17

وقلت لصاحبي: ألسنا نشبه بني إسرائيل وهم يغادرون مصر هربا من طغيان فرعون؟ ألست تضيق ذرعا بالإقامة في المدن المزدحمة وبين المجامع المنافقة؟ ألست تحس هنا لونا من الحرية لا تجدها في ربوع المدينة؟

فأجاب: هذا ما كنت أفكر فيه منذ لحظة.

وجعلنا نتذاكر بعض ما تردده الكتب المقدسة من قصص موسى وقومه حتى فرغنا من الطعام، وقمنا نمشي رويدا في أطراف المكان الساكن.

وكانت لي منذ صغري عادة سيئة: أن أخبط بقدمي ما يعترضني من حجارة، فجعلت - كلما مررت بحصاة - أدفعها كما أدفع الكرة، وما كان أشد عجبي عندما خبطت قطعة مستديرة فرأيتها تتدحرج خفيفة كالكرة، فتبينتها فإذا هي عظام جمجمة آدمية.

فصحت بصاحبي: إذن لقد شهد ذلك الموضع حادثة إنسانية!

فقال بتهكمه الهادئ: أتقصد أن كائنا بشريا مات هنا؟

فقلت في شيء من الاهتمام: أقصد أنه قد وقف هنا بعض إخواننا في الإنسانية الذين مضوا قبلنا، وكانت العواطف تهزهم كما تهزنا وتعصف بهم وتدفعهم وتؤدي بهم إلى المآسي كما تفعل بنا. ونحن اليوم لا نستطيع إلا أن نشعر بآلامهم ونرحمهم مع أننا لا نعرفهم. أتنكر العلاقة القوية التي تربط أجيال البشرية؟

فتبسم وهز رأسه وسار يتأمل جوانب التلال ويميل بين حين وآخر إلى بعض حجارتها فيفحصها ويبقي منها في يديه قطعا يريد أن يحتفظ بها كما كان يفعل دائما في جولاتنا.

فقلت له لأنتقم من تهكمه: إنك لا تعبأ إلا بهذه الحجارة يا صديقي. ألا يهمك كل هذا العالم السحري الذي يحيط بنا؟

ولكنه مضى في سبيله يميل هنا أو هناك كأنه لم يسمع مني شيئا. وملت على العظمة المستديرة لأفحصها فإذا بي أرى عظمة أخرى قريبة منها قد غمر الرمل أكثرها، فتناولت حجرا وجعلت أحفر ما حولها حتى استخرجتها فوجدتها تتصل بهيكل آدمي كامل مدفون هناك. فاعتراني انقباض شديد واسترجعت، وجمعت العظام المنثورة التي وجدتها قريبة مني وجعلت أعيدها إلى مدفنها وأجمع عليها الرمال مما حولي حتى لا أزعجها في مقرها الذي ثوت فيه تلك السنوات الطويلة. وفيما أنا في ذلك بدا لي سطح من الخشب تحت طبقة الرمل التي أزلتها بيدي لأسويها فوق العظام، فثارت دهشتي مرة أخرى وتركت ما كنت فيه، وأقبلت على ذلك السطح الخشبي فكشفته وأخذت أحدق فيه بنظري، فوجدت عليه نقشا غريبا. فدفعني ذلك إلى أن أحفر ما حوله حتى أخرجته، فوجدته صندوقا صغيرا طوله نحو نصف متر في عرض أقل من ذلك بقليل وعمق أقل من عرضه. وكان صديقي قد عاد يسير نحوي حتى اقترب مني، فلما رأى الصندوق أمامي أقبل يسعى نحوي في اهتمام عظيم، وقال: أراك قد كشفت شيئا يستحق الاهتمام.

Página desconocida