79

فإذا كان لا بد من هذه اللامنطقية في الآداب العربية، فعندها منها ما يغنيها ولها فيها مجال لا يخرج بالعقل من دائرة العقل، ولا بالجنون من دائرة الجنون.

ومما نحمده من أطوار الشعر العربي الحديث أن هذه المذاهب لم يكن لها تأثير ثابت فيه، وأنها تعرض له مع عوارض الزمن كما تعرض الأزياء والأفانين ثم ... تمضي لطيتها إلى مصيرها العاجل بعد شهور، ولا تطول حتى تحسب بحساب السنين.

أما المذاهب التي كان لها أثرها المحمود فهي مذاهب الجد والبناء، فإننا إذا عرضنا الشعر العربي من أواخر القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين لم نخطئ أن نرى فيه أثرا جديدا لكل مذهب من المذاهب الواقعية، أو المثالية أو الطبيعية، أو الاطرادية الحديثة أو الابتداعية المتحررة، وقد تتراءى هذه المذاهب في أغراض الشعر كما تتراءى في أساليب الشعراء، ومنها الأغراض التاريخية والاجتماعية والملاحم والمسرحيات والأغاني العاطفية، والأناشيد القومية، ولكل مقصد من المقاصد التي ينظم فيها شعراء الغرب، مع الفارق الذي يحسب فيه حساب التقديم في الزمان، كما يحسب فيه الحساب لوفرة المحصول وسعة النطاق.

وعلى الجملة يتقدم الشعر عندنا ولا تعتريه النكسة أو الجمود، إلا أنه يعاني من أطوار العصر ما يعانيه كل شعر في أنحاء العالم، وذلك هو المشاركة القوية في ميدانه الأول؛ فهو الآن لا يستأثر وحده بميدان العاطفة والخيال، بل تشاركه فيه الصور المتحركة والقصص المطولة والنوادر الموجزة، ومناظر التمثيل ومسموعات الإذاعة وأخبار الصحافة، ومبدعات الفنون التي تيسرت لها أسباب العرض في الأندية والمنازل، ومجامع الناس في كل مكان، وليس من المنظور أن ينشر الفن مع هذه المشاركة، كما كان ينشر وحيدا منفردا بالميدان قبل بضعة قرون.

على أنها مشاركة عارضة يعمل فيها التخصص عمله، ويطول الأمد أو يقصر في هذا العمل المتصل بغير قرار، فإذا عاد الشعر إلى الاستقلال بمجاله بين الفنون، فقد يعود إليه أقوى مما كان؛ لأنه يكسب المزية التي لا مشاركة فيها، ويكسب الأنصار الذين لا يستبدلون به سواه، ويتلقى المدد منه، ولعله دور من أدوار الشعر تركه الأوائل للأواخر على خلاف ما قيل.

Página desconocida