مباحث في التفسير الموضوعي
مباحث في التفسير الموضوعي
Editorial
دار القلم
Número de edición
الرابعة ١٤٢٦ هـ
Año de publicación
٢٠٠٥ م
Géneros
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونسترشده، ونعود بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا.
والصلاة والسلام على الهادي البشير النذير، وعلى آله وصحبه التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد جعل الله ﷾ كتابه معجزة رسوله العظمى، والحجة الدائمة على الخلق، ونبراسًا للدعاة إلى يوم الدين، يستمدون من نبعه الثر الهدايات، ويقتبسون من نوره مشاعل الحضارة، ويجدون في ثناياه البراهين السواطع كلما تراكمت ظلال الشبهات، وفي إرشاداته برد اليقين كلما حاكت الوساوس في الصدور.
ومما يلمسه كل متدبر لآيات القرآن الكريم، وفاؤه لحاجات البشر في مختلف عصورهم، وتلوين الفهوم لآياته وتنويع الاستنباطات من دلالاته، وبخاصة في الآيات التي تتحدث عن الكون والحياة والإنسان.
لذا كان علماؤنا الأجلاء من السلف الصالح يتركون المجال للقول الجديد ولا يحصرون دلالات الآيات في حدود فهمهم، بل يسوقون أحيانًا الأقوال العديدة في تفسير الكلمة الواحدة بله الآية الواحدة، وقد يرجحون قولًا وقد يتركون بدون ترجيح، لأن الآية تحتمل كل الأقوال من قبيل تفسير الترادف.
ومن يتصفح تفسير إمام المفسرين ابن جرير الطبري أو تفسير ابن الجوزي
1 / 1
أو تفسير الماوردي أو تفسير السيوطي، يجد الأمثلة التي لا تحصى على تعدد الأقوال في الآية الواحدة.
وقد أشكل على بعض من لاحظ له في القرآن، كيفية وفاء النصوص من الكتاب والسنة بحاجات البشر المتجددة، وقالوا: إن النصوص محصورة ودولاب الحياة لا يتوقف والأحداث تتجدد، والأفكار والمبادئ تطرح على الساحة في كل جيل مما لا عهد للأجيال السابقة بها، وهناك نظريات اجتماعية وثقافية واقتصادية ومشكلات لم يكن لها وجود في عصر التنزيل، فكيف يستنبط من النصوص أحكامها، وتعرف الهدايات الربانية بشأنها؟!
من هنا كانت أهمية التفسير الموضوعي، الذي يهتم بالهدايات القرآنية ويحاول الكشف عنها من خلال السياق والسباق للآيات الكريمة، ومن خلال تتبع الكلمة واستعمالاتها، ومن خلال التعرف على المناسبات والروابط بين السور والآيات، وبين بدايات الآيات وفواصلها وافتتاحيات السور وخواتيمها.
ولعل لثقافة المفسر الخاصة والعامة، واهتماماته الشخصية، وصفاء قريحته، وشفافية نفسه، وسلامة ذوقه اللغوي دخلًا في دقة الاستنباط والتعرف على ما تشير إليه الآيات تصريحًا أو تلميحًا.
وعلى ضوء ما تقدم نقول إن أساليب البحث في التفسير قد تتنوع حسب معطيات العصر، ومسار البحث قد يختلف عن السابق حسب الزاوية التي يحددها المفسر ويدخل منها إلى ظلال النصوص الوارفة، وبالتالي قد يظفر ببعض الثمار التي لم يسبق إليها.
فقد يتعرف في الروابط بين الآيات الكريمة على دقائق في المعرفة، وقد يطلع عند تتبع بعض العبارات وعلى وشائج تكون مادة لإقامة صرح عتيد من سنن الله في المخلوقات، وقد يتنسم من خلال الأجواء العبقة لهدايات أي الذكر الحكيم روائح نظام متكامل تقوم عليه علائق المجتمع الآمن المطمئن الرغيد.
1 / 2
وقد كثرت الكتابات في الآونة الأخيرة حول التفسير الموضوعي للقرآن، ولكن القليل منها تناول الجانب المنهجي في هذا اللون من التفسير، بل اكتفت أغلبها بالدراسات التطبيقية، سواء منها ما تناول تفسير موضوعات من خلال القرآن الكريم، أو تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا.
ولقد تناولت في هذا الكتاب الجانب المنهجي لهذا اللون من التفسير، وحاولت التعرف على نواته الأولى، ثم تطوره، وأنواعه وسقت نموذجًا تطبيقيًّا لكل نوع من نوعية الشهيرين.
وبذلت جهدي أن ألتزم دلالات ظاهر النص، وأن أستدل بما صح من السنة النبوية، وأن أوثق الأقوال، وأسير على المنهج العلمي في الاستنباط والمناقشة.
فما كان من صواب فمن الله ﷻ وبتوفيقه، وما كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله منه.
وأقدم وافر الشكر والتقدير سلفا لمن ينبهني عليه ويرشدني إلى الصواب فيه.
والله أسأل أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعل هذا الجهد في صفحة أعمالي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
كما أرجو من إخواني طلاب العلم أن لا يحرموني من دعوة صالحة في ظهر الغيب إن وجدوا فائدة عند قراءتهم للكتاب.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الرياض في: ١٠/ ١/ ١٤١٠
١١/ ٨/ ١٩٨٩
مصطفى مسلم
1 / 3
التفسير الموضوعي: "تعريفه- نشأته- تطوره- ألوانه- أهميته"
تمهيد:
الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين بشيرًا ونذيرًا، والصلاة والسلام على من أرسله ربه داعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، ورضي الله عن الآل والأصحاب والأتباع حملة لواء الحق بين العالمين إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد:
فلم يشهد التاريخ البشري كتابًا أهَّل أمة لقيادة البشرية، كما أهَّل القرآن الكريم أمة محمد ﷺ، ولم ينقل أحد أن جيلًا ربانيًا تولى السيطرة على مقادير الأمم والشعوب فعدل فيها بالقسطاس المستقيم كجيل صحابة رسول الله ﷺ، كل ذلك كان في فترة زمنية لا تتجاوز ثلث قرن من الزمان، وهي مدة قصيرة جدًا في عمر الأمم والشعوب.
لقد تخرج من مدرسة النبوة جيل فريد في صفاته وتطلعاته وعزيمته وبذله وتضحياته، وقد فجر الإسلام هذه الطاقات الكامنة في تلك النفوس وأزاح عنها الغبش والغشاوة وفتح أمامها مجالات العطاء والإنتاج فكان بعضهم قادة الجيوش، وساسة الأمم، وعباقرة العلماء، ونوابغ القضاة، وأفذاذ الزهاد والعباد.
وما ذاك إلا لتوافر أسباب النبوغ والعطاء.
فالمعادن الأصلية التي كانت في ذات القوم -والناس كالمعادن- فكانت معادنهم كالتبر والجوهر.
ووجد المربي الرباني الذي علمهم فأحسن تعليمهم وهذبهم أحسن تهذيب ووجد الغذاء الروحي الذي تحيا به القلوب ...
1 / 7
فلم يكن بمستغرب عند من يدرك سنن الله في خلقه، في رقي المجتمعات وتقدمها عندما يدرك الأسباب التي أوجدها الله ﷾ لتكوين هذه الأمة وتقدمها وتفوقها.
وما أن رسخت الدولة الإسلامية قواعدها في أرجاء المعمورة، وما أن هدأت اندفاعة الفتوحات الإسلامية، حتى التفت العلماء إلى مدارسة القرآن الكريم الذي يشكل أساس النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، لتدوين تفسيره والعلوم التي تخدم توضيح المراد من كلام رب العالمين، وتعين على فهمه وتطبيقه وكانت الأجيال السابقة إلى عهد بني العباس تعتمد بشكل أساسي على التلقي والرواية مشافهة إلا في حالات استثنائية قليلة.
وتنوعت المجالات التي توجهت الجهود إليها لخدمة آي الذكر الحكيم.
فمنهم من توجه إلى جميع ما أثر عن رسول الله ﷺ من أمور الدين، وعن صحابته الكرام، ومنهم من توجه إلى حفظ وجوه الأداء للفظ القرآني، ومنهم من حافظ على لغته وبيان معاني غريبة، ومنهم من توجه إلى استنباط القواعد التي تكفل سلامة التحدث به وعدم اللحن فيه.
وقام صرح العلوم كلها لخدمة القرآن الكريم حفظًا وفهمًا وتطبيقًا، ولسنا بصدد تعداد العلوم المختلفة التي قامت وتاريخ تدوين هذه العلوم، وإنما نرمي إلى بيان نشوء علم التفسير بإيجاز، ومن ثم للتعرف على مولد هذا اللون من التفسير ما يطلق عليه اليوم "التفسير الموضوعي".
1 / 8
نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي:
بينت الآيات القرآنية الحكمة الإلهية من خلق الإنس والجن في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] .
كما بينت السنة الإلهية في بعثهم بعد موتهم لمحاسبتهم عن الأمانة التي حملوها: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥] .
وبين الخلق والتكليف والإعادة بعد الموت.
لم يتركه لعقله واجتهاداته وأهوائه في التعرف على أسلوب العبادة، ومنهجه في الحياة الدنيا، بل أرسل إليه الرسل وأنزل الكتب لهدايته: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] .
وكانت السنة الإلهية أن يكون الرسل من الأقوام المرسل إليهم وبلسانهم. وذلك أداء للرسالة على أحسن وجه، وليتحقق الغرض من إرسالهم ببيان الهدايات بأيسر الطرق إلى الأقوام ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤] .
لذلك كان الرسول المكلف بالتبليغ هو أوعى الناس لمهمته وأكثرهم علمًا وإحاطة برسالته، وبالتالي أقدرهم على بيان مراد الله ﷾ من كتابه وآياته.
وهذه السنن والحكم الإلهية تتجلى في خاتم النبيين ﷺ ورسالته. وقد نزلت الآيات الكريمة تبين هذه الجوانب بيانًا كاملًا:
فتارة يتكفل له ربه ﷾ بحفظ القرآن: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] .
1 / 9
وتارة أخرى يتعهد له ربه ﷾ بجمع القرآن له وتوضيحه لاستيعابه: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٧-١٩] .
وتارة يأمره ربه بتبليغ الآيات الكريمة للناس ومجاهدتهم بالقرآن: ﴿فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٢] .
لذا كان رسول الله ﷺ أعلم عباد الله بكتاب الله، إذ إن تبليغ الرسالة على الوجه الأكمل مترتب على فهمه لمحتوى الرسالة جملة وتفصيلًا، وهذا أمر تفرضه بدهيات الأمور ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] .
ويأتي بعد فهم الرسول ﷺ للقرآن الكريم فهم الصحابة رضوان الله عليهم وإن كان فهمهم له جملة "لظاهره على الإجمال ولأحكامه على التفصيل".
وليس من الضروري إحاطتهم التامة بمعاني القرآن الكريم بحيث لا تغيب عنهم شاردة ولا واردة، نقول ذلك لما نقل إلينا عن الصحابة ﵃، فعلى الرغم من رجوعهم إلى النبي ﷺ المرة تلو الأخرى لبيان ما أشكل عليهم فهمه، أو لإزالة غموض اعتور فهمهم للآيات البينات، تنقل إلينا كتب التفسير والروايات الصحيحة من السنة النبوية أن بعض الصحابة كان يستفسر عن بعض الآيات والمعاني إلى مرحلة متأخرة من حياتهم بعد وفاة رسول الله ﷺ، فمثلًا تنقل لنا الروايات أن عمر بن الخطاب سأل على المنبر في إحدى خطبه عن "الأب" في قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس: ٣١]، ثم عاد إلى القول: وما يضرك لو لم تعلم معناها١، فإن في بحث هذه الأمور التي لا ينبني عليها حكم عملي تكلفًا لا فائدة منه، لذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يكتفون فيما يتعلق بالجوانب النظرية من فروع العقائد، أو ما يتعلق بسير الأمم، أو تخليق السماوات والأرض ... فكانوا يكتفون بموطن العظة والعبرة ومجمل الاعتقاد فيها. بل جاء النهي القرآني الصريح عن الخوض في مثل هذه الأمور التي لا تدخل في إطار الأحكام العملية، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا
_________
١ انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: ٢/ ١١٣.
1 / 10
حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾ [المائدة: ١٠١، ١٠٢] .
كما ورد عن رسول الله ﷺ النهي عن الاستفسارات التي لا يكون لها واقع عملي في حياة المسلمين. يقول ﵊: "إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" ١. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" ٢.
وفي الحديث الآخر الصحيح: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" ٣.
والحكمة الإلهية في ذلك -والله أعلم- أن انصراف الأمة إلى الأمور النظرية والفرعيات التي لا ترتبط بالأحكام العملية يؤدي إلى الفرقة والنزاع وإلى الجدل العقيم والترف الثقافي، والأمة الإسلامية أمة جهاد ودعوة وعمل فلا يليق بها مثل هذه المشاغل، وبخاصة في الصدر الأول في مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية.
بالإضافة إلى ما تقدم فإن إمكانات الصحابة رضوان الله عليهم الثقافية واللغوية لم تكن على مستوى واحد في الإدراك والفهم والاستنباط.
روى البخاري في صحيحه عن الشعبي عن عدي بن حاتم ﵁ قال: أخذ عدي عقالًا أبيض وعقالًا أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتي فقال: "إن وسادك إذًا لعريض أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك" ٤.
وكان منهم من لازم الرسول ﷺ ولم يفارقه في سفر ولا حضر، فاطلع على
_________
١ رواه البخاري في كتاب الاعتصام: ٨/ ١٤٢، ومسلم في كتاب الفضائل: ٧/ ٩٢.
٢ رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل: ٧/ ٩١.
٣ أخرجه ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه. انظر: الدر المنثور للسيوطي: ٣/ ٢٠٨.
٤ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٥/ ١٥٦.
1 / 11
أسباب النزول وما كان يرافق أحوال الوحي مما لم يدركه الآخرون، كل ذلك أوجد ملكة ذهنية وعلمية لم تتوافر لغيرهم.
يقول مسروق: "جالست أصحاب محمد ﷺ فوجدتهم كالإخاذ -الغدير- فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم"١.
﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: ١٧] .
وفي الرواية التي أخرجها أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في صحيحه عن ابن عباس ما يدل أن بعض الصحابة كان يفهم بعض الآيات على غير وجهها الصحيح فيقع في محظور. يقول ابن عباس: إن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله ﷺ بالأيدي والنعال والعصي، حين توفي رسول الله ﷺ فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدًا فتوفي ما كانوا يضربون في عهد رسول الله ﷺ فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ثم كان عمر من بعدهم فجلدهم كذلك أربعين، حتى أُتي برجل من المهاجرين الأولين قد شرب فأمر به أن يجلد، فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله، قال: وفي أي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا. شهدت مع رسول الله ﷺ بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه؟ فقال ابن عباس: هؤلاء الآيات نزلت عذرًا للماضين وحجة على الباقين، عذرًا للماضين لأنهم لقوا الله قبل أن حرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ﴾ حتى بلغ الآية الآخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله نهى أن يشرب الخمر، فقال عمر: فماذا ترون؟ فقال علي بن أبي طالب: نرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة فأمر عمر فجلد ثمانين٢.
_________
١ التفسير والمفسرون للذهبي: ١/ ٣٠.
٢ انظر الدر المنثور للسيوطي: ٣/ ١٦٢.
1 / 12
وفي عهد التابعين اتسعت دائرة الأقوال في التفسير نظرًا لحاجة الناس إلى تفسير القرآن الكريم، وذلك:
- لبعد العهد عن عصر النزول، ولانتشار الإسلام.
- ودخول أقوام فيه ممن لم تكن لديهم خلفية عن الثقافة الإسلامية، بل كان لبعضهم خلفيات ثقافية أخرى ممن اعتنقوا ديانات قبل الإسلام.
- كما ولد في الإسلام جيل لم يكن على علم تام بأساليب العربية وما رافق نزول القرآن إلا ما تلقوه عن الصحابة رضوان الله عليهم.
وكان إلى هذا العهد يتناقل التفسير بطريق الرواية، فالصحابة يروون عن رسول الله ﷺ كما يروي بعضهم عن بعض، والتابعون يروون عن الصحابة كما يروي بعضهم عن بعض.
- وفي أواخر عهد بني أمية وأوائل العصر العباسي بدأ عصر التدوين، فجمع حديث رسول الله ﷺ. فطاف الآفاق رجال كان شغلهم الشاغل جمع ما روي عن رسول الله ﷺ وكان على رأس هؤلاء:
ابن شهاب الزهري، المتوفى سنة ١٢٤هـ.
وشعبة بن الحجاج، المتوفى سنة ١٦٠هـ.
ووكيع بن الجراح، المتوفى سنة ١٩٧هـ.
وسفيان بن عيينة، المتوفى سنة ١٩٨هـ.
وروح بن عبادة البصري، المتوفى سنة ٢٠٥هـ.
وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، المتوفى سنة ٢١١هـ.
وآدم بن إياس، المتوفى سنة ٢٢٠هـ.
وأحمد بن حنبل، المتوفى سنة ٢٤١هـ.
وعبد بن حميد، المتوفى سنة ٢٤٩هـ.
وابن ماجه، المتوفى سنة ٢٧٣هـ.
وابن جرير الطبري، المتوفى سنة ٣١٠هـ.
وغيرهم كثير ...
1 / 13
ولكن لم يصلنا شيء عن تفاسيرهم سوى تفسير مجاهد، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني، وتفسير ابن ماجه، وتفسير ابن جرير الطبري.
وكان إلى هذا العهد يجمع التفسير على أنه باب من أبواب الحديث، يدون فيه ما روي عن رسول الله ﷺ أو كبار الصحابة مما يتعلق بتفسير آية أو آيات.
ولم يبحث عن تفسير كل آية من آيات القرآن الكريم، وإنما يذكر فيه ما ثبت بطريق السند نسبته إلى رسول الله ﷺ أو أحد الصحابة.
ولم نجد تفسيرًا مستقلًا للقرآن الكريم تتبع القرآن سورة سورة أو آية آية قبل بداية القرن الثالث الهجري، على الرغم من أن الروايات تذكر أن مجاهدًا المتوفى سنة ١٠٤هـ سأل ابن عباس ومعه ألواحه، فكتب تفسير القرآن كاملًا، إلا أن التفسير المطبوع لا يختلف عن التفاسير المأثورة لآيات متفرقة. كما قيل إن سعيد بن جرير المتوفى سنة ٩٤هـ كتب تفسيرًا كاملًا للقرآن الكريم. كما يقال إن عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة كتب تفسيرًا للقرآن عن الحسن البصري المتوفى سنة ١١٦هـ. إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بصحة هذه الروايات لأن هذه التفاسير لم يصلنا منها إلا القليل، ووصلت أجزاء من بعضها.
ولعل أقدم تفسير كامل لآيات القرآن الكريم، وصلنا وتحت أيدينا، وهو تفسير شيخ المفسرين ابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠هـ.
ثم توالت المؤلفات في التفسير وتشعبت ألوانها حسب اتجاهات أصحابها والفنون التي أجادوا فيها، إلا أن الذي يهمنا هنا:
هل كان بين تلك المؤلفات ما نطلق عليه اليوم اسم التفسير الموضوعي؟
وقيل البدء باستعراض تلك المؤلفات لنتعرف على المراد من مصطلح "التفسير الموضوعي".
1 / 14
تعريف التفسير الموضوعي:
يتألف مصطلح "التفسير الموضوعي" من جزأين ركبا تركيبًا وصفيًا فلا بد من تعريف الجزأين أولًا ثم تعريف المصطلح المركب منها.
تعريف التفسير:
التفسير لغة: من الفسر، وهو الكشف والبيان، وفي مفردات الراغب١:
إظهار المعنى المعقول. والتفسير مبالغة من الفسر.
قال تعالى: ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٣] أي أحسن توضيحًا وبيانًا للمطلوب.
وفي الاصطلاح: علم يكشف به عن معاني آيات القرآن وبيان مراد الله تعالى منها حسب الطاقة البشرية.
تعريف الموضوع:
الموضوع لغة: من الوضع، وهو جعل الشيء في مكان ما، سواء كان ذلك بمعنى الحط والخفض، أو بمعنى الإلقاء والتثبيت في المكان، يقال ناقة واضعة: إن رعت الحمض حول الماء ولم تبرح، وقيل: وضعت تضع وضيعة فهي واضعة، وكذلك موضوعة يتعدى ولا يتعدى. وهذا المعنى ملحوظ في التفسير الموضوعي لأن المفسر يرتبط بمعنى معين لا يتجاوزه إلى غيره حتى يفرغ من تفسير الموضوع الذي التزم به٢.
_________
١ المفردات في غريب القرآن: ٥٧١.
٢ المدخل إلى التفسير الموضوعي للدكتور عبد الستار سعيد: ٢٠، ٢٣.
1 / 15
وفي الاصطلاح: قضية، أو أمر متعلق بجانب من جوانب الحياة في العقيدة أو السلوك الاجتماعي أو مظاهر الكون تعرضت لها آيات القرآن الكريم.
أما تعريف مصطلح "التفسير الموضوعي" بعد أن أصبح علمًا على لون من ألوان التفسير فقد تعددت تعاريف الباحثين المعاصرين له. منها:
- هو بيان ما يتعلق بموضوع من موضوعات الحياة الفكرية أو الاجتماعية أو الكونية من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده.
- وعرفه بعضهم بقوله: هو جمع الآيات المتفرقة في سورة القرآن المتعلقة بالموضوع الواحد لفظًا أو حكمًا وتفسيرها حسب المقاصد القرآنية.
- وقيل: هو بيان موضوع ما من خلال آيات القرآن، الكريم في سورة واحدة أو سورة متعددة.
- وقيل: هو علم يبحث في قضايا القرآن الكريم، المتحدة معنى أو غاية، عن طريق جمع آياتها المتفرقة، والنظر فيها، على هيئة مخصوصة، بشروط مخصوصة لبيان معناها، واستخراج عناصرها، وربطها برباط جامع١.
- وقيل: هو علم يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنية من خلال سورة أو أكثر.
ولعل التعريف الأخير هو الأرجح، لخلوه عن التكرار ولإشارته إلى نوعيه الرئيسيين.
والتعاريف السابقة يغلب عليها طابع الشرح والتوضيح لمنهج البحث في التفسير الموضوعي.
_________
١ المدخل إلى التفسير الموضوعي: ٢٠؛ ودراسات في التفسير الموضوعي للدكتور زاهر عواض: ٧.
1 / 16
نشأة التفسير الموضوعي:
لم يظهر هذا المصطلح "التفسير الموضوعي" إلا في القرن الرابع عشر الهجري، عندما قررت هذه المادة ضمن مواد قسم التفسير بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر. إلا أن لَبِنات هذا اللون من التفسير وعناصره الأولى كانت موجودة منذ عصر التنزيل في حياة رسول الله ﷺ.
فإن تتبع الآيات التي تناولت قضية ما والجمع بين دلالاتها وتفسير بعضها لبعض، مما أطلق عليه العلماء فيما بعد بتفسير القرآن بالقرآن، كان معروفًا في الصدر الأول، وقد لجأ رسول الله ﷺ إليه عندما سئل عن تفسير بعض الآيات الكريمة:
- روى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم﴾ [لقمان: ١٣]، إنما هو الشرك" ١.
- روى البخاري٢ أن رسول الله ﷺ فسر مفاتح الغيب في قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: ٥٩] فقال: "مفاتح الغيب خمس: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي
_________
١ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٦/ ٢٠، صحيح مسلم، كتاب الإيمان: ١/ ٨٠.
٢ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٥/ ١٩٣.
1 / 17
نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٣٤] ".
- ومن هذا القبيل ما كان يلجأ إليه الصحابة رضوان الله عليهم من الجمع بين الآيات القرآنية التي يظن بها بعضهم التعارض، كما روى البخاري قال: وقال المنهال عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس ﵄ إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: ﴿فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾، ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾، ﴿وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾، ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فقد كتموا في هذه الآية، وقال تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ فذكر خلق السماء قبل الأرض، ثم قال تعالى: ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إلى قوله: ﴿طَائِعِين﴾ فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء. وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله تعالى: ﴿دَحَاهَا﴾ ١.
وقد وضع العلماء بعد ذلك قاعدة في أصول التفسير بضرورة العودة إلى القرآن الكريم نفسه لمعرفة تفسير آية ما، فما أجمل في مكان فصل في مكان آخر، وما أطلق في سورة مقيد في سورة أخرى. يقول ابن تيمية: "إن أصح الطرق في ذلك -أي في تفسير القرآن- أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر"٢.
ومن أبرز تلك الأمثلة قوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ [إبراهيم: ١١٨]، فقد أفادت الآية الكريمة أن ما حرم على اليهود قد قصه الله ﷾ على نبيه، وبالرجوع إلى الآية التي ورد فيها ذكر
_________
١ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٦/ ٣٦.
٢ مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية بتحقيق عدنان زرزور: ٩٣.
1 / 18
المحرمات عليهم، نجد أن آية الأنعام قد فصلت هذا الإجمال وأزالت ذاك الإبهام في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام: ١٤٦] .
وكذلك ما يتعلق بالمحرمات من بهيمة الأنعام على هذه الأمة نجد في ذلك عدة آيات:
كقوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١] .
وقد جاء تفصيل هذه المحرمات في عدة آيات كقوله تعالى:
﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٤٥] .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٢، ١٧٣] .
وقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ [المائدة: ٣] .
وقد جمع الفقهاء هذه الآيات ذات الصلة بموضوع واحد في كتبهم الفقهية فجمعوا ما يتعلق بالوضوء والتيمم تحت كتاب الطهارة واستنبطوا منها الأحكام الخاصة بها، كما جمعوا ما ورد في الصلاة وقيامها وركوعها والقراءة فيها تحت كتاب الصلاة، وما يتعلق بالصدقات وجوبًا ومصارف وأنواع المال التي تخرج الصدقة منها تحت كتاب الزكاة، وهكذا في سائر أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والفرائض والسير.
وكل ذلك لون من ألوان التفسير الموضوعي في خطواته الأولى.
1 / 19
وقد أخذت هذه الدراسات الموضوعية اتجاهًا آخر في نفس الوقت وهو الاتجاه اللغوي وذلك بتتبع اللفظة القرآنية ومحاولة معرفة دلالاتها المختلفة.
فقد ألف مقاتل بن سليمان البلخي المتوفى سنة ١٥٠هـ كتابًا سماه "الأشباه والنظائر في القرآن الكريم"، وذكر فيه الكلمات التي اتحدت في اللفظ واختلفت دلالالتها حسب السياق في الآيات الكريمة.
وألف يحيى بن سلام المتوفى سنة ٢٠٠هـ كتابه "التصاريف"١، تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه على طريقة كتاب الأشباه والنظائر.
وألف الراغب الأصفهاني المتوفى سنة ٥٠٢هـ كتابه "المفردات في القرآن" حيث تتبع مادة الكلمة القرآنية وبين دلالاتها في مختلف الآيات.
ثم ألف ابن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧هـ كتابه "نزهة الأعين النواضر في علم الوجوه والنظائر".
وعلى هذه الشاكلة كتاب الدامغاني المتوفى سنة ٤٧٨هـ بعنوان "إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم".
وكتاب الفيروزآبادي المتوفى سنة ٨١٧هـ بعنوان "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز".
وكتاب ابن العماد المتوفى سنة ٨٨٧هـ بعنوان "كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر".
وكان الغالب على هذه المؤلفات الجانب للكلمات الغريبة التي تتعدد دلالاتها حسب الاستعمال.
وإلى جانب هذا اللون من التفسير فقد برزت دراسات تفسيرية لم تقتصر على الجوانب اللغوية بل جمعت بين الآيات التي يربطها رابط واحد أو يمكن أن تدخل تحت عنوان معين:
_________
١ حققت الكتاب هند شلبي، وطبعته الشركة التونسية للتوزيع.
1 / 20
فقد ألف الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة ٢٢٤هـ كتابه في الناسخ والمنسوخ.
وألف الإمام علي بن المديني "شيخ البخاري" والمتوفى سنة ٢٣٤هـ كتابه في أسباب النزول.
وألف الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦هـ كتابه "تأويل مشكل القرآن".
وألف أبو بكر الجصاص الحنفي المتوفى سنة ٣٧٠هـ كتابه "أحكام القرآن".
وألف ابن العربي المالكي المتوفى سنة ٥٤٣هـ كتابه "أحكام القرآن" أيضًا.
وألف إلكيا الهراسي الشافعي المتوفي سنة ٥٠٤ هـ كتابه "أحكام القرآن" أيضًا.
وظهرت مؤلفات أخرى جميع أصحابها ما يشمله عنوان الكتاب:
مثل "أمثال القرآن" للماوردي المتوفى سنة ٤٥٠هـ.
وكتاب "مجاز القرآن" للعز بن عبد السلام المتوفى سنة ٦٦٠هـ.
وكتاب "أقسام القرآن" و"أمثال القرآن" لابن القيم المتوفى سنة ٧٥١هـ.
ولا زال هذا الخط من التأليف في التفسير الموضوعي مستمرًا إلى يومنا هذا، وقد توجهت أنظار الباحثين إلى هدايات القرآن الكريم حول معطيات الحضارات المعاصرة وظهور المذاهب والاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية، والعلوم الكونية والطبيعية.
فنجد مؤلفات كثيرة تحت عناوين شتى مثل:
- الإنسان في القرآن.
- المرأة في القرآن.
- الأخلاق في القرآن.
- اليهود في القرآن.
- سيرة الرسول صور مقتبسة من القرآن.
- الصبر في القرآن.
- الرحمة في القرآن.
1 / 21
ومثل هذه الموضوعات لا تكاد تتناهى، فكلما جد جديد في العلوم المعاصرة، التفت علماء المسلمين إلى القرآن الكريم ليسترشدوا بهداياته وينظروا في توجيهات الآيات الكريمة في مثل هذه المجالات الجديدة.
ومن الجدير بالذكر في هذا المجال أن أحد المستشرقين الإفرنسيين هو "جول لابوم" وضع كتابًا بعنوان "تفصيل آيات القرآن الكريم" وضع لكتابه ثمانية عشر بابًا، ثم حاول توزيع آيات القرآن الكريم على هذه الأبواب، وجعل تحت كل باب فروعًا وقد بلغت عدة هذه الفروع حوالي/ ٣٥٠ فرعًا، وجمع تحت كل فرع الآيات التي تتعلق به.
أما الأبواب الرئيسية فهي:
١- التاريخ.
٢- محمد ﷺ.
٣- التبليغ.
٤- بنو إسرائيل.
٥- التوراة.
٦- النصارى.
٧- ما بعد الطبيعة.
٨- التوحيد.
٩- القرآن.
١٠- الدين.
١١- العقائد.
١٢- العبادات.
١٣- الشريعة.
١٤- النظام الاجتماعي.
١٥- العلوم والفنون.
١٦- التجارة.
١٧- علم تهذيب الأخلاق.
١٨- النجاح.
قام بترجمة الكتاب إلى العربية محمد فؤاد عبد الباقي وترجم مستدركه لإدوار مونتيه، إلا أن المؤلف تعسف كثيرًا في حشر بعض الآيات وليس الغرض الأساسي من الآية متفقًا مع الآية الأخرى، كما فاته كثير من الآيات لم تدخل تحت الجمع، إلا أن الكتاب خطوة مفيدة للباحث في لم شتات موضوع من الموضوعات القرآنية.
1 / 22
ألوان التفسير الموضوعي:
من خلال الاستعراض التاريخي لنشوء علم التفسير والمؤلفات فيه نستطيع أن نلحظ ثلاثة أنواع من ألوان التفسير الموضوعي.
اللون الأول:
أن يتتبع الباحث لفظة من كلمات القرآن الكريم ثم يجمع الآيات التي ترد فيها اللفظة أو مشتقاتها من مادتها اللغوية، وبعد جمع الآيات والإحاطة بتفسيرها يحاول استنباط دلالات الكلمة من خلال استعمال القرآن الكريم لها. وكثير من الكلمات القرآنية المتكررة أصبحت مصطلحات قرآنية.
فكلمات: الأمة، الصدقة، الجهاد، الكتاب، الذين في قلوبهم مرض، المنافقون، الزكاة، أهل الكتاب، الربا، نجدها تأخذ وجوهًا في الاستعمال والدلالة.
فالمتتبع لمثل هذا يخرج بلون من التفسير لأساليب القرآن الكريم في استخدام مادة الكلمة ودلالاتها.
وقد سبقت الإشارة إلى أن كتب غريب القرآن، وكتب الأشباه والنظائر قد تضمنت هذا اللون من التفسير، وهي العمدة في مثل هذه الأبحاث.
إلا أن المؤلفات القديمة من هذا اللون بقيت في دائرة دلالة الكلمة في موضعها. ولم يحاول مؤلفوها أن يربطوا بينها في مختلف السور، فبقي تفسيرهم للكلمة في دائرة الدلالة اللفظية.
أما المعاصرون الذين كتبوا في هذا اللون فقد تتبعوا الكلمة وحاولوا الربط
1 / 23