وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
الفصل الأول
بلغت مقر اللجنة في الثامنة والنصف صباحا قبل نصف ساعة من الموعد المحدد لي، ولم أجد صعوبة في العثور على الغرفة المخصصة لمقابلاتها. وكانت في طرقة جانبية هادئة، كابية الضوء، يقف أمامها عجوز في سترة صفراء نظيفة، تنطق ملامحه بالطمأنينة التي تغشى وجوه من يرفعون راية الاستسلام عندما يجدون أنفسهم في نهاية المطاف، فينسحبون من صخب الحياة والصراع الدائر على مظاهرها الفانية.
أفضى إلي الحارس بأن أعضاء اللجنة لا يتوافدون عادة قبل الساعة العاشرة. ووجدت ذلك أمرا طبيعيا، رغم أنه ضايقني. وندمت لأني التزمت بالموعد المحدد بالضبط، فغادرت فراشي مبكرا دون أن أنعم بقسط كاف من النوم.
Página desconocida