تأليف
يوسف إدريس
كلمة
مفروض أن المسرحية تكتب أصلا لتمثل على خشبة المسرح. والنص المسرحي - مهما بلغت قوته - ليس في الواقع إلا جزءا واحدا من الأجزاء العديدة التي تشترك في تجسيد العمل المسرحي.
أجل ... المسرحية ليست هي النص المسرحي وحده. ونحن حين نتحدث عن المسرحية أو «المسرح» فنحن نقصد تلك اللحظات التي تلتقي فيها مجموعتان غريبتان من الناس؛ مجموعة كبيرة تحوي أناسا من مختلف الأمزجة والألوان والطبقات، جاءوا من عالم خارجي مزدحم عريض ليلتقوا بمجموعة صغيرة أخرى من الناس تحيا في عالم محدود خاص. تلك اللحظات هي المسرح، هي التجاوب الحادث بين الجماعتين ... اللحظات التي تطفأ فيها الأنوار في الصالة لتحجب عن الجماعة الصغيرة العالم الخارجي العريض، وتضاء فيها أنوار المسرح لتسلط على ذلك العالم الصغير المحدود ... اللحظات التي تنسى فيها كل جماعة نفسها، وتنسى فيها ما جاءت لأجله، التي ينسى فيها المتفرج أنه مجرد متفرج، وينسى فيها الممثل أنه مجرد ممثل، وتعاد صياغة الزمن؛ فيحيون الليل على أنه نهار، وربما منتصف النهار على أنه منتصف الليل ... اللحظات التي تقوم فيها في أثناء هذا الاجتماع الكبير روابط إنسانية وثيقة بين الواقف على خشبة المسرح والجالس في الصالة، وبين الجار والجار، والممثل وزميله، وأعصاب الجمهور والحبال التي تشد الستائر. تلك اللحظات التي يفد لصنعها أناس يدخلون إلى ذلك المحراب المقدس من بابه الخلفي ومن بابه الأمامي، تاركين الحياة التي يحيونها في الخارج ليشتركوا باختيارهم خلق حياة من صنعهم هم، حياة يصنعونها، ويحيونها وتعتمد على اشتراك كل منهم بنصيبه فيها.
ذلك هو المسرح.
والنص المسرحي هنا مجرد أسهم وعلامات قد تحدد الطريق الذي تسلكه الحياة التي يقوم بصنعها الإنسان. مجرد إشارات تنظم مرور هذه الحياة في أثناء سريانها وتدفقها، مجرد مادة خام غير قابلة للتفاعل إلا حين تختلط بغيرها من المواد، وتحدث الشرارة، ويتم التجاوب داخل المحراب المقدس.
وأنا أميل كثيرا إلى استعمال تلك الكلمة التي أصبحت موضة العصر والتي يصفون بها إنتاج الرسام أو الكاتب أو الموسيقار، أعني كلمة «الخلق»، أقول هذا مع أني استعملتها، ولكننا نستعمل كلمات أحيانا لمجرد أنها كلمات شائعة، حسن إذن! إذا سمينا الكتابة للمسرح عملية خلق فقد رأينا أنها إحدى عمليات الخلق الداخلة في تكوينه، وإذا كان الكاتب يخلق الكلمة، والمخرج يخلق الحركة، والممثل يخلق العاطفة التي يصوغ بها الكلمة والحركة، والجمهور يخلق الجو العام الذي يستحيل فيه التمثيل إلى حقيقة، وتستحيل فيه الحقائق أحيانا إلى تمثيل، كل هذه العمليات عمليات خلق، وكلها تدخل في تكوين المسرح.
ولكن المسرح ليس مجرد حاصل جمع هذه العمليات.
المسرح، أو اللحظات المسرحية، شيء ينتج عن هذه المكونات جميعها، شيء رائع جديد ... شيء يبلغ من قوته حد أن يملك على جمهور غفير من الناس ألبابهم لبضع ساعات، وقد يؤثر فيهم لأيام كثيرة، وقد يبقى أثره ساريا في حياتهم وحياة أولادهم لسنين طويلة وسنين.
Página desconocida