2
حام بروحه وجسده حول أسرته .. ما قيمة الحياة إذا ما انفصل عن أسرته ورأسه؟! وظل يتبع رسمية وأكرمان حتى استقرتا في حجرة بالربع الذي يقيم فيه آل صنعان .. ولم يتردد فاكترى لنفسه حجرة في نفس الربع، وعرف بعبد الله الحمال .. وسره في غيوم القلق أن أم السعد هي التي قادت أسرته إلى مأواها الجديد .. سره أن أم السعد لم تنس الجيرة القديمة .. ولم تنس سعي رسمية إلى مساعدتها في محنتها .. وسوف تشارك رسمية زوجته في صنع الحلوى فسيسرح بها فاضل صنعان لحساب الأسرتين .. سر بذلك أيما سرور، وسر أيضا بجيرته لهم، فيهنأ برؤيتهم، ويطمئن على أحوالهم، ويمارس ما يتاح له من زوجية وأبوة وعشق من بعيد، من موقع لا يدري به أحد .. وتوقع أن يتزوج فاضل من ابنته أكرمان كما اتفق مع صنعان، وكما حلم هو يوما من الزواج من حسنية أخت فاضل.
واصل تلك الحياة الغريبة .. يشعر أحيانا أنه حي، وأحيانا أنه ميت.
3
أجل إنه عبد الله الحي وجمصة الميت معا .. تجربة غريبة لم يمارسها إنسان من قبل .. يسعى إلى رزقه في رحاب زمالة رجب فيتذكر أنه حي .. يعبر الطريق تحت رأسه المعلق أو يرى رسمية وأكرمان فيتذكر أنه ميت .. ولم يغفل أبدا عن معجزة إنقاذه من الموت، فعزم على السير حتى النهاية، في طريق التقوى .. يجد سروره في العبادة، وينعم في وحدته بذكر الله، ويناجي رأسه المعلق فيقول: «لتبق رمزا على موت الشرير الذي عبث بروحي طويلا.» على أن صدره فاض بحنين دائم نحو شخصيته الزائلة .. تلك الشخصية التي توجت حياتها بتوبة صادقة .. مثير جدا أن يموت الإنسان وهو حي، أو يحيا وهو ميت .. فمن ذا يمكن أن يصدق أنه جمصة البلطي بجوهره الدفين؟! وهل يحتمل أن ينفرد بهذا السر وحده إلى الأبد؟! حتى رسمية وأكرمان تنظران إليه كغريب وافد من بلاد غريبة ..لذلك يشعر حيال نظرتهماغير المبالية بغربة قاسية وظلم معذب .. لم يفطنا ولو مرة واحدة إلى الحب الراسخ وراء نظرته المسترقة .. لم يعكسا لأشواقه صدى .. تطل من عينيهما نظرة تجدد تنفيذ الإعدام فيه كل صباح وكل مساء .. حتى حزنهما لذكراه لم يكن يمسه بأنامل العزاء .. ويحز في نفسه ابتعادهما الوئيد عن ذكراه فيما يغوصان فيه من هموم الحياة اليومية .. لن يصدقا الحياة الموهوبة له بمعجزة ولن يتقبلاها .. لقد تجرعتا غصص موته، وعانتا كرباتها، وعرفتا الحياة بدونه، والخروج من الوضع الجديد مزعج مثل الدخول فيه .. وهو لن يقدم على تقويض البناء الجديد ولا يستطيعه .. من مات يجب أن يستمر في الموت رحمة بمن يحب .. وعليه أن يألف موته في حياته الجديدة .. ليكن عبد الله الحمال لا جمصة البلطي .. ولتكن مسرته في العمل والعبادة .. غير أن عمله يسوقه كثيرا إلى بيوت معارفه السابقين، وإلى دور السادة والحكام .. عالم التقوى الظاهرة والفساد الكامن .. وأرجعه ذلك إلى التفكير في ذاته وفي أحوال الناس .. كدر صفو سلامه الروحي. طارده الاعوجاج كأنما اقتحم أعضاءه وأخل بوظائفها .. وقال إنه كما تنطلق الكواكب في نظام بديع فهكذا يجب أن تجري أحوال العباد .. وتساءل في قلق: هل بقيت في الحياة بمعجزة لأعمل حمالا؟!
4
جعل شهريار ينظر إلى أشباح الأشجار المتهامسة في الليل .. ربض السلطان في مجلسه بالشرفة الخلفية رغم أن الخريف كان ينسحب أمام طلائع الشتاء .. إنه أقدر على تحمل البرد منه على محاورة طوفان أفكاره .. والتفت نحو وزيره دندان متسائلا: أتكره الظلام؟
فقال الوزير بولاء: إني أحب ما يحب مولاي.
إنه يتساءل دائما: ترى هل تغير السلطان حقا أو أنها وقفة عابرة؟! ولكن مهلا .. كان في ماضيه حاسما واضحا قاسيا بليد الإحساس، الآن سرعان ما تومض في عينيه نظرة حائرة .. قال دندان: الأمة سعيدة وتلهج بالشكر.
فتمتم السلطان بخشونة: قتل علي السلولي وسرعان ما لحق به خليل الهمذاني!
Página desconocida