لم يفكر فيك أبو العلاء إذن، ولم يحفل برضاك حين نظم اللزوميات، وإنما فكر في نفسه، وحفل برضاه هو، بل لعلي أغلو في ذلك بعض الشيء، فما أشك في أن الناس في عصر أبي العلاء كانوا يحفلون بهذا التكلف، ويرون فيه مهارة وبراعة واقتدارا كما كان أبو العلاء نفسه يحفل به، ويرى فيه مهارة وبراعة واقتدارا. ولو أعرض الناس عن هذا التكلف أيام أبي العلاء لكان من الجائز جدا - بل من الراجح - أن يعرض أبو العلاء عنه، وأن يلتمس لنفسه بابا آخر من أبواب التسلية وقطع الوقت لنفس السبب الذي بينته آنفا: وهو أن الصلة بين الشاعر وقرائه وسامعيه أمتن جدا من أن تقطعها الفلسفة مهما تميز صاحبها من الناس، ومهما ترتفع به عن طبقتهم، ومهما تمعن به في التشاؤم، وإيثار الوحدة والانفراد. وما أكثر ما يتساءل أبو العلاء عن الطير حين تتغنى أيعنيها أن يسمع الناس لغنائها، وأن يجدوا فيه لذة ومتاعا؟ وعن الزهر حين يتضوع، وحين يتألق أيعنيه أن يجد الناس في طيبه لذة، وإلى جماله راحة واطمئنانا، وعن الشمس حين تبعث الحرارة والضوء أيعنيها أن يجد الناس في حرارتها وضيائها حياة ونشاطا، ومرحا وفرحا، ورضى وابتهاجا.
بل أتشعر الطير بما يصدر عنها من غناء؟ أيشعر الزهر بما ينشر عنه من عبير؟ أتشعر الشمس بما تبعث من حرارة وضوء؟ أتقدم الطبيعة على ما يصدر عنها من مختلف الأمر عن شعور به وإرادة له، ورغبة في تحقيق ما نرى فيه نحن من الغايات؟ وواضح أن أبا العلاء لم يظفر بجواب على هذا السؤال، وأن عقله قد هداه إلى الجواب المحزن الأليم: وهو أن الطبيعة لا تحفل بنا، ولا بما نجد من لذة أو ألم حين تتصل بنا آثارها؛ لأنها لا تعقل ولا تشعر، فهي إذن لا تريد وإنما هي ميسرة لما خلقت له، مسخرة لما دفعت إليه. ولكن أبا العلاء نفسه يشعر ويفكر ويقدر ويريد، وهو يحس أثر ما يصدر عنه من غناء أو فلسفة، ويعرف رضى الناس عنه أو سخطهم عليه؛ وهو من أجل ذلك يقبل عليه أو يعرض عنه، فهو كالطير وكالزهر وكالشمس تصدر عنه آثاره سواء أراد أو لم يرد؛ ولكنه يخالف الطير والزهر والشمس في أن له عقلا يميز به هذه الآثار، ويعرف به نتائجها في نفوس الناس. ويدفعه ذلك إلى أن يتزيد من هذه النتائج، وإلى أن يلائم بين آثاره وبين الذين يتلقونها من الناس، فيسهل حينا، ويحزن حينا آخر، ويعنف مرة، ويلين مرة أخرى، ويصرح طورا، ويلمح طورا آخر، ولكنه منشئ آثاره ومذيع لها، وملح في إنشائها وإذاعتها على كل حال.
والظريف أن أبا العلاء قد كان يخدع عن فنه أحيانا، فيظن أنه يشق على نفسه، ويكلفها الصعب العسير من الأمر، على حين أنه لم يكن من ذلك في شيء، أو قل إنه كان يعرف أنه لا يتكلف مشقة ولا عناء، ولكن الطريق تستقيم له فيمضي فيها ليستوفي الشرط الذي شرطه على نفسه من جهة، وليرضي حاجته إلى الفلسفة والغناء من جهة أخرى.
وربما كان فصل الهاء من اللزوميات من أوضح الأدلة على هذا، فأبو العلاء في كثير من قصائده في هذا الفصل يلتزم الهاء مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة أو ساكنة، ثم يلتزم معها حرفا آخر كدأبه في اللزوميات كلها. وقد خيل إلى نفسه أنه يحتمل في ذلك من المشقة والجهد ما كان يحتمله في حرف الدال أو الجيم أو الباء، مع أن أيسر النظر في الأمر يدل على أن جهده خفيف محتمل حقا. فالهاء التي يلتزمها ليست إلا الضمير المتصل مبنيا على الضم أو على الفتح أو على الكسر أو مسكنا بالوقف، فإذا التزم هذا الضمير فهو لا يغير شيئا، ولا يتكلف في حقيقة الأمر إلا قافية واحدة وهي الحرف الذي يسبق هذا الضمير. وأي شيء أيسر على أبي العلاء من هذا؟
انظر إلى هذه القصيدة التي أولها:
لعمري لخير الذخر في كل شدة
إلهك ترجو فضله وإلاه
فالقافية هنا هي هذا الضمير، وقد التزم الشاعر اللام قبلها. وأنت تستطيع أن تمضي فيها إلى آخرها، فإذا هي قد نيفت على الأربعين بيتا، وإذا الضمير هو القافية دائما، وإذن فأبو العلاء لم يغير، ولم ينوع إلا في الكلمة التي تسبقها، والتي يجب أن تنتهي باللام وألف الردف. فهذه الكلمة مرة فعل ينصب الضمير، وهي مرة اسم يضاف إليه.
وكأن أبا العلاء قد أحس هذا بعد أن فرغ من هذه القصيدة، فوجد فيه سهولة ويسرا لا يلائم ما أراد أن يأخذ به نفسه من الرياضة العنيفة، ولا بد له مع ذلك من أن يستوفي الشرط، ومن أن يلتزم الهاء، فهو ينظم شعره لا يلتزم الهاء وحرفا قبلها فحسب، وإنما يلتزم قبلها حرفين اثنين.
فانظر إلى هذه القصيدة التي أولها:
Página desconocida