تابعه شهريار باهتمام .. وضح أنه انفعل بأقواله انفعالات متضاربة .. قال ببرود: سنجام جمصة، عقب قمقام صنعان الجمالي، أصبحنا في زمن العفاريت الذين لا هم لهم إلا قتل الحكام!
فقال جمصة: ما زدت على الحقيقة حرفا والله شهيد. - لعلك تحلم بأن ينقذك ذلك من العقاب؟
فقال باستهانة: إقدامي يقطع بأنني لا أبالي.
فقال شهريار بحيرة: سنجعل منك مثلا للمتمردين، فليضربن عنقك، وليعلقن رأسك فوق باب دارك، ولتصادر أموالك.
17
في سجن تحت الأرض، وفي ظلام .. كافح آلامه واستمسك بشجاعته .. أثار حنق السلطان فانتصر عليه .. تركه فوق عرشه يتعثر في هزيمته .. وتذكر بأسى رسمية وأكرمان .. وطافت بخياله حسنية .. ستلقى أسرته من الهوان ما لقيته أسرة صنعان ولكن رحمة الله أقوى من الكون .. وظن أن السهاد لن يفارقه ولكنه نام نوما عميقا لم يستيقظ منه إلا على جلبة وضوء مشاعل .. لعله الصباح، وها هم أولاء الجنود قد حضروا ليسوقوه إلى النطع .. سيكتظ الميدان بأهل الفضول وسيموج بالعواطف المتضاربة .. ليكن .. ولكن ماذا يرى؟ يرى الجنود تنهال بالركلات على جمصة البلطي، وهذا يستيقظ فزعا متأوها.. ما معنى هذا؟ أيحلم؟ إذا كان هذا هو جمصة البلطي فمن يكون هو؟! كيف لا ينتبه إليه أحد وكأنما هو غير موجود؟! ذهل وخاف أن يفقد عقله .. بل لعله فقد عقله .. إنه يرى جمصة البلطي أمامه .. الجنود تسوقه إلى الخارج .. وإنه - بخلافه - شديد الفزع والانهيار .. وجد نفسه أيضا محررا من القيد، فعزم على مغادرة السجن، وتبع الآخرين لا يلتفت إليه أحد .. رباه! .. المدينة منحشرة في ميدان العقاب .. نساء ورجال وأطفال .. في الصدر السلطان ورجال الدولة .. النطع في الوسط وشبيب رامة ونفر من المساعدين .. لم تحضر رسمية ولا أكرمان فهذا حسن .. ما أكثر الوجوه التي عرفها وتعامل مع أصحابها! إنه ينتقل من مكان إلى مكان فلا ينتبه إليه أحد .. أما جمصة البلطي فيقترب من النطع بين حراسه .. وجه واحد تراءى له كثيرا حتى عجب لشأنه هو وجه سحلول تاجر المزادات والجواهر .. وعندما هيمنت لحظة الصمت المؤثر، وخطف النطع الأبصار من جميع الجهات، خفق قلبه، وخيل إليه أنه سيلفظ روحه عقب سقوط رأس الآخر. وفي اللحظة المفعمة بالصمت ارتفع سيف شبيب رامة، ثم هوى كالصاعقة، فسقط الرأس، وختمت حكاية جمصة البلطي.
توقع جمصة البلطي الموت ولكنه مر به وذهب .. وتضاعف ذهوله وسط تيار المنصرفين حتى خلا الميدان تماما .. تساءل: «أأنا جمصة البلطي؟» وإذا بصوت سنجام يقول: كيف تشك في ذلك؟
فهتف الرجل في غاية من التأثر: سنجام؟! .. أنت صاحب المعجزة! - إنك حي، وما قتلوا إلا صورة من صنع يدي! - إني مدين لك بحياتي فلا تتخل عني.
فقال بوضوح: لا، الآن لا علي ولا لي، أستودعك الله.
فهتف مذعورا: كيف لي بالظهور أمام الناس؟!
Página desconocida