Noches del alma errante
ليالي الروح الحائر
Géneros
زارني الروح الحائر، فلما هدأ روعي بعيد رؤيته قال: «إنني قادم من مكان بعيد.» قلت: «من أين؟» قال: «تاقت نفسي لرؤية المقابر، فلم أشته رؤية مقابركم؛ فذهبت إلى بلد جميل فيه قبور إن لم تحبب بحسنها الموت للقادمين عليه فهي لا تنفرهم من مضاجعهم الأبدية، وطفت بها، وذكرت يوما من أيامي على الأرض؛ إذ كنت أطوف بمقبرة أخرى تشبه هذه في الحزن، فقد جالت في نفسي أفكار شتى، وكسبت من اللحود عظات عظمى.» قلت: «حدثني - أيها الروح - بحديث المقابر.»
قال: كنت يوما في بلد من بلاد الغرب، فخرجت ألتمس فرجا من ضيق عراني، وسرت على غير هدى، ولست أدري كيف وجدت نفسي في طريق مهجورة لا يرى فيها عابر السبيل سواه إلا كما يرى الضال في الفلاة ضالا مثله، غير أنني كنت استخرت النظر في اختيارها، ولما كان بين العين والنفس رابطة وكانت نفسي تشعر بحزن وانقباض؛ فلا غرابة إذا حسن لعيني أن تسير حيث لا أرى أحدا، وقد شعرت بالانفراد في تلك الطريق حتى خيل لي أنني أول من سار فيها من بني البشر، وأوشكت أن أصدق الخيال لولا ما أراه حولي من الأشجار المنزرعة على حافتيها، ثم رأيت في منحدر من الطريق لوحة كتب عليها
Chemin de La Solitude ؛ أي: طريق الوحدة، فقلت: أشهد أن من اختار الاسم حكيم.
سرت في طريق الوحدة وقد هدأ روعي قليلا بعد أن علمت أنه سبقني غيري إلى هذا السبيل، وشعر السائرون به قبلي بالوحدة حتى جعلوها اسما عليه، وما زلت سائرا حتى بلغت فسحة كبيرة تلتقي لديها ثلاث طرق وتفترق، فإحداها تبلغ براكبها شاطئ بحيرة ليمان، والثانية تقوده إلى بعض قرى «الكانتون ديفو»، والثالثة دلتني على غرة مني إلى حديقة كبيرة حسبتها في مبدأ الأمر تابعة لقصر من القصور أو متنزها جاد به مجلس المدينة على الغرباء.
لما توغلت في ذلك البستان رأيت أعمدة من المرمر الأبيض وأخرى من الرخام الأسود وألواحا من حجر عليها أسماء وألقاب وآيات من الإنجيل والتوراة، فوقفت بغتة باهتا دهشا وقلت بصوت سمعه ألوف الألوف ممن يسمعون ولا ينطقون: «إنني أجوس خلال المقابر!» وعند ذلك شعرت بعواطف متضاربة في صدري، فخالجني السرور في أول الأمر؛ لبلوغي على غير علم مكانا كنت أود زيارته، ثم اعتراني حزن؛ لأنني ذكرت نفسا أعز علي من نفسي ودعتها منذ أمد بعيد وحق لي أن أعدها - وا أسفي - في عداد الأموات، ثم ذكرت في الحال أنني في يوم من الأيام - ولا أظنه بعيدا - سأرقد رقدة كتلك الرقدات يكون فيها بيني وبين الأرض صخور وأحجار تمنع أصوات الأحياء أن تستأذن على أذني، وتعوق جلبتهم أن تقلق راحتي أو تكدر علي وحدتي وتقطع أحلامي في رقدتي.
ثم هدأت تلك العواطف المضطربة وعدت لنفسي، وساد سلطان العقل على جنود الخيال، فأول ما حولت نظري إليه كان الجمال الشامل والسكون الكامل؛ لأن الوقت كان بعد الغروب بقليل، وكان الجو غاية الاعتدال، وإذا اعتدل الجو في هذه البلاد سكنت الرياح وهدأت الطير في وكناتها، وصفا وجه السماء. ولما كانت المقابر على مرتفع من الأرض، فالواقف في وسطها مثلي يملك منظر البحيرة التي كانت كمرآة الحسناء نقاء، ومنظر الحقول الخضراء المبرقشة بأشجار ذات قطوف دانية وثمار آن لها أن تجنى، ومنظر المدينة عن بعد سحيق بجلبتها وضوضائها. وبعد أن حولت نظري من البحيرة إلى الحقول ومن الحقول إلى المدينة ومن المدينة إلى المقابر شعرت للحال برهبة أوشكت من شدتها أن أخر ساجدا، ثم أحسست بأن السكينة دخلت على نفسي، وأن نزواتها قد كمنت ونزعاتها سكنت، وكنت قد آليت على نفسي أن أرقب ما يدور فيها وما يطرأ عليها؛ ولذا استطعت أن أفرق بين العاطفة الأولى التي جالت في صدري وبين العاطفة الثانية التي تلتها، ثم شعرت باختفاء الثانية عن عين العقل وقد تلتها غيرها، وكانت هذه العاطفة ناشئة عما قرأته في صباي في الكتب عن عبرة الموت وعظاته وآلامه، وكنت قد بلغت منتصف المقبرة وأنا أسير في طريق مرصوف بالصفا، وكلما سمعت وقع أقدامي حسبت أنني أقترف جرما لا يغتفر؛ فقد تزعج مشيتي هؤلاء الراقدين، ففيهم من هو حديث العهد بعالم الأحياء، وإزعاجه بوقع الأقدام محرك لآلامه، ومنهم قديم العهد بالأرض فإن هو شعر بقادم تأفف وتضجر.
انتصف الطريق ورأيت أنني كلما توغلت ساد السواد، فكأنني كلما سرت خطوة ودعت الضياء واستقبلت الظلام، فعجبت لذلك، ونظرت ورائي فظهر لي أن التوابيت وضعت بحيث يكون أقدمها عهدا في آخر الطريق التي أعبرها وأحدثها في أوله؛ لذا كنت أمر في سبيلي بموتى هذا العام ويتلوهم موتى العام الغابر وبعدهم موتى العام الذي قبله. ولما كان على كل قبر شجرة تزرع يوم الرقدة الأخيرة؛ فالأشجار التي زرعت منذ مائة عام أكبر وأعظم وأغزر غصونا وأورف ظلا من الأشجار التي زرعت منذ نصف قرن؛ لذا كنت كلما سرت إلى الأمام سرت في ظلال تلك الأشجار التي تحجب عني أغصانها نور النهار.
هذا قبر جميل من المرمر الأبيض محاط بسياج من المعدن الأبيض، وحوله شجيرات ذات زهور مختلفة الألوان، وبآخره عمود صغير مكتوب عليه «تذكار ولدي العزيز شارل، ولد عام 1899، وتوفي 1900.» إذن هذا طفل صغير عاش سعيدا ومات سعيدا، وهذا والد من والديه رآه وليدا وودعه فقيدا وتركه في الفقر وحيدا، وليس لديه إلا تلك الكليمات!
هذا قبر كبير غير محاط بسياج، عليه آلة من آلات الموسيقى مصنوعة من الرخام، ولوح كبير من الحجر الأزرق كتبت عليه هذه الكلمات «إلى هنري بوزيه من رفقائه وأبناء حرفته.» إنه قبر موسيقي عاش يطرب الناس بأنغامه حتى دعاه داعي الردى فلباه. ولكنني أرى ألفاظا أخرى حفرت في الصخر على عجل ثم محيت على عجل، فما هي؟ دنوت من تلك الكلمات وقرأتها بعد تعب طويل، فقلت في نفسي: تبا لك أيها المازح، حتى مراقد الموتى لا تخلو من هذر المازحين . يظهر أن هنري هذا كان موسيقارا في ملعب، وكان له صديق يحب المزاح فاسترق ساعة كتب فيها على القبر «لعل الله يختارك ويدخلك أركستر الجنة.»
سرت إلى الأمام قليلا، ثم رأيت عطفة تميل بي إلى طريق آخر، فملت معها، ولم أوشك أن أسير طويلا حتى رأيت عجوزين من النساء في ثياب الحداد وعليهما سيما الحزن الشديد وهما تسيران صامتتين والأسى يتكلم، فلما أن بلغتاني حيتني إحداهما على غير المألوف، وهمست إحداهما في أذن الأخرى؛ فدعاني ذلك أن أتبعهما بنظري، فرأيتهما تسيران متلفتتين، فخيل لي أنهما حسبتاني صديقا قديما نسيهما، ولكنني رأيت واحدة تمسح دموع عينيها بمنديلها، فظننت أن فقيدها يشبهني، فلما رأتاني قالت واحدتهما للأخرى: ليته لم يمت! وقالت الأخرى: لو كان هذا هو!
Página desconocida