وظل يكرر الكلمة لم يسكت عنها حتى بعد أن غادر عباس الحجرة، وأغلق الباب من خلفه.
الفصل السابع
نعم ولكني تحررت من كل شيء، من ذلك الخوف الذي لا يزال يلازمني حتى وأنا أقبل إيفون. كنت أحس استسلامها بين ذراعي ولا أجرؤ على شيء فأنا خائف، الخوف ينبعث من داخلي لا أدري مأتاه ولا دوافعه، تحررت اليوم، نعم تحررت.
وخرج عباس من البيت وقد أحس أنه خفيف يكاد يشعر أنه على غير صلة بالأرض، ويكاد يظن أنه تخلص من الجسد؛ فروحه أثيرية مهومة بلا حدود، فما هي من ذلك الجسد المادي في شيء. حر، حر، لا يحس بألم العصا، بل يحس فقط أنه حر.
استطاع أن يقول ما يريد، ولا يشك في أنه يستطيع أن يفعل ما يريد، ما يريد هو لا ما يريد له أبوه. سيذهب حيث يحلو له أن يذهب، ولا صلاة في الفجر، ولا صلاة في يوم الجمعة، ولا صلاة على الإطلاق.
وإنه ليعجب كيف تأخر إلى اليوم ليعلن إلى أبيه عن حقيقة مشاعره؟ كيف استطاع أن يخادع نفسه ويخادع أباه طوال هذه الفترة؟ سنة ونصف سنة ، منذ أول يوم دخل إلى كلية الهندسة، منذ ذلك الحين أصبح واثقا أنه لا يؤمن بالله، ولا يؤمن بغير الإنسان، الإنسان وحده هو الحقيقة الثابتة في الوجود، إليه وإليه وحده يرجع الحق في تقرير مصير نفسه، لا شأن له بأي قوة أخرى غير قوته هو وإرادته هو. وهو وحده يحمل تبعة أعماله من واقع الحياة نفسها بغير هذا الخرف الذي يسوقه رجال الدين عن الجنة والنار والآخرة والأولى والثواب والعقاب.
عجيب أمر هؤلاء الناس؟! العالم يتحدث عن الذرة وبلوغ القمر، وهم لا يزالون يفكرون في هذه الحركات التي تشبه حركات القرود، وفي إبليس والملائكة؟ الإنسان وصل إلى السماء واخترق بعلمه الحجب وسابق النجوم في مسالكها، وشعب مصر المخدور ما يزال يدخل إلى الجوامع ويسمع من أفواه المشايخ أنباء السماء والجنة والنار! الإنسان يسيطر على السموات، وهؤلاء لا يزالون يظنون أن الجنة والنار مخبأتان في مكان لا يعرفه إلا علام الغيوب! ولا يكتفي أصحاب العمائم بهذا، بل ويريدوننا نحن رجال العلم أن نصدق ما يهرفون به.
ولا يكتفي أبي بأنه يريد، بل يضربني. أعمال عبيد، تعودوا العبودية منذ لا يذكرون متى، واتخذوا طريقهم في حياتهم تدفعهم المخاوف والسياط؛ فرجل الدين يصلي لأنه يخشى نار جهنم، لا لأنه يؤمن بالله، وأبي يضربني لأنه يخاف على نفسه أولا من هذه النار، ثم يخافها علي. لم يؤمنوا بأنفسهم ولا بحقهم في الحرية، وإنما آمنوا فقط بالرعب تلقوه جيلا عن جيل؛ فالرعب هو حياتهم، والقلق والخوف والرهبة من الدنيا والآخرة هي مسابح تفكيرهم، منها تكونت دوافعهم، ومن وحيها تبلورت آمالهم. عبيد يعجبون غاية الإعجاب بقواعد الدين وأوامره ونواهيه، كأنهم الأطفال يريدون السور تحددت معالمه لا يخرجون عنها. أي إنسان لا يعرف أين الخير وأين الشر؟ أنا أعرف وكل إنسان يستطيع أن يعرف الخير والشر من طريق الحياة الذي يخطه هو، في غير حاجة إلى هدى من السماء. يجب ألا تكون السماء بالنسبة إلينا نحن البشر من جيل الطاقة الذرية، يجب ألا تكون السماء إلا معملا لتجاربنا، وميدانا يتسابق فيه أبناء البشرية أيهم يبلغ من أسرارها ما لم يبلغه الآخر. السماء ليست إلا معملا للتجارب شأنها شأن المعمل الكيماوي سواء بسواء، وهي أيضا حلبة شأنها شأن ملعب الكرة سواء بسواء، إلا أن الأفكار تحل محل الكرة في لعبة السماء هذه. السماء والأرض ملك يميني أنا الانسان، ألعب فأبلغ أقصى قمم السماء، أو ألعب فأبلغ أعمق أعماق الأرض، لا أعرف شيئا في العالم أقوى مني، مني أنا الإنسان. أخيرا استطعت أن أجد نفسي وأعرف طريقي، لا خائفا ولا قلقا. أخيرا استطعت أن أنفض عني ذلك الرعب الذي كان يملأ نفسي وحياتي، وأحس به يمسك يدي وقدمي، بل أحس به يمسك عواطفي ومشاعري تخشى أن تنطلق، بل تخشى حتى أن تهجس بوجودها في نفسي.
كان عباس يسير مستغرقا في أفكاره هذه، ينقله طريق إلى طريق دون أن يختار؛ فقد كان ضجيج أفكاره في نفسه عاليا، وكان إحساسه بأنه حر يملأ عليه نفسه جميعا. وحين انتبه وجد نفسه في طريق مغلق لا يؤدي إلى شيء إلا إلى مسجد صغير تشرئب منه إلى السماء مئذنة جميلة.
ووقف عباس مذهولا؛ فما كان يدري أن قدميه ستقودانه إلى طريق مغلق، ولو أن شعورا لم يدر مأتاه داخله أن الطريق ليس مغلقا، فأنعم النظر وأنعم، ثم لم يجد أمامه بعد ذلك إلا أن يعود مطرقا يلتمس طريقا آخر، ولكن إلى أين؟ كانت الساعة قد شارفت الثانية، وقد تعود أن يأكل في هذا الموعد، وهكذا وجد نفسه جائعا، وتذكر أن أباه قال له: «لا ترني وجهك»، وأنه أزمع فعلا ألا يريه وجهه لبضعة أيام على الأقل. وهكذا انتهى إلى أنه لا سبيل له أن يذهب إلى البيت؛ فهو إذن لا سبيل له إلى الطعام؛ فالنقود معه لا تكفي أكل قطة. ومع تعذر وجود الطعام ازداد شعور عباس بالجوع، وفجأة وجد نفسه يفكر أن الحرية التي حصل عليها ليست كاملة، وضاق بهذا الجوع، هذا الشعور السخيف الذي ثلم شعوره بالحرية، والذي سخر - بعض السخرية - من فرحته بها، والذي ملأه سخطا وتبرما؛ فإن الشعور بالجوع كان دائما يسلمه إلى حالة من الضيق والغضب.
Página desconocida