ولكنه مقابل ذلك كان يشعر بالغبطة، حين يجمع حوله طلاب اللغة الإسبانية بالجامعة، ويغني لهم الأغاني الشعبية الإسبانية التي تعلمها منذ طفولته، أو حين يمضي في لقاءات طوال مع الأصدقاء الإسبان من الفنانين والكتاب في نيويورك: أنخل دل ريو، والرسام جابرييل غرسيه ماروتو، وداماسو ألونصو الأستاذ الزائر في «هنتر كولدج»، وفديريكو دي أونيس، والشاعر المشهور ليون فيليبي.
كانت صدمة تعرفه على مدينة نيويورك كالصاعقة التي انقضت على فؤاده فهزته هزا عنيفا ... ها هو ... شاعر أندلسي رقيق، ابن غرناطة الهادئة الجميلة الساحرة، يهبط في مدينة مختلفة تماما عن كل ما رآه من قبل، مدينة حديدية، هائلة تصطخب ببشر همهم الأول هو المادة والتفوق المادي، ويصطدم فيها بالأبنية الحديدية السامقة، ويسير في الطرقات فيخيل إليه أن ناطحات السحاب هذه سوف تطبق بقضها وقضيضها على روحه فتزهق وتخمد منه الأنفاس، وقد حدث مرة وكان يسير في وسط الحشود في قلب نيويورك أن توقف بغتة وصاح بأعلى صوته: إني لا أفهم شيئا البتة!» وتبعها بضحكته المجلجلة الشهيرة.
بيد أنه، وبعد مدة من الصراع مع مدينة ناطحات السحاب، والجاز الذي كان يسود المدينة آنذاك - بدأ فديريكو يغوص في القاع التراجيدي للمدينة، ويدرك أن وراء المظهر الباهر لنيويورك ثمة كثيرا من الألم والوحدة ينبضان، وكثيرا من الرعب والخوف في الإنسان، وقد أتيح للشاعر أن يشهد الصراع الذي يستعصي على الحل بين ذروة حضارة آلية، وبين الغرائز الأولية التي لا تزال في داخل النفس البشرية ، وثمرة هذا الصراع التي تتمثل أحيانا في المعاناة والوحدة، والحزن الوديع لزنوج حي هارلم، وقسوة المادة في «وول ستريت»، حي المال في نيويورك.
وقد أثمرت التجربة الأمريكية التي مر بها لوركا قصائد عديدة، كانت فيض مشاعره وتجاربه في المدة من يوليو 1929م حتى يونيو 1930م، ورافقت تنقلاته ورحلاته التي قام بها في تلك الفترة، ومن الجدير بالذكر أن هذه القصائد لم تنشر في ديوان إلا عام 1940م بعد وفاة لوركا، بعنوان «شاعر في نيويورك»، وإن كان معروفا أن الشاعر كان يعتزم إصدارها معا تحت هذا العنوان، تصحبها صور مأخوذة عن الحياة في نيويورك، ويفتتح هذا الديوان بتجسيد فني لأول المشاعر التي هزت لوركا في الولايات المتحدة، الوحدة الطاغية، إذ إن عنوانا عريضا للجزء الأول من الديوان يحمل اسم: «وقصائد الوحدة في جامعة كولومبيا»، ثم نطالع في القسم السادس العنوان العريض «قصائد الوحدة في فيرمونت»، وتحمل قصائد الديوان أسامي معبرة، مثل «كنيسة مهجورة»، «رقصة الموت»، منظر الجماهير التي تقيء، منظر الجماهير التي تبول، جريمة قتل، مدينة لا تنام، الطفلة الغارقة في البئر، فاتحة للموت، ليلية الفراغ، أطلال، قمر وبانوراما الحشرات، الفرار من نيويورك.
ويعتبر الكثير من قصائد هذا الديوان تعبيرا، ومعادلا موضوعيا، وخلقا فنيا حيا للمشاعر المتضاربة التي أثارتها الحياة والمدن الأمريكية خاصة نيويورك، في نفس الشاعر.
وكان يحلو لفديريكو أن يتجول في شوارع المدينة الهائلة مع أصدقائه الإسبان، يجولون في الأحياء الشعبية وخاصة حي هارلم - حي الزنوج - الذي أوحى له بإحدى أهم قصائد الديوان:
أنشودة إلى ملك هارلم
بملعقة!
كان يقتلع عيون التماسيح
ويلهب مؤخرة القردة
Página desconocida