وتوغل مريم في الحديث: والعذراء لقد أفسدتها وجعلتها تمشي على هواها، فكل ما تطلبه منك أمر لا تتأخر عنه.
ولم يكن مرقص أفندي في حال تسمح له بمواصلة الحديث، ولكنه أيضا لم يرد أن يصرف زوجته صرفا عنيفا فصمت، وأدركت مريم خلجات زوجها فسكتت. وطوفت بالردهة التي يجلسان بها لحظات من صمت، كانت مريم تعلم أنها لا بد أن تنتهي سريعا بزفرة عنيفة من مرقص. وكانت تعلم أنها عائدة بعد ذلك إلى بعض صمت، ثم ما تلبث أن تعلم هذا الذي يضيق به صدر زوجها. وتم الأمر كما توقعته، وتنهد مرقص أفندي، ثم تكلم: طارت الدرجة. إلام هذا الظلم؟! يا رب، يا رب رحمتك.
وقالت مريم: يا مرقص يا حبيبي صحتك أهم من كل شيء. أنت تعرف يا مرقص أننا ليس لنا في الدنيا إلا أنت. ارع صحتك لأجل بنتك يا مرقص، ولأجلي أنا. ألا نساوي عندك درجة؟ - يا مريم الظلم صعب. الظلم صعب يا مريم. - أليس من الظلم أن تسيء إلى صحتك وتضحي بنفسك وبنا من أجل درجة تأخرت؟ مصير الدرجة أن تأتي يا مرقص، ولكن صحتك أنت لا سبيل إلى تعويضها. - ما ذنبي؟! ماذا فعلت؟! ليس في مصر كلها موظف يؤدي واجبه كما أؤديه. أنا في مكتبي قبل أن يأتي الفراش. وينصرف الفراش وأظل أنا بالمكتب. كل هذا لا يعجب عبد السميع بك، ويفضل الغير دائما. طلبت نقلي فقال لا يمكن الاستغناء عنك. طبعا، ويظلم من إذا نقلت أنا؟ لا يرحم ولا يترك رحمة ربنا تنزل. - وبعد لك يا مرقص؟ أهي آخر درجة في الحكومة؟ صدقني حلمت لك حلما وسيتحقق وستنال الدرجة. رأيت كأنك في كنيسة كلها بالذهب، وحولك الناس يهنئونك وأنت تضحك، وأنا واقفة إلى جانبك والدنيا لا تسعني من الفرحة. وحياة إيفون، ألا ابتسمت يا مرقص. ابتسم يا أخي. هكذا، هكذا يا أخي. فداك ألف درجة. دخلتك علينا في البيت، وجلستك معنا أحسن من كل درجات الدنيا. قم، قم يا أخي غير ملابسك وتعال نأكل، لقد أعددت لك ملوخية بالأرانب، ستأكل أصابعك معها. قم، قم.
وقام مرقص وشعاع خائف متردد من الراحة يتسلل إلى نفسه، ولكن الراحة ما لبثت أن اطمأن بها المقام في نفسه، وعادت إليه هدأة البيت وضحكة زوجته وانتظاره لابنته بالطمأنينة التي تعودها كلما أقفل من خلفه الباب، تاركا هذه الحياة التي تظلمه إلى الحياة التي ترعاه.
وأقبلت إيفون بعد حين ولم تدخل إلى حجرتها التي يقع بابها على السلم، بل دخلت من باب الردهة إلى حيث تعلم أن أباها جالس، وألقت بحقيبتها على المنضدة، وأقبلت على أبيها فقبلته، ثم راحت تبسط له شكواها من أمها التي تريد أن تلبسها أثوابا ذات ذوق قديم، والتي تفرض عليها أيضا ذوقها في التفصيل. وإيفون حين تضيق بشيء من أمها تلمع عيناها في أسى، ويشترك وجهها الأسمر الدقيق القسمات في التعبير عن هذا الذي يهذر به لسانها في فيض الألفاظ الغاضبة - الرقيقة - فلا تنبو منها لفظة لا تريد أن تقولها، أو تخرج بحديثها عما ينبغي لبنية أن تتحدث به عن أمها. وقد كانت تدري أي مكانة رفيعة تحتلها أمها عند أبيها. وكان أبوها يستمع وابتسامته تترقرق على فمه؛ فقد كان جوابه معدا قبل أن تبدأ إيفون شكواها، فهو يستمتع بتدفقها في الشكوى، وبهذا الحديث الجاد الطويل الذي لم تكن تحتاج إليه لتقنعه؛ فقد كان طلبها وحده كافيا لإقناعه، وقد كانت ابتسامة منها كافية ليجيب لها كل ما تصبو إليه. وما لبثت إيفون أن تبينت الابتسامة على وجه أبيها، وما لبثت أن أدركت فيها بلوغها إلى ما تشتهي فسكتت. ونظرت إلى أبيها لحظة، ثم أغرقت في الضحك، ومالت على وجه أبيها تقبله في حب وإعزاز.
وقال أبوها وهو يبتسم: بدأت تهتمين بلون القماش ونوع التفصيل. خير يا إيفون خير. - وهل هذا عيب يا بابا؟ ألا يجب أن أهتم بما ألبس؟ - اهتمي، اهتمي يا بنتي، أرجو ألا يتعدى اهتمامك الملابس. - ألا تحب أن تراني جميلة يا أبي؟ - أتبذلين كل هذا الجهد لأراك أنا جميلة؟ إن كان هذا جميعه من أجلي أنا؛ فأنا أراك جميلة على أي حال.
وأدركت إيفون ما يرمي إليه أبوها، لكنها اصطنعت أنها لم تفهم، وقالت وهي تضع ذراعها على كتفي أبيها: أنت كل شيء لي يا أبي.
واحتضنته في عنف حتى لقد أحس أبوها من قوة ذراعيها ما لم يحس قبل اليوم. بل كاد يحس أنها تحتضن في جسمه شخصا آخر غيره، لكنه ما أسرع ما نفض هذه الخاطرة عن ذهنه وطوق ابنته بذارع حانية.
الفصل الخامس
بكرت إيفون إلى المرآة وراحت تتطلع إلى وجهها؛ فهي اليوم على موعد مع عباس أن يلتقيا بالعربة، شأنهما كلما جمع عباس أجر الركوب! وراحت إيفون تمشط شعرها في تأمل غائب؛ فهي تجري المشط في اتجاهات مختلفة غير منتظمة. وكلما أفاقت طالعتها المرآة بشعر لا يرضيها؛ فهي تعود إلى التمشيط واعية أول الأمر، ثم ما هي إلا لحظة أو لحظات حتى تعود مرة أخرى غائبة غير واعية.
Página desconocida