واستجمع عباس شجاعته وقال: الصراحة يا عم جبر ... الصراحة. - فهي تعرفك إذن، كم تدفع لتركب معها كل يوم؟
وعاد الموقف إلى حرجه، بل لعله عاد إلى موقف أشد حرجا وضنكا. ماذا يدفع؟ وكيف يدفع؟ إن كل ما يملكه قرش واحد لا يملك في اليوم غيره. وقال عباس: أدفع ... أدفع ... ماذا أدفع؟ - فلوس، فلوس طبعا، أتريد أن تركب مجانا؟! - ولكن يا عم جبر أنا تلميذ. - وأنا عربجي. - ولكن من أين أجيء لك بالفلوس؟ - هذا يا حبيبي ليس عملي، يكفي أنني سأجعلك تركب معها، أما من أين تجيء بالفلوس فهذا عملك أنت. - كم تريد؟ - خمسة قروش. - في المرة! - طبعا، أم تظن في الشهر؟ - أمري لله يا عم جبر. - موافق؟ - لا أستطيع. من أين آتي بخمسة قروش؟ يكفيني النظر. - كم تستطيع أن تدفع؟ - أبي يعطيني قرش صاغ في اليوم. - قرش صاغ واحد؟! - واحد. - النظر كثير عليك. أتأخذ قرش صاغ واحدا وتريد أن تحب وتنظر؟! - وماذا أعمل؟ - اسمع! الطيبات لله، ادفع لي قرشين في المرة. - ليكن. - اذهب إلى العربة واركب، واحذر أن يراك أحد.
وحين همت إيفون بالركوب ارتدت في جزع، فما استطاعت الابتسامة الخبيثة المرسومة على وجه عم جبر أن تمهد عندها عن المفاجأة التي تخفيها لها العربة. وهمس عباس: اركبي، لا تخافي.
وعادت إيفون لترى عباس، ثم ألقت نظرة إلى عم جبر، ثم نظرت إلى أعلى لترى إن كان أحد من أهل بيتها بالشباك، ثم ركبت واجفة وهمست: كيف فعلت هذا؟!
وتحركت العربة، وقال عباس: اتفقت مع عم جبر. وبعد يا إيفون؟ - وبعد فيم؟ - كيف أستطيع أن أراك؟ - كيف أدري؟ لقد استطعت أن تركب العربة، يبدو أنك أنت الذي تستطيع أن تجد الحل دائما. - أهذا لقاء؟! إنها دقائق أختلسها اختلاسا؛ فأنا لا بد لي أن أذهب إلى المدرسة، كما أنني لا أستطيع أن أذهب معك إلى مدرستك أو قريبا منها؛ فقد تراني زميلاتك. كيف نلتقي؟ أنت لا تعرفين كم أشتاق إليك! - اكتب لي. - وماذا تنفع الكتابة؟ - وماذا نصنع. - اسمعي، إنني أستطيع أن أخرج بعد صلاة العشاء؛ فإن أبي لا يخرج من حجرته بعد صلاة العشاء. أتستطيعين أن تخرجي أنت أيضا؟ - أخرج؟! أخرج إلى أين؟
وقال عباس مفكرا: إلى أين؟ إلى أين؟ - أتريدني أن أخرج من البيت؟
وحينئذ وقف عم جبر بالعربة وهو يقول: تفضل يا أستاذ، سندخل إلى شارع المدرسة.
وقال عباس: فكري وسألقاك بعد غد.
وقال الأسطى جبر: وأحضر معك ثلاثة قروش؛ فأنت اليوم لم تدفع إلا قرشا واحدا.
وأطرقت إيفون وهي تقول: لا أدري ماذا نفعل.
Página desconocida