إن في روح لامرتين وفي مخيلته جمالا شرقيا تغلب على الجمال الغربي الذي انخسفت آياته لدى انعكاس المشاهد الشرقية عليها. جاء لامرتين إلى الشرق ليبحث عن ذلك الجمال المحتجب وراء أكماته وبين أنقاضه، فتراءت له بقايا الأديان والتقاليد والفن والجمال، فرحبت مخيلته وروحه بهذه الآثار وحمل أسرارها إلى بلاده. فمن يطالع روايته «سقوط ملاك» يرى روح الأنبياء، أنبياء التوراة، متقمصة في شذرات من السفر القديم. ومن يطالع روايته «جوسلين» يرى في وصف مغارة النسور أو في وصف الشتاء والصيف والربيع والخريف ذلك الوصف الذي أعاره الشاعر لجبال الدوفينه صورة واضحة عن صنين وجبل الكرمل. ومن يتمعن في هيئة الفلاح الذي هدى جوسلين إلى مغارته يتمثل له الفلاح اللبناني بعباءته ومهمازه.
تأثير الشرق في لامرتين
قلنا إن مخيلة لامرتين رحبت أمام آثار بعلبك وعظمة أرز لبنان، وإن الشرق كشف له عن المدى الذي لا حد له، ف «جوسلين» لم تكن سوى قصيدة في أربعة أناشيد صغيرة نظمها الشاعر قبل مجيئه إلينا؛ إلى الشرق، على أنه ما كاد يرجع إلى فرنسا حتى عاد إلى قصيدته فرحبها بما أشرب في روحه ومخيلته من مشاهد الشرق الجميل.
ولم تكن «سقوط ملاك» أيضا سوى هيكل قصيدة رحبة حلم به الشاعر في طريق فلورانسا قبل سفره إلى الشرق؛ على أنه لم يكد يطوف في أرض الأنبياء حتى نضجت تلك القصيدة في مخيلته وقلبه. فتلك الطبيعة المسيحية التي أبرزها الشاعر في «جوسلين» بشكلها الحديث وبكل ما فيها من التنازع والتضحيات، أراد هذه المرة أن يبرزها هي نفسها بشكلها الإنساني الذي يمت إلى العصور الأولى، فسيدار الملاك ودائيده الابنة التي تنتسب إلى إحدى قبائل البشر الأولى، هما البطلان اللذان ذهب لامرتين لكي يبحث عنهما في بلاد الطوفان وبالقرب من مصادر الزمان.
تعرف سيدار، الملاك الساقط، إلى دائيده وأحب كل منهما الآخر على مرتفعات لبنان أولا، ثم انتقلا إلى شواطئ العاصي، ولقد صور لامرتين حولهما تقاليد القبائل الرحالة التي تعودت الخضوع إلى عنف غرائزها الأولى، ثم مضى بهما إلى بابل، قاعدة الحضارة البشرية التي تقدمت الطوفان، وكان ثمة شعب وديع خانع، تسلط عليه قوم رفعوا نفوسهم إلى مصاف الآلهة، فوقع الزوجان بين أيدي هؤلاء الظالمين، وراحا يذوقان من العذاب ما لا يقوى عليه الإنسان، إلى أن قدر لهما الهرب إلى مجاهل الصحراء حيث قضى عليهما العطش والجوع.
وكان سيدار ودائيده قد فرا من وجه القبائل المنتشرة على شواطئ العاصي قبل أن يقعا في قبضة الجلادين الجبابرة، آلهة بابل، وراحا يهيمان على وجههما في مرتفعات جبل الكرمل، حتى اهتديا إلى مغارة يقيم بها ناسك متعبد لله الحقيقي. وكان هذا الناسك الصالح الوحيد في ذلك الزمن الطافح بالمفاسد والموبقات، فأخذ يقرأ عليهما شذرات من السفر القديم، وهذه الشذرات أو هذا الإنجيل الفلسفي إنما هو مختصر الشرائع الدينية والاجتماعية التي أراد الشاعر أن يبثها في البشر. ولقد استوحاها من أسفار التوراة ومن سفر الاشتراع بنوع خاص. جاء في هذه الشذرات ما يلي:
علموا أبناءكم اسم الله السماوي كما تسقونهم قطرات الحليب عندما يجوعون؛ حتى يذوقوا عذوبة ولذة قبل مرارة الحياة! سيكون اسم الله غوث البريء في محاكمته، ونيران المجرم في تخفيه! سيكون اسم الله صديق الأجذم، وقاضي العبد، ووصي الأرملة والقاصر! سيراه البائسون والمنقطعون من أعماق أوجاعهم يضيء كالشعاع خلال دموعهم.
لا تضع حدا بين أمة وأخرى، وإذا قيل لك إن هذه الذرية لشرسة، وهذا النهر يفرق بينك وبينها، أو إذا قيل لك إن هذا الجبل يفصلك عنها، فقل لمن يقول لك ذلك إن الله يرانا جميعا ويباركنا، والفضاء يجمعنا، والسماء تسترنا.
لا تنزع الغصن مع الثمرة، فطوبى لليد التي تزرع وعار على اليد التي تسيء! لا تترك الأرض عارية قاحلة، فآباؤك رأوها خصبة عند مجيئهم.
لا تشمت بالتراب الذي تحت قدميك، فسوف تجد فيه مرقدك الأخير. واقتسم الأرض بينك وبين إخوتك، فالله لم يتقاض منك ثمنا لها. تعاضدوا في المصائب وكونوا إخوة وآباء، ولتكن الرحمة عدلا بينكم! تلفظوا بالحقيقة دائما فلا تحتاجوا إلى القسم. دعوا خبزكم على عتبة كهوفكم للجائعين، واتركوا بعض ثمار على غصونها لعابري الطرق.
Página desconocida