14
وهاتان الحركتان - أعني النهضة العلمية والإصلاح الديني - بتعاونهما أنتجا عاملا ثالثا كان له أثر في تلوين الأفكار الحديثة بلون جديد، وتحويل فلسفة القرون الوسطى إلى الفلسفة الحديثة، وذلك العامل هو «العلوم الطبيعية»، فالعلوم الطبيعية هي التي هدت الفلسفة إلى الاستقلال في العمل، ودليلنا على ذلك أن الاستكشافات العظيمة الحديثة التي وسعت نطاق الجغرافيا - من رحل كولمبس وفاسكوده جاما وماجلان، وما أبانه كوبرنيكس من نظام العالم، والبحث العلمي الذي بحثه ستيفينس وتيكوده براهي وجليلو وكبلر وجلبرت لما كانت تصحب رقي الفلسفة الحديثة، كان لا بد من أن يكون للعلوم الطبيعية - التي تختلف اختلافا كبيرا عما كانت عليه في العصور القديمة - أثر كبير في هداية الفكر في العصور الحديثة.
قال فندلبند: «كلما انفصلت الفلسفة عن الدين وكانت علما كونيا مستقلا كانت مهمتها التي يجب أن تؤديها هي أن تبحث في علوم الطبيعة، وإلى هذه الغاية كانت تتجه كل أبحاث الفلسفة زمن النهضة حتى إن شعارها كان «لتكونن الفلسفة علما طبيعيا».»
من هذا نرى أن النهضة والإصلاح الديني أطلعا فجر الفلسفة الحديثة، وهي - مع مخالفتها لفلسفة القرون الوسطى مخالفة كبرى - تشبه تاريخ تطور العقل عند القدماء مشابهة كبرى، وتسير في نفس الطريق الذي سلكه؛ فإن الفلسفة الحديثة من أيام النهضة فما بعد تتبع سنة النشوء والارتقاء، وتنتقل من طور الإيمان والاعتقاد إلى طور التعقل، وذلك كان الشأن عند القدماء.
أول ما أخذ الفكر يفيق من سباته الطويل بدأ يعرض الدين والنظم التي بنيت عليه للبحث والنقد الهادم، ومن مميزات عصور الانتقال حدوث النزاع بين الآراء المتنوعة والنظريات المختلفة بين القديم والجديد، ويتلو ذلك عادة عدم الرضاء عن الماضي لفساده، والرغبة في نظام جديد خير مما سبقه، فبينما ترى القديم آخذا في التداعي إذا بالجديد لا يزال في طور التكون ولم يستقر بعد على شكل، وإذ ذاك ترى العقل يتراوح بين تعطش لمثل جديدة وآراء جديدة ووضع نظريات للعالم جديدة، وبين البحث في القديم يتخذ منه دعامة للجديد، وترى العقل - إذا قوي شعوره بقوته ونزع إلى الثورة - يتحرر من قيود الدين، ويبعث من نوم عميق سببه الدين؛ لأنه ظل يستدرج الإنسان بما يهمسه في أذنه همسا خفيفا حتى نام واستغرق، ويبتدئ نمطا في الحياة جديدا، وهو مع كل هذا لا يزال يتعلق بالماضي ويتشبث به، فتتمشى الآراء القديمة مع النظام الجديد، وتستخدم الأشكال القديمة في البناء الجديد.
وهذا بعينه ما كان عندما انبثق فجر الفلسفة الحديثة؛ فقد كانت وجهة الفكر في القرون الوسطى دينية محضة، وكان الدين هو الذي يحدد أغراض العلم، ويسن نظم البحث، ولم يكن عنوان الرقي العقلي إلا صلاة طويلة مستمرة، وكان البحث الفلسفي إنما يدور حول الآخرة وعالم الغيب، حتى إذا كانت الأسباب التي ذكرنا من قبل دعا داعي الثورة والانقلاب، فاشتد الهياج على النظام الموجود والمبادئ القائمة، وزاد سخط الناس على ما لديهم من عقائد عتيقة، «فأعلنت الحرب على كل نوع من أنواع السلطات وطولب بحرية الفكر»،
15
وكان موقف الفلسفة الحديثة في عالم الفكر كموقف البروتستانتية في عالم الدين «كل طالب بالإصلاح وكل دعا إلى التغيير»، «وأصبح الحق في نظر الناس ليس ما اعتبر حقا منذ قرون، ولا ما قال عليه فلان: إنه حق، سواء كان القائل أرسطو أو توماس أكويناس أو غيرهما؛ إنما الحق ما برهن لي عليه واقتنعت بكونه حقا.»
16
ويتميز هذا العصر بحرية الفكر واستقلاله، وبكسر القيود التي غله بها رجال الدين
Página desconocida