والأستاذ يشرك طلابه في البحث
2
ويطالبهم بأن تكون مشاركتهم إيجابية، يتحدث عن واحد من هؤلاء الطلبة اسمه عبد الوهاب عزام،
3
طالب في مدرسة القضاء الشرعي، يعد نفسه ليكون قاضيا، يقبل على دروسه في تلك المدرسة وجه النهار، ثم يسعى آخر النهار إلى الجامعة، يقول الأستاذ طه حسين: «عندما أريد أن أدرب طلاب الجامعة على قراءة نص من النصوص التي تتصل بتاريخ الحضارة اليونانية أو الرومانية أو بالأدبين اليوناني واللاتيني، فإنني أكلفه هو بالقراءة والتفسير وأقوم منه مقام الأستاذ الذي يعلم تلاميذه كيف يفقهون»، ويضيف: «إن زملاء عزام يألفونه ويعجبون به، وأنا محب له ومعجب به كزملائه.»
وهكذا كانت طريقة الأستاذ الشاب؛ يكلف تلاميذه قراءة بعض النصوص الأصلية المتصلة بدراسة الحضارتين اليونانية والرومانية، ويكلفهم شرحها تحت إشرافه ومراجعته، كما يطلب إليهم قراءة بعض النصوص في الأدب اليوناني والأدب اللاتيني، وهو حريص على ألا يقل مستوى التدريس في جامعة مصر عن مستواه في أوروبا، فهو يطلب إلى طلابه دراسة كتاب من تأليف أرسطوطاليس اسمه «نظام الأثينيين»، يقول لهم إنه قد عرف هذا الكتاب بطريق الصدفة في باريس، «أحالنا عليه أحد أساتذتنا في السوربون، فلما رجعت إليه عرفت أنه استكشف في مصر في عام 1891، فنقله الإنجليز إلى لندن، ونشرت صورته الفوتوغرافية ثم طبع في لندن وباريس وبرلين وغيرها من مدن أوروبا، ثم نقل إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها من اللغات الحديثة، ثم نقد وفسر في جميع اللغات، ثم درس في جامعات أوروبا، انتفع به مؤرخو الأوروبيين فأصلحوا ما كان في تاريخ أثينا من خطأ وأكملوا ما كان فيه من نقص، ثم مضت على ذلك ثلاثون سنة والمصريون لا يعلمون من أمره شيئا، وإذ كنت أدرس لكم تاريخ اليونان، وكنت قد أخذت نفسي بأن أفسر لكم من حين إلى حين بعض الأصول التاريخية القديمة لتعتادوا قراءة كتب التاريخ والاستفادة منها؛ فقد اخترت في هذه السنة هذا الكتاب.»
الأستاذ يريد من طلابه أن يتعودوا قراءة النصوص القديمة، ويريد أن يدربهم على نقد المراجع الهامة، وعلى ألا يدعوهم قدمها أو كون مؤلفها عملاقا مثل أرسطو إلى التسليم بكل ما يجيء فيها وتصديقه بغير تمحيص، فإنه حريص على أن يقف وأن يقف تلاميذه من كل ما يقرءون موقف الدارس الناقد والمفكر الواعي.
ويقبل شهر ديسمبر 1919 فتصل لجنة اللورد ملنر إلى القاهرة، ولكن مصر كلها تقاطعها، فقد اختارت الوفد ورئيسه «سعد باشا زغلول» وكيلا عنها للمطالبة بحريتها واستقلالها، وهي تريد أن ترغم دولة الاحتلال على احترام هذه الوكالة والتعامل مع وكيلها وحده لتحقيق الهدف الذي وكلته لتحقيقه، فلا تستطيع اللجنة الاتصال بأحد، وتحاول زيارة طنطا «موطن المظاهرات في العام الماضي» فتقوم مظاهرات جديدة ضدها، ويعلن علماء الأزهر أنهم يطالبون مع الشعب كله بالجلاء والاستقلال في نداء يوقعونه بأسمائهم ويوجهونه إلى دار المندوب السامي، ولأول مرة في تاريخ مصر تخرج السيدات مؤيدات للحركة الوطنية في مظاهرة في القاهرة تتحدى الرصاص.
ويتحدث طه حسين إلى أستاذه وصديقه القديم أحمد لطفي السيد عن سعادته بيقظة الشعب المصري وتصميمه على أن يحصل على استقلاله، ولكن لطفي السيد يتساءل وماذا بعد الاستقلال؟ إنه يرى أن على المواطنين أن يفكروا منذ الآن في طبيعة الحكم الوطني بعد الاستقلال. هذا الحكم في رأيه لا يجوز أن يكون حكم الخديو المطلق؛ لأنه يرفض حكم الفرد الذي يلغي الحرية كل الرفض، ولا بد أن يكون الحكم هو حكم الشعب لنفسه بنفسه، أي الحكم الديمقراطي.
وداخل الجامعة يدرس طه حسين نظم الديمقراطية الأثينية في كتاب أرسطوطاليس، وهو يدرك أنه ليس بين الطلاب من يعرف لغة الكتاب وهي اليونانية، وإذن فلا بد من قراءة ترجمة فرنسية أو إنجليزية للكتاب، ويسأل نفسه لماذا لا يترجم الكتاب إلى اللغة العربية كما ترجم إلى اللغات الأوروبية الحية، ويتساءل: «لماذا لا أفسر للطلاب ترجمة الكتاب بالعربية؟ فإذا كان الشقاء قد قضى علينا ألا نعنى باللغات القديمة ولا نحفل بدراستها، فإني أستطيع أن أترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وأنا مدين لمصر بهذه الترجمة؛ لأني لم أتعلم لأنتفع وحدي بما تعلمت، ولأن من الحق على كل مصري أن يبذل ما يملك من قوة لإصلاح ما أصاب مصر من فساد.»
Página desconocida