لديه الصحف يقرأها بلمس
فلم يحدثنا أحد بأنه قرأ وكتب بيده، وإنما حدثنا هو بأنه استطاع دائما بغيره، وسمى لنا بعض الذين أعانوه على القراءة والكتابة، وشكر لهم ما أسدوا إليه من معونة. كان إذن يخلو إلى نفسه وإلى وقته، ولا يجد من الناس، ولا من القراءة، ولا من الكتابة، ولا من أي عمل من الأعمال اليدوية ما يعينه عليها. وما أرى أنه كان كثير النوم، وإنما كانت حياته القانعة الخشنة خليقة أن تؤرقه، أو أن تجعل حظه من النوم قليلا. فماذا كان أبو العلاء يصنع أثناء ساعات الفراغ تلك التي كانت تفرض عليه في كل نهار، وفي كل ليل، وفي كل أسبوع، وفي كل شهر، وفي كل عام أثناء نصف قرن؟ كان يفكر، ولكن يفكر في ماذا؟ يفكر فيما كان قد حصل من علم وأدب وفلسفة، وفيما كان يقرأ عليه من ذلك، وفيما كان يتهيأ لإملائه منه على الطلاب والتلاميذ.
ونحن نعرف أن غير أبي العلاء من الأدباء والفلاسفة والمعلمين المبصرين قد شغلوا بالتفكير وبالإنشاء وبالتعليم، قرأوا وفكروا فيما قرأوا، وأملوا واستعدوا للإملاء، وأنشأوا وجدوا في الإنشاء، ولكن هذا كله لم يملأ أوقاتهم، ولم يشغلهم عن الحياة الاجتماعية، ولا عن الحياة المنزلية الخاصة. ولم يحرمهم الاستمتاع بما أبيح لهم من طيبات الحياة، بل لم يرد بعضهم عن الاستمتاع بما حرم عليهم من سيئات الحياة. فهم قد وجدوا الوقت للتحصيل والإنتاج، والمشاركة في الحياة الاجتماعية والمنزلية، وهم قد وجدوا مع ذلك أوقاتا للفراغ والراحة. فما ظنك برجل كأبي العلاء قد صرف عن الحياة الاجتماعية، وعن الحياة المنزلية، وعن طيبات الحياة وسيئاتها، وكف بصره فلم يشغله حتى النظر إلى ما حوله من الأشياء؟ إذن فقد كانت أوقات الفراغ لأبي العلاء طويلة شاقة أطول مما يستطيع، وأشق مما يطيق؛ ولم يكن له بد من أن يستعين على هذه الأوقات بما يسليه ويلهيه في براءة للنفس ونقاء للقلب وطهارة للضمير حتى يدركه النوم، وحتى يدخل عليه الطلاب والزائرون. وبماذا تريد أن يتسلى ويتلهى في براءة وطهارة ونقاء، وفي خلو إلى النفس وانقطاع عن الناس واستغناء عنهم أيضا؟ لا بد له من أن يلتمس التسلية والتلهية عند نفسه وعند نفسه وحدها وقد فعل! فاستجابت له ذاكرة قوية، وحافظة نادرة، وعقل ذكي بعيد آماد التفكير. فأما ذاكرته أو حافظته فقد وجد فيها ألفاظ اللغة العربية كلها أو أكثرها على أقل تقدير. وجد فيها ما سمع من الشيوخ، وما قرأ في الكتب، وما روى من الشعر، وما وعى من الأخبار والآثار. وأما عقله فقد وجد فيه ما حصل من العلم على اختلاف ألوانه، ووجد فيه بنوع خاص هذه القدرة على استقصاء الأشياء، والنفوذ إلى أعماقها.
ونظر أبو العلاء فرأى نفسه بين هذه الألفاظ التي لا تكاد تحصى، وبين هذه المعاني والآراء التي لا تكاد تحصى أيضا. ولم يجد معه إلا هذه المعاني وتلك الألفاظ، ثم نظر فوجد أوقات فراغ طويلة لا يطاق احتمالها، ولا يمكن الصبر عليها، فما قيمة ما حفظ من اللغة، وما قيمة ما حصل من العلم إذا لم يعيناه على قطع أوقات الفراغ هذه. غيره من الناس يلعب النرد والشطرنج، ويضرب في الأرض، ويلم بالمجالس والأندية، ويجد في كسب القوت، ويستمتع بألوان اللذات، وليس هو في شيء من هذا، فلم لا يلعب بهذه الألفاظ؟ ولم لا يلعب بهذه المعاني؟ ولم لا يتخذ من الملاءمة بينها على أكثر عدد ممكن من الأوضاع والأشكال والضروب سبيلا إلى التسلية والتلهية، والاستعانة على الفراغ؟ أما أنا فما أشك في أني لم أخطئ، ولم أخدع نفسي حين اعتقدت أني شهدته يعبث بالألفاظ والمعاني ألوانا من العبث؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يصنع غير هذا، ألوانا من العبث كثيرة الاختلاف، نثر مرسل، ونثر مسجوع، وشعر حر، وشعر مقيد. والشعر الحر هو الذي يقوله الناس جميعا فيلتزمون أوزانه وقوافيه المعروفة، والشعر المقيد هو الذي يقوله أبو العلاء فيلتزم فيه ما لا يلزم، وهو لا يلتزم ما لا يلزم في القافية وحدها، وإنما يلتزم ما لا يلزم من المعاني أيضا، وهو لا يلتزمه في المعاني التي أودعها ديوان اللزوميات فحسب، وإنما يلتزمها في المعاني التي أودعها كتاب الفصول والغايات أيضا.
وفي هذا الكتاب وفي هذا الديوان يتحدث إلينا أبو العلاء بأنه قصد إلى تمجيد الله والثناء عليه، وهو قد قصد إلى هذا وذاك من غير شك، ولكن أين رأيت شاعرا أو فيلسوفا يفرض على نفسه القول في تمجيد الله، والثناء عليه في كتابين عظيمين يتألف كل واحد منهما من غير مجلد، ويلتزم في أحدهما النظم المقيد بقافيتين لا بقافية واحدة، وربما التزم تقييده بأكثر من قافيتين، ويلزم في ثانيهما هذا النثر المسجع المفصل، الذي تجتمع فيه السجعات ملتئمة فيما بينها التئاما داخليا إن جاز هذا التعبير، ثم تنتهي كل جماعة منها إلى غاية بشرط أن تلتئم هذه الغايات فيما بينها التآما خارجيا؟
ما حكمة هذا التضييق على النفس والتقييد لها، وأخذها بهذا العنف الشديد في اللفظ وفي المعنى، وفي الأسلوب وفي الغرض؟
وقد قلت في غير هذا الكتاب: إن حكمة هذا التحرج تتصل بحياة أبي العلاء نفسها، وبالقانون الفلسفي الصارم الذي أخذ نفسه به، وأخضعها له في حياتها المادية والعقلية من التزام العزلة، والإعراض عن النسل، والانصراف عن لذات الحياة، والإقبال على ألوان الرياضة العنيفة الشاقة. وهذا صحيح، ولكن من الصحيح أيضا أن أبا العلاء تسلى بالشدة عن الشدة، وتلهى بالرياضة عن الرياضة، واستعان على احتمال ما فرض على نفسه من العنف بتنويع هذا العنف نفسه، والافتنان فيه. وقد كان أبو العلاء يستطيع أن يمجد الله في كلام سهل مرسل، فيريح نفسه من هذا الجهد الثقيل الذي احتمله في الإنشاء، ويريح قراءه من هذا الجهد الثقيل الذي يحتملونه في القراءة والفهم. وكان أبو العلاء يستطيع أن يمجد الله، ويذم الدنيا، وينقد حياة الناس، ويناظر الفلاسفة، ويخاصم الفرق، ويناقش ما جاءت به الأديان في نثر مرسل، أو في شعر سمح حر، فيريح نفسه من هذه القيود والأغلال التي احتمل ثقلها، ويريح قراءه مما يتكلفون من فك تلك القيود، ووضع هذه الأغلال عن معانيه. ولعله إن فعل أن يكون ذلك أدنى لشعره ونثره إلى روعة الجمال الفني الممتاز، وألطف مسلكا إلى قلوب الناس وأذواقهم ونفوسهم، وأشيع لآرائه، وأذيع لمذاهبه، وأنهض لما كان يريد أن يقيم عليها من الحجج والبراهين. ولكنه أعرض عن هذا كله إعراضا، وأخذ نفسه بألوان العنف في إنشاء ما أنشأ، وتأليف ما ألف. وأخذنا نحن بألوان العنف في قراءته وفهمه، واستخلاص أغراضه ومراميه؛ وضيق على مذاهبه ميادينها، وقلل عدد القارئين له، والفاهمين عنه، والمصغين إليه، والمعجبين به. فلماذا؟ لأنه أراد أن يشق على نفسه. نعم! ولكن أليس في تأليف ما ألف من الكتب، وإنشاء ما أنشأ من النثر، ونظم ما نظم من الشعر مشقة كافية، وأكثر من الكافية، لو أنه تحرر من هذه القيود؟ ألأنه أراد أن يشق على الناس فيصرف العامة والدهماء عن الارتقاء إليه؛ اتقاء لشرهم، وتحفظا من أذاهم؟
هذا ممكن بالقياس إلى بعض المذاهب والآراء لا بالقياس إلى كثرة ما قال في تمجيد الله، ووعظ الناس. وهؤلاء الفلاسفة الذين عالجوا أشق مسائل الفلسفة وأدقها وأعلاها وأرقاها لم يتكلفوا في ذلك هذه القيود اللفظية التي تكلفها أبو العلاء، ومنهم من كان يروض نفسه على الجهد والمشقة، ومنهم من كان يضن بآرائه ومعانيه على السهولة واليسر اللذين يقربانها من أوساط الناس، وأصحاب الثقافة المحدودة، والرأي القصير، فلا يتحرج هذا التحرج اللفظي الذي التزمه أبو العلاء؛ وإنما يعمد إلى الرمز والإيماء، وإلى الإشارة والتلميح، ويظفر من ألغاز معانيه بما يريد، بل يظفر من ذلك بأكثر مما ظفر به أبو العلاء.
ففي اللزوميات مشقة على القارئ وإجهاد له، ولكنها مشقة تحتمل وإجهاد يطاق. ولعل القارئ أن يجد في هذه المشقة لذة حين يقهرها، ولعله أن يجد في هذا الجهد متعة حين يظهر عليه، وهو منته آخر الأمر إلى الفهم عن أبي العلاء، والوصول إلى أغراضه ومراميه. كلا! لم يرد أبو العلاء أن يعذب نفسه، ويشق عليها وعلى الناس فحسب، وإنما أراد مع ذلك أن يسلي نفسه ويرفه عليها، ويبهر الناس ويكرههم على إكباره والإعجاب به.
وأخرى يحسن أن تفكر فيها، وهي أن أبا العلاء لم يلتزم ما لا يلزم في قصيدة أو قصيدتين، أو في طائفة من القصائد والمقطوعات، ولم يلتزم ما لا يلزم في طائفة من الفصول والغايات، وإنما التزم ما لا يلزم في عدد ضخم من القصائد والمقطوعات، وفي عدد ضخم من الفصول والغايات أيضا. أحصى حروف المعجم فوجدها ثمانية وعشرين حرفا، ثم أحصى الحركات التي يمكن أن تختلف على هذه الحروف فوجدها ثلاثا، وأضاف إليها السكون، فحصلت له من هذا أشكال أربعة للقافية. فلما استقام له هذا الحساب أخذ نفسه بأن ينظم شعرا يقفيه بكل هذه الحروف مضمومة ومفتوحة ومكسورة وساكنة. ولو قد اكتفى بذلك لكان فيه الجهد كل الجهد، والعناء كل العناء، ولكنه أضاف إليه التزام الحرف الذي يسبق القافية في البيت الأول من القصيدة أو المقطوعة، بحيث لا توجد القافية في أي بيت من أبيات القصيدة أو المقطوعة، إلا ومعها هذا الحرف الذي سبقها في البيت الأول كما رأيت في «الصعب» و«الرعب» و«الشعب» و«القعب».
Página desconocida