لذكراك
لذكراك
لذكراك
لذكراك
تأليف
خليل السكاكيني
لذكراك
الزوجة.
وإني لتعروني لذكراك هزة (1) الليلة الأخيرة (الثلاثاء 3 / 10 / 1939)
قضينا ليلتنا البارحة قياما خاشعين خافتين، وأيدينا على قلوبنا، وأبصارنا شاخصة، فقد اشتدت وطأة المرض على سيدتي أم سري، وساءت حالها جدا.
Página desconocida
دخلت في غيبة من أول الليل ... علت الزرقة شفتيها ... بردت أطرافها ... جعل جسمها يرشح بعرق بارد لزج ...
سمعتها تقول تارة: إلى متى ...؟ وتارة: يكفي ... وتارة: يا خليل! ... وفي صباح اليوم - الثلاثاء - جاء الطبيب، ففحصها فحصا يسيرا، وعلى وجهه علائم اليأس، فقالت له: «لماذا تركتني؟» وهي آخر كلمة قالها المسيح وهو على الصليب يخاطب أباه في السماء!
وبعد أن خرج الطبيب من غرفتها سألت: ماذا قال؟ كأنها أحست، أو قرأت على وجهه ووجوهنا أنها في خطر. فسألت ماذا قال؟ لعلها تطمئن أنها عائدة إلى الحياة. ثم رجعت إلى الغيبة. وفي الساعة العاشرة والربع فارقت الحياة.
شاع الخبر، فأسرع الأهل والأصدقاء يشاركوننا في الحزن. •••
كنت أخاف أن تثقل وطأة هذه المصيبة على أولادنا: سري ودمية وهالة، ولكنهم تلقوها بشجاعة ورزانة، وكانت دمية وهالة تقولان لي: انظر يا أبي كأنها نائمة! انظر ما أجمل ضجعتها! انظر كيف تبتسم!
وفي صباح الغد - الأربعاء - وضعناها في تابوتها، وغمرناها بالزهور، فلم يظهر غير وجهها الجميل الذي زاده الموت جمالا.
ولما حانت الساعة التاسعة، وكانت موعد الجنازة، جاء الأهل والأصدقاء ليحملوها إلى عربة الموتى، فأبيت عليهم إلا أن نحملها: أنا وولدي سري وأخواها يوسف ونجيب؛ فهذا واجب نحن أحق الناس بالقيام به.
مشينا إلى كنيسة القطمون، لأن سريا وأختيه قالوا إن أمهم قالت إذا ماتت فلتكن الجنازة في كنيسة القطمون، فلم يسعني إلا أن أحترم إرادتها المقدسة، ثم خرجنا من الكنيسة، وسرنا إلى مقبرة صهيون حيث أنزلناها في مقرها الأخير، في قبر أبي.
لقد كنت يا سيدتي أم سري ربة الدار في دنياك، فأصبحت ربة الدار في أخراك. فأنت ربة الدارين!
قفا نبك
Página desconocida
قفا نبك من ذكرى أذابت حشاشتي
ولا تبخلا بالدمع، فالدمع حاجتي
قفا أسعفاني في مصابي، فإنني
أراه مصابا قد تجاوز طاقتي
لقد كنت قبل اليوم أحسب أنني
صبور على الأرزاء يقرعن ساحتي
وأني كبير القلب، لا تستخفه
حوادث هذا الدهر إما توالت
وأني على حظ من العلم صالح
على قدر ما قد زودتني ثقافتي
Página desconocida
فلما دهاني ما دهاني، وجدتني
ضعيفا جزوعا ذا شجى وكآبة
رجعت إلى قلبي، وأين اصطباره؟!
وراجعت ما أدري، وأين درايتي؟! •••
وقلت: لعل الشعر ينفع في الأسى
لعلي أرى فيه قضاء لبانتي
تلفت علي أن أراها فجاءة
وأصغيت علي أن أفوز بنامة
وقلت: هنا عاشت، وهذا مكانها
وكدت أناديها على مثل عادتي
Página desconocida
فلم ألق إلا خدعة بعد خدعة
ولم ألق إلا ما يشق مرارتي •••
تذكرت أيام السعادة علها
تخفف من حزني وتشفي حزازتي
وقلت لقد كنا وكنا، فزادني
أسى والتياعا ذكر تلك السعادة •••
فحاولت أن أنسى، فلم تجد حيلتي
ولم يكن النسيان طوع إرادتي
تجلدت، لكن لم يفدني تجلدي
شكوت، ولكن لم تفدني شكايتي •••
Página desconocida
تعللت بالآمال أرقب وقتها
فلم تكن الآمال غير علالة
وأصبح عمري بعد ذلك فضلة
أروح وأغدو فيه من غير غاية
وعادت ليالي الملاح مناحة
تقام بها الأتراح إثر مناحة
وبدل عيشي بعد صفوي غصة
أرددها في الصدر دون إساغة
ولم يبق لي من سلوة غير قبرها
إليه أوالي ما حييت زيارتي •••
Página desconocida
يقولان: إنا قد عهدناك قبل ذا
شجاعا، ولكن أين أين شجاعتي؟!
ألا! لا عزاء يا خليلي بعدها
ألا! لا عزاء فاتركاني وحالتي!
الفتاة. (2) لست أحسد أحدا ولكن أندب سوء حظي
لنفرض أن ذلك الورم اليسير جدا الذي خرج بصدرك تحت الجلد كان من النوع الخطر، فقد بادرنا من فورنا إلى استئصاله وهو لا يزال في مكانه قبل أن تتسرب خلاياه إلى الغدد أو مكان آخر من جسمك. ثم عالجنا مكانه بالراديوم والأشعة الكهربائية كما فعلت كثيرات، فسلمن، وعشن العمر الطويل كأنهن لم يصبن بشيء.
فلماذا لم يكن حظك مثل حظهن؟!
ثم لنفرض أننا تأخرنا قليلا أو كثيرا، ولكن يقول الطب إن نحو التسعين في المائة من اللواتي يصبن بمثل هذا الورم، فيتأخرن قليلا أو كثيرا في استئصاله، يعشن بعد استئصاله عشر سنوات على الأقل.
فلماذا لم يكن لك حظ في هذه التسعين في المائة، وهي ليست قليلة؟!
يقول الطب إن هذه الأورام قد تقف عن النمو من تلقاء نفسها، ولو في الدرجة الأخيرة.
Página desconocida
فلماذا حرمت هذا الحظ؟!
يقولون إن الراديوم والأشعة الكهربائية تفعل العجائب، فلماذا بطلت عجائبها معنا دون الناس؟!
أعرف كثيرات قد بلغن أقصى العمر، ومنهن من رأين أولادهن وأحفادهن إلى الجيل الرابع.
فلماذا لم يكن حظك مثل حظهن؟!
أعرف كثيرين وكثيرات يتأففون من الحياة، ويئنون من أعبائها وآلامها، ولا يملكون من أسبابها شيئا، فلو سألناهم لفضلوا أن يموتوا فيستريحوا، ولم يكن يؤلمنا ويكدر صفونا مثل أن نرى بؤس هؤلاء الناس. وكم وددنا لو نستطيع أن ندفع عنهم البؤس، وأما نحن فقد كانت حياتنا مستوفية الشروط: لم يرث كثيرون أجساما سليمة لا عيب فيها كما ورثنا، ولم يعن أحد بالنظافة والرياضة والغذاء عنايتنا بها، ولم تطبق حياة على الأصول الصحية كما طبقنا حياتنا عليها، ولم يسد في بيت من السرور والفكاهة والانبساط ما ساد في بيتنا، ولم يطوف أحد في طول البلاد وعرضها كما طوفنا. فأي ماء لم نرده، وأي جبل لم نتسلقه، وأي مدينة أو قرية لم نزرها، توالت زياراتنا.
في زي القرية.
لربوع لبنان، عشنا في مصر، كأن حياتنا كلها كانت شهر عسل، لقد كنا على قلة وسائلنا من أسعد خلق الله، وكم قلت لك: تعالي نجرب معيشة المقت، حتى إذا مات الواحد منا كان الخطب على الآخر هينا، فلماذا قدر لك أن تكون حياتك قصيرة؟
لست أحسد أحدا، ولكنني أندب سوء حظي. (3) لن أنسى
لن أنسى يوم فحصك الطبيب لأول مرة، فأحس بذلك الورم اليسير الذي خرج بصدرك تحت الجلد، فاهتم به، وأشار عليك بلزوم المبادرة إلى استئصاله قبل فوات الوقت، فوجمت، وإن تكلفت الشجاعة تكلفا؛ لأنك تعرفين كثيرات في مثل حالتك لم ينفعهن علاج. والتفت إلي كأنك أردت أن تعرفي رأيي، فشجعتك، وقلبي يكاد يذوب حنانا عليك، وقلت لك: إن كثيرات استأصلن هذه الأورام، فعشن ولا يزلن عائشات، وأما أولئك اللواتي لم تنفعهن العمليات فلأنهن تأخرن أو تهاون؛ فلا بأس عليك.
وقبل أن نذهب إلى المستشفى، وكان موعد ذهاب دمية وهالة إلى المدرسة قريبا، أخذتهما إلى جانب فودعتهما وداع من تخاف أن تموت تحت العملية. ولما خرجتا، وقفت على شرفة المنزل تتبعينهما نظراتك، وتلوحين لهما بيدك.
Página desconocida
لن أنسى يوم أخذناك إلى المستشفى للمرة الثانية، فقعدنا في غرفة الانتظار، فبكيت بكاء مرا.
لن أنسى، وقد لزمت الفراش الشهور الطوال، أنك كنت من وقت إلى آخر تتضاءلين، فتنخرطين في البكاء.
نعم، حاولنا جهدنا أن ننفي مخاوفك، وأن ندخل على نفسك الأمل، ولكن ذلك كله لم يمنع أن تحسي بالخطر، فتبكي على شبابك!
زورت كتب الطب، فكنت أقرأ لك من أدوار المرض أيسرها، فأقرأ على وجهك علائم الاطمئنان، وإن كنت في دخيلة نفسي في خوف مستمر.
كان مرضك شيئا، فأقرأ شيئا آخر، والأعراض تتشابه، لأقيم لك الدليل على أنك ناجية.
بل كنت أفزع إلى تفاؤل الساذجين والساذجات، فأقول لك: إن وقعاتنا كبيرة، ولكننا ننجو منها، أتذكرين مرضة سري الأولى بالحمى التيفويدية، ومرضته الثانية بالحمى القرمزية، وكانت الحميان من أخبث أنواعهما، فمن كان يصدق أنه يعيش؟
انظري هذه الليمونة التي غرسناها أمام الدار، فلم تلبث أن ذوت، وقال لنا العارفون: إنها ماتت، وهممنا أن نقتلعها، ثم عادت إليها الحياة.
انظري إلى هذه الزيتونة التي غرسناها خلف الدار، فمرت السنة الأولى والثانية وهي عود من الحطب، وقال لنا العارفون: إنها ماتت، وقد هممنا أن نقتلعها، ثم عادت إليها الحياة.
يظهر لنا يا أم سري أننا من أهل الحياة، وليس مرضك إلا عرضا زائلا، إن شاء الله.
ولكن ذلك كله لم يمنع أن تنتبهي للخطر فتبكي على شبابك!
Página desconocida
لن أنسى قولك حين كان يستولي عليك الضجر: أحب أن أتنفس تنفسا عميقا، أحب أن أجلس في فراشي، أحب أن أقوم على رجلي، أحب أن أرى الحديقة، أحب أن أشرب شربة ماء من البئر على نفس واحد.
تضيق نفسك وأنت مضطجعة فتقولين: أجلسوني، تضجرين من غرفتك فتقولين: أخرجوني إلى الإيوان، إلى شرفة المنزل، افتحوا الأبواب، روحوا لي، اسقوني جرعة ماء.
لن أنسى ما حييت يوم أخذت بيدك لأساعدك على المشي، وقد ازرق وجهك، واتسعت حدقتاك من الإعياء وعسر التنفس، فقلت: «أنت تموه علي، انظر إلى حالتي.» فأحسست أن روحي تكاد تخرج من صدري. وقلت لك: بخير أنت، إن شاء الله.
المعلمة.
لن أنسى ما حييت قولك لي: يا خليل، اعمل معروفا أعطني كذا، يا خليل اعمل معروفا ارفعني عن مخدتي، فأعاتبك وأقول: ألي تقولين اعمل معروفا؟! أنا خادمك يا أم سري.
لن أنسى ذلك اليوم الذي أخذناك فيه، فدرجت بنا السيارة من مكان إلى آخر؛ لأنك كنت مشتاقة أن تتركي فراشك الذي طالت ملازمتك له، وأن تري الدنيا التي كنت وكنا نحبها، كأننا أخذناك لتودعي الدنيا، لتلقي عليها النظرة الأخيرة!
لن أنسى يوم أقامت مدرسة دمية وهالة حفلتها الأخيرة، تلك الحفلة التي كنت تحبين أن تشهديها لأنها حفلة الشهادة، فكان وجهك في ذلك اليوم أشبه بوجوه الملائكة، حتى إن إحدى السيدات الأجنبيات راحت تقول: إنك كنت أجمل من في الحفلة، وقد كان ذلك اليوم آخر يوم خرجت فيه من البيت.
لو كانت تلك الحفلة معرض جمال، لأخذت الجائزة الأولى، ولأقاموا لك عرشا، وأعلنوا أنك سلطانة الجمال، وقالوا بلسان الشاعر:
أنيري مكان البدر إن أفل البدر
أو بلسان صديقنا الشاعر الكبير معروف الرصافي:
Página desconocida
أأم سري، أنت سلطانة البها
أطاعك منه ما عصى الناس أجمعا
ولم ير نقصا في محياك ناظري
سوى أن كل الحسن فيه تجمعا
لقد كنت، يا أم سري، سلطانة الجمال في كل عمرك، لم يزدحم الفتيان على طلب يد فتاة كما ازدحموا على طلب يدك، وكاد ازدحامهم يؤدي إلى القتال.
لو عشت، يا أم سري، لذكرنا كل ذلك بالخير، أما وقد فارقتنا فكل الذكريات، حتى ذكريات أيام السعادة تمزق القلوب، وتستوكف الدموع! (4) إني لمن المعترضين
مات أبي، وقد أثقلته السنون، فحزنت عليه، وبكيته دهرا طويلا، ثم قلت وقال الناس: لا اعتراض على حكم القدر.
ثم ماتت أمي، وقد أثقلتها السنون، فحزنت عليها، وبكيتها دهرا طويلا، ثم قلت وقال الناس: لا اعتراض على حكم القدر.
أما الآن، وقد عدت الأقدار على سيدتي، أم سري، وهي في أجمل أدوار الحياة، وهي كالوردة في أكمامها، وهي كلؤلؤة الغواص ميزت من جوهر مكنون، وهي أصح الناس جسما، وأنعمهم بالا، وهي راضية مطمئنة، وهي محبوبة محترمة عند جميع الناس.
أما الآن فإني من المعترضين، ولو كان هناك مجلس أعلى لقاضيت الأقدار إليه.
Página desconocida
ليس شيء أعجب من أمر هؤلاء الناس: يضرسون بأنياب ويوطأون بمنسم، يتألمون ويحزنون ويبكون، ومع ذلك يرضون ويستسلمون، وكأن ما قد كان لم يك كان.
لا يكفي أنهم يتلقون المصائب إثر المصائب، والضربات إثر الضربات، حتى يكلفوا الرضى والاستسلام، فمثلهم مع الأقدار مثل المحكوم عليهم بالموت في مجالس القضاء في الزمان القديم؛ فقد كانت هذه المجالس إذا حكمت على أحد بالموت تقول له: حكمنا عليك بالموت فادع للسلطان بالنصر!
أيتها الأقدار احكمي بما شئت، وأما أن تكلفينا الدعاء لك والرضى بحكمك. فهذا لن يكون! (5) أسعفاني بالبكاء
أسعفاني بالبكاء،
ودعا كل عزاء
لا تقولا: الصبر يجدي
حين يشتد البلاء
ليس يجدي الصبر، إن لم
يك في الصبر رجاء
لا تقولا: «إنما الدن
Página desconocida
يا - ما قيل - فناء»
إن يجل الخطب لا تج
د عظات الحكماء •••
آه! واشوقي إلى
سلطانتي، زين النساء!
آه! واشوقي إلى
طلعتها ذات البهاء
آه! واشوقي إلى
أيامنا الغر الوضاء!
يوم كنا نغنم الأن
Página desconocida
س صباحا ومساء
يوم كنا نتعاطى
أكؤس الصفو ملاء
يوم كنا لا نرى من
دهرنا إلا الولاء
يوم كنا سعداء
يوم كنا سعداء! •••
حين كان البيت نا
دي الأصفياء الأوفياء،
كنت للنادي ضياء
Página desconocida
تبهجين كل راء •••
سحب الدهر على أيا
منا ذيل العفاء!
قوض النادي الجميل
وخبا ذاك الضياء! •••
كنت، يا أم سري،
نجمتي ذات السناء
كنت إن أظلمت الدن
يا، وعز الاهتداء
ترسلين النور يهدي
Página desconocida
ني إلى سبل العلاء
كنت لي كل سروري،
كنت لي كل الغناء
كيف تجفين وما عو
دتني هذا الجفاء؟!
كم أناديك، ولكن
لا تجيبين النداء؟! •••
آه! لو أن المنايا
قبلت عنك الفداء،
كنت أفديك بروحي،
Página desconocida
أنت أولى بالبقاء (6) هنا وهناك
سيدتي أم سري!
نحن نبكي هنا حزنا عليك وشوقا إليك، ولست أشك أنك واقفة على شرفة الآخرة تبكين حزنا علينا، وشوقا إلينا.
يخيل إلي أنك تقولين لأمك وأبيك وسائر الأهل الذين رحبوا بك، وأحلوك بينهم في المكان العالي: أحب أن أرجع إلى زوجي وأولادي وأهلي، ردوني إليهم.
يخيل إلي أنك لست راضية هناك، كما أننا لسنا راضين هنا، إنك مقهورة هناك، كما أننا مقهورون هنا.
يخيل إلي أنك تقولين لهم: إن داركم هذه لا تملأ عيني، إن بيتي المتواضع على الأرض أجمل منها، إن حياتنا هناك أجمل من حياتكم هنا، ردوني إلى الأرض.
يخيل إلي أنك لا تنقطعين عن البكاء وهم مقبلون عليك يدارونك، ويحاولون تخفيف حزنك، وإغراءك بنعيمهم، فتعرضين عنهم، ولا تقبلين عزاء.
أما نحن فكم نود لو نستطيع أن نحمل على الآخرة حملة شعواء، ونقتحم الأبواب ولو حمتها سيوف من نار لنردك إلينا، أو نموت على عتبة الآخرة فنعذر. (7) أتجلد
يهتاجني الشوق، فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
يثور بي الحزن فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
Página desconocida
أراجع أيامنا الماضية من أولها إلى آخرها، فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
أذكر أيام مرضك في ليلك ونهارك، فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
يجف ريقي، وتتردد الغصة في صدري، فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
آرق في ليلي، وتمر الساعة تلو الساعة وأنا أتململ على فراشي، فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
أزور قبرك كل يوم فأقف عند قدميك مطرق الرأس، فأتجلد ولا أنبس بكلمة.
إذا كان التجلد السكوت فإني أعظم من تجلد.
بلى، أعقد كل يوم مناحة: ألطم وجهي ولكن دون أن أرفع يدي، أضرب رأسي بالجدران ولكن دون أن أتحرك من مكاني، أغني أغاني الفراق فأقول: «سافر المحبوب» ولكن دون أن يرتفع لي صوت.
أعقد كل يوم هذه المناحة الصامتة ولكنها لا تشفي غليلي.
أحب أن أبكي جهرة في بيتي، في طريقي، في عملي، في رواحي ومجيئي.
أحب أن يكون إلى جانبي خليل أو خليلان من أخلاء الشعراء، فأقول:
Página desconocida
أسعفاني بالبكاء
ودعا كل عزاء
أحب أن أقف على قبرك، وأستوقف، وأبكي، وأستبكي، فأقول:
قفا نبك من ذكرى أذابت حشاشتي
ولا تبخلا بالدمع، فالدمع حاجتي
إن هذا الحزن الباطن يتطلب الخروج فإذا لم يخرج بكاء خرج غضبا أو جنونا.
إن هذا التجلد لا يزيل الحزن ولكن يكبته إلى أن يجد منفذا فيخرج، مما يدل أن الطبيعة لا تطيق الكبت، وأن التجلد غير طبيعي. وليس شيء في ملتي واعتقادي أضر من مخالفة سنن الطبيعة، وقد سنت الطبيعة للحزن البكاء، فمن علمنا هذا التجلد؟!
لقد أفسدنا طبائعنا ونحن لا ندري، ولعل القدماء كانوا أعرف بطبائعهم وأطوع لها منا، فقد كانوا يعقدون المناحات للتنفيس عن صدورهم، وكانوا إذا لم يكف البكاء يعقدون حلقات رقص حول القبور يهتزون فيها ألما، بل قد يلطمون وجوههم، ويشقون جيوبهم، ويضربون رءوسهم بالجدران، يفعلون كل ذلك ليجد الحزن منفذا يخرج منه. (8) لما عشنا متنا!
ما كادت سيدتي أم سري تصل إلى أجمل أدوار الحياة.
وما كاد أولادنا يستوفون ثقافتهم العالية، ويلمون ببعض الفنون الجميلة إلمامة كافية.
Página desconocida
وما كدنا نستقر في بيتنا المتواضع.
وما كدنا نعيش كما شاء اقتراحنا على المنى نقول مع البحتري:
أيها الدهر حبذا أنت دهرا
قف حميدا ولا تول حميدا
كل يوم تزداد حسنا، فما تب
عث يوما إلا حسبناه عيدا
ما كدنا نصل إلى هذا الدور الجميل الذي كنا ننظر إليه من أمد بعيد، حتى جاء الموت، فهدم ما بنينا فأعلينا.
إذا كان هناك من يصدق عليه القول: «لما عشنا متنا» فنحن. (9) القبور والدور
شاءت الأقدار أن تقضي الشتاء الماضي في المستشفى بين أيدي الأطباء والجراحين، ثم يجيء هذا الشتاء وأنت تحت الثرى في تلك المقبرة البعيدة الموحشة التي يمر بها الشجاع فيفزع.
لماذا لا يدفن الناس موتاهم في دورهم فيختلط الأحياء والأموات معا؟!
Página desconocida