Lessons by Sheikh Abi Ishaq Al-Huwaini

Abu Ishaq al-Huwaini d. Unknown

Lessons by Sheikh Abi Ishaq Al-Huwaini

دروس للشيخ أبي إسحاق الحويني

Géneros

استثمار الوقت عند العلماء إن الوقت هو من أكثر ما يغبن فيه المرء كما صح عن النبي ﷺ. وما من مسلم إلا ويعد الوقت في حياته هو رأس ماله، فإن استغله واستثمره كان ذلك فوزًا وفلاحًا له في الآخرة، وإن فرط فيه وضيعه كان حسرة عليه وندامة. ولقد ضرب لنا السلف أروع الأمثلة في استغلالهم لأوقاتهم، فلا يكاد الواحد منا يسمع تلك الروايات التي تحكي لنا عن كيفية استثمارهم لأوقاتهم في العمل والعلم، وقبل ذلك كله في العبادة إلا ويخال تلك الروايات من الأساطير لما يظهر فيها من جدهم واجتهادهم وجعلهم الآخرة نصب أعينهم.

1 / 1

احتساب السلف لأعمارهم وجهدهم في طلب العلم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن أشرف ما يستثمر باتفاق العقلاء، هو الوقت؛ لأن الوقت هو العمر، وبمقدار ما يستثمر المرء هذا الوقت بمقدار ما تكون له المكانة في الدار الآخرة؛ لأن حياته في الآخرة إنما هي باستثماره لعمره، فإذا ضيعه خسر هناك، وإذا استثمره حق استثماره ربح. ولا أفضل ولا أجود من ضرب المثال في استثمار الوقت بحياة العلماء؛ لأنهم هم الذين عرفوا شرف هذا العمر، فلذلك نضرب المثل بهم، فهم القدوة، وهم الذين نأخذ عنهم الفتوى. لقد وجدنا في علمائنا السالفين أشياء يتعجب المرء منها، عندما ينظر إليهم وهم يستثمرون الثواني والدقائق في أعمالهم، وكان يتخلل ذلك كله إخلاص في طلب العلم؛ لذلك استطابوا المعاناة واحتسبوها في سبيل وجه الله ﵎ في طلبهم لهذا العلم. وهذا الذي يفرق بين هؤلاء وبين كثير من الأجيال من بعدهم، وهي مسألة الحسبة في الطلب، فإذا احتسب الرجل جهده في الطلب لا يشعر بأي شيء من المعاناة؛ لأنه إنما يحتسب وجه الله ﵎، وأضرب مثلًا بالقصة المشهورة في سبيل التثبت من لفظة واحدة أو من حديث للنبي ﵌ ينقله هؤلاء العلماء إلى جميع الأمة بعدهم، ولولا ثبات هؤلاء وحسن بحثهم لما كان بأيدينا شيء ذو بال من تراث النبي ﵊: من أحاديث وأسانيد وأقوال علماء. ذكر ابن حبان ﵀ في مقدمة كتابه المجروحين، عن نصر بن حماد أبي الحارث الوراق، قال: كنا بدار شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني، أن النبي ﷺ قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: فخرج شعبة فلطمني ودخل الدار، وكان معه عبد الله بن إدريس، قال: فخرج -أي: بعد ذلك- فوجدني قاعدًا أبكي، فقال: هو بعد يبكي، فقال له: عبد الله بن إدريس إنك لطمت الرجل، فقال: إنه مجنون إنه لا يدري ما يحدث، إني سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث، سمعته من عبد الله بن عطاء فغضب ولم يجب، غضب؛ لأن أبا إسحاق السبيعي كان يدلس. ومعروف أن من أنواع التدليس -وهو تدليس أبي إسحاق السبيعي - أن يسقط الراوي شيخه الضعيف أو الصغير فيعلو بسنده، وقد يكون هذا الرجل ضعيفًا أو كذابًا أو متروكًا، لذلك لم يكن العلماء يقبلون من المدلس حديثًا إلا ما صرح فيه بسماعه من شيخه، وكان من أشد المنكرين للتدليس والمدلسين شعبة بن الحجاج صاحب هذه القصة، حتى أنه كان يقول: لأن أشرب من بول حمارٍ حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس، وكان يقول: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس، وكان شديدًا جدًا، وكان يقول: التدليس أخو الكذب، فـ أبو إسحاق السبيعي كان شعبة لا يأخذ من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع. وهنا فائدة في خصوص رواية شعبة عن ثلاثة نفر من شيوخه وهم من المدلسين، قال شعبة كما رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار بسندٍ صحيح عنه: كفيتكم تدليس ثلاثة: كفيتكم تدليس قتادة، والأعمش، وأبي إسحاق السبيعي، فحيثما وجدت سندًا فيه شعبة عن واحد من هؤلاء ولو قال: (عن) فخذه ولا تعله بالتدليس، أي: إذا وجدت: شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن فلان، فلا تقل: أبو إسحاق مدلس وقد عنعن، لماذا؟ لأن الراوي عنه شعبة، وشعبة لا يروي عن هؤلاء إلا ما ثبت أنهم سمعوه من مشايخهم. إذًا: يروي شعبة عن هؤلاء رواية خاصة فلا تعل الحديث بتدليس واحد من هؤلاء، وفي صحيح أبي عوانة بسندٍ صحيح قال: عن شعبة قال: (كانت همتي من الدنيا شفتي قتادة، فإن قال: حدثني كتبتُ، وإن قال: قال، تركته)، فلأن أبا إسحاق السبيعي يدلس خاف أن يكون دلس في هذا الحديث فسأله: سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء، فغضب، وغضبه هذا يدل على أنه دلس؛ لأنه لو كان سمع حقيقةً لبادر وقال: نعم. سمعته، فما الذي يجعله يغضب ويتوقف؟! فهذا دليل على أنه لم يسمع، فأصر شعبة على أن يأخذ جوابًا سمعت أو لم تسمع؟ وأَبى أبو إسحاق السبيعي أن يعطيه جوابًا، فقال مصعب بن كدام وكان جالسًا مع أبي إسحاق السبيعي: يا شعبة! إن عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة -وشعبة هذا بصري- قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث. قال: فذهبت، فدخلت على عبد الله بن عطاء فإذا رجلٌ شاب، قلت له: حديث الوضوء حديث عقبة بن عامر قال: نعم. قلتُ له: سمعته من عقبة بن عامر، قال: لا. إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم -وهو مدني- قال شعبة: فذهبت إلى مالك فسألته: حج سعد بن إبراهيم هذا العام؟ قال: ما حج العام! قال: فقضيت نسكي وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء حديث عقبة بن عامر، قال: نعم. فقلت سمعته منه؟ قال: لا. إنما حدثنيه: زياد بن مخراق -وهو بصري- قال: من عندكم خرج، حدثني زياد بن مخراق قال شعبة: حديث مرة بصري، ومرة مدني، ومرة مكي، دمر عليه لا أصل له. قال: فانحدرت إلى زياد بن مخراق وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء عن عقبة بن عامر، قال: نعم، فقلت: سمعته من عقبة بن عامر؟ فقال لي: إنه ليس من حاجتك! أي: أنه ضعيف، فقال له شعبة فما بد؟ قال: فلا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل، فتغسل ثيابك، ثم تأتيني، قال: فاغتسلت وغسلت ثيابي وجئته، قلت: حديث الوضوء، قال: نعم. قلت: سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. حدثنيه شهر بن حوشب، فقلت: شهر عن من؟ فقلت: عن أبي ريحانة عن عقبة به، فقال شعبة: حديث صعد ثم نزل دمر عليه لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي. فأنت ترى رحلة شعبة من البصرة إلى مكة إلى المدينة، ثم إلى البصرة لأجل أن يتثبت من حديث واحد فيه هذا الثواب العظيم، كم من الليالي أنفقها شعبة في سبيل طلب صحة هذا الحديث الواحد؟!! وكان شعبة من أمراء المؤمنين في الحديث -يعني: ممن يحفظون ألف ألف- فكم من الأحاديث له فيها نفس هذه القصة؟ ألف أو ألفان أو أربعة آلاف من ألف ألف؛ لترى أن هؤلاء الناس عندما كانوا يطلبون الحديث كانوا يطلبونه تدينًا لا تكثرًا، لذلك طال نفسهم لحسبتهم، فكان أحدهم يتحمل كل هذا النصب حتى يؤدي إلى أمة النبي ﵊ حديثًا صحيحًا يتعبدون به جميعًا. ولذلك فنحن عندما نذكر شعبة بن الحجاج -وقد مضى على وفاته أكثر من ألف وثلاثمائة عام- وغيره من أهل الحديث، فإننا نترضى عليهم أكثر من آبائنا وأمهاتنا، وكان كثيرٌ منهم في المسافات الطويلة بين البلدان يؤجر نفسه خادمًا للقوافل نظير أن يحملوه، فإذا كان مثلًا بصريًا وأراد أن يخرج إلى مكة فإنه يذهب إلى بعض القبائل التي تتوجه إلى مكة، أو بعض القوافل التي تتوجه إلى مكة فيعرض نفسه خادمًا يخدمهم ويقوم عليهم نظير أن يحملوه إلى مكة، وقد يكون قلامة ظفرٍ من هذا الإمام تساوي القافلة كلها؛ لكنه لا يهمه ذلك، والمهم أن يصل إلى بغيته. فهؤلاء ما كانوا يضيعون أعمارهم، وكانوا يستثمرون العمر بشكل عجيب. قال ابن أبي حاتم الرازي: كنت أقرأ على أبي وهو يأكل، وهو يشرب، وهو مضطجع، وهو يمشي، وهو داخلٌ إلى الخلاء. وذكر ابن الجوزي أن الخطيب البغدادي كان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه. وذكروا عن ابن أبي حاتم الرازي أنه قال: دخلنا مصر فظللنا فيها سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقًا، فكنا في نهارنا ندور على الشيوخ وفي ليلنا ننسخ، حتى ذهبنا إلى بعض الشيوخ، فقالوا لنا: تأجل موعد الدرس، فقلنا: نأكل، فذهبنا إلى السوق فاشترينا سمكة، فما إن ذهبنا إلى الدار حتى حان موعد درس شيخ آخر فتركنا السمكة، وظللنا في نهارنا ندور على الشيوخ وفي ليلينا ننسخ، فمكثنا ثلاثة أيام ما استطعنا أن نقربها -أي: السمكة- ولم نتفرغ لشيها فأكلناها نيّئة، وهذا بسبب أنهم لا يجدون وقتًا. فإذا نظرت إلى مثل هؤلاء لوجدت أن ابن أبي حاتم الرازي كتب المصنف المسند في ألف جزء، مسند كبير في ألف جزء!! فما يستطيع أن يكتب ألف جزء من مروياته ولا الكتب الأخرى للجرح والتعديل وغيره إلا من كان يعد الدقائق والثواني. وذكروا عن ابن أبي داود أنه قال: خرجت إلى أبي سعيد الأشج لأكتب عنه -وهذا من كبار مشايخه- قال: فاشتريت ثلاثين مدًا باقلة -يعني (٣٠) كيلو فول- فكنت آكل وأكتب عن أبي سعيد، فما نفد الفول

1 / 2

تميز السلف بكثرة الحفظ لإخلاصهم وهمتهم العالية إنك عندما تنظر إلى هؤلاء الأعلام وإلى عزائمهم، وتنظر إلى المتأخرين مع توفر الإمكانات وسهولة الحركة والتنقل، ومع ذلك لا ترى عند هؤلاء -المتأخرين من أهل العلم- عشر معشار ما عند المتقدمين، فالواحد لا يستطيع أن يحفظ مائة حديث مسند، فيدخل حديثًا في حديث، ويدخل متنًا في متن، وتضطرب عليه الكلمات. أما أولئك فكانوا يحفظون الألوف المؤلفة من الأسانيد، وقصة البخاري المشهورة لما دخل بغداد فقلبوا عليه الأحاديث خير دليل على ذلك، فـ البخاري كان يحضر مجلسه مائة ألف، ولم يكن في وجهه شعرة، حتى كان بين المستملي والمستملي عشرون مترًا، وعشرات الذين ينتظرون حتى ينقلوا كلام البخاري إلى هؤلاء الذين لا يسمعون صوت البخاري، فطار ذكره إلى بغداد قبل أن يدخلها، وكانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية وكل العلماء فيها، والكل يحرص أن يدخل إلى بغداد حتى يقابل العلماء الكبار كـ أحمد وابن معين وغيرهم. وكان من عادة أهل بغداد أنهم ينتقصون الأفاضل، فلما رأوا البخاري استقلوه، فعمدوا إلى مائة حديث وقلبوا أسانيدها ومتونها، فجعلوا إسناد هذا الحديث في متن ذاك، وإسناد هذا المتن ذاك، وأعطوا عشرة رجال كل رجل عشرة أحاديث، وقالوا: قوموا واتلوا عليه هذه الأحاديث. فبعد أن انتهى المجلس قام أحدهم، وقال له: ما تقول في الحديث: حدثنا فلان عن فلان عن فلان وساق متنه، فقال: لا أعرفه، طيب: والحديث الثاني، قال: لا أعرفه. والثالث: لا أعرفه. وهكذا، وقال الثاني، فأخبره بأنه لا يعرف العشرة، إلى تمام المائة وهو يقول: لا أعرفه، فأما الجهلاء الأغماط فقالوا: لا يعرف أي شيء؟!! فقضوا عليه بالعجز، وأما العلماء فقالوا: فطن الرجل. فبعد أن انتهى العشرة من تمام المائة، قال للأول: أما حديثك الأول، فمع الثاني، هذا السند للمتن الفلاني، وسندك الثاني للمتن الفلاني، وسندك الثالث للمتن الفلاني، حتى رد المائة حديث إلى أسانيدها وإلى متونها، فما قام من مجلسه حتى شهدوا له بالفضل. يقول الحافظ ابن حجر: ليس العجب أن يحفظ الصواب، فإن الصواب يحفظه كل أحد، إنما العجب أنه حفظ الخطأ على ترتيب ما ألقوه، يعني يقول له: سندك الأول مع الخامس رقم أربعة، وسندك الثاني مع الثالث رقم تسعة، وهكذا، فكيف حفظ هذا الخطأ على هذا الترتيب بمجرد أن ألقوا عليه الحديث مرةً واحدة. فكان هؤلاء العلماء يحفظون، كما صح عن البخاري أنه قال: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح)، لا يدخل عليه متن في متن، بل بلغ من ضبطهم -سواء كان ضبط الصدر أو ضبط الكتاب- مبلغًا عجيبًا جدًا. فيذكر ابن حبان وغيره في مقدمة المجروحين بسند صحيح إلى أحمد بن منصور الرمادي، قال: جاءني يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وفي يد يحيى ورقة، فقال: أعط هذه أبا نعيم الفضل بن دكين، وهذا من مشايخ أحمد وابن معين، ومن مشايخ البخاري، لأنه عمر فأدركه البخاري، فترى أن أحمد شيخ البخاري، والبخاري أدرك شيخ أحمد، إذًا: كأنه مثل أحمد في الطبقة في هذا الشيء، لأن كلام الرجلين يأخذ عن شيخ واحد، مع أن أحمد شيخ البخاري وهذا الذي يسميه العلماء العلو. فقال: يحيى بن معين أعط هذه الورقة لـ أبي نعيم إذا خف المجلس، قال: فنظر أحمد في الورقة فإذا يحيى بن معين خلط أحاديث لـ أبي نعيم بأحاديث ليست من حديثه، فخلطها ببعضها وأدخل أسانيد في المتون، على أساس أن يعطيها للفضل، فإذا نظر الفضل وأقر بما فيها فقد اختلط؛ لأنه لا يميز حديثه من حديث غيره، وكان الفضل بن دكين إذا جلس في تلك الأيام على الكرسي كان يجلس أحمد بن حنبل عن يمينه ويحيى بن معين عن يساره لجلالتهما، وكان بقية الطلبة يجلسون دونيهما. فبعدما خف المجلس قال أحمد بن منصور الرمادي: فناولته الورقة، قال: فنظر إليها وجعلت عيناه تلتفت أي: أنه قد فطن لهذا الأمر- ثم أطرق ساعة -أي: لحظة- ثم قال لي -يعني لـ أحمد بن منصور الرمادي -: أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل ذلك، وأما هذا وأشار إلى أحمد فآدب من أن يفعل ذلك، وليس هذا إلا من عمل هذا، يعني عمل يحيى، ثم أخرج رجله ورفسه، فأسقطه من على الدرج، وقال: أعلي تعمل؟! قال: فقام يحيى فقبله بين عينيه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيرًا مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، فلامه أحمد، وقال: قد نهيتك أن تفعل ذلك، وقلت لك: إن الرجل ثبت، فقال له يحيى: والله لرفسته أحب إلي من رحلتي. فكانوا يحفظون حفظًا عجيبًا، وهذه الأمة تميزت من بين سائر الأمم بهذا الحفظ، يعني رجل يحفظ ألف ألف حديث ولا يدخل له إسناد في متن أبدًا، هذا مما يقطع عليه بالعجب، فهؤلاء ما كانوا يفعلون ذلك إلا لأنهم ما كان يشغلهم عن ذلك شيء، فحياتهم وهمتهم في هذا الطريق. لذلك فطالب العلم إن لم يتأس بهؤلاء ضاع عمره هباءً، وإلا فأنت الآن عندك من الكتب والإمكانات التي ما كان يحلم بتوفرها أي إنسان، فالحافظ ابن حجر ما كان عنده هذه الكتب، وإنما كان أمين المكتبة العامة، كان هو صاحب الخزانة، فكان ينتفع بها، وإلا فقد كانوا فقراء، لا يستطيعون أن يستأجروا ناسخًا لينسخ لهم كل الكتب الموجودة، وأنت الآن عندك هذه الكتب، لكن متى ستحفظ؟ العز بن عبد السلام لم يكن عنده المحلى ولم يكن عنده المغني، وكان إذا أراد أن يستخرج مسألة من هذين الكتابين يرسل إلى محيي الدين بن عربي الصوفي المعروف ليستعير منه الكتابين، وقال: ما استطبت الفتيا حتى صارت عندي نسخة من المحلى والمغني، يعني: ما حصّلها إلا بعد زمن طويل، والآن أصغر الطلبة عنده هذين الكتابين وزيادة. وأقرب مثال الشيخ أبو الأشبال أحمد شاكر في تعليقه على المحلى لما نقل ابن حزم أثرًا من مصنف عبد الرزاق، فجعل يتحسر، ويقول: أين هذه الكتب عند صبيان الكتاتيب ونحن لا نسمع لها بخبر ولا أثر، بل مات ﵀ ولم ير موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، وهو يتكلم في ابن حبان قال: وعلمت أن للهيثمي كتابًا في ذلك، ولو اطلعنا عليه لكان كبير الفائدة ينفعنا في إخراج الصحيح. والآن الكتب كثيرة والمخطوطات كثيرة، ولكن كما يقول ابن الجوزي: إنما البكاء على خساسة الهمم!! لا يبكى على ضعف الإمكانات؛ لأنه إذا آتاك الله ﵎ همةً عالية فما من شيء يمكن له أن يعترضك، كان الحافظ الحازمي ﵀ يكتب طوال الليل يصنف ويؤلف ويتعقب وينسخ طوال الليل، فأشفق عليه جارٌ له من هذا السهر، فكلما نظر رأى السراج يضيئ، فقال لجاريته يومًا، قولي له: ليس بالقنديل زيت، لعله ينام أو يستريح. فقالت الجارية: ليس بالقنديل زيت، فقال: لا بأس، وطبعًا: الرجل يريد أن يراقب هل ينام أم لا. قال: فنظرت إليه فوجدته يقوم الليل، سُمع صوته وهو يقرأ القرآن إلى هذا الجار حتى أذن مؤذن الفجر. كانوا أناسًا لم يتعودوا على عيشة البطالين، وإنما كانت حياتهم كلها إما عبادة وإما طلب علم، والحافظ الحازمي هذا مات وعمره ستة وثلاثون سنة، وابن عبد الهادي مات وعمره تسعة وثلاثون سنة، وأعجب من ذلك سيبويه الإمام المشهور، صاحب الكتاب في النحو، مات وعمره ثنتان وثلاثون سنة. وسيبويه هو صاحب الكتاب في النحو، الذي ما جسر كبار النحاة وكبار العلماء أن يدخلوا على هذا الكتاب حرفًا واحدًا، ولا زالوا يلتزمون عباراته حرفيًا حتى الساعة. وهذا كله بسبب الهمة العالية التي كانت عند الأسلاف: ومسلم ﵀ روى في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير، مع أن هذا ليس من موضوع في كتابه، إنما موضوع كتابه الصحيح المسند، روى بسنده إلى يحيى بن أبي كثير، أنه قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد. إذا كنت ذا همةٍ عالية فيظل بدنك متعبًا بصفةٍ دائمة، لماذا؟ لأن روحك طموحة، تحتاج إلى بدن وبدن وبدن، يعني بدنك هذا لا يصلح لهذه الروح الفتية. وأعجب من ذلك ما ذكروه عن أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي، وهذا الرجل له كتاب اسمه (الفنون) طبع منه مجلدان، وهذا الكتاب يقع في ثمانمائة مجلد، قال ابن رجب في ذيل الطبقات: حدثني فلان أنه رأى منه المجلد كذا بعد الأربعمائة، وهذا كتاب واحد!! فكيف صنف كتابًا بهذه الضخامة؟ إلى جانب كتبه الأخرى، إلى جانب الدروس التي كان يلقيها، إلى جانب حياته، فكان له زوجة وأولاد وكان عنده مشاكل وكان له رحم، فمن أين وجد الوقت حتى يصنف مثل هذا الكتاب. اسمع إليه يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا كلّ لساني عن مناظرة وبصري عن مطالعة، استرحت فأعمل فكري حال استراحتي، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإنني أسطر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار خث الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ. فرجل يلاحظ الوقت ما بين مضغ الخبز والكعك، لا يمكن أن يضيع ساعتين أو ثلاثًا أو أربعًا وهو يحرص على دقيقتين، فكانوا يحرصون على الأنفاس؛ لأن الأنفاس هي العمر، وبقدر استكمالك للعمر يكون جزاؤك في الآخرة، كما قال النبي ﷺ: (أعذر الله ﵎ إلى عبدٍ بلّغه ستين سنة)، فإذا بلغ ستين سنة بلغ عذره، لأنه

1 / 3

فوائد أخذ العلم عن المشايخ قد يقول قائل: نحن الآن صارت عندنا همة، ونريد أن نطلب العلم، فما هي أقصر السبل إلى طلب العلم وقد ضاع من عمرنا الشيء الكثير؟ فيقال: إنك إذا أردت أن تقصر عمرك أو تختصره في طلب العلم فاحرص على لقاء المشايخ، فإن لقاء المشايخ والتعلم والأخذ عنهم سنةٌ ماضية، وانكبابك وحدك على الكتب له مضار كثيرة، وهذه المضار لا توجد إذا تلقيت العلم عن شيخ، فإن ميزة الأخذ عن شيخ أنه يقصر لك العمر، ويصحح لك الفهم، ويعطيك الأدب. لذلك تجد أن أكثر الذين تعلموا على الكتب وحدهم ليس عندهم من الأدب ما عند الذين تعلموا على المشايخ، لماذا؟ لأنه يقرأ في كتاب، فيرى العلماء يتعصب بعضهم لبعض، فيعيش في نفس الدور. فإذا ذكر النووي أو ذكر ابن حجر أو ابن تيمية أو غيره وقد رأى رد العلماء عليهم يتجاسر أيضًا فيرد عليهم، وما لاحظ الفرق بين الراد والمردود عليه، لكن لو تعلم على شيخ فإنه يتأدب بأدب طالب العلم.

1 / 4

اكتساب الأدب من أهم فوائد التعلم على المشايخ من أعظم ثمرات الأخذ عن الشيخ: الأدب، والمشايخ كانوا ينقلون الأدب مع العلم، فما كانوا يعلمون فقط، وإنما كانوا يؤدبون، فممن أذكرهم في هذا المضمار الإمام العلم المشهور سليمان بن مهران الأعمش، وقد كان يؤدب تلاميذه أدبًا ما نعرفه عن كثير من المشايخ، كان يذلهم إذلالًا في طلب الحديث، وكان عسرًا جدًا فما يكاد يعطي واحدًا حديثًا إلا بشق الأنفس، حتى أن واحدًا سأله سؤالًا فكلح وجهه، فقال له: والله لقد علمناك كالح الوجه إذا سئلت حديثًا كأنما تنتزع روحك، مع أن الأعمش من المتقنين، يعني: أحاديثه كثيرة جدًا في دواوين الإسناد، فلم يكن على عُسر في الحقيقة، وإلا لو كان عسرًا ما حفظنا عنه كل هذه الأحاديث، لكن كان إذا رآهم مقبلين على الحديث تمنع عليهم، حتى إذا كان فيهم مستكبر أو من يظن نفسه ابن أمير أو وزير فسيقول: أيظن أنه يذلنا؟ فينصرف، ومثل هذا لا يفلح، فهو كان يعالج فيهم الكبر بهذا الإذلال. حتى أن رجلًا ذات مرة جاءه وقال له: يا أبا محمد! -وهذا الراوي: كان يبكي في تذكره، لأنه كان إمامًا كبيرًا- قال: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده، فأخذه من حلقه ورجزه في الحائط وقال: هذا إسناده، فما قال: الأعمش هذا سيئ خلق، والمشايخ غيره كثير، وكان بدل الأعمش ألوف؛ لأنهم كانوا يريدون الأعمش لعلو سنده وثقته وضبطه. وذكر الخطيب في شرف أصحاب الحديث عن الأعمش مقالات كثيرة جدًا، وخص الأعمش بالذات بهذا الكم، فذكر من ضمن ما ذكر أنه اشترى كلبًا لأصحاب الحديث، حتى إذا جاءوا واقتربوا من الباب أطلق عليهم الكلب، فكان إذا سمع همهمتهم وأصواتهم وأصوات أقدامهم يرسل عليهم الكلب فيفرقون، وهم في كل ذلك لا يكلون ولا يملون، أي: ليس إذا رأوا الكلب يعتبرون ذلك اليوم عطلة، لا. وإنما إذا دخل الكلب الدار رجعوا مرة أخرى، فإذا خرج الكلب عليهم فروا مرة أخرى وهكذا، حتى دخلوا عليه ذات يومٍ وإذا بالكلب غير موجود، فلما رآهم الأعمش بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا أبا محمد؟! قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، الذي هو الكلب! وذات مرة كان يمشي في جنازة -وكان الأعمش كفيفًا ﵀ فأخذه رجلٌ من أصحاب الحديث، وقال: أصاحبك يا أبا محمد!، فصحبه لكنه أخذه وانحرف به عن طريق الجنازة، وطبعًا كان هناك صمت فلم ينتبه الأعمش أنه خرج من طريق الجنازة، فما زال يمشي ويمشي حتى قال له الرجل: يا أبا محمد! أتدري أين أنت؟ قال له: لا. قال له: أنت في جبانة كذا وكذا، والله لا أردك البلد حتى تملأ ألواحي حديثًا، فقال له: اكتب، فكتب! فقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان حتى ملأ الألواح، وهذا الذي لا يستطيع أن يأخذ حديثًا من الأعمش، فأخذ منه هذه الأحاديث كلها، فرجع به والأعمش متغيظٌ عليه، وهو يعلم ماذا سيفعل الأعمش به إذا رجع إلى الدار، فدفع الألواح لأول صاحب لقيه في الطريق، فلما ذهب إلى الدار قال: وصلت إلى الدار يا أبا محمد! فأمسك بعنقه، وقال: خذوا الألواح من الفاسق!! فقال: لقد مضت الألواح يا أبا محمد؟ فقال له: كل ما حدثتك به كذب!! حتى يزهده فيها، فقال له: أنت أعلم بالله من أن تكذب. فكان عسرًا جدًا ﵀. فهذا كان يربي تلاميذه، وكان تلاميذه يجلسون فما يستطيع الواحد منهم أن يتنفس، فلو تكلم رجل في الحلقة فإنه يوقف مجلس التحديث وينصرف، حتى إن رجلًا من الغرباء جاء وجلس بجانب الأعمش، وكان الأعمش يكره أن يجلس أحد بجانبه، ولكن الرجل لا يعرف أن العادة أنهم لا يجلسون بجانب الأعمش، فجلس، فأحس به الأعمش، فكان يقول: حدثنا فلان ويبصق عليه ومن ينهونه أن يتحرك؛ لأنه لو قال للأعمش: ماذا تعمل؟ فسوف يوقف مجلس التحديث، فصبر على هذا حتى انتهى المجلس. فأي ذل أكثر من هذا؟!! إنها تربية فكان ﵀ شديدًا، والمربي يحتاج في هذه المواضع إلى الشدة، حتى لا يفلت منه الحبل كما يقولون، وليس هذا فقط، بل كان هذا شأنه حتى مع الحلاقين، فكان إذا دخل عند الحلاّق وأمره بشيء فخالفه قام، حتى ذكروا أنه قال لأصحابه: أبغوني حلاقًا أخرس، لأن الحلاق معروف بكثرة الكلام، فهو يريد حلاقًا أخرس لا يتكلم يحلق له فقط، لا يجلس الوقت بعد الآخر يقول له: الحديث الفلاني يا أبا محمد والحديث العلاني، فبحثوا له عن حلاق وأخذوا على الحلاق المواثيق ألا يتكلم، ولا يسأله في حديث، فحلق له رأسه حتى بلغ النصف، قال: يا أبا محمد! حديث ولم يكمل! فقفز الأعمش من على الكرسي بنصف رأسه، ودخل الدار، فظل ثلاثة أيام ونصف ورأسه محلوق، حتى كانوا يقولون له: الرجل لن يتكلم بعد ذلك، فبعد ثلاثة أيام من المراجعة دخل إلى الرجل فحلق له النصف الآخر ولم يتكلم. فكان عند الأعمش ﵀ حدة، كان يستخدمها مع طلاب الحديث، ولم يكن الأعمش وحده هكذا بل كان كثير من المشايخ على هذا النحو، فذكر ابن عساكر في ترجمة يحيى بن معين في تاريخ دمشق: أن رجلًا جاء لـ يحيى بن معين وقال: يا أبا زكريا! أنا مستعجل، حدثني بحديثٍ أذكرك به، قال له: اذكرني إذ طلبت مني حديثًا فلم أفعل، وأبى أن يحدثه، وأبو بكر بن عياش أيضًا ورث هذه الشدة عن الأعمش، كان عسرًا جدًا، لا يكاد يعطيهم حديثًا، حتى إنهم قالوا له ذات يومٍ: يا أبا بكر! حدثنا بحديث، قال: ولا بنصف حديث، قالوا: حدثنا بنصف حديث، فقال لهم: اختاروا السند أو المتن؟ فقالوا: أنت عندنا اثنان، يعني: كبروه من أجل أن يحنّ عليهم، فقال لهم: (كان إبراهيم يدحرج) فقال الخطيب: فانظر إليه كيف أنه حدثهم بشيء لا ينفعهم. يعني ضن عليهم حتى في نصف حديث أن يحدثهم بشيء ينفعهم، فكانوا يربون، ما كانوا يعطون علمًا فقط، فلذلك إذا لزمت المشايخ تأدبت كثيرًا وراح عنك كثير من الأخلاق الجاهلية، ويظهر هذا في طلبة العلم لاسيما إذا تعددت مشايخهم؛ لأن الذي يلزم شيخًا واحدًا إذا وقع الشيخ في حفرة سقط وراءه، وكما قال الأول: الذي يقتصر على شيخٍ واحد كمن له زوجة واحدة، إذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها، وإذا مرضت مرض معها؛ أما الرجل الذي يعدد فليس كذلك، فكذلك الرجل إذا طلب العلم عن عدة مشايخ فإنه لا يستطيع أن يعرف خطأ شيخه الأول إلا إذا جالس شيخه الآخر، ولذلك ترى السماحة والإنفاق في البحث عند من له أكثر من شيخ أكثر ممن له شيخ واحد. فالذي له شيخ واحد يكون وراءه بقضه وقضيضه يقول بقوله، ويجمع جراميزه في سبيل نصر قول هذا الشيخ، بخلاف إذا كان له أكثر من شيخ، فطلب العلم على المشايخ مهم جدًا.

1 / 5

اختصار الوقت في الطلب من فوائد التعلم على المشايخ التعلم على شيخ يقصر لك العمر، ويختصر لك الوقت، في مجلس واحد يلخص لك كتابًا لو أنك قرأته وحدك لعلك تظل فيه شهرًا، ويحِل لك كثيرًا من الإشكالات؛ يعني مثلًا: مرت عبارة من العبارات في كتاب، كان قالها أحد الذين يردون على بعض العلماء، بعدما أبدى بعض الاحتمالات على دليل من الأدلة، فقال بعد أن ذكر ذلك: والقاعدة تقول: (إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال). فأنت تذهب وتفتش في الكتب عن هذه القاعدة، هل أفردها أحد بذكر فما تجد أن أحدًا أفردها بذكر، فكل دليل يمكن أن يطرقه الاحتمال، وكل دليل تستطيع أن تورد عليه أي احتمال، فهل إذا أوردت احتمالًا على أي دليل يسقط الاستدلال بالدليل، إذًا: لم يسلم لك من الأدلة شيء، فأي إنسان يقول: يحتمل أن الموضوع كذا وكذا، يحتمل كذا، ويحتمل كذا. إذًا: هذه القاعدة هل هي صحيحة أم غير صحيحة؟ ولو سلمنا أنها صحيحة فما هو الحد الفاصل في الاحتمال؟ ما هو الاحتمال الذي يسقط الاستدلال بالقاعدة؟ هل هو كل احتمال أم لابد له من وصف معين؟ هذه المسألة لن تجد لها حلًا إلا إذا كنت تدرس الأصول على شيخ، وكنت ذكيًا بحيث تمر عليك مثل هذه العبارات فتسأله وتناقشه، فيعطيك عصارة عمره في هذه القاعدة، وهذه القاعدة ليس لها فصل مفرد في كتب الأصول، ولكن هو من خلال استقرائه ومناقشته يعطيك ثمرة عمره، ولعله ظل السنوات حتى حصل على العشر كلمات التي أزجاهن لك في عشر دقائق. وأنت تطالع كتاب الفروق للقرافي أول فرق هو الفرق بين الشاهد والراوي، وقال: إنما بدأت بهذا الفرق لأني ظللت ثماني سنوات أطلبه، ولا أجد أحدًا من مشايخي يكفيني حتى وقفت على كتاب، ثم كتبها في نصف صفحة. فالنصف صفحة هذه تساوي ثماني سنوات من عمر القرافي، فالشيخ يقصر لك العمر، ولا زلت أذكر أنني في بداية طلب علم الحديث ما كنت أعرف أن هناك شيئًا اسمه مشايخ، ولا أن هناك شيئًا اسمه علم، ما كنت أعلم إلا أني قرأت أشياء، فقلت: هذا العلم من أين آتيه؟ فقالوا: عليك بكتاب الباعث الحثيث أو آخر مختصر عنه. لكن ما كنت أعرف أن هناك مشايخ ولا طلب وما دلني أحد، فجعلت أقرأ في الكتب وأنا لا أفهم شيئًا، نعم هو كلام عربي لكن لا أفهم شيئًا من هذا الكلام، فقلت: سأدخر هذا الكتاب إلى الإجازة الصيفية ثم أقرأ فيه، فجعلت أقرأ فيه ولا أفهم أي شيء، وأجهد نفسي حتى أخذ مني الحديث الصحيح نحو واحد وعشرين يومًا؛ حتى فهمت، وبعدما بدأت أقرأ في مصطلح الحديث بدأت أفهم معنى المصطلحات، والمسألة يسرت لي، لكن اعترضتني عبارة في حد الحديث الضعيف، وحتى أساعد نفسي على الفهم كنت آتي ببعض الأولاد الصغار من القرية الذين في الإعدادية وأشرح لهم، وإنما أشرح لنفسي؛ لأنهم لا يفهمون، فأنا آتي وأصلي بهم ثم أسلم وأشرح، والإنسان عندما يشرح يصبح عنده شيء من النشاط، ويتوقد ذهنه ونحو ذلك. فكنت أشرح لهم؛ لأنني لا أعرف أحدًا يدلني على هذا العلم، حتى جاءت هذه العبارة في هذا الكتاب، والضعيف: هو الذي لا يحتج به، والذي تقاعد به الجابر، والضعيف غير المنجبر هو الذي تقاعد به الجابر عن مرتبة الذي لا يحتج به، فما معنى (جابر) و(منجبر) و(تقاعد به)؟ فلم أفهمه قط، وكان موعد الدرس بعد العصر، فبعدما صليت الفجر جلست أفكر وآتي العبارة من اليمين والشمال لأفهم؛ لأني سأشرحها، وحاولت فهم العبارة ولكن دون جدوي، كانت مغلقة تمامًا، وكانوا يجلسون أمامي وأنا خجلان بيني وبين نفسي ماذا أقول لهم، فجعلت أقول: الحديث الضعيف والمنجبر وغير المنجبر والكلام واضح، وهو ليس واضحًا بالنسبة لي، فأنا أتكلم لعلها تأتي من هنا أو تأتي من هنا، فقلت: تعرفون (المجبراتي)، وأول ما نطقت بكلمة (المجبراتي) افتتح علي التعريف، فقلت: يعني هل عرفتم عظم الإنسان إذا كُسر، فيأتي بالعظم على بعضه ويجبره، حتى يرجع العظم إلى مكانه، فإذا لم تنفع الجبيرة فلا يستطيع هذا الرجل أن ينتفع بعظمه؛ كذلك الحديث الضعيف يجبر؛ لأن كل طريق من طرقه ضعيف، فإذا ضممت هذا إلى هذا إلى هذا فكأنما جبرته، فيعطيه نوعًا من القوة. فالحديث الذي لا ينجبر وهو شديد الضعف الذي تقاعد به الجابر، يعني: أن هذا الجبر لا ينفعه؛ فلذلك لا يحتج به، فتصور أني لو وجدت شيخًا في مطلع هذه الدراسة، وإنما عثرت على الشيخ بعدما قطعت شوطًا طويلًا في الكتاب، ثم بدأت أعرف أن هناك طلبة ومشايخ، ولزمت شيخًا من مشايخ المنوفية ﵀ ﵎. فلو أني وجدت شيخًا في أول العمر لكان لخص لي هذا العلم واختصر علي المدة في اللبة التي أنفقتها في معرفة الحديث الصحيح من الحديث الضعيف -وهي مجرد تعريفات فقط- فضلًا عن أن أصير متمرسًا في هذا العلم. فقراءتك على المشايخ يختصر لك العمر، ويصحح لك الفهم؛ لأنك ربما تقرأ فتقلب العبارة، ولذلك جرى على لسان كثير من العلماء التحذير من أخذ العلم من الصحف؛ لأن رب كلمةٍ تنقلب عليك، وأنت تنقلها على الخطأ وتفهمها على الخطأ بدون تدقيق لفظ وتدقيق معنى، وقد ذكروا في أخبار المصحفين أشياء مخجلة، وهي مخجلة مضحكة في آنٍ واحد. يذكرون أن رجلًا كان يحفظ كتاب الله ﵎ بدون شيخ، وتعرفون قديمًا أن الكتابة لم يكن فيها إعجام (لم يكن فيها نقط)، فالذي لا يتلقى القرآن على المشايخ يخطئ، فهذا الرجل كان هو أحفظ من في القرية، فزاره في القرية شيخ كبير ماهر، فدعاه للغداء عنده، فلما تغدى انتحى به جانبًا، وقال له: إني والحمد لله أقرأ من كتاب الله الشيء الكثير، لكن أشكلت علي بعض أحرف في الحمد -يعني: في الفاتحة- فقال له: وما أشكل عليك فيها؟ قال له: (إياك نعبد وإياك تسعين أم ستين)؟! -لأن (نستعين) إذا أزلت منها النقاط وأتى رجل لا يعرف شيئًا فسوف يقرؤها هكذا- فقال له: على كل حال أنا أقرؤها (تسعين) أخذًا بالاحتياط!!! ويروي أعداء حمزة بن حبيب الزيات -صاحب القراءة المشهورة، قراءة حمزة - عنه أنه لماذا لقب بـ الزيات؟ مع أنه ليس في لقب الأسرة لا زيات ولا زيت ولا أي شيء؟! قال: لأنه أول ما بدأ يقرأ القرآن الكريم قرأه وحده، وليس على شيخ فسمعه أبوه يقرأ ويقول: ألم، ذلك الكتاب لا زيت فيه، قال: قم، فالزم شيخًا، فلقبوه بالزيات، وأنا أقول أعداء حمزة لأنهم شنعوا عليه وعلى قراءته. أما في الحديث فحدث ولا حرج، فذات مرة سمع رجل ابن معين يقول: حدثني فلان عن فلان عن طاوس فقام ونفض نفسه، وقال: تحتجون علينا بالطيور، ما يعرف أن هناك رجلًا اسمه طاوس. ويقال: إن بعض الناس قرأ حديثًا عن النبي ﷺ قال: إذا أتى أحدكم إلى الصلاة فليأت بسكينة ووقار، فأراد أن ينفذ الحديث فأخذ سكينًا وفأرًا -وهذا حكاه لنا الشيخ المطيعي - فذهب إلى المسجد فقالوا له: ما هذا الذي جئت به؟! فقال: تنفيذًا للسنة! وما في الأحاديث قال: إن النبي ﷺ قال: إذا جاء أحدكم إلى الصلاة فليأت بِسِكّينَةٍ وَقَار! وإنما قال: (بِسَكِينَةِ وَوَقَار)، فصحفها. وهكذا أخبار التصحيف عار يلحق صاحبه، لاسيما في الأسماء التي لا يدخلها القياس. ولا أنسى محاورةً جرت بيني وبين بعض الناس في مسألة وضع اليدين قبل الركبتين، وهذه المسألة كانت منذ أكثر من عشر سنوات هي شغلي الشاغل، فلا أذهب إلى بلد إلا وأذكرها وكأنها من أصول الدين، فقلت: من ضمن الأشياء أن ابن عمر في مستدرك الحاكم كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: (إن النبي ﷺ كان يفعل ذلك) فقال: هذا الحديث مقلوب، قلت: ومن ادعى القلب فيه؟ قال الحاكم! فقلت: هذا غير موجود! فقال: هذا في المستدرك، ففتحنا المستدرك فإذا بـ الحاكم يقول بعد هذا الأثر: (وهذا الذي روي عن ابن عمر القلب إليه أميل)، فالقلب إليه أميل يعني: قلبه يميل إليه، فأين القلب في هذا، فقال: القلب يعني الحديث مقلوب، أي: أنه انقلب على راويه، فبدل أن يقول: الركبتين قبل اليدين، قال: اليدين قبل الركبتين، فقلت: سبحان الله! أنت تذكرني بالشيخ الذي مر على قارئ يقرأ: فخر عليهم السقف من تحتهم!! فقال: لا عقل ولا قرآن!! لأن السقف لا يكون إلا من فوق، فكيف يخر عليهم السقف من تحت، فلا عقل ولا قرآن. فهذا الرجل يقول: (والقلب إليه أميل) فهل يعني هذا أنه مقلوب؟ فالحضور على الشيخ يقيك من مثل هذا الفهم الخطأ، سواء كان فهمًا أو تصحيفًا جليًا. وقرأت لبعض الناس، وهو يبدو من الذين انتحلوا نحلة الخوارج في حديث النبي ﷺ: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، يقول: هذا الحديث ليس معناه أهل الكبائر الذين يرتكبون الكبيرة من الذنب، وإنما الذين يفعلون الكبيرة من الطاعات، ومنه قول الله ﵎: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة:٤٥]، فهذا هو المقصود بالكبيرة في الحديث، فأهل الكبائر هم: أهل الصلاة والزكاة والحج، يعني الأعمال الكبيرة من أعمال البر والطاعات. فإذا قرأ رجل مثل هذا الكلام ولم يكن له شيخ يصححه وقع في مثل هذه المتاهات، وأخذ العفن الموجود في الكتب؛ لأنه لا يميز، وليس عنده شيخ يقول له: هذا صحيح، وهذا غير صحيح.

1 / 6

تحديد المنهجية في انتقاء الكتب من الأسباب المعينة على الاستفادة منها ما هو السبيل إلى الانتفاع بالكتب وهي كثيرة؟ لأنك إذا دخلت في الكتب على غير منهج تفارق عليك أمرك، فأفضل وسيلة بعدما تأخذ قدرًا من العلم وهذا كلام موجه إلى من انتهى من الفرض العيني ويريد أن يتخصص، يعني كلامنا ليس للذين يطلبون الفرض العيني، فأفضل وسيلة أن تأتي لكل فن من الفنون بأفضل كتابٍ وأشده تحريرًا، وتبدأ تخدم هذا الكتاب وتقرؤه بتمعن، فافترض مثلًا أنك تبنيت كتابًا فقهيًا، فتأخذ -على سبيل المثال- نيل الأوطار، أو سبل السلام -وله متن أيضًا- على أساس أنه من أقصر الكتب وأفضلها. فكيف تنتفع بكتاب سبل السلام؟ الذي يعتمد فقه الدليل، فيأتي لك بالدليل ثم يأتي لك بالفوائد المستنبطة منه؟ عليك أن تفعل الآتي: فمثلًا أول حديث في كتاب سبل السلام، حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال في ماء البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته). فيبدأ يأتي لك بكلام أبي بكر ابن العربي، فيقول لك: وهذا من محاسن الفتيا، الذي يسميه العلماء الجواب الحكيم، وهو أن يزيد المفتي في كلامه على حاجة السائل، فأنت تحرر هذا الكلام في دفتر خارجي: أن يزيد المفتي على حاجة السائل في الجواب، ثم تبدأ بجمع أدلة وأحاديث تقابلك تحت هذا المعنى، وكل حديث يقابلك أن النبي ﷺ زاد للسائل في الجواب، تأخذه وتضعه في مكانه، وهذا لا يتأتى لك بمرة أو مرتين أو ثلاث، ولكن تظل طيلة عمرك وأنت تجمع في هذا الشيء، فقد تمر عليك عشر سنوات ولم تجمع سوى عشرة أدلة فقط؛ لأن قراءتك متناثرة متنوعة، فكلما وقفت على فائدةٍ تنفعك في هذا الموضع وضعتها، ولعلكم جربتم كم من الفوائد مرت عليكم واستملحتموها لكن حرتم أين تضعونها، فيقول أحدكم: ما مكانها حتى أستحضرها إذا أردتها، لكن لما لم يكن لك منهج في الكتب فقدت الفائدة، فإذا احتجتها ندمت عليها، وقلت: ليتني كتبتها، لكن إذا كتبتها فلن تنتفع بها إذا لم يكن لك منهج. فتنظر في كل الاعتراضات على كل حكم من الأحكام في الكتب الفقهية، أي: عندما تقرأ كتاب أدب المفتي والمستفتي تجد قول العلماء: لا ينبغي للمفتي أن يزيد على حاجة السائل في الجواب، ويجعلون هذا من سوء الأدب، فأنت تفاجأ بهذا الكلام، إذا سبق عند كلام أبي بكر بن العربي أن الزيادة في الجواب على سؤال المستفتي من الجواب الحكيم. فإياك أن ترد كلام الفقهاء وتقول: لا. هذا الكلام بخلاف القاعدة، وعندنا الأحاديث ترد هذا الكلام، فالمسألة أهون من ذلك، فلو أنك تمعنت قليلًا لعلمت أنه لا منافاة بين هذا ولا ذاك. فعليك أن تبحث عن جواب تخرج به قول الفقهاء الذين يمنعون، وتجمع بينه وبين قول أبي بكر بن العربي والأحاديث التي فيها أن النبي ﷺ زاد في الجواب عن حاجة السائل؛ لأنه قال للسائل لما سأله عن ماء البحر، قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، مع أن الرجل لم يسأل: هل ميتة البحر حلال أم لا؟ لكنه زاده حل ميتة البحر؛ لأنه إذا كان استشكل على السائل طهورية ماء البحر فاستشكاله لميتته أولى وأشد، فلعله يستشكل ميتته وهو رجل يركب البحر، فيحتاج إلى أن يصطاد، فيقول: إن هذا داخل في جملة الميتة فلا آكله. إذًا: النبي ﷺ إنما قال له هذا الحكم ليستحضره وينتفع به، فيحمل كلام العلماء على أن الزيادة في الجواب تشوش على السائل -يعني: لا تنفعه- وإنما تشوش عليه، كأن يسأل عن مسألة من المسائل: كالقراءة خلف الإمام، أو التكبيرات الانتقالية يرفع فيها أم لا، أو النزول على الركبتين واليدين، فيقول له المفتي: فيها أقوال: أما القول الأول: فقد قال فلان وفلان وعلان، واعترضوا عليه بكذا، ولم يكن ذاك الدليل صريحًا في المسألة والقول الثاني: فيه وفيه، فالرجل في الأخير لا يفهم شيئًا، ويقول: ثم ماذا؟!! يعني: أقرأ أو لا أقرأ؟ أرفع أو لا أرفع؟ لأنه ما استطاع أن يحصِّل جوابًا من خلال هذه الأجوبة الكثيرة. فهذا هو الذي يمنع منه المفتي، فإذا زاد زيادةً تشوش على السائل فلا ينبغي له أن يزيد، وعلى هذا ينزل كلام العلماء الذين منعوا المفتي من أن يزيد. فعندما تتبنى تفصيل الكتب بهذه الطريقة تكون فقيهًا ضليعًا، فكل مسألة لها عندك أدلة كثيرة، بخلاف ما إذا اقتصرت على الدليل الوارد في كتاب الأصول، فلو سلمنا أنك قابلت رجلًا أمهر منك في هذا العلم، فقال لك مثلًا في علم الحديث: نريد أن نعرف الفرق بين الشذوذ وزيادة الثقة، فتقول له: نعم، هناك فرق، وتضرب له مثالًا أو مثالين فيهدم لك هذه الأمثلة، ويقول لك: ليس لك فيها حجة لكذا وكذا وكذا هات أمثلة أخرى، فتقف أنت عند هذا الحد!! لماذا؟ لأنك لا تحفظ إلا الموجود في الكتب، بخلاف ما إذا كنت تبنيت هذا المنهج، وكلما مررت بحديث ووصفه العلماء بالشذوذ وضعته بجانب، فيصير عندك في بحث الشاذ مائة أو مائتين مثلًا، فإذا هدم لك دليلًا أتيته بثانٍ وثالث ورابع وخامس وسادس. أضف إلى ذلك أنه بكثرة الأمثلة يتضح الفرق، ولذلك أكثر الذين يخطئون في التفريق ما بين الشذوذ وزيادة الثقة بسبب أنهم لم يمارسوا ذلك عمليًا، والفرق بين المفهومين دقيق جدًا يحتاج إلى كثرة أمثلة لكي يتضح. مثاله: حديث التحريك بالسبابة في التشهد، فالبعض يقول: يحركها وآخرون يقولون: لا يحركها، هذه هي المخالفة؛ إنما هل زائدة خالف فعلًا، أم تفرد؟ الواقع أنه تفرد، ولذلك ابن خزيمة ﵀ لما روى هذا الحديث في صحيحه، قال: (خبرٌ تفرد به زائدة) ولم يقل: شذ؛ لأن هناك فرقًا بين التفرد والشذوذ، فمطلق التفرد ليس لعلة، وإنما ينظر في حال المتفرد: فإن كان ثقة ثبتًا أمينًا يقبل تفرده، وإن كان ضعيفًا يرد عليه تفرده، مثل حديث عبيد الله العمري الضعيف في أن النبي ﷺ سُئِل عن الرجل يجد البلل في ثوبه ولا يذكر احتلامًا، أو الرجل يذكر احتلامًا ولا يجد بللًا، وهذا الحديث فيه أن النبي ﷺ قال: (إذا رأى بللًا ولم يذكر احتلامًا يغتسل، وإذا ذكر احتلامًا ولم يجد بللًا لا يغتسل)، فجعل مناط الأمر رؤية البلل. فتفرد عبيد الله العمري بهذا التفصيل: (إذا رأى البلل وإذا لم يره)، في حين أن الذين رووا هذا الحديث لم يذكروا هذا، فهو تفرد بهذا التفصيل فيرده العلماء عليه، دليل على أنه ضعيف. إذًا: التفرد ليس بعلة، فـ ابن خزيمة لاحظ هذا، فلم يقل: شذّ، وإنما قال: تفرد. مثاله: حديث رواه جماعة منهم الطفيل بن سعيد وعمرو بن علي الفلاس وغيرهم عن حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك ﵁، (أن النبي ﷺ أُتي بإناء رحراح -والرحراح هو الواسع- فوضع يده عليه، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه)، قلت: إنه روى جماعة عن حماد بن زيد، فقالوا: (بإناء رحراح)، روى هذا الحديث أيضًا أحمد بن عبدة عند ابن خزيمة عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس؛ لكنه قال: (في إناء زجاج) ولم يقل: (رحراح)، قال الحافظ ابن حجر: حكم جماعة من الحذاق على أحمد بن عبدة أنه صحفه، أي: رحراح وزجاج حصل فيه تصحيف. ابن خزيمة ﵀ لم يسلك هذا المسلك؛ لأن الجمع أولى من الترجيح، فلا نرجح إلا مع عدم إمكان الجمع، فقال ابن خزيمة: والرحراح هو الواسع من إناء الزجاج لا العميق منه، فجمع بين الروايتين، فما هو المانع، فيحمل على أن هؤلاء رووا هذا الحديث، فقالوا: (رحراح) فذكروا صفته، أما أحمد بن عبدة فذكر جنسه، فهو إناء زجاجٍ رحراح، وهذا أولى من توهين الثقة لغير حجة، فنحن هنا لا نستطيع أن نقول: إنه شذ، لكن نقول: إنه تفرد بقوله: زجاج، ولا منافاة بين هذه الرواية وبين رواية الذين قالوا رحراح؛ لإمكان الجمع بينهما. كذلك حديث زائدة بن قدامة عندما قال: يحركها، وهم قالوا: يشير بها، فالجمع بين الروايات المتناثرة يلزمه على الأقل إتقان بحث التعارض والترجيح لأصول الفقه؛ لأن هذه المتون تحتاج إلى قوانين لضبط الفهم والاستنباط، إذ حققت أن زائدة ثقة ثبت كان يعيد السماع ثلاث مرار، لم يغمزه أحدٌ قط بوهن، فإن لم تقبل زيادة هذا فمن الذي تقبل زيادته، فهنا: هل هناك منافاة بين الذين قالوا: يشير، وبين زائدة عندما قال: يحركها، لا؛ لأن الإشارة تجامع التحريك غالبًا، ولا نقول: دائمًا، لماذا؟ لأن الإنسان قد يشير ولا يحرك، فمثلًا لو سأل سائل: أين فلان؟ تقول: هو ذاك، فأشرت ولم تحرك، لكن الإشارة تجامع التحريك غالبًا، وإن أبيت أنها تجامع التحريك غالبًا فهي تجامع التحريك، ذلك أنك إذا أشرت ولم تحرك راح المعنى الذي تريده من الإشارة، فإنك إذا قلت لرجلٍ: تعال! تشير إليه، فماذا عساك أن تفعل، تقول: تعال! وتحرك عندما تشير، ولا يتصور أنك لو قلت له: تعال! أنك لا تحرك، فما يفهم الذي تريد إلا إذا قرنته مع الإشارة بالتحريك، وإذا قلت: اخرج! أو قم! أو تعال! لا بد من التحريك في هذه المسائل. فالإشارة لا تنافي التحريك، فما هو المانع أن يكون هؤلاء ذكروا الإشارة أنه إذا جلس في التشهد أشار بالسبابة، ثم ذكر زائدة بن قدامة التحريك، ولا منافاة بين هذا وذاك، فهذا الجمع أولى من أن نواسي زائدة بن قدامة وهو ثقة ثبت لا مجال لتوهيمه. إذًا عندما تورد مثل هذه الأمثلة، وتجمع كل ما مر بك من الأمثلة على هذه المسألة وتضعه في مكانه، فيصير عندك بكثرة الجمع قناعة أن الشذوذ لابد أن تتوفر فيه المخالفة، والمخالفة لا تتأتى مع إمكان الجمع، فلو أنك وأنت تقرأ كتب الأصول كان هذا في ذهنك، وكل فائدة تقرؤها في الكتب توظفها لهذه الفنون؛ ستخرج بع

1 / 7

تصنيف الفوائد بعد تقييدها مما يعين على حفظ العلم إن قلت: هذه الكتب الكثيرة كيف أنتزع منها الفوائد؟ نقول: يجب أن يكون عندك طريقة منظمة في قراءة الكتب، وهذا على حسب اهتمامك، فمثلًا تقرأ في السير مثل سير أعلام النبلاء، فكلما مر بك تعليق لطيف للذهبي أو موقف من أحد العلماء في السلوك أو في الفتوى أو في الخوف أو في الورع أو في هذه الأشياء تدونه في بصورة مختصرة، وتكتب له عنوانًا مناسبًا ملائمًا، حتى إذا أردت هذه الفائدة تستطيع أن تصل إليها. فمثلًا: تقرأ في ترجمة عبد الله بن وهب قال: نذرت أنني كلما اغتبت إنسانًا أصوم يومًا، فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم، نذرت أنني كلما اغتبت إنسانًا أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة. فتأتي وتكتب على هذا المقطع: الإخلاص، أو أن الرجل إذا أخلص لا يهمه المدح والذم، فيستوي عنده المدح والذم، أو تقول مثلًا: هضم حظ النفس، لأن هذا فضح، والعادة أن الإنسان دائمًا يكثر من ذكر نفسه بالجميل، لكنه فضح نفسه، فتعمل عدة عناوين لمثل هذه الفائدة وتضعها في بطاقة، وتكتب: (سير أعلام النبلاء، الجزء كذا، صفحة كذا). وتمر مثلًا فتجد في ترجمة الدارقطني يقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له، فهذه أيضًا تفيد الإخلاص، فأصبح عندك مثالين في الإخلاص. وعندما تقرأ الكتاب ستكتب كلمة الإخلاص عشرين أو ثلاثين مرة، وفي نفس الوقت تكتب: كيف نعامل الشيطان، أو أي عنوان آخر مثلًا، وما وجه معاملة الشيطان في قصة ابن جريج؟ وتتمثل معاملة الشيطان في أن كثيرًا من الطلبة ينصرفون عن العلم، يقول: أنا أخشى أن يقال عني: فقيه أو عالم فيحبط عملي، فنقول له: إن الدارقطني قال: طلبنا العلم لغير الله، أي: أنه لما كان حديث عهد بالطلب، ولم يكن عنده من فقه العمل شيء، لما طلب العلم طلبه من أجل أن يقال: الدارقطني المحدث الفقيه؛ لكن لما كان عنده من الإخلاص في الجملة صار كلما قرأ حديثًا انتفع بما فيه، فنفعهُ الله بهذا في الإخلاص، حتى صار فقيهًا وصار مخلصًا إلخ. فإذا وجدت في نفسك صدودًا عن هذا العلم خوفًا من أن يكون من الرياء؛ فاعلم أن الشيطان يريد أن يصدك من هذا الباب، فتستخدم هذه في الرقائق والدروس. وتمر مثلًا على جرح الأقران: فتجد أن قرينًا جرح أخاه، مالك يقول في فلان من أقرانه: دجال من الدجاجلة، فتكتب أن جرح الأقران لا يضر، وبعدما تنقل فوائد هذا الكتاب تأتي بالبطاقات، وتضع كل عنوان مشترك مع أخيه، فتضع الإخلاص مع بعضه، وجرح الأقران مع بعضه، وهكذا فاقرأ الكتب على هذا الاعتبار، ستجد بعد نهاية القراءة أنه أصبح عندك بطاقات كثيرة في موضوعٍ واحد، ثم تبدأ بتصنيف هذه الموضوعات: فإذا أردت أن تتكلم عن الإخلاص فلديك بحر من الأمثلة، فأنت بهذه الصورة تكون قد استطعت توظيف هذه القراءة إذا كنت خطيبًا، أو مدرسًا، أو مؤلفًا، تستطيع أن تطعم كتبك أو تطعم دروسك بما يحار الإنسان في إيجاده من تلك الأمثلة والنكت. وإذا قرأت كتابًا في الحديث ككتاب التهذيب فتجد أحيانًا تنبيهًا على بعض مصطلحات العلماء، أو تقرأ في كتاب مثل علل الحديث لـ ابن أبي حاتم فتقف على أشياء لا تقف عليها أبدًا إذا اقتصرت على كتاب من كتب أهل العلم، يعني: هناك شيء اسمه كلمات الثناء التي ظاهرها الجرح، فإذا لم تقف على أصل مغزاها حكمت على ظاهرها، فيكون خطأً، فمثلًا في ترجمة إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي في تهذيب التهذيب آخر كلمة في الترجمة ذكرها الحافظ ابن حجر، قال: وذكر عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: إسرائيل لص يسرق الحديث. فكلمة يسرق الحديث معروف أنها جرح، فإذا ذهبت لكتاب ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل فتجد العبارة بخلاف ما فهمت، فـ ابن أبي حاتم رواها عن أبي بكر بن أبي شيبة وليس عثمان، وعثمان أقوى من أبي بكر وأبو بكر أوثق الرجلين، فرواها عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: كان إسرائيل في الحديث لصًا، وليس هناك (يسرق)، فقال ابن أبي حاتم: أي: يتلقف العلم تلقفًا، إذًا: هذا مدح؛ كما أن اللص إذا دخل تلقف؛ لأنه مستعجل، فهذا إسرائيل بن يونس يتلقف العلم تلقفًا، وكما أن السارق إذا دخل انتقى الجيد من المتاع؛ ما خف وزنه وغلى ثمنه، فكذلك إسرائيل ينتقي حديث مشايخه، فترى أن الحافظ ابن حجر روى الرواية بالمعنى، فسواءٌ كان الحافظ هو الذي ذكرها أو عثمان بن أبي شيبة هو الذي ذكرها بالمعنى فقد أفسد الكلام، فبوقوفك على هذا تكون قد وقفت على فائدة، لكن إن لم تقف على هذه الفائدة فمن الممكن أن تقول في أي حديث مثلًا: ولكن إسرائيل يسرق الحديث، فتتهم الرجل ولا تهمة عليه. كذلك في كتاب علل الحديث لـ ابن أبي حاتم كلمة في ترجمة إسماعيل بن أبي رجاء خلت منها كتب التراجم وهي أن شعبة سئل عن إسماعيل بن أبي رجاء فقال: ذاك شيطان!! والشيطان لا يفهم منه إلا الذم، فقال ابن أبي حاتم: يعني من حسن حديثه. يعني: هل رأيت الجن عندما تأتي بالخوارق، حتى إنهم ذكروا أن يحيى بن معين قال في راوٍ: أظن أن أباه تزوج بجنية؛ لأنه كان صاعقة في الحفظ، يعني هذا الحفظ ليس لآدمي، فيقول إسماعيل بن أبي رجاء شيطان، يعني: من حسن حديثه، فلولا هذا التخصيص لقلنا: إنه شيطان، وقال شعبة: إنه شيطان! فإذا نظمت هذه الفوائد وعرفت كيف تجمعها في بطاقات سلِم لك جمعك، لكن عندما تقرأ على غير هدى، وليس عندك خطة في الكتب فتمر بك الفائدة فتستملحها، ولكن تحتار أين تضعها؟ وكيف تحفظها؟ حتى إذا احتجت إليها أخذتها. إذًا: لابد من القراءة المنهجية في أي كتاب وأي فن، وهذه الطريقة هي أسلم الطرق، وهي أن يكون لك منهج في قراءة الكتب كلها، فتمسك بالكتب كتابًا كتابًا وتقرأ، فما مر بك كتبته بعنوان يناسبك، حتى وإن خالف عنوان الكتاب، المهم أن يناسبك أنت حتى إذا أردت أن تستحضر هذه المادة استحضرتها، وهذه هي أجود وسائل الطلب واستخراج الفوائد من الكتب، وجرب هذه الطريقة ستجد أنك بفضل الله ﵎ ستحصِّل فضلًا غزيرًا لم يخطر لك على بال، والله أعلم.

1 / 8

الأسئلة

1 / 9

استحباب خروج طالب العلم إذا لم يجد من يعينه على الطلب في بلده الذي يسكنه السؤال: ما العمل في حالة عدم وجود طالب علم متمكن في العلم في المنطقة التي أعيش فيها لآخذ عنه؟ الجواب لن يعدم؛ لأنه من غير الممكن ألا يكون في المنطقة كلها طالب علم جيد، لا نقول: إنه شيخ، والإنسان إذا فقد الماء فليتيمم، أي: يستفيد من خبرة من سبقوه في هذا المضمار في تذليل بعض الصعوبات التي تواجهه، وإلا فيستحب لمثل هذا أن يرحل لطلب العلم، وطبعًا لا يفعل هذا إلا رجلٌ نذر نفسه لأجل هذا الدين، أي: يستهين بالمصاعب في سبيل الله، أما أنه يجد لنفسه الأعذار ويقول: أنا لا أستطيع، وعندي من الشواغل كذا إذًا: فليترك هذا العلم، لكن الدراسة على المشايخ فيها الفوائد العظيمة.

1 / 10

عدم بذل العلم لمن لا يستحقه لا يعد من كتمان العلم المنهي عنه السؤال ما نقلته عن الأعمش رحمه الله تعالى هل هو من الشرع النبوي في معاملة الشيخ لتلاميذه؟ أليس في هذا شيء من كتم العلم؟ الجواب لم يكتم علمًا، بدليل أنني قلت في مطلع الكلام: إن دواوين الإسلام مليئة بحديث الأعمش، لكنه كان بعد أن يشتد عليهم يعود فيحدثهم، ونسيت أن أذكر في هذا الكلام أنه بعد أن يشتد عليهم ويعود ليحدثهم كان يقول: لو كنت بقالًا لاستقذرتموني؛ -لأنه كان في عينيه عمش- إنما رفعني الله بهذا العلم، فهو كان يحدث، وما كان يكتم علمًا، ولكن كان يؤدب. فالأخ يقول: نخشى أن يقوم بعض الشباب بنفس هذه الأفعال، فيقال: لا. نحن ضربنا المثل بهذا لنعلل لماذا كان يسلك هذا المسلك، وإلا فلكل مقامٍ مقال، وأحيانًا بعض الناس لا ينفع معه إلا الشدة، وبعضهم لا ينفع معه إلا اللين، فكلما كان هناك إقبال على الشيخ وكان طلابه يحتملون منه جاز له أن يفعل مثل هذه الأشياء، لكن إذا كان الإنسان متروكًا، أو ليس له تعظيم في قلوب الناس إذا عمل هذا العمل تركه الناس، فالإنسان يستخدم ما يسميه المتقدمون بالفقه النفسي والله أعلم. مداخلة: هل يقال في هذا: إنه من باب عدم إذلال العلم؟ الشيخ: نعم. فيما مضى كان العلماء يتعففون أن ينتقلوا بكتب العلم إلى أحد، حتى إن الإمام البخاري لما قال له الأمير عبد الله بن طاهر: إني أريدك أن تقرأ كتابك على أولادي -يعني: كتاب التاريخ الكبير وكتاب الصحيح- فقال: إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كان لأولادك حاجة فليأتوني في المجلس، قال: يأتوك ولكن خصهم بمجلس! قال: لا أخصهم بشيء دون المسلمين، فإن شئت فامنعني حتى يكون لي حجةٌ عند ربي. والإمام البخاري يقول هذا الكلام في عز دولة العلم، وكان الأمراء يوقرون أهل العلم؛ لكن الآن أنت تحمل علمك على كتفك، وتترصد الطلبة لعلهم يقبلون منك، وهذا بسبب اختلاف الأحوال، فلو وضع الإنسان رجلًا على رجل، وقال: من أراد العلم فليأتني فلعله يفوت الناس الكثير، فهو يأخذ هذا العلم ويمضي به إلى الناس يعلمهم، وطبعًا اختلاف الأزمان والبيئات له علاقة في الحكم بلا شك.

1 / 11

القول المجمل في حكم حديث شهر بن حوشب السؤال ما هو القول الصحيح في شهر بن حوشب هل يحسن حديثه أم لا؟ الجواب القول المجمل أنه يحسن حديثه إلا في المخالفة، يعني: هو حسن الحديث كـ محمد بن عمرو بن علقمة.

1 / 12

قبول زيادة الثقة لا يكون على الإطلاق السؤال هل زيادة الثقة مقبولة على الإطلاق؟ الجواب لا. إنما تقبل بشروط، ليس هناك شيء اسمه على الإطلاق، كل شيء مقيد، فزيادة الثقة لا تكون مقبولة على الإطلاق إلا عند الأصوليين والفقهاء، لكن عند أهل الحديث لا يقبلون الزيادة على الإطلاق.

1 / 13

ضابط الجمع والترجيح بين الروايات السؤال هل الجمع بين الروايات لازم، أم لابد من توافر ضوابط معينة لذلك؟ الجواب مثلما ذكرنا في المثالين، مسألة تحريك الإصبع ومسألة الإناء الرحراح والإناء الزجاج، فذكرنا الضابط وهو ألا تكون هناك مخالفة، فإذا تحققت المخالفة وتعذر أو استحال الجمع ففي هذه الحالة لابد من الترجيح بالحكم على إحدى الروايتين بالشذوذ إن كان راويها ضعيفًا.

1 / 14

الأحوال التي يقبل فيها جرح الأقران السؤال هل جرح الأقران بعضهم بعضًا يغض من قدرهم، بغض النظر عن أسباب الجرح؟ الجواب لا. جرح الأقران لا يقبل إذا لاح أنه لعصبية أو هوى، إنما لو تكلم سني في صاحب بدعة فهذا مقبول منه، لأن هذا من باب البيان والتبليغ، ولا يقال: إن الحامل له على أن يتكلم فيه هو أنه من أقرانه، وإنما إذا لاح أنه لعصبية أو هوى فهذا الذي يرد، أما لغير ذلك فلا.

1 / 15

اعتبار الصحيحين أصح كتابين بعد كتاب الله لا ينفي وجود أحاديث ضعيفة فيها السؤال تلقت الأمة الصحيحين بالقبول، فماذا يقال لمن ادعى أنهما يحويان أحاديث ضعيفة؟ الجواب أما عامة الناس فلا أظن أن لهم شغلًا في هذا الفن، وإذا قصد أن بعض المتخصصين أو من لهم أهلية تكلموا في بعض أحاديث الصحيحين؛ فيناقش كل إنسان تكلم، يعني: المسألة تكون مسألة علمية؛ لأنه ليس هناك من ادعى العصمة لكتاب البخاري ومسلم بحيث أنه لا يناقش في لفظة من ألفاظ الكتاب، ما قال بهذا أحد والحمد لله، ومن قال به فهو غالٍ، لكن ينظر في دعوى المدعي، فمثلًا: إذا كانت الدعوى قوية لاسيما وأن هذا المتأخر كان مسبوقًا إليها، ومع ذلك فنحن لا نفتح الباب لكل من يريد الكلام في الصحيحين، فكلام الجهلاء غير مقبول، وإنما كلامنا الآن في أهل الفن، الذين هم أصحاب القواعد وأولى الناس بالكلام في الصحيح والضعيف، فحينئذٍ ننظر إلى ما جاءوا به، فإن كانت أشياء غير مقبولة رددناها، مثلما فعلنا في حديث ابن عباس في صحيح مسلم لما قال أبو سفيان للنبي ﵊: يا رسول الله أعطني ثلاثًا؟ قال: نعم، فكان منها: (وأن أزوجك أم حبيبة أجمل العرب) فتكلم العلماء وقال الذهبي: إن هذا منكر، لماذا؟ لأن أم حبيبة تزوجت النبي ﷺ قبل أن يسلم أبو سفيان بدهر، حتى ثبت أنها طوت البساط من تحته وما تركته يجلس على بساط النبي ﷺ، فكيف يقول: (أزوجك أم حبيبة)، فالعلماء أجابوا بعدة وجوه واستضعف هذه الأوجه كلها ابن القيم. لكن إذا اتهم على هذه الجزئية بنكارة لمخالفتها ما هو معلوم في السيرة بالاطراد وهو أن النبي ﷺ تزوجها قبل إسلام أبي سفيان فإنما نحكم على هذه الجزئية دون غيرها، هذا إذا لم نستطع أن نأتي بوجهٍ غير مقبولٍ من وجوه الجمع، وإلا فالأصل إن استطعنا أن نجمع ما بين هذا وما بين الروايات الأخرى التي ظاهرها التناكر بوجه من وجوه الجمع المعتبرة؛ فهذا الذي يشار إليه، ولا ينبغي أن يصل إلى الترجيح إلا مع تعذر الجمع أو استحالته.

1 / 16

أسباب تثبيت الحفظ لطالب العلم السؤال هل صح أنه يوجد دواء يساعد على الحفظ ويقوي الذاكرة؟ الجواب سُئل الإمام البخاري ﵀ وقد قيل: إنه يتعاطى دواءً يثبت الحفظ فسأله ابن أبي حاتم الوراق عن ذلك وعن قول الناس؟ فقال: ما أعلم شيئًا من ذلك إلا نهمة الطالب ومداومة النظر، يعني: الرغبة الشديدة لطلب العلم مع مداومة النظر، فهذا الذي يثبت الحفظ، والله أعلم.

1 / 17

اشتغال السلف بطلب العلم مع عدم تقصيرهم في السعي لطلب الرزق السؤال هلا علقتم على قول البعض: كيف نفعل فعل السلف في الطلب مع مشاغل اليوم الكثيرة، وقد نقل عن الشافعي قوله: لو كلفني أهلي بشراء بصلة لما طلبتُ العلم. الجواب أولًا: هم كانوا في الشغل أكثر منا، بل لم يكن عندهم من الفراغ وسهولة الحركة مثل ما عندنا في حياتنا اليوم، أي: أنت تستطيع الآن أن تصل إلى أبعد بلاد الدنيا في ساعات قليلة، بينما هو إذا خرج من بلده ولتكن مصر مثلًا أو الشام، أو كان مثلًا من بلاد الأعاجم وأراد أن يصل إلى مكة والمدينة كان يقضي شهورًا، وأنت الآن تقطعها في ساعات، فهذا الوقت المختصر ماذا تفعل به؟ لا شيء، فهم كانوا أكثر شغلًا منا، وكانوا مع ذلك أرق حالًا منا، لكن المسألة تتوقف على الهمة. وقول الإمام الشافعي لو صح عنه يشير إلى أن المرء لو اشتغل بالمعاش عن العلم، ولكن هل كان الإمام الشافعي عاطلًا، ما كان يعمل شيئًا قط؟ كان الإمام الشافعي يسعى في معاشه، لكن كان يختصر غالب حاجاته ويستغني عنها لطلب العلم، فتجد أنه قد يقصر في حظ نفسه، وفي جلب الطعام الجيد والفراش الوثير وهذه الأشياء لطلب العلم. وأذكر في هذا العصر للشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، أنه قال: إنه كان لديه محل ساعات، ولكن كان يعمل في اليوم ساعة واحدة أو ساعتين، بمقدار ما يعيشه ذلك اليوم، ثم يغلق المحل وينطلق إلى المكتبة الظاهرية، فيقضي فيها عامة يومه ولا ينقلب إلا قرابة نصف الليل. لكن عندما يكون للإنسان مطامع، يريد أن يحسن هنا ويفعل هنا وكذا ما تفقه، فلعل قول الإمام الشافعي يحمل على أن المرء إذا جعل همته في طلب الدنيا لا يفلح في طلب العلم. فلو أن أحدنا يسعى في معاشه كل يوم ثماني ساعات، فيبقى عنده ثماني ساعات ينام فيها، ويبقى له ثمان ساعات، فلو كان عنده ذهن وإقبال ونهم فهذه الساعات تكفيه.

1 / 18

صحيح البخاري إن ما نشاهده اليوم من تفلت ديني، وتولية زمام الأمور غير أهلها، وانتشار الجهل في الدين، وإحياء البدع وإماتة السنن لهو مصداق لحديث رسول الله ﷺ عندما أخبر أن من علامات الساعة ضياع الأمانة، وتوصيد الأمر إلى غير أهله سواء أمر الولاية أو أمر الإفتاء والعلم والدعوة، أو أمر الحكم والقضاء، فبهذا كله ينتشر الفساد والظلم، ويفشو الجهل، وتكثر الفتن، وتقوم الساعة بعد ذلك على شرار خلق الله ﷾.

2 / 1

شرح حديث أبي هريرة في سؤال الأعرابي عن الساعة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال الإمام البخاري ﵀: باب (من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل) حدثنا محمد بن سنام قال: حدثنا فليح ح وحدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي قال: حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: (بينما النبي ﵌ في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله ﷺ يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله! قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). وهذا الحديث رواه الإمام البخاري أيضًا في كتاب الرقاق من حديث محمد بن سنام عن فليح بن سليمان.

2 / 2