لم تبد عليه الرغبة في متابعة الجدل؛ إذ تشاغل بارتشاف الشاي في صوت مزعج، وهو ينقل البصر بين الكتب والأسطوانات الموسيقية التي ملأت عدة رفوف معلقة خلفي، ووجدت في ذلك فرصة لمحاولة ترتيب الأفكار التي كانت تصطخب في رأسي.
هالني أن أبدأ البحث من جديد، بفرض أني وجدت الشخصية التي يمكن أن تحل محل «الدكتور »؛ أي تتوفر فيها الخصائص التي جعلت منه ألمع شخصية عربية معاصرة، وتستحوذ في الوقت نفسه على جل اهتمامي، وشغفي.
وما أدراني أنهم - بفرض أني عثرت على شخصية أخرى - لن يزوروني بعد عدة أشهر ليطلبوا مني استبدالها من جديد؟
عجبت لتمسكي بالدكتور، كأنما سحرتني شخصيته، أو صار وجودي مرتبطا بوجوده. وإذ أوليت الأمر الآن كل تفكيري، رأيت أنني - من خلال الظواهر الغامضة التي صادفتني أثناء البحث في أمره، والمعلومات الغريبة التي جمعتها وسهلت لي إدراك أشياء كثيرة أعياني فهمها من قبل - قد وجدت أخيرا معنى للحياة لست مستعدا لأن أفقده؛ كي لا أعود إلى ذلك الخواء المؤلم الذي كنت أعيش فيه. وهل يتخلى الغريق عن قطعة الخشب التي يمكن أن تؤدي به إلى النجاة؟
لم يعد أمامي إذن سوى أن أقصر تفكيري على السبيل الذي ألمح إليه ضيفي منذ قليل.
على أنه كان ثمة مغزى لاقتراحه، وللتطورات الأخيرة برمتها لم يفتني إدراكه؛ فحرية الحركة والمناورة التي أتيحت لي حتى الآن، ومكنتني من الإفلات من الشباك المنصوبة، قد تقلصت للغاية حتى أوشكت أن تنعدم تماما.
وضايقتني هذه الفكرة للغاية، حتى إني عجزت عن مواصلة التفكير، فقررت أن أؤجل الأمر إلى الصباح؛ إذ ما زالت عادتي أن ألتمس في النوم مهربا.
قلت للقصير بعد قليل: «الوقت تأخر، ولعلك تود أن تأكل شيئا.»
قال: «كلا؛ فقد تناولت عشائي قبل مجيئي. يمكن أن تأكل أنت إذا شئت.»
قلت: «صدت نفسي؛ فقد استولى علي التعب، وأريد الآن أن أنام، فأين تود أن أعد لك فراشك؟»
Página desconocida