته. فلم يقنع المختار منه بالعزلة وأوفد إليه الرسل ليذهب إليه، فرد ابن الحر الرسل معتذرا ولم يذهب، وألح عليه المختار ولج هو في الإباء. فساء ظن الطاغية فيه وأخذ يدبر للإيقاع به كما أوقع بمئات غيره من سادة الكوفة الذين اعتكفوا في بيوتهم اتقاء الفتنة. وأتاه أصحابه يوما يحملون إليه نبأ ما يدبره المختار للإيقاع به، فتردد حينا حتى استيقن من الأمر، ولم يكن له بد من الخروج معهم. وغادر الوطن وخلف ابنة عمه وراءه في الكوفة وأمسك قلبه أن يخونه عند الوداع.

وكان يوما عاصفا باردا من أيام ذلك الربيع، وقد مالت الشمس إلى الغرب وصبغت الأفق بألوان الشفق.

Página desconocida