وصحا عباس من تفكيره على صوت ليلى تقول: هيه، أين أنت؟ فيم تفكر؟ طبعا ليس في خالق السموات والأرض.
وقال عباس: كم الساعة الآن؟
وقالت ليلى: أنت ستتغدى عندنا اليوم. - ولكن ... ولكنهم في البيت لا يعرفون. - لا عليك، سأرسل لهم سيدة تخبرهم.
واستراح إلى هذا ومكث.
وحين طالت جلسته بعد الغداء أحس أنه لا بد أن ينزل، وكان الوقت بعد الظهيرة، وكان يريد أن يرى شعبان، فقصد إليه في بيته فوجده يلبس، فجلس معه في الحجرة حتى يتم لبسه، ولكنه وجده يحاول التأنق محاولة واضحة لا سبيل إلى التغاضي عنها. - إلى أين؟ أراك مهتما بملبسك. - أقول لك ولا تضحك؟ - قل. - لا، ستعرف في الوقت المناسب. - إذن فأنت بسبيلك إلى الزواج. - أعتقد أنك لم تكن محتاجا إلى ذكاء كثير لتعرف؛ فقد كانت إجابتي موحية بهذه الفكرة. - مبروك يا شعبان. والبار، والرفاق؟ - لي شهر الآن لم أشرب نقطة خمر، ولم أطأ البار بقدمي. - كل هذا التغير في الفترة التي تركتك فيها. - كنت محتاجا إليك في هذه الفترة يا عباس لأقول لك ما لم أقله لأحد، ولكني كنت أخشى أن أعطلك عن المذاكرة. - قل، قل يا شعبان. - أصبحت لا أحتاج إلى الضحك، نفسي كلها مشرقة بغير حاجة إلى صنع الضحك. أصبحت أصلي يا عباس فأحس بخشوع كبير أمام الله. عرفت الحب فأحببت الله. كنت أعبده إيمانا به، فأصبحت أعبده لأني أحبه، ولأنه هيأ لي كل هذه السعادة. نفسي تضحك، تضحك دائما فالقهقهة التي كنت أدبرها. أصبحت إذا قارنتها بالضحك في نفسي ضجة لا لزوم لها. - ما أسعدك! - ألم تحب؟ أحب يا عباس. إذا أحببت استطعت أن تفهم المعجزات التي تراها في الدين، واستطعت أن تستسيغها، بل إنك سترى أن كل من لا يؤمن بها مجنون لا يفهم. ألم تحب يا عباس؟ ألم تحب أبدا؟!
وأطرق عباس وطافت بذهنه ليلى، ثم تذكر إيفون، ثم هز رأسه وهو يقول: لا أدري، لا أدري يا شعبان. - لا تدري؟! هذا غير معقول! أنت فقط لا تريد أن تدري، ولكن هيهات لك أن تخادع نفسك في الحب! إنه طاغ قاهر يفرض نفسه عليك، شئت هذا أم أبيت. - يفرض نفسه علي؟! - إلى الجحيم حريتك، إلى الجحيم. كم ستسعد لو أنك صارحت نفسك بحبك! وكم ستسعد وأنت ترى حريتك مهزومة أمام حبك، تتخلص من سيطرتها عليك؛ لتترك المحب وحده يسيطر عليك. - حريتي مهزومة؟! - الحرية حرية القلب. إذا أحببت ستحس أنك تستطيع أن تقول كل ما تريد أن تقول، وأن تفعل كل ما تريد أن تفعل. اترك قلبك يحب. لا تقف أمامه بحريتك هذه البغيضة، ولا تحاول أن ترده عما يريد. - كلام شعراء. - لقد عاش أجدادك وأجدادي آلاف السنين على كلام الشعراء هذا. لولا كلام الشعراء لانقرضت البشرية. - البشرية حقيقة ثابتة، وكلامك خيال وأوهام. - يا أخي صل على النبي! أيستطيع أحد أن يعرف أين الوهم وأين الحقيقة في هذا العالم؟ من الأوهام والأحلام تولد الحقائق، وعن الحقائق تنثال الأحلام والأوهام. ما الطائرة؟ لقد كانت حلما. وما الصعود إلى القمر؟ حلم امتزج بالحقائق. دع عنك هذا التفريق. - كلام محب. - أليس جميلا؟ - لست أدري. - أطلق لحبك العنان. لا تمسك به. اقبله وأحب حبك وسترى. - هل حان موعدك؟ - هيا بنا.
ونزلا وذهب شعبان إلى موعده، وراح عباس يضرب في الطريق على غير هدى.
كان الوقت متأخرا حين عاد إلى البيت، فوجد أمه جالسة في حجرته وقد عبقت الحجرة بالبخور، والأم ممسكة بسبحة تسبح عليها في هدوء خاشع: أتتركنا يوم نجاحك ولا تجعلني أراك طول اليوم؟ - كنت عند خالتي. - قل لي يا عباس، ألا تفكر في الزواج؟ - يبدو أنني لا أقابل أحدا اليوم إلا وكلمني في الزواج. - يا ابني أجبني. - افرضي أنني فكرت، كيف أستطيع أن أدفع المهر وأنفق؟ - لا شأن لك. - أبي لن يقبل. - قلت لا شأن لك. - إذن.
وصمت، لماذا لا يتزوج؟ إنه يعرف من يريد، ويستطيع أن يترك البيت فيريح أباه ويستريح هو أيضا. وقالت أمه: لماذا لا تجيب يا عباس؟ - نعم يا أم، أتزوج. - أتترك لي أن أخطب أم؟ ...
وقال عباس فجأة ودون مداورة: اخطبي لي ليلى.
Página desconocida