Con la música: memorias y estudios
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
Géneros
2
ويوم يظهر جيل من الموسيقيين الدارسين الذين يستغلون الإمكانيات الواسعة للصوت إلى أقصى حدودها، يومئذ ستظهر الألحان العميقة المعبرة، وتتخلص الموسيقى من إسار الأغنية التي ظلت تخنقها وتكبلها بقيودها إلى اليوم، فتصبح فنا مستقلا يستطيع أن يقف على قدميه، لتعبر أصواته وحدها عن شتى المشاعر والأحاسيس. «أما عيوب الأداء في موسيقانا» فلا تقل أبدا عن عيوب التأليف؛ إذ إن الأمرين في الحق مرتبطان. ويوم توجد الموسيقى الرفيعة، فلا بد أن يرتفع الأداء إلى مستواها، أما حين تمضي الأمور بلا رقيب، وحين تنعدم المسئولية فستعم هذه الصفة الجميع!
فالعزف - أولا - لم يبلغ أي مستوى رفيع، ونستطيع أن نلمس ذلك بوضوح في الآلات المشتركة بيننا وبين سائر البلدان، مثل الكمان؛ فالفارق هائل بين عازفينا والعازفين العالميين، وعلى من ينكر ذلك أن يستمع إلى تسجيلاتهم، فإنه سيدرك عندئذ قيمة فضيلة التواضع! هذا عن العزف المنفرد، أما العزف الجماعي في الفرق الكبيرة، فلا شك أن هذا الفن لا زال عندنا في مراحله الأولى، وليس لدينا إلا القليلون من نستطيع أن نطمئن إلى تخصصهم فيه بالقدر الكافي. وقد اعترف المسئولون عندنا بهذه الحقيقة لحسن الحظ، وشرعوا يسلكون الطريق الصحيح، طريق استقدام الخبراء من البلدان الأخرى ليعينونا فيما لا نحسن، وإيفاد البعثات إلى البلاد المتقدمة في هذا الميدان. «أما الأداء الصوتي فأمره أعجب»: إن الأصوات في الغناء الشائع بيننا محدودة إلى أقصى حد، ومن المؤسف حقا أن يصف الكثيرون منا الغناء الغربي مثلا بأنه «صراخ»، مع أن كل ما في الأمر من فارق هو أن هذا «الصراخ» يستنفد كل إمكانيات الحنجرة البشرية، ويصل بها إلى آفاق تعجز عن الوصول إليها الأصوات التي تردد أغانينا، والتي تكاد تنحصر كلها في طبقة «الكلام» المعتادة. ومعظم أصوات المغنين عندنا «ميكروفونية»؛ فليس فيها من القوة الطبيعية ما يمكنها من الوصول إلى الآذان إلا عن طريق مكبر الصوت. وأخيرا فالغناء عندنا ارتجالي إلى حد بعيد، مع أن الصوت البشري قابل للتدريب الذي يضفي عليه مزيدا من المرونة، بل القوة والامتداد، وهنا تعود ظاهرة الافتقار إلى الدراسة والعلم مرة أخرى إلى الظهور! ••• «ومشكلة الاستماع إلى الموسيقى» تستحق منا الانتباه بحق، فما حالتنا الذهنية حين نستمع إلى الموسيقى المصرية؟ إننا نستمع إليها ونحن نتسامر، أو خلال وجبات الطعام، أو قراءة الصحف، أو الحديث اليومي المتبادل ... فما دلالة ذلك؟ المعنى الوحيد الذي تفسر به هذه الظاهرة هو أن الفن الموسيقي لم يتغلغل فينا إلى الحد الذي يجعلنا نتفرغ له، ونتهيأ لتلقيه، فننصرف عن غيره من الشواغل. ولنا العذر في ذلك، فما بلغت الموسيقى التي نستمع إليها من العمق ما يجعلها جديرة بالاحترام والإنصات الخاشع، بل إن ضحالتها لا تترك لها في نفوسنا إلا مكانا ضئيلا، فلا تشغل من انتباهنا إلا قدرا، والقدر الباقي تشغله معها شئون الحياة اليومية المعتادة!
على أن الموسيقى قادرة بحق على أن تشغل كل انتباهنا، وتملأ كل فراغات أنفسنا لو قدمت إلينا في صورتها الكاملة. وإذن فالمستمع - المصري والشرقي بوجه عام - يفتقر إلى التجربة الموسيقية بكل أبعادها؛ أي إنه عاجز عن أن يتذوق فنا رفيعا تذوقا كاملا، وسيظل هذا الميدان الضخم مجهولا لديه حتى يقدم إليه الإنتاج الذي يدفعه إلى أن يحسن الاستماع إليه.
ولست ممن يحسنون كتابة الأوصاف الشعرية والتعبير عن تفصيلاتها. ولكني لا أتوانى عن القول بأن للموسيقى رسالة أخرى غير التسلية العابرة، وظيفة أخرى غير قتل الوقت، ومهمة أخرى غير الترويح عن النفس ... إنها فن كامل تفيد منه النفس، وتتلقى منه معرفة تضيء طريق حياتنا، وهو يثير فينا مشاعر أكمل وأوسع بكثير من شعور «الطرب» الرخيص. لكن هذه التجربة العميقة التي يحس المرء خلالها بالخشوع غريبة عنا تماما؛ إذ ترتبط الموسيقى في أذهاننا على الدوام بصورة الإنتاج الهزيل الذي يقدم إلينا، والذي يمارس في تجربة هزيلة مثله. •••
وبعد، فقد يبدو للقارئ أنني تحدثت عن حاضر الموسيقى لا عن مستقبلها، ولكن لا شك في أن كل بحث منطقي للمستقبل يجب أن يستمد من الحاضر لئلا يكون رجما بالغيب.
والكلمة التي ألخص فيها مستقبل الموسيقى في مصر، والتي يتوقف عليها هذا المستقبل بحق، هي «العلم». أجل، فلتكن دعوتنا من أجل وضع دعائم نهضة موسيقية في بلادنا، هي: المزيد من العلم! فبالعلم وحده يقضى على الأدعياء، وتختفي كل المهازل الفنية التي تشيع في موسيقانا، من سطو باسم الاقتباس، واستجداء لمعونة الغير باسم «التوزيع الموسيقي»، وجهل باسم «الفطرة السليمة» ... وبالعلم وحده يظهر العازف المجيد، والمغني البارع، ومن ثم المستمع الواعي.
إننا نعيش في عصر العلم، وهذا الحكم العام ينطبق على كل مجالات الحياة البشرية، والفن ليس استثناء من هذه القاعدة، بل لقد أصبح في أيامنا هذه أقوى دليل على صحتها.
الأساس العقلي للموسيقى الحديثة1
ليست الموسيقى، ولا يمكن أن تكون، نظاما صوريا تتوارثه الأجيال بلا تغيير ولا تبديل، بل هي تعبير عن ميل يتجدد بلا انقطاع، وإرادة تتطور دواما. وهي في هذا التطور تساير الروح البشرية في تقلباتها وتتمشى مع الاتجاه العام الذي تسير فيه الحضارة؛ فالتطابق بين الموسيقى الكلاسيكية والروح العقلية الأوروبية واضح كل الوضوح، وكذلك كان الاتجاه الرومانتيكي في الموسيقى صورة جزئية من روح رومانتيكية شاملة كانت تعبر عن ميل أساسي طغى على العقل الأوروبي في كل مظاهره، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
Página desconocida