وهكذا كانت حياة لوركا في مدريد وفي المدينة الجامعية بها، مهرجانا متصلا من اللقاءات والموسيقى والشعر، وتبادل الانطباعات وأحاديث الصداقة والفن، وكانت لقاءات الأصدقاء تتم في أماكن كثيرة من مدريد، وكان لوركا يحب التجوال في الحي القديم من المدينة، بحاناته القروسطية الساحرة، وارتياد متنزه العاصمة الأنيق المسمى «الرتيرو»، أو حضور عروض الرقص الشعبي «الفلامنكو»، والاستماع إلى أغانيه الشعبية التي تحاكي إيقاع الإنشاد العربي القديم تمام المحاكاة، وإلى جانب هذا، كان لوركا يتردد على عدة حلقات فنية وأدبية تحاكي ندوة «الركن الصغير» الغرناطية، ولكن في صورة أوسع، وكان من أشهر تلك الحلقات حلقة مقهى «الأديو»، وحلقة مقهى «البرادو»، التي يغلب عليها اتجاه «الماورائية»، الذي تأثر به لوركا في بعض قصائده ولوحاته عن طريق صداقته لنجم الحلقة الرسام «باراداس»، كذلك تردد الشاعر على حلقة كاتب جيل 98 المشهور «فايي انكلان»، التي كان يعقدها في عدة أماكن مختلفة، وكان يتردد عليها كثير من زملائه الكتاب والفلاسفة.
مسرحية فاشلة وديوان ناجح
وسرعان ما تعرف لوركا على كثير من شخصيات عالم الفن والأدب في مدريد، وكان من بين من تعرف عليهم «جريجوريو سييرا» مدير مسرح «أسلافا» أحد كبار المسارح في العاصمة، وهو واحد من الشخصيات الأشد تأثيرا ونفوذا في الحياة المسرحية آنذاك، وحدث أن استمع ذلك المسرحي الكبير إلى شاعرنا وهو يتلو نوعا من الحكاية الخرافية الشعرية، تدور حول فراشة جميلة يتحطم جناحاها، فتسقط في عش للجداجد؛ حيث ترعاها الأم الحشرة ويقع الابن في غرامها، ولكن ما أن تشفى الفراشة حتى تطير هاربة من ذلك العش الكريه، تاركة وراءها الصرصور الصغير ينعي حبه. وأعجب «دون جريجوريو» بالقطعة الشعرية إعجابا شديدا، واقترح على لوركا أن يقوم بتحويلها إلى مسرحية، عارضا تقديمها على خشبة المسرح الذي يتولى إدارته، ووافق لوركا، رغم أنه لم يكن قد كتب للمسرح من قبل، ولكنه اعتمد على وفرة قراءاته للمسرح الإسباني ودراسته المجيدة له، وكذلك لأن موضوع الخرافة الشعرية كان يشده ويعيد إليه ذكريات طفولته، حين كان يقضي النهار مطارحا الحشرات والهوام الحديث، وأتم الشاعر كتابة المسرحية، واختار لها «دون جريجوريو» عنوان «سحر الفراشة اللعين»، وهو الاسم الذي نشرت به بعد ذلك في الأعمال الكاملة للوركا، وقد انقسم أصدقاء لوركا بصدد هذه المسرحية إلى فريقين، فريق متحمس للشاعر، إلا إنه يرى أن مثل هذه المقطوعات لا تناسب المسرح الإسباني ولا تتفق مع ذوق رواده، بكل تقليديتهم وتحفظهم، وفريق آخر ذهب إلى حد أبعد في رد فعله تجاه المسرحية، فأشار عليه بأن يمزقها كلية، ولكن مخرج المسرحية - وهو المسرحي المدير دون جريجوريو - أصر على تقديمها، معتبرا إياها صيحة طليعية أخرى تضاف إلى التقاليع الدادائية،
1
التي كانت قد بدأت تنتشر في ذلك الوقت، وهكذا كان، وافتتحت المسرحية في ليلة 22 من مارس 1920م، وصدقت توقعات الأصدقاء، فإن جمهور مدريد - الذي ألف مشاهدة أشخاص واقعيين يجسدون أفكارا وعادات وتقاليد قريبة إلى ذهنه - لم يكن ليبتلع فكرة مسرحية يلعب ممثلوها أدوار الحشرات، ورغم الإطار الفني الذي توفر للمسرحية، من ديكورات «باراداس» و«ميجنوني»، وموسيقى «ديبوسي» و«جريج»، وتمثيل الممثلة المشهورة آنذاك «أرجنتينيتا»، إلا أن الجمهور قابلها بالتعليقات الساخرة، وشيعها بالصفير ودق الأرجل، فغطى على جماعة أصدقاء لوركا وزملائه الذين صفقوا تشجيعا له، ولم يستمر عرض المسرحية أكثر من تلك الليلة اليتيمة، غير أن هذا الفشل لم يكن ليفت في عضد شاعرنا المحب للحياة، والذي صحب رفاقه بعد العرض إلى أحد مطاعم مدريد للاحتفال بعرض المسرحية، وبفشلها الجماهيري في نفس الوقت.
على أنه إذا كان ذلك هو مصير أول أعمال لوركا المسرحية، فإن الأمر قد اختلف بالنسبة إلى أول دواوينه الشعرية، وقد تطلب الأمر منه وقتا طويلا حتى يقتنع بإلحاح أصدقائه، بضرورة جمع القصائد التي يلقيها عليهم وطبعها في ديوان يحمل اسمه، وهكذا يصدر ديوانه الأول تحت اسم «كتاب أشعار» في 15 من يونيو 1921م، ويضم بين دفتيه 68 قصيدة هي حصيلة ما كتبه في السنوات الثلاث الماضيات، وقد كتب الشاعر في مقدمته لهذا الديوان: «إنني أقدم في هذا الكتاب صورة صادقة لما كانت عليه فترة طفولتي وصباي، تلك الأيام التي تربط بين الماضي وبين ما أعيشه الآن من أوقات، وعلى الرغم من أوجه القصور فيه، فإن قصائده تذكرني بكل خطوة من خطى طفولتي الزاخرة بالمشاعر، وأراني فيها وأنا أجري وسط الحقول، بينما الجبال تنتصب شامخة على البعد».
وهكذا كانت قصائد الديوان حقا تمتلئ بذكريات الريف، من نباتات وحيوانات وطيور وهوام، مع المشاعر الإنسانية الصادقة التي تنبض تجاه هذه العناصر، التي أفعمت حياة الشاعر في طفولته ... ونثبت هنا نص حكاية شعرية خرافية - تماثل الحكاية التي كانت منشأ المسرحية الأولى الفاشلة - وهي مثال على هذا النوع الذي أغرم به لوركا، بعنوان «لقاءت قوقع مغامر» وظهرت في ديوانه الأول:
الصباح الهادئ
ينضح عذوبة صبيانية.
والأشجار
Página desconocida