فيا موقدا نارا لغيرك ضوءها
ويا حاطبا في غير حبلك تحطب
أي فلان، إن للصحافة رجالا، وللسياسة أبطالا طرقوا
16
لها إلى الضمائر، وتناولوا بها ما وراء السرائر، فسددوا الكلام كما تسدد السهام، وبلغوا بالمقال ما لا تبلغه النصال، يعجبونك
17
فتعجب، ويستغضبونك فتغضب، فهم ملوك الأفكار ينقشون في النفوس ما نقشوا في الطروس، ويودعون في الصدور ما أودعوا في السطور، وهم كما قال صاحب كليلة: «يحقون الباطل ويبطلون الحق، كالمصور الذي يصور في الحائط صورا كأنها خارجة وليست بخارجة، وأخرى كأنها داخلة وليست بداخلة.» فأين أنت من رجال إذا استلوا أقلامهم ثلوا العروش الراسية، وإذا أرسلوا بيانهم عطفوا القلوب القاسية، تجري على أسنة أقلامهم أرزاق البائسين، وتسبح في قطرات مدادهم آمال الراجين، تبتدر الأسماع ما يقولون، وتنهب الأبصار ما يكتبون، فما أنت يا ولدي في الرأس منهم ولا الذنب، ولا علمك من ذلك العلم، ولا أدبك من ذلك الأدب، ولكن تأنق الشيطان لك في تزيين الضلال، وألقى في أمنيتك أن تصبح من رجال هذا المجال، فساقك إلى نحسك ونكسك، ووجد له منك معينا على نفسك، فأخرجت للناس تلك الصحيفة، ثم جعلته لك فيها خليفة، فما فتئ يملي عليك وهو جاث بين كتفيك، حتى أصبحت أشد سوادا من صحيفة أبي لهب، وأظلم ممن افترى على الله الكذب، فأتعبت الكرام الكاتبين، وأحرجت الكتبة الراشدين، وشد منك إقبال العامة وسكوت الخاصة، وشاركك القارئ في آثامك، وافتتن المصري بكلامك. والمصري مفتون بحب الهزل والمجون، فهو أين حل، له ولي من الذل، وأين كان، له قسط من الهوان. قد سكنت في نفسه الهيبة، واقترنت بأعماله الخيبة. تلك التي استعاذ منها السليك العداء، حين دعا ربه بذلك
إني لو كنت ضعيفا لكنت عبدا، ولو كنت امرأة لكنت أمة. اللهم إني أعوذ بك من الخيبة. أما الهيبة فلا هيبة، وكذلك أنت قد خاب أملك، وخانك عملك، وتعذر عليك التماس الخلاص، وحق عليك بما قدمت يداك القصاص.»
ثم أمسك عن الكلام، فقال صاحبي: إني أتيت تائبا، وفي الحق راغبا، وما كنت لولا الحاجة بخابط في تلك الضلالة، لولا أنني رأيت القوم يركبون تلك الطريق، فركبت مركبهم، واقتفيت أثرهم، ولا علم لي بخشونته، فما زال يستتيهني فيه الشيطان حتى ضللت مع الذين ضلوا من قبل، وما أنا في ذلك بأول الخاطئين.
قال سطيح: أما اقتفاؤك آثار القوم، فأنت فيه الحقيق باللوم، فما الذي غبطت من حالهم حتى اقتديت بأعمالهم على الكدية والسؤال، وفيهما ذل الرجال، أم على السجن وفيه يقرع السن، أم هاجت حرصك تلك الإتاوة التي ضربوها على أهل الغباوة، فأصبحت حمدة
Página desconocida