Destellos de mi vida: autobiografía parcial
لمحات من حياتي: سيرة شبه ذاتية
Géneros
وطبعا بعد أن أممت الصحافة أصبح تعييني أمرا مستحيلا، ولكنني ظللت أكتب من الخارج وكان من أعظم من أتاح لي فرصة الكتابة أخي وصديقي فتحي غانم، فقد أفسح لي صفحة أسبوعية في الجمهورية كتبت فيها مقالا عن الشيوعيين بعنوان من خلال مجهر صدرت بعدها الأوامر إلى فتحي غانم ألا أكتب عنده مطلقا، وقد أبى الرجل العظيم أن ينفذ الأمر، وطلب إلي أن أكتب في غير السياسة، وكانت هذه منه جرأة فائقة تمثلت في هذه الشخصية الفذة، وتكرر منه هذا الموقف الجريء المشرف حين نشر لي روايتي (شيء من الخوف) في صباح الخير حين كان رئيسا لمجلس إدارة روز اليوسف، وكنت قد أعطيته الرواية وقال لي إذا جاءني مقال من طه حسين فإني أدفع به إلى المطبعة مباشرة دون أن أقرأه، وكذلك الأمر إذا جاءتني رواية من ثروت أباظة فإني أدفع بها إلى المطبعة مباشرة. وقذفت بي هذه الكلمة إلى حيرة شديدة وإشفاق على الرجل العظيم فتحي أن ينشر الرواية ويفصل من عمله إذا لم يعتقل، وأيد حيرتي أستاذي وصديق عمري نجيب محفوظ، الذي قال لي لا بد أن تجعله يقرأ الرواية بأية طريقة، وطلبت من فتحي غانم وقلت له أنا لا أريد مجرد نشر الرواية، وإنما يهمني أكثر من نشرها أن أعرف رأي الروائي الكبير فتحي غانم. وقرأ الرجل العظيم الرواية وقال لي إنك لأول مرة تكون من وحدات شكلا متكاملا كالزخرفة العربية التي تكون فيها الأجزاء شكلا متكاملا وكأنما ليس بالرواية رمز، ونشر الكاتب الجريء الرواية في رجولة يندر أن يعرفها هذا الزمان.
أصبح التفكير في عمل صحفي بعد التأميم أمرا يعتبر نوعا من العبط الذي لا مثيل له، فاكتفيت بالكتابة غير المنتظمة في الصحف وبكتابة رواياتي والحمد لله على ما وهب، والحمد لله على ما سلب، له الشكر على الحالين. •••
نسيت في غمرة الحديث عن حياتي العامة أن أذكر لك حياتي الخاصة، فقد رزقت في هذه الفترة بابنتي أمينة في أكتوبر عام 1955م، وقد ولدت في يوم المولد النبوي في ذلك العام، وولدت يوم الجمعة ساعة الأذان وقد حصلت على ليسانس الآداب قسم اللغة الفرنسية وعملت قليلا بأجر خيالي في البنك العربي الدولي، ثم وجدت نفسها غير صالحة للتعامل مع المال مهما يكن الأجر فلكيا، شأنها في ذلك شأن أبيها، واستقالت، وهي تعمل الآن بعقد في التلفزيون ورفضت التعيين به حتى لا تمسك الوظيفة بتلابيبها، وهي قارئة في الفرنسية والعربية شديدة النهم في القراءة، وقد ترجمت لي رواية (شيء من الخوف)، ونشرت الترجمة، والحب بيني وبينها من نوع عظيم، فأنا أحب فيها خلقها الرقيق شديد الرقة، ورهافة الحس، ونقاء السريرة إلى درجة لا أجد لها مثيلا في كل من عرفت في حياتي وبصورة تجعلني دائما أشفق عليها، فطيبتها وحرصها على معاونة الإنسان والحيوان مما يجعلانها في حالة شبه روحانية دائمة لا يرتاح صاحبها أبدا، وكيف له أن يرتاح وقد جعل هموم العالم جميعها من بشر وحيوان همومه هو الشخصية؟! أسأل الله أن يهب لها من الخير والتوفيق قدر ما تهب هي لمخلوقاته جميعا.
ورزقت في يناير 1958م بابني دسوقي، وقد نال ليسانس الحقوق وعمل بالنيابة ثم القضاء، واليوم وأنا أكتب هذا الحديث تفضل الدكتور عصمت عبد المجيد فأصدر قرار تعيينه بالجامعة العربية.
وقد تعلم دسوقي في المدارس الفرنسية فهو يجيد الفرنسية إجادة تامة، وهو كثير القراءة في العربية والفرنسية على السواء، ولعله من الطريف أن أروي كيف دخل كلية الحقوق، فهو حين حصل على الثانوية العامة كان مجموعه لا بأس به، وقال لي إنه يريد أن يدخل كلية الآداب قسم الفلسفة، فقد كان كثير القراءة في كتب الفلسفة مما جعله يتعلق بها، فقلت له افعل ما تريد، وكل ما أرجوه منك أن تتحدث في هذا الأمر مع عمك نجيب محفوظ، فهو خريج آداب فلسفة أيضا، فقال وهو كذلك، وكنا في الإسكندرية وكنت أجلس مع نجيب بك في كازينو جليم، وكان كل منا يتحرى أن يذهب مبكرا إلى الكازينو ليتاح لنا جلسة خاصة نتبادل فيها خاصة شأنينا قبل أن يأتي الأصدقاء الآخرون، وصحبت دسوقي إلى هذه الجلسة، وقال لنجيب: أريد أن أدخل كلية الآداب قسم فلسفة.
وقال نجيب بك: عظيم ... ولكن هناك شرط. - ما هو؟ - أن تكون أول دفعتك.
واندهش دسوقي وقال: وكيف أضمن هذا؟ - إنك تدخل إلى قسم الفلسفة لأنك تهوى الفلسفة، فإذا لم تكن الأول وتعين معيدا بالكلية لتظل وثيق بالصلة بهوايتك فسينتهي بك الأمر أن تعمل موظفا في الجمعية التعاونية.
وطبعا اقتنع دسوقي ودخل إلى كلية الحقوق، وكان متقدما في دراسته، وحين تخرج ظل سنة تلميذا في معهد الدراسات القانونية الذي لا بد أن ينتسب إليه الآن كل من يصدر القرار بتعيينه في النيابة، وكان حظ دسوقي أن كان الأول على دفعته لإتقانه للفرنسية، مما أتاح له السفر في بعثة ستة شهور للدراسة في فرنسا ، ثم عاد وعمل أستاذا للغة الفرنسية بعض الوقت في نفس المعهد، ثم تدرج في النيابة حتى جلس على كرسي القضاء، وحين يظهر هذا الكتاب سيكون إن شاء الله قد مرت عليه فترة يعمل فيها بجامعة الدول العربية.
ودسوقي - بحمد الله - على أحسن صلة بربه ويقوم على الإشراف على زراعتنا، فهو متعلق ببلدتنا غزالة كل التعلق، ومن نعم الله علينا أنه شاب جاد غير هازل وإن كان هذا يجعله قريب الغضب، ولكنه أيضا قريب الصبر.
وقد تزوج دسوقي من ابنة الأستاذ منير حتاتة المحامي، ووهب لنا ياسمين وهي في الرابعة من عمرها وعفاف على اسم جدتها زوجتي وهي في الثانية من عمرها، والحفيدتان هما مصدر سعادتي التي لا أشعر بمثيل لها في أي منحى من مناحي الحياة إلا في لعبهما حولي. •••
Página desconocida