فوكد له أنه أدهى مما يتصور، ولكن الآخر صرفه غير راض عنه.
21
وزلزل دار الإمارة، والحي والمدينة، للعثور على جثة عدنان شومة خارج سور الحي .. ماج شهريار نفسه بالغضب، وتخايلت لأعين الكبراء مخاوف مجهولة تزحف من مكامنها في الظلام .. ونما إلى عبدالله من وسطه السري الرسمي أن البحث يتركز في كشف الأسباب التي دعت كبير الشرطة للخروج سرا من سور الحي .. وكان هو أول من أتيح له الاطلاع على سر ضحيته الذي كان يقصد دارا خاصة يلتقي فيها بجلنار وزهريار شقيقتي يوسف الطاهر حاكم الحي .. الحق أنه عرف سيرة المرأتين منذ عهد خدمته، ومن قبل أن يتولى يوسف الطاهر الإمارة .. لذلك دعاه كبير الشرطة إلى مقابلته في جوسق بحديقة الدار ثم صرفه، ولكنه لم يرجع إلى الحي، بل لبد له في الظلام حتى غادر الدار قبيل الفجر فتلقاه بالسهم القاتل .. الآن يتلاشى شعوره بالأمان، ولا يستبعد أن يكون بعض خاصة عدنان شومة من النساء أو الرجال قد عرف سر المقابلة بينه وبين الرجل .. قرر الهرب ولو إلى حين .. غادر الحي كله إلى ما وراء الخلاء عند النهر على كثب من اللسان الأخضر، حيث اعتاد ممارسة هواية الصيد، نفس البقعة التي التحم فيها بسنجام .. وجد نخلة فارعة فارتمى تحتها وأغرق في التفكير .. وأقبل الليل وتجلت النجوم متواضعة، واشتد البرد .. ترى هل أحسن التدبير والتفكير أو أن لهفته على تنفيذ مشروعه قد أفسدت عليه هدفه؟! ومتى وكيف يتاح له العمل مرة أخرى؟ كيف يتجنب أعداءه وكيف يتصل بصاحبه فاضل صنعان؟ وفي سكون الليل ترامى إليه صوت يقول: يا عبد الله!
نظر صوب مصدر الصوت، صوب النهر، وتساءل: من ينادي؟
فقال الصوت بنبرة تبث الأمان والطمأنينة والسلام: اقترب.
دنا من النهر يسير في حذر حتى رأى صفحته معتمة تحت ضوء النجوم، ورأى شبحا نصفه في الماء ونصفه مستند بساعديه فوق الشاطئ .. سأله: أأنت في حاجة إلى مساعدة؟ - أنت المحتاج إلى المساعدة يا عبد الله.
فسأله بقلق: من أنت، وماذا تعرف عني؟ - أنا عبد الله البحري كما أنك عبد الله البري، وقبضة الشر تتوتر للقبض على عنقك. - سيدي، ماذا يبقيك في الماء؟ .. من أي الأحياء أنت؟ - ما أنا إلا عابد في مملكة الماء اللانهائية. - تعني أنها مملكة تحيا تحت الماء؟ - نعم، تحقق بها الكمال وتلاشت المتناقضات، ولا ينغص صفوها إلا تعاسة أهل البر.
فقال عبد الله منبهرا: عجيب ما أسمع، ولكن قدرة الله لا حد لها. - كذلك رحمته، فاخلع ثيابك واغطس في الماء. - لماذا يا سيدي؟ لماذا تطالبني بذلك في الليل البارد؟ - افعل كما أقول قبل أن تطوق عنقك القبضة القاتلة.
وسرعان ما غاص عبد الله البحري في الماء تاركه لاختياره .. وبدافع من إلهام ثمل خلع ملابسه وغاص في ماء النهر حتى اختفى تماما .. وإذا بالصوت يقول له: عد إلى البر آمنا.
وما كاد يشعر بالأرض تحت قدميه حتى استقر قلبه بين ضلوعه وشعر بأنه جارحة من جوارح السماء والأرض والليل، وشعر أيضا بالدفء .. عند ذاك غلبه النوم فنام نوما عميقا هادئا، وكأنما النجوم لا تومض إلا لترعاه .. وصحا قبل انبلاج الصبح .. ونظر في مرآته على ضوء أول شعاع يهبط، فرأى وجها جديدا لم يعرفه من قبل، فهتف: مباركة العجائب إن تكن من صنع الله.
Página desconocida