فإذا تحقق هذا فنقول: إن القوة الشهوانية من الحيوان أظهر الموجودات عند الجمهور لاستطباع العشق، فلا حاجة بنا إلى إظهار ذلك، وليس معشوقه في عامة الحيوان غير الناطق إلا معشوق القوى النباتية بعينها، إلا إن العشق للقوة النباتية لا تصدر عنه الأفاعيل، إلا بنوع طبيعي وبنوع أدنى وأدون، وعشق القوة الحيوانية إنما يصدر عنه بالاختيار وبنوع أعلى وأفضل وبأخذ ألطف وأحسن، حتى إن بعض الحيوان قد يستعين في ذلك بالقوة الحسية ما يوهم العامة أن ذلك العشق خاص بها، وهو عند التحقيق خاص بالشهوانية، فإن وجد للحسية فيها شركة تتوسط، وقد توافق القوة البهيمية الشهوانية النباتية في الغرض بأن يكون حصوله لا بقصد اختياري يأتيه، وإن وجد في صدور الفعل بينهما اختلاف في الاختيار، وسبيله مثل توليد المثل، فإن الحيوان الغير الناطق وإن تحرك بطبعه العشقي المتغرز فيه من العناية الإلهية تحركا اختياريا يتأدى به إلى توليد المثل، فلن يكون الغاية منها مقصودة لذاتها؛ لأن هذا الضرب من العشق غايته نفع نوعي، أعني بهذا أن العناية الإلهية لما اقتضت استبقاء الحرث والنسل وامتنع المراد من مدة البقاء في الشخص الكائن؛ لضرورة تعقب الفساد في موضع الكائن وحيا، أوجبت الحكمة صرف الغاية إلى استبقائها إلى الأنواع والأجناس، وطبع في كل واحد من أشخاص المعني به شوقا إلى تأثير ملازمة توليد المثل، وهيأ لذلك فيه آلات موافقة، ثم الحيوان الغير الناطق لانحطاطه عن مرتبة الفوز بالقوة النطقية التي بها يوقف على حقيقة الكليات، يسعد بإدراك الغرض الخاص بالأمور الكلية، فلذلك صارت فيها قوتها الشهوانية تشاكل القوة النباتية في التزامه إلى هذا الغرض.
وتقرير هذا الفصل والفصل الذي تقدم نافع في كثير مما سنأتي على إثباته في هذه الرسالة.
الفصل الخامس
في ذكر عشق الظرفاء والفتيان للأوجه الحسان
يجب أن نقدم أمام غرضنا في هذا الفصل مقدمات أربعا:
إحداها:
أن كل واحدة من القوى النفسانية مهما انضم إليها قوة أعلى منها في الشرف احتازت بانضمامها إليها وسريان بهائها فيها زيادة صقولة وزينة حتى تصير بذلك أفاعيلها البارزة عنها زائدة على ما يكون لها بانفرادها، إما بالعدد وإما بحسن الإتقان ولطف المأخذ والوخي في الانتهاء إلى الغرض، إذ كل واحدة من عالاها لها قوة على تأييد الآخر وتقويته وذب الضرر عنه تأييدا وذبا يؤتيها من جهة قبولها له زيادة بهاء وكمالا، وكذلك تصريفاتها إياها في وجوه الاستعانات فيما يفيدها الحسن والسناء والتلذذ، كتقوية الشهوانية من الحيوان النباتية، وذب الغضبية عنها من أن ينقص مادته دون منتهاها الغريزي في الذبول أو الإضرار بها، وكتوفيق النطقية للحيوانية في مقاصدها، وكإفادتها لها اللطافة والبهاء في الاستعانة بها في أغراضها؛ ولهذا ما توجد القوة الحسية والشوقية في الإنسان قد يتعدى طورها في أفعالها، حتى إنها قد يتعاطى في أفاعيلها مقاصد لن يقوم بالوفاء بها إلا صريح القوة النطقية، ومثال ذلك في القوة الوهمية أن القوة النطقية قد يستعين بها في بعض وجوه درك مطلوبها بوجه استعانة يستفيد من انعطاف النطقية عليها قوة وجسور، حتى إنها تفرج بنيل المطلوب دونها، بل تستعصي عليها، وتتحلى بسمتها وتدعي دعواها، وتوهم من فوزها بتصور المعقولات ما تسكن إليه النفس ويطمئن إليه الذهن، كعبد السوء يوعز إليه مولاه بإعانته في سانحة له مهمة عظيمة الفائدة عند النيل، فيرى أنه ظفر بالمطلوب دون مولاه، وأن مولاه قاصر عن ذلك، بل هو المولى في الحقيقة من غير أن يكون ظفر البتة بالمرام الذي يكلفه مولاه تحصيله ولا شعر به، وكذلك الحال في القوة الشوقية من الإنس، وهذا أحد علل الفساد، إلا إنه ضروري الوجود في الوضع المطلوب في الخير، وليس من الحكمة ترك خير كثير لأجل عادية شر يسير بالإضافة إليه.
والثانية:
أن الإنسان قد يصدر من مفرد نفسه الحيوانية أمور، وينفعل بمفردها انفعالات كالإحساس والتخيل والجماع والمواثبة والمحاربة، إلا إن نفسه الحيوانية لما اكتسبت من البهاء بمجاورة الناطقة تفعل هذه الأفاعيل بنوع أشرف وألطف فيستأثر من المحسوسات ما كان على أحسن مزاج وأقوم تركيب، ويتنبه لما لا تتنبه له الحيوانات الأخر، فضلا عن أشياء يستأثرها، وكذلك يتصرف بقوته المتخيلة في أمور لطيفة بديعة، حتى يكاد يضاهي بذلك صريح الصفاء للعقل، ويتخيل لموافقة أهل الكمال في الاعتدال، ويحتال في الأفاعيل الغضبية حيلا متنوعة؛ ليسهل له بها إحراز التغلب والظفر، وقد يظهر عن ذاته آثارا وأفاعيل بحسب اشتراك بين النطقية والحيوانية، كتصريف قوته النطقية قوته الحسية لينزع من الجزئيات بطريقة الاستقراء أمورا كلية، وكاستعانته بالقوة المتخيلة في تفكره، حتى يتوصل بذلك إلى إدراك غرضه في الأمور العقلية، وكتكليفه القوة الشهوانية المباضعة من غير قصد ذاتي إلى مفرد اللذة؛ للتشبه بالعلة الأولى في استبقاء الأنواع، وخصوصا أفضلها أعني النوع الإنساني، وكتكليفه إياها الطعم والشرب لا كيف اتفق بل على الوجه الأصوب، من غير قصد إلى مجرد اللذة، لكن لإعانة الطبيعة المسخرة على استبقاء شخص أفضل الأنواع أعني الشخص الإنساني، وكتكليفه القوة الغضبية مبارزة الأبطال واعتناق القتال لأجل الذب عن مدينة فاضلة وأمة صالحة، وقد تظهر منه أفاعيل عن صميم قوته النطقية مثل حب المعقولات والنزاع إلى الممات، وحب الدار الآخرة، وجوار الرحمن.
والثالثة:
Página desconocida