Debates Científicos y Sociales
مباحث علمية واجتماعية
Géneros
ولا يخفى ما في ذلك من الرخاوة العديمة الطلاوة، ومن النقص في الآداب الخصوصية والعمومية معا، ومن إفساد أخلاق المجتمع البشري عموما. وأقل أضرار ذلك التضليل لفقد الحرية الدالة على الشهامة وعلو النفس.
وإذا نظرنا إلى هذا التمدن المشحون بالمبادئ المتناقضة في حياة الجموع، تبدى لنا هذا النقص جليا في نظاماته وأحكامه وتعاليمه؛ مما يجعل الخطر على التمدن الحقيقي من الوقوف والتقهقر شديدا جدا. فلولا هذه النظامات الناقصة والأحكام الفاسدة والتعاليم المضللة، لما رأينا المئات من الألوف يذهبون جوعا وبردا وقتلا بالسيف والأمراض، ولما رأينا هذا التأفف من الهيئة الاجتماعية بسبب ذلك، وهذا التحفز منها لقلب هذه النظامات؛ انتقاما للضعيف الرازح تحت عبء الظلم من القوي السابح في بحور الغرور. ولا يخفى ما في ذلك من الخطر على المجتمع نفسه، ولا نظن أن عصرا من العصور بلغ فيه توتر العلاقات التي تربط أعضاء هذا المجتمع بهذه النظامات مبلغه في هذا العصر لاتساع الفهم. فإما أن تنقح هذه النظامات إلى ما يكون أصلح للحال، وإما أن تقطع رباطاتها لزيادة الشد، فيقع المجتمع في أواخر هذا القرن، أو أوائل القرن القادم، في هرج لا تذكر معه ثورة أواخر القرن الماضي بشيء.
وقد يتوهم القارئ أن إسهاب الكلام على التمدن الحالي ونظاماته وتعاليمه وسائر آدابه، كما تقدم، خروج عن الموضوع وغلو في النظر. والحال أن اعتبار ذلك أمر لازم في مثل بحثنا؛ لأن أسباب انتحار الأفراد تمتد أعراقها إلى أصل المجتمع البشري، وتتخلل كل طبقاته؛ فآداب الأفراد من آداب الاجتماع، وأخلاقهم من أخلاقه، وقواهم العقلية وعواطفهم من قواه العقلية وعواطفه. فالاجتماع مسئول عن كل ضعف يظهر في الأفراد. ولا شك أن الانتحار ضعف في العقل يجر إلى صغر في النفس، سببه تقوية بعض العواطف بسبب التربية، وإماتة البعض الآخر وتحويلها إلى غير وجهتها الحقيقية بالتعاليم المتناقضة، وعدم انطباقها على العمل.
فبهذه التربية التي يفرط فيها أصحاب اليسار في البيوت والمعلمون في المدارس، والتي يفرط فيها أصحاب العسر كذلك؛ يرهل البدن وتضعف أعصابه، فيصير سريع التأثر؛ ولذلك كان يكثر الانتحار في سن الصبا ما بين خمس عشرة سنة وخمس وعشرين سنة؛ إذ يكون الجسم رطبا رخصا؛ فالتربية البيتية تضعف البدن بالترفه، والتربية المدرسية تقوي العواطف، وتفسح المجال واسعا للخيال إلى حد الضلال، مع عدم مراعاة تطبيق ذلك على المعاملات. فيخرج الشاب من بيته ومن المدارس، وهو على هذه الحال من وهن المبادئ، إلى المجتمع البشري، حيث يصادف كل شيء على عكس ما قد تربى، وضد ما قد تعلم. فتشتد فيه الانفعالات، وتعظم عليه الصعوبات. ولا سيما إذا كان ممن قد تعلق على قراءة كتب المجون، التي يبالغ أصحابها في تجسيم ما بني على المخيلة وتعظيمه مع بعده عن الواقع، حتى يصبح الإنسان اثنين متناقضين؛ إنسانا بالوسط الذي يعيش فيه، وإنسانا بما تربى عليه. فيصير بذلك متأثرا لأقل سبب وأحيانا لغير داع. وكتب المجون هذه شديدة الضرر في تهييج عواطف الإنسان. على أن نهج بعض الكتبة فيها في أواخر هذا القرن النهج الطبيعي لتقرير الحقائق كما هي، خطوة حميدة ستقلل الضرر الناشئ عنها.
والانتحار يكثر في الأحداث لأسباب عشقية تسهل مداواتها ومعاكسات لا تصعب ملافاتها، لو كانوا أقوم تربية وأكثر خبرة؛ ولذلك هو يقل جدا بعد سن الأربعين. وإذا حصل حينئذ فلغير هذه الأسباب؛ لأسباب يزعمون أنها تمس الشرف، كما لو تورط إنسان مستقيم لزلة قدم، فاستعمل مالا ليس له بناء على أن يرده لصاحبه بعد أن يصلح زلته، فيبدد المال ولا ينهض من عثرته، ويخشى افتضاح أمره، فقد يقتل نفسه؛ أو وقع في مرض عضال تأكد عدم شفائه، ولم يعد يطيق عذابه، فقد ينتحر فرارا من العذاب، وإذا كان للانتحار مسوغ فربما كان هذا الأخير، أي المرض، أصدق مسوغ له.
وفلسفة الانتحار يختلف تعليلها بحسب الأسباب والسن؛ ففي العشق يقصد المنتحر التخلص من عذاب ليس في طاقته احتماله، وربما قصد بانتحاره إرضاء حاسة وهمية، هي قهر الحبيب إذا كان يعتقد أن حبه شاغل مكانا من قلبه، أو كان يعتقد فيه وجود عاطفة الشفقة فقط، وقلما ينتحر لمعشوق يعتقد فيه الخلو من هاتين العاطفتين أصلا. وفي معاكسات الأهل يقصد تكديرهم، كأنه ينتقم لنفسه منهم على عدم مجاراتهم له في أهوائه. وأما الذي يبذل حياته صونا لشرف نفسه، فيقصد بذلك ترضيتين؛ إحداهما تخليص وجدانه من عذاب ما تجلبه عليه الإهانة. والثانية تلطيف هذه الإهانة بما يظن أنه يهيئ لها من الأعذار لدى الجمهور.
والمنتحر ليس بمجنون حقيقة، كما ربما يظن البعض، لأنه في انتحاره يعقل؛ أي إنه يفعل أفعالا مغياة لا تخرج كلها عن حب الذات. فإذا بذل حياته المادية فلاعتقاده أن الحياة الأدبية أفضل، أو لأن عذابه تجاوز حد طاقته، أو لأسباب أخرى ذاتية. والدافع له إلى ذلك ضيق في العقل وصغر في النفس للأسباب الاجتماعية السابق ذكرها. ولو أصلحت تربيته على المبادئ المتينة، لعلم أن الشرف الحقيقي لا يكون بقتل النفس، ولو بعد زلة كما يظن من لا حزم عنده، وتساعده التربية الاجتماعية، بل بمصادمة الطوارئ بعزم ثابت وجأش قوي، لعله يستطيع، ولو في المستقبل البعيد، أن يعوض على من أضاع عليه متاعه، وإلا فيكون قد جاهد جهاد الأبطال، ولم يمت موت الأنذال. وإن الشهامة التي يزعم الأحداث أنهم يأتونها بانتحارهم لمعشوق زاد دلالا، أو قهرا لأبوين لم ينيلاهم منالا؛ ليست شهامة، بل الشهامة في تلقي الصعوبات بصدر رحب وقلب لا يهاب؛ للتغلب عليها.
وأما الانتحار الذي يكون سببه الفقر، فما الباعث عليه إلا ضيق المذاهب على الإنسان، فتقل حيلته في تحصيل رزقه، وفطرته لا تساعده على ما عدته الهيئة الاجتماعية جنايات. فهو لا يجد من نفسه ميلا للسرقة أو اللصوصية، فتصغر همته بإزاء الصعوبات الكثيرة، فيطلب النجاة من الذل بالموت.
والانتحار هنا يكون غالبا مقرونا بالقتل، فيقتل الرجل معه امرأته وأولاده، كأنه يريد أن ينجيهم مما هو واقع فيه، معتقدا أنهم يشعرون شعوره في مركزه. وربما حملته محبة نفسه عن شعور مبهم على ألا يدع نفسه يترك هذه الحياة من دون شريك له في مصابه، فيعمد إلى قتل من هم أقرب إليه، وقتلهم أسهل عليه. والمسئول في هذه الجناية الفظيعة نظامات الهيئة الاجتماعية بلا ريب. وربما وضعنا مقالة في فرصة أخرى أبنا فيها كيف يمكن ملافاة نقص هذه النظامات بما تقل معه مصائب الإنسان، ولا يخرج عن حد الإمكان في هذا الزمان، حتى لا يظن قصار النظر أننا نهيم في الأوهام، وأن مباحثنا أضغاث أحلام، وحتى يتضح لهم أنهم هم أنفسهم ليسوا في يقظة بل في منام.
المقالة الخامسة والعشرون
Página desconocida