العنزة التي سرقها ليشتري لحسين أبو محمود والد منصور الألدغ حقن الدواء 606 التي قيل إنها بخمسين قرشا، وأنها دواؤه الوحيد. فقد كان فهمي شهما أيضا، لا يتردد في الذهاب سائرا على قدميه إلى البندر أو بقاء الليل بطوله ساهرا أو اليوم كله عاملا كادحا إذا أحس أن غيره في حاجة إلى هذا العمل أو الجهد، خصال جعلت الجميع يدهشون ويفجعون لإقدامه على سرقة العنزة. وإن كان السبب قد عرف والعمل قد اغتفر. إلا أنه خرج منها بالاسم لاصقا به، ملغيا اسمه الحقيقي وحالا محله. - أهلا وسهلا .. أية خدمة؟
بالطبع فلا بد قد جاءوا، مثلما كان يجيئه المئات في انتظار أن يحقق لهم بمفرده ومركزه المعجزة. كان سهلا تخمين المطلوب هذه المرة، فلا بد أن فهمي مريض ولا بد أنهم يريدون إدخاله المستشفى.
وحاول أن يتحدث إليه ويسأله عن مرضه متنيا على نفسه في جلسته لا يرفع رأسه ولا يبدو عليه أن يسمع ما يقال. وتهته أبوه وعمه وهم يعتذرون عن صمته وكيف أنه دائم الحدوث، بل أحيانا تمضي عليه أيام كثيرة دون أن ينطق فيها بحرف، ولم يكن المرض في عقله أو نفسه وإنما كان في مثانته، فهم منهم أنها لا بد بلهارسيا أدت إلى سرطان في المثانة، وأنهم لفوا وتعبوا على جميع «حكما» المركز ومستوصفاته ومستشفياته وحلاقي صحته والعرب الذين يكوون بالنار، و«يخرمون» بالمسلة. حتى قالوا لهم في مستشفى المحافظة في النهاية أن لا فائدة من العملية، وأنه بحاجة إلى علاج بالأشعة في مصر. وأدحنا جينا لك يا بيه ربنا يخلي لك أولادك ويمتعك بالصحة.
ومن غير دعاء، كان قد قرر أن يتكفل بالأمر. إن الدين الذي في عنقه للكتلة البشرية المنكفئة على نفسها أمامه ملفوفة بالملابس المهرأة، كبير، ولقد حان أوان رده وإيفائه.
كانت المشكلة أن يتخلص أولا من «الجماعة» التي ترافقه ويستصحبه إلى بيته ليقضي فيه الليلة. وفي الصباح واعتمادا على صديقه أستاذ الأشعة يدخله المستشفى؛ فقد كان عليه أن يدبر أمر ذهابه إلى البيت بطريقة لا تجرح ذكراه في نفسه من ناحية ولا يظن معها من ناحية أخرى بواب أو ساع أنه أخ له أو قريب، وكان عليه أن يتغلب على معارضة «عفت» زوجته، التي لا بد سترفض إيواء شخص مثله، ولو ليلة واحدة، ولو لكي ينام في المطبخ أو في فراش السفرجي.
ولقد تم كل شيء كما قدر له الحديدي، إلا معارضة الزوجة، التي بقيت حتى بعد رضائها بوجوده في البيت وأمرها للسفرجي أن يتكفل به وبحراسته وإطعامه. وهكذا لكي يقلل من وقت وجودها بالشقة، اقترح أن يذهبا إلى المسرح، وحين عادا في منتصف الليل كان الهدوء المعتاد يخيم على البيت، وكل شيء فيه هادئ، ونور المطبخ مطفأ. وبعد نصف ساعة كانت عفت تستمتع بمراحل نومها الأولى. وكان الحديدي مغمض العينين لا تزال بينه وبين النوم مشكلة مجلس الإدارة الذي أجلت حكاية فهمي من اجتماعه ومن المشهد العاصف الذي كان قد أعده لكي يسحب فيه البساط من تحت أقدام المدير العام ويجبره .. إما الظهور بمظهر الغبي الأحمق الجاهل، وإما، حفظا لماء الوجه، الاستقالة.
حين جاءت الصرخة الأولى.
وأعقبتها الثانية والثالثة.
وتكهرب جو البيت تماما، أيكون قد تورط في خطأ أكبر دون أن يدري، وظن أنه يأوي قطعة حديد خردة عزيزة، لتأخذ طريقها في الصباح إلى الورشة، فإذا بها قنبلة بدأت تنفجر وتوشك أن تهدم البيت!
وعلى عجل أسرع إلى المطبخ حافي القدمين، كان مظلما لا يزال، ولكن رائحة خانقة حامضة قابضة نفاذة واجهته لدى فتح الباب. مد يده يضيء النور، ولكن الشلل أصابها قبل أن تصل إلى المفتاح. فقد انطلقت من المطبخ الضيق آهة صارخة ثاقبة، كعشرات من الإبر الحادة المسمومة انطلقت في كل اتجاه. لا يمكن أن يكون هذا صراخ ألم أو للتعبير عن ألم، ولا مجرد أصوات، إنه شيء مادي ينخر في الجسد، ويصيب السامع بالحمى، فوق احتمال البشر.
Página desconocida