فخرج من ظل الشاطئ رجل يسعى حتى وقف تجاه القائد وحياه، وأخذه جورج من ذراعه وانتحى به جانبا وأخذ يهمس له حديثا طويلا، ثم أشار إلى مينا أن يتبعه إلى النهر. وبعد دقائق كان قارب سريع يشق الماء في الظلام الساكن متجها إلى الشمال نحو ميناء النهر في العاصمة الكبرى، يحمل مينا بن حنا.
ومضى شهر بعد شهر وأخذ ماء النيل في الهبوط، حتى كاد الخندق المحيط بالحصن يجف. وكان قيرس يزداد في كل يوم يأسا ويزداد صدره في كل ليلة ضيقا؛ لأنه خاب في كل ما دبره واحتال فيه، خاب في محاولته مفاوضة العرب على مال يأخذونه منه ويعودون أدراجهم إلى الصحراء، وأرسل إليه قائدهم عمرو إجابة جافة طعنت كبرياءه في الصميم. ولم يفلح في إثارة أهل مصر معه إلى الحرب. ولم يفز بمساعدة قيصر عندما طلب إليه إرسال الأمداد. وكانت مخاوفه تشتد كل يوم، إذ كانت الأنباء تتوارد إليه بأن أتباع بنيامين لا يزالون يعادونه ويقاطعونه. ولم يصل إليه نبأ من مينا بن حنا.
وكانت آخر الأنباء أن العرب أرسلوا كتيبة منهم إلى الريف، ففتحت منوف وأثريب وأوشكت أن تهزم «تيودور» في سمنود.
وكان قيرس جالسا في شرفة من شرفات سور الحصن في ليلة من ليالي القمر الباهرة في الخريف، وكان خياله يسبح في الأماني حينا، وفي المخاوف حينا، ناظرا إلى السماء الصافية، وإلى الأفق البعيد، ولا تزال بقية من مياه النيل تغمره من أقصاه وأدناه. وتذكر مينا بن حنا الذي تركه منذ ثلاثة أشهر، ولم يبعث إليه كلمة، فثقل قلبه على صدره من الشعور بالخيبة ومن الحنق، وأحس إحساسا عميقا بالخطأ الذي وقع فيه عندما آمن لهذا العدو القبطي وأخرجه من السجن راجيا أن يساعده على إعادة الوئام بين المصريين والروم في تلك الساعة العصيبة.
وفيما كان قيرس يسبح في همومه، ارتفعت صيحة من جانب النيل، ثم تلاها صوت اصطدام، وارتفع من أسفل الحصن صليل السلاح، ولمعت أنوار وهاجة سمع لها عجيج وزفير. فقام ينظر في جوانب النهر، ولكن التواء المجرى كان يحجب عنه ما وراء الثنية، فلم ير إلا وميض النار كأنه برق سحابة عند الأفق. فبعث إلى جورج قائد الحصن يستدعيه ليعرف منه مبعث تلك الصيحة، وجعل يذرع أسوار الحصن مضطربا لا يدري من ذا الذي يلقي النار الإغريقية على سفن الحراسة وأبواب الحصن، فإن تلك النار سر لم يتعلمه بعد أهل الصحاري.
ومضت ساعة طويلة قبل أن يجيء إليه جورج، يهمرج في مشيته، والسلاح يقعقع فوق جسمه الضخم. فبادره المقوقس سائلا في لهفة: من هؤلاء الذين يقذفون علينا اللهيب؟ هل عرف العرب سر القذائف الإغريقية؟
فأجاب القائد لاعنا: ليسوا سوى هؤلاء القبط الذين يظهرون في هذه الأيام ما في قلوبهم من الغل، هي سفنهم التي اعتادت في الليالي الأخيرة أن تهوي إلى الحصن في مثل هذه الساعة لتعترض السفن الآتية إلينا بالمئونة.
فقال قيرس في غيظ: وأين جنودي؟ أما تستطيع يا جورج أن تطحن هؤلاء؟ حتى هؤلاء القبط لا تقدر عليهم؟
فقال جورج في غيظ: لقد كدت أقبض عليه بيدي، ولكنه فر قبل أن أدركه. الشيطان والنار والجحيم! لقد فر قبل أن أدركه.
فقال قيرس في لهفة: من هو؟
Página desconocida