وهذا النحو من التطور يشبه التطور العقلي عند اليونان، ونظرية الشك هذه التي أسسها «هيوم» أثارت في إسكتلندا الميل إلى استعمال العقل في البحث، «كما أنها ساعدت عالما ألمانيا يشبه «هيوم» بل أعظم منه نفسا على الخلاص من قيود الاستسلام، ومن قبول المسائل من غير بحث، وشجعته على وضع نظامه الانتقادي، وذلك العالم هو «عمانويل كانت».»
من ذلك نرى أن الفلسفة الحديثة اتبعت في تطورها الطريقة التي جرى عليها الفكر عند اليونان، فالفلسفة اليونانية كانت أيام طفولتها فلسفة طبيعية تبحث في عالم الطبيعة، ثم تحول البحث إلى الإنسان وقواه الباطنة، فبعد أن كانت الفلسفة فلسفة نظر في الكون صارت فلسفة إنسان (فلسفة أنثروبولوجية)، ثم آلت الحركة التي قام بها السوفسطائيون إلى الشك في الحقائق، وهذا بعينه هو الطريق الذي سلكه الفكر الحديث؛ فقد كان مجرى الفكر متجها نحو الطبيعيات عندما فارق منبع النهضة، ثم اتجه نحو الإنسان عند اجتيازه هولندا وألمانيا وفرنسا، ثم ارتقى فاتجه إلى البحث في «نظرية المعرفة» عند وصوله إلى إنجلترا، ثم وصل في النهاية إلى الشك والارتياب، وكما مهد السوفسطائيون بشكهم الطريق للإصلاح الذي قام به سقراط ولنظام أفلاطون «المثالي»، فكذلك الشك الذي أسسه «هيوم» مهد السبيل للإصلاح الذي قام به «كانت»، والذي كان منه «مذهب المثال الألماني»،
21
وحقا إن «هيوم» قوض ما قاله «لوك» من أساسه.
وانبعثت من أقوال «هيوم» شرارة كادت تشعل ما حولها لو أنه قدر لها أن تقع على مادة سريعة الالتهاب، ولو أنه روح على ما أصابت، وكان لأقواله أثر في «كانت»؛ فإنها جعلته ينتبه من سنته وينبذ طريقة التسليم من غير بحث.
22
وقد سار مذهب العقليين مع مذهب التجريبيين جنبا إلى جنب، وإن كانت كل فرقة منقسمة على نفسها وهي في حرب عوان مع الأخرى، حتى جاء «كانت» فحاول أن يوفق بين المذهبين ويزيل الخلاف بينهما بتحديد دائرة لكل من العقل والتجربة، وتقويم كل باعتبار ما يوصل إليه من الحقائق. وقد بحث كل من العقليين والتجريبيين في أصل المعرفة، ولكنهما كليهما وثقا بالعقل البشري، واعتقدا بقدرته على معرفة الأشياء، فلم يتعرض أحد منهما لموضوع «إمكان معرفة الأشياء»
23
حتى أتى «كانت» فوجه بحثه نحو المعرفة نفسها، وأثار البحث في إمكان المعرفة ، وأخضع العقل البشري نفسه للبحث، وقد سمي النظام الذي وضعه هذا العالم «بالنظام الانتقادي» تمييزا له عن الطريقة التي كانت متبعة من قبل، والتي لقبها هو «بطريقة التسليم». بحث «كانت» في أصل المعرفة وفي وجودها، في منبعها وحدودها، في أساسها وفي صحتها، وبعد أبحاث «كانت» في منبع المعرفة وشرح شروطها استطاع الإنسان أن يحدد دائرتها ومجالها، وما كان يستطيع ذلك من قبل، وبذلك وجه «كانت» الفلسفة الحديثة وجهة جديدة ظلت متجهة إليها إلى اليوم، وإليه يرجع الفضل في مذهب المثال الألماني الذي وضعه «فخته» و«شلنج» و«هجل». وقد أضاف التقدم الحديث في العلوم الطبيعية إلى تعاليم «كانت» ومذهب المثال الألماني مسائل كثيرة جديدة، وكان هذا المذهب يوجه أكبر اهتمامه للبحث في أعمال العقل، ولكن ما لبث أن التفت الإنسان ثانية - ولا سيما في إنجلترا - للبحث في تاريخ الإنسانية وفي الأشياء الخارجية والعلوم الطبيعية، وأصبح أهم نظريات العصر الجديد نظرية النشوء والارتقاء التي تشغل الآن أنظار أكبر الباحثين.
هوامش
Página desconocida