فطرفت عينا جورج طرفا سريعا ولم يجب. وأحس قيرس أن ذلك الجندي الخشن الذي أمامه ما يزال يخالفه في الرأي. ولكنه ملك نفسه وتبسم قائلا في لهجة مرة: إنكم معاشر الجنود لا تعرفون إلا حسم الأمور بالعنف، ولكني قد وجدتكم لا تستطيعون أن تهزموا هذه الشراذم الضئيلة من العرب.
قال هذا وأشار إلى الخيام المنثورة بين الحشائش والشجر في الجزيرة. فانتفض جورج واحمر وجهه، ولكنه لم يرد بكلمة.
واستمر قيرس قائلا: سأذهب الليلة إلى لقاء وفد العرب في الجزيرة، سأحاول أن أصرفهم عن البلاد بالحيلة أو بالرشوة. ولكني أحب أن يكون الأمر سرا، فإياك أن يتسرب الخبر إلى خارج الحصن. أسرع بإحضار مينا، فليس أمامنا من سبيل آخر. سأرسل مينا إلى بنيامين لنواجه العرب صفا واحدا.
فحيا جورج وخرج من الحجرة مسرعا.
وبعد قليل جاء مينا وكان وجهه نحيلا حائل اللون ناتئ الوجنتين غائر العينين، كأن وجهه المعروق عظام جمجمة. فاستقبله قيرس واقفا مرحبا، وأجلسه على مقعد وثير مغطى بالكتان المزركش على مقربة منه، وأخذ يلاطفه في الحديث معتذرا إليه عما أصابه من الأذى، وصرح له بعزمه على إيقاع العقوبة بالوشاة الذين سعوا به ورموه بالأكاذيب. وقال له: سيعوضك قيصر عن كل ما أصابك في مالك ونفسك، وأنت ما تزال شابا والأيام واسعة أمامك تنسيك كل الآلام.
فتنفس مينا نفسا عميقا ولمعت عيناه بومضة براقة ، ولفت رأسه لفتة سريعة، ولكنه لم يجب، بل عاد وأطرق صامتا وصدره يضطرب بأنفاسه.
فقال له المقوقس: لقد آن لهذه البلاد أن تتحد وتعرف في داخلها السلام. أنت تعرف يا مينا بن حنا أن هذا الانقسام الذي نعاني آثاره اليوم هو الذي يجرئ علينا هذه الوحوش التي جاءت تجوس خلال ديارنا.
فرفع مينا رأسه ببطء وقال: لست أفهم شيئا ...
لقد قضيت خمس سنوات في السجن المظلم، وكأني منطو في قبر لا صلة لي فيه بالأحياء. لست أفهم يا سيدي ما تقول.
فقال المقوقس معبسا: هذه المنازعات التي بيننا قد أطمعت فينا أضعف الشعوب وأفقرها. ألا تعجب أن يأتي العرب إلينا يطلبون غزونا؟
Página desconocida