ملت على المكتب وقلت وأنا ألوح بذراعي السليمة في إشارة شملته كما شملت أثاث الغرفة وأجهزة التكييف والموسيقى والتطبيب: «هذا كله لم يتحقق بفضل عبقريتك الفذة؛ فأنت وأمثالك تستفيدون من مجموعة من الامتيازات المتوارثة التي سلبت مني ومن غيري، ومن آبائي وأجدادي، وآباء غيري وأجدادهم على مر الزمن. وبالإضافة إلى ذلك فأنت من الجيل الذي تعلم مجانا على حسابي وحساب غيري.»
نهض واقفا وهو يرتعش من الانفعال: «كفى. لا أريد مناقشتك. أرجوك أن تغادر عيادتي فورا؛ فأمثالك لا حق لهم في خدماتي.»
ضغط بيديه جرسا مثبتا إلى مكتبه فقلت: «إني أعترف بأني أخطأت في المجيء إليك، وحالما ترد إلي الجنيه الذي دفعته اليوم سأذهب.»
قال بترفع: «إن وقتي ثمين، وقد ضيعت جزءا كبيرا منه؛ ولهذا فليس لك شيء عندي. وإذا لم تذهب الآن فسأطلب من الممرض أن يلقي بك إلى الشارع.»
كان الممرض الذي ظهر عند الباب طويلا عريضا متين البناء، وخفت أن يتكرر معي حادث الأوتوبيس؛ فنهضت واقفا في تثاقل وأنا أقول: «سأذهب، لكني سأعرف كيف آخذ حقي؛ فما زال هناك شرطة وقضاء.»
لم أكن أعني ذلك بالطبع، لكنها كانت صيغة لحفظ ماء الوجه، أعانتني على مواجهة نظرات الاستهجان التي استقبلني بها المنتظرون في الخارج، والإهانات التي شيعني بها الممرض حتى أصبحت في الطريق.
مشيت وأنا أغلي ولا أكاد أتبين شيئا مما يحيط بي. ولم أنتبه إلى نفسي إلا عندما اصطدم أحد المارة بذراعي فآلمني؛ عندئذ اتخذت طريقي إلى منزلي وأنا أتلمس الخطى بصعوبة بين أكوام السلع المستوردة وصناديق «الكوكاكولا» التي شغلت الأرصفة، والأتربة والحفر والقاذورات التي لا يجد أحد الدافع لإزالتها أو حتى الشكوى من وجودها.
جعلت أنقل البصر بين الناس التي زحمت الطرقات، مقبلة في حماس على الشراء وقزقزة اللب وسماع الأغاني. ولمت نفسي على أن رعبي من فكرة الألم قد عرضني لهذا الموقف المهين لدى الطبيب، بينما أن الأمر - بحكم المصير المقدر لي - لم يكن يتطلب كل هذا العناء.
اشتريت طعاما يكفيني لعدة أيام، وقلت للبواب أن يبلغ كل من يسأل عني بأني سافرت، ثم صعدت إلى مسكني.
كان ثمة أمور لا بد من الانتهاء منها سريعا، وقد أقبلت على إنجازها رغم الآلام التي كان يسببها تحريك ذراعي، فتصفحت أوراقي القديمة ورتبتها، وقضيت لحظات ممتعة - رغم ما شابها من أسى - في مراجعة ما حققته من إنجازات، وما أثارته من صدى وتعليقات. وأعانتني الاستمارات الحكومية القديمة وبطاقات السفر والرسائل والإيصالات والفواتير على تتبع المسيرة التي قطعتها منذ وقفت على قدمي.
Página desconocida