ثناء على الكتاب
إلى أمي وأبي
تمهيد موجز، لكنه ضروري
الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس
الجزء السابع
ثبت المراجع
ثناء على الكتاب
إلى أمي وأبي
تمهيد موجز، لكنه ضروري
الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس
الجزء السابع
ثبت المراجع
كل شيء وأكثر
كل شيء وأكثر
تاريخ موجز للانهائية
تأليف
ديفيد فوستر والاس
ترجمة
بيومي إبراهيم بيومي
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
ثناء على الكتاب
هذا الكتاب هدية بكل المعايير تقريبا. إنه وثيقة ذكية وعميقة الفكر في 300 صفحة تشهد بخصائص لم أكن أدرك من قبل أن تتسم بها الرياضيات: الرياضيات محيرة ومليئة بالإعجاز، ولكنها في النهاية تمتاز بجمال مذهل.
أنطوني دوير، صحيفة «ذا بوسطن جلوب»
والاس هو الرفيق المثالي الذي يمكنك اصطحابه في مغامرة سقوط حر بمظلة في هوة علم الرياضيات والميتافيزيقا السحيقة المتمثلة في اللانهائية.
دينيس ليم، صحيفة «فيلدج فويس»
كتاب ممتع للغاية في قراءته، شديد السلاسة في أسلوبه ... ترياق رائع للملل الذي توصم به الكتب الدراسية وكتب الثقافة الرائجة، اللتان تتناولان الرياضيات بطريقة تبرز المكتشف على حساب الاكتشاف نفسه.
مجلة «بوكليست»، مقالة رأي
لو لم يمتهن والاس كتابة الروايات الأدبية، فمن غير الصعب أن تتخيله مؤرخا للعلوم، يكتب كل بضعة أعوام مجلدات غير تقليدية تتحدى الفكر، على غرار هذا الكتاب.
مجلة «بابليشرز ويكلي»
إلى أمي وأبي
Ούκ ớ ἐν τῇ κεφαʎῇ, άλλ’ ἐν ᾧ ῇ κεφαλή ἐóτιν.
أتقدم ببالغ الشكر والتقدير إلى: كلاسينا بيل، وجيس كوهين، وميمي بيلي ديفيس، وجون فرانزين، وبوب جوريس، وروشيل هارتمان، وريتش موريس، وإريكا نيلي، وجو سيرز، وستيفن ستيرن، وجون تارتر، وجيم والاس، وبوب وينجرت، على عونهم وحسن مساعدتهم لي.
وغني عن القول إن المؤلف هو المسئول الوحيد عن أي أخطاء أو التباس ناجم عن عدم الدقة في هذا الكتيب.
مقدمة
بقلم نيل ستيفنسون
عندما كنت صبيا صغيرا يترعرع بمدينة إيمز بولاية آيوا، اشتركت في فريق الكشافة للأولاد، وقد أعد لنا فريق الإشراف - الذي كان يتكون في معظمه من أساتذة في جامعة ولاية آيوا للعلوم والتكنولوجيا - المشروع التالي الذي من المفترض أن ننفذه عندما نفرغ من لعب كرة المراوغة وعمل العقد. أحضر أحد مشرفي فريق الكشافة - وكان أستاذا بارزا في مجال الهندسة الزراعية - من مختبر في قسمه بالجامعة، كيسا يحتوي على حبات ذرة متماثلة وراثيا، وكان يحمله في أرجاء الحرم الجامعي، وأعطاها لمشرف آخر من مشرفي الفريق، وكان فيزيائيا يعمل بمختبر إيمز. كان هذا جزءا من مشروع مانهاتن. واليورانيوم الذي جرى تخصيبه في مدينة أوك ريدج، واستخدم في صنع أول قنبلة ذرية، كان قد جرى استخلاصه من مادته الخام بطريقة استحدثت في إيمز. حمل المشرف الثاني - الذي كان حاضرا في بداية تشغيل المفاعل الذري الأول في العالم في ملعب كرة الراح بجامعة شيكاغو - البذور إلى غرفة احتواء إشعاع نووي بما يوازي طابقين أسفل إحدى بنايات مختبر إيمز، وسلمها إلى ذراع آلية حملتها خلف حائط سميك من الزجاج المائل إلى الصفرة المطعم بالرصاص، ووضعتها بالقرب من شيء ما نشط إشعاعيا. بعد مرور فترة محددة من الزمن، استرجع البذور المشعة وأحضرها إلى الاجتماع التالي لفريق الكشافة ووزعها على الصبية. أتذكر بوضوح أنني نظرت إلى هذه الحبوب في راحة يدي، ولاحظت أنها غسلت بطلاء أو حبر بلونين أو ثلاثة ألوان مختلفة، ومع أن شفرة الألوان لم تشرح لنا (على الأقل قبل انتهاء المدى الزمني لانتباهي)، فقد لاحظت جوهر الطريقة العلمية وتوقعت أن هذه المجموعات المختلفة قد تعرضت لكميات متفاوتة من الإشعاع قلت أو كثرت. على أية حال، طلب منا أخذ هذه البذور إلى المنزل وزراعتها وريها؛ على أن نحضر النتائج بعد بضعة أسابيع إلى اجتماع ستمنح فيه جائزتان: واحدة لأطول وأصح نبتة ذرة، والأخرى لأغرب طفرة. وبالتأكيد حصلنا على كلتيهما: سيقان طويلة من شأنها أن تجعل أي فلاح في آيوا فخورا، ونباتات جميلة جدا، في أحيان كثيرة، نادرا ما أمكن التعرف عليها باعتبارها تنتمي إلى الشعبة التصنيفية المناسبة. لو كان شخصا ما سألنا: «هل تتخيلون أن فرق الكشافة في المدن الأخرى يفعلون أي شيء مماثل لذلك ؟» لخمنا بعد تفكير عميق قائلين «لا.» ولكن أحدا لم يسأل، ومن ثم استوعبت عقولنا الصغيرة ما حدث على أنه شيء عادي، مثل لعبة التقاط الأشياء أو صنع حلوى «السمورز».
بعبارة أخرى، أود أن ألفت انتباه القارئ إلى ظاهرة المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي التي أفخر بأن عاش فيها أيضا ديفيد فوستر والاس الذي أرفع له القبعة تقديرا لأسلوبه الرائع. في عام 1960 عندما كان عمري ستة أشهر، انتقلت برفقة والدي إلى ضاحية أكبر بعض الشيء من المعتاد، بها مدينة جامعية نموذجية وهي ضاحية تشامبين - أوربانا بولاية إلينوي؛ حتى يتسنى لأبي متابعة دراسته لنيل درجة الدكتوراه. وبعد عامين عندما بلغ عمر ديفيد فوستر والاس ستة أشهر، انتقلت عائلته أيضا إلى المدينة الجامعية نفسها للغاية ذاتها (كان والده فيلسوفا ووالدي مهندس كهرباء). عشنا أنا وفوستر في المدينة الجامعية ذاتها حتى عام 1966 فقط، عندما انتقلت عائلتي إلى المدينة الجامعية الكائنة في ضاحية إيمز، وهي مدينة على الرغم من كونها أصغر مساحة، لم تكن أقل تميزا. لم أقابله قط إلا عندما حدث وتقاسمنا أرجوحة أو زلاجة في حديقة ما في تشامبين - أوربانا، كل منا ذهب إلى ماساشوسيتس للالتحاق بالتعليم العالي، واستقر لفترة في مدينة جامعية مختلفة: كنت أنا في مدينة آيوا، بينما ديفيد فوستر والاس في بلومينجتون نورمل بولاية إلينوي.
لعل قصة الذرة المشعة قد أوضحت كل ما من المفترض أن يقال عن ثقافة المدن الجامعية بالغرب الأوسط الأمريكي، لكن بما أن ديفيد فوستر والاس وأنا يبدو أننا كنا نتاج هذه الثقافة بكل ما فيها، فثمة بعض النقاط المحددة التي قد يكون من المفيد تسليط الضوء عليها بمزيد من التفصيل، وهي كالتالي. •••
الأشخاص كثيرو الترحال بين الساحل الشرقي والساحل الغربي للولايات المتحدة سيكونون على دراية بهذه المنطقة الممتدة من أوهايو حتى بلات تقريبا. تغطي هذه المنطقة، باستثناء الأجزاء الوعرة غير المسطحة منها، شبكة كارتيزية من الطرق. وربما لا يعلم هؤلاء الأشخاص أن المسافة بين الطرق هي ميل واحد بالضبط. وما لم يكن لديهم اهتمام جاد بخرائط الغرب الأوسط الأمريكي في القرن التاسع عشر، فمن غير المحتمل أن يكونوا على دراية بحقيقة أنه عند تصميم هذه الشبكة من الطرق، وضع مخطط لإنشاء مدرسة عند كل تقاطعين. وبهذه الطريقة، ضمن المصممون أنه لن يبعد أي طفل قط في الغرب الأوسط الأمريكي عن مكان تعليمه بمسافة تزيد عن ميلين. أما المدارس الثانوية، فكانت موزعة بناء على مخطط آخر أقل صرامة، والجامعات كانت موزعة بصفة عامة بمعدل جامعتين في كل ولاية. وبناء على اتفاقية أدت إلى اتساق جيد بين جميع الولايات الواقعة غرب أوهايو، فإن أي ولاية من تلك الولايات، ولنطلق عليها اسم
X ، خصص لها «جامعة
X » و«جامعة ولاية
X ». بالنسبة إلى «جامعة
X »، فقد كانت جامعة، مقارنة بالكلية، منذ تأسيسها وهي تضم بوجه عام جميع أقسام الآداب والعلوم المرموقة وكلية الحقوق وكلية الطب. أما بالنسبة إلى «جامعة ولاية
X »، فإنها كثيرا ما كانت تبدأ تحت اسم «كلية ولاية
X »، واكتسبت الصفة المرموقة «جامعة» خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وكثيرا ما كانت بمثابة مؤسسة تمنح الأراضي وتتسم بالتفكير العملي والميل نحو أقسام الزراعة والطب البيطري والهندسة بينما تظهر احتراما جيدا للعلوم الإنسانية.
كانت الكليات العادية، التي تأتي في المرتبة الثالثة من التصنيف الأكاديمي، تلي المدارس الثانوية، وكان الهدف منها تدريب المعلمين الذين سوف يشكلون هيئة التدريس لتلك المدارس التي تفصل كلا منها عن الأخرى مسافة ميلين على الشبكة الكارتيزية للطرق. وتسبب أخيرا الضغط المتزايد، الذي أدى إلى تحويل كلية ولاية
X
إلى جامعة ولاية
X ، في ترقيتها إلى «جامعة [المحدد الجغرافي]
X » أو «[المحدد الجغرافي] جامعة
X » وبهذه الطريقة وصلنا إلى اسم جامعة شمال آيوا وجامعة شرق إلينوي وغير ذلك.
النتيجة هي شبكة من الجامعات الحكومية التي أقيمت عادة في مدن صغيرة (يتراوح عدد سكانها بين عشرين ألفا ومائتي ألف نسمة)، وتناثرت في أنحاء الجزء العلوي من الغرب الأوسط الأمريكي على مسافات فاصلة تحتاج تقريبا خزانا واحدا من الوقود. وعلى وجه التحديد، بسبب قرب تلك الجامعات (إذ تقع في قلب المناطق السكانية التي تخدمها) وعدم علو رتبتها في التصنيف الأكاديمي، وواقعية محاور اهتماماتها العملية، وفرقها الرياضية التي تسري عن المناطق المحيطة ذات الكثافات السكانية الضعيفة؛ بحيث لا يتأتى لها دعم الفرق الاحترافية، تلافت هذه المؤسسات وصمة النخبوية أو البرج العاجي التي غالبا ما توصم بها - سواء بطريقة مستحقة أم لا - جامعات ساحلية خاصة على ألسنة عناصر من المجتمع الذين حينما يصورون سينمائيا، يصورون على أنهم غوغائيون ناقمون. هذا من الممكن أن يكون قد تغير خلال القرن الواحد والعشرين بسبب تسييس العلم، لكن لا شيء من ذلك كان موجودا في المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي في الفترة من منتصف القرن العشرين إلى أواخر القرن ذاته، عندما كانت مواقف معظم الناس من العلم قد أثرت فيها المضادات الحيوية وتطعيمات مرض شلل الأطفال والصواريخ المرسلة إلى القمر أكثر من التناقضات الحالية حول ما يستحيل حدوثه فيما يتعلق بالتطور والاحترار العالمي.
بناء على مقاييس عددية للانتقائية والمكانة الأكاديمية إلى آخره - صدقني، تلك هي فعلا نوعية المعايير التي يستخدمها هؤلاء الأشخاص للتحكم في كل شيء - هذه الكليات أصبحت في مكانة ما أدنى من الكليات الخاصة القديمة المرموقة الواقعة على السواحل (ليس لأن الناس هناك أكثر غباء، ولكن لأن جزءا من رسالتها يتمثل في جذب المواهب الأكاديمية على اختلافها، في حين تشغل الكليات الساحلية مستوى محددا تماما). وقد أثقل هذا كاهلهم، بالإضافة إلى ما يتصف به سكان الجزء العلوي من الغرب الأوسط الأمريكي من العناد وقلة تقدير الذات، ناهيك عن العدوانية السلبية، وأصبح لديهم نوع من الميل المخجل إلى وصف أنفسهم بأنهم «هارفرد الغرب الأوسط» وما شابه ذلك. لكن عند النظر بإمعان وبدون التوغل أكثر في شأن سياسة الساحل مقابل سياسة الغرب الأوسط الأمريكي، فإن إنجازات جامعات الولايات كانت أكثر تميزا، وبالتأكيد أكثر تفردا، في أن المرء لن يتوقع بالضرورة لجامعات حكومية جديدة أن تكون قادرة على تحقيق إنجازات مرموقة كهذه في ظل منافسة مع كليات خاصة أقدم بكثير لا تفعل شيئا سوى تكديس إمكاناتها (ثروتها) قرنا بعد قرن، وتعليم أبناء العائلات الكبيرة ذوي المهارات الممتازة الذين تلقوا إعدادا على أفضل نحو.
إنني أصف هنا موقفا كان قائما خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ربما يكون الوضع قد اختلف الآن، لكن في تلك الأيام، انتقل طلاب الدراسات العليا وأعضاء هيئة التدريس من مدينة جامعية في الغرب الأوسط الأمريكي لأخرى على نحو مشابه لتنقل العرب عبر التضاريس الوعرة، وجميع المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي متماثلة في هذا الشأن مهما اختلفت. وما اختلف فقط هو ألوان المدرسة والتمائم.
العزلة الجغرافية هي أساس ثقافة المدن الجامعية في الغرب الأوسط. إذا كان لديك وظيفة أكاديمية - مثلا - في بوسطن الكبرى، فإنك تقضي يوم عملك في ثقافة مماثلة لثقافة المدن الجامعية في الغرب الأوسط، لكن عندما تعود إلى منزلك في سوجس أو شقتك في ألستون - برايتون، فأنت في مكان سوف تستمتع فيه على الأقل نظريا بمكانة رفيعة بفضل درجتك العلمية ووظيفتك المرموقتين حتى إذا كنت لا تتقاضى فيه راتبا أكبر من رواتب المحيطين بك. وبعض الأشخاص سوف يعاملونك بدرجة من التوقير، حتى أولئك الذين يذكرونك بأنك شخص غريب في المنظومة الأشمل. لكن إذا كنت في مدينة جامعية في الغرب الأوسط الأمريكي، فلن تمنح أي نوع من الخصوصية والتفرد.
ولا تنس أن هؤلاء هم الأساتذة أنفسهم الذين أتحدث عنهم. أطفال الأساتذة الذين يكبرون في مجتمع يكون فيه جميع آباء الأطفال الآخرين من حملة الدكتوراه، ليس لديهم من الأساس شعور بالانتماء إلى فصيل يتسم بالخصوصية أو حتى بالاختلاف.
كان هناك تفاصيل معينة أخرى لمدن الغرب الأوسط الجامعية التي قد تجد مكانها في معالجات أكثر استفاضة لهذا الموضوع، مثل تعامل الناس مع أبناء جامعي القمامة وبنات المزارعين كتعاملهم مع غيرهم؛ ما داموا أذكياء، والكيفية التي يفاجأ بها الطلاب - دون أن يسعدهم ذلك دوما - الذين ينتمون إلى أماكن كان ينظر إليها في تلك الأيام باعتبارها غريبة ونائية للغاية (تايلاند وأفغانستان ونيجيريا) عندما يرون أبناءهم قد انخرطوا انخراطا كاملا في مجتمع الغرب الأوسط الصغير، ويذهبون بها إلى حفلات البيرة ويترددون على منازل أصدقائهم كما لو كان أجدادهم قد قدموا على متن السفينة «ماي فلاور» التي أقلت الرواد الأوائل إلى أمريكا.
الافتراض الذي يستند إليه استخدام هذا التمهيد، الذي سنوضحه وندعمه بالأدلة بعد قليل هو أن ديفيد فوستر والاس في كتابه «كل شيء وأكثر» يتحدث بلغة استقصائية ويستخدم أسلوبا استقصائيا من شأنهما أن يجعلا الأشخاص الذين لم يتنفسوا هواء إيمز وبلومينجتون - نورمال وتشامبين - أوربانا يشعرون بأن هذه الأماكن ليست مألوفة بالنسبة إليهم، ومن ثم يحتاجون إلى تفسير من نوع ما. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه نظرا إلى الافتقار إلى هذه الخلفية، يقع الكثيرون من نقاد ديفيد فوستر والاس في هذا النمط الشائع من الأخطاء، الذي يتضمن محاولة تفسير أسلوبه ومنهجيته بعزو مواقف أو دوافع معينة إليه، ثم يصابون بحالة من الارتباك أو الغضب أو الشعور المباشر بالإساءة حيال تلك المواقف والدوافع. إنه خطأ يؤدي إلى إرباك قاطني المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي الذين يرون هذا الكتاب ببساطة على حاله: مؤلف جديد من المؤلفات الذكية التي تحاول تفسير مادة ما مثيرة للاهتمام. •••
إن الحقيقة المؤسفة أنني لم ألتق قط بالسيد والاس (باستثناء مقابلات غير مرتب لها حدثت بالمصادفة في ملعب المدرسة) ليست بالضرورة شيئا يحول بيني وبين تأليف مقدمة لهذا الكتاب. ولهذا السبب، فإن كل ما أنا بحاجة إليه هو شيء من المعرفة بالعمل الذي أكتب مقدمة له. ولكن بما أن أي شخص يمكنه قراءة الكتاب الذي بين أيدينا، فإن هذا لا يمكن أن يكون مؤهلا فريدا أو حتى غير عادي لكتابة المقدمة؛ ولذا فإن استراتيجيتي هنا هي إرساء نقاط معينة تتعلق بديفيد فوستر والاس وعمله هذا، استنادا إلى منشئنا المشترك وحده، وهو المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي، وهذه النقاط مجرد تخمينات جامحة أنا على يقين تام بأنها صحيحة. يمكن التعبير عن هذا بإسهاب كبير، لكن بما أن هذه مجرد مقدمة إلى الكتاب الفعلي («كتيب» ديفيد فوستر والاس)، فإنني أخاطر بالإفصاح عن فكرتي الأساسية مباشرة وأخبرك بأن الأمر كله يتعلق بإنكار مثالي يغلب عليه طابع المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي، أو على الأقل بتخل عن موقف معين من المعرفة التي نقلت في قصة بروميثيوس على الطريقة الإغريقية، وفي قصة حواء ضمن التراث اليهودي المسيحي.
في هذا الصدد، في نسخة ظنية من هذه المقدمة كانت أكثر تفخيما وتقليدية، أعيد حكي هاتين الأسطورتين وتسليط الضوء عليهما. وبما أن الأمور على هذا المنوال، فإنني أشجع القراء الذين لا يعلمون الكثير عن هاتين الأسطورتين أن يستعينوا بمحرك البحث جوجل قبل متابعة القراءة. إنهما أسطورتان مرعبتان تحذيريتان لهما مغزى؛ إذ تهدفان إلى منع من هم أدنى مكانة من طرح أسئلة صعبة تتعلق بمن يعلونهم في المكانة الاجتماعية. بادئ بدء، من الخطأ أن نقول إنهما استمرتا بما يفوق العمر الافتراضي للاستفادة منهما؛ لأنهما لم يحققا نفعا قط. لكننا أشربناهما في مرحلة ما، ويمكن الاستشهاد بهما في الخطاب من أجل إثارة استجابات معينة يمكن التنبؤ بها. وهذا يحقق نفعا لمن اكتسبوا الكثير من المعرفة. قد تختلف معي لأن أسطورة بروميثيوس لها تأثير واضح على الحياة الأكاديمية. لكن الشيء الذي يحتاج إلى توضيح أن تلك الأسطورة تمنح العلماء مبررا لارتداء عباءة الكهنة، وعن طريق التلميح إلى المواقف التي ربما تفتقر كثيرا إلى السلوك الكهنوتي لدى نظرائهم في بلدان أخرى، يمكنهم أن يتفادوا الكثير من الآراء المناهضة لآرائهم. كما أنها تعطي الأشخاص الآخرين من غير العلماء ذريعة ضمنية يمكنهم أن يشهروها في أوجه العلماء. وبناء عليه، فقد توصل العلماء وغير العلماء إلى اتفاق يقضي بقبول كلا الفريقين بكون أسطورة بروميثيوس نموذجا للواقع يمكن قبوله. يمكنك أن تصف هذا بإجماع بروميثيوس. وهذا الإجماع شيء لن يعترف أحد أبدا بأنه يؤمن به، إذا طلبت منهم توضيح رؤيتهم أو حاولت إشراكهم في هذا المستوى من الاستبطان، لكنه يجري التشديد عليه وترسيخه بوجه عام في كل فيلم سينمائي أو عرض تليفزيوني عن العلم كما تؤكد عليه الكثير من الكتب، وعلاوة على ذلك، فإنه من البديهي أن يكون أساسا تستند عليه المواقف العامة التي من المتوقع أن يتبناها العلماء.
وبمجرد قبولك لإجماع بروميثيوس، لا يصبح أمامك سبيل سوى أن تتخذ أحد موقفين لا ثالث لهما: إما أن تحترم قواعده وإما أن تخالفها عامدا متعمدا. فإما أن تكون كاهنا أو إنسانا سيئا؛ كاهنا لأنك إذا كنت أحد حراس الشعلة الأكاديمية وكنت على استعداد لأن تقبل أن يكون لجزء من معرفتك تداعيات خطيرة، فيمكنك أن تحظى بالكثير من المنفعة بفضل الاختيار الصائب للاقتباسات الرنانة والمهيبة، وإنسانا سيئا لأن مثالب أسطورة بروميثيوس قد تلاشت في الأساس. فلم يعد أحد يطرد من جنة عدن أو يعقل بسلسلة في صخرة لتنهش كبده العقبان. صحيح أن علماء العصر الحديث لا بد أن ينالوا نصيبهم من النقد، ولكن، باستثناء الأشخاص القائمين على إدارة مدارس الفتيات في أفغانستان، أو باحث الطب الحيوي الذي اشتبك في صراع مع نشطاء حقوق الحيوان، لم يعودوا مضطرين إلى تفادي سهام النقد. ولذا إذا كنت أحد أولئك الناس الذين لديهم بالفعل إمكانية الوصول إلى معرفة بمستوى بروميثيوس، فالأمر لم يعد ينطوي على الكثير من المخاطرة الشخصية، وبقدر ما ينظر إلى المعرفة باعتبارها خطيرة، يمكن أن تبدو مثيرة نوعا ما من منظور عابث، تماما كما لو كنت مراهقا قد اكتشف لتوه أين يخبئ أبوه مفاتيح الخزانة التي يحتفظ فيها ببندقيته.
لم تكن الحال كذلك، على ما يبدو، مع بذور الذرة المشعة. فمن الواضح أن إعطاء هذا النوع من المادة للأطفال ليس سلوكا كهنوتيا. لكن عندما أعطوا هذه المادة في اجتماع كشافة أو عندما تعرضوا للمعرفة المقدسة بطرق أخرى لا حصر لها في المدن الجامعية بالغرب الأوسط الأمريكي، لم يحدث أن قوبل هذا قط بموقف عقلي من قبيل «لقد أفلتنا من العقاب على شيء ما؛ ألسنا أشقياء؟» وإنما قوبل بموقف عقلي آخر مفاده «لدينا معرفة ما مثيرة للاهتمام وربما تكون مفيدة بحيث يحتاج إليها أي شاب أحسنت تربيته وتعليمه.»
إذن لم يكن لإجماع بروميثيوس حضور طاغ في المدن الجامعية بالغرب الأوسط الأمريكي. فبعد أن انتقلت إلى المدن الجامعية الساحلية ، ارتكبت مجموعة من السقطات الاجتماعية التي عجزت فيها عن مخاطبة أحد الحاصلين على درجة الدكتوراه أو تقديمه باستخدام لقبه الصحيح. فببساطة لم نفعل هذا قط حيثما نشأت لأن هذا كان من شأنه أن يضفي علينا التأثير الكوميدي الواهي لشخصيات مسرحية «ذا كروسيبل» عند مخاطبتهم بعضهم بعضا بألقاب مثل «رب البيت» و«ربة البيت» (في بلدتنا، كان هناك رجل حاصل على درجة الدكتوراه ولا يعمل في المجال الأكاديمي وكان يصر على أن ينادى بهذا اللقب. ألطف وصف يمكن أن يوصف به رأي الناس فيه أنه «مشوش»).
في الفقرة السابقة، استخدمت طريقا مختصرا مجازيا فظا بعض الشيء من خلال السخرية من أشخاص لديهم نوع من الهوس بألقابهم الأكاديمية، والأرجح أن القراء المنتمين إلى أوساط أكاديمية - خلافا للمدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي - سيغضبون ويشعرون كما لو كانوا قد أسيئت معاملتهم بسبب زعم واه يطرحه رجل يهاجم لكنه غير قادر على الصمود؛ لذا دعوني أوضح على نحو مباشر أن الأمر أعقد بكثير مما يبدو عليه، وأن أساتذة جامعات هارفرد وكامبريدج وبولونيا وبيركلي يخاطب بعضهم بعضا بأسمائهم الأولى طوال الوقت.
بيد أنني أحاول صراحة أن ألفت انتباه القارئ إلى حقيقة مفادها أنه حتى بين الأكاديميين الذين يركبون الدراجات ذهابا إلى العمل ويرتدون القمصان القصيرة الأكمام والجينز الأزرق، ويتحاشون استخدام الألقاب الرسمية، توجد بينهم ضوابط وقيود وقواعد وخطوط فاصلة واضحة، وتدرجات هرمية ينبغي أن تحترم، وأن الأشخاص الذين يخالفون ذلك يمكن أن يعرضوا أنفسهم لعقوبة شديدة مبالغ فيها. وهنا، أشعر بأنني أقف على أرضية أكثر رسوخا؛ لأن كل من قضى وقتا على أي درجة من درجات السلم الأكاديمي واجه على الأرجح موقفا واحدا على الأقل لا يحسد عليه خالف فيه تلك القيود وانتقد انتقادا لاذعا في اجتماع لأعضاء هيئة التدريس أو في رسالة ضمن بريد القراء أو عبر البريد الإلكتروني. أقول لكم إنه بمقدور قاطني المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي أن ينشئوا دون إدراك واع لهذه القواعد، تماما مثلما أن مجتمع الإيلوي لم يفطن أبدا إلى حقيقة أنه كان طعاما لمجتمع المورلوك. وكما حاولت أن أوضح من خلال مثال الذرة المشعة، تولد المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي حالة من عدم الاكتراث المناهض لبروميثيوس وهو ما يغضب بعض الناس. وهذه الحالة تغلغلت في كل فقرة من فقرات هذا الكتاب. •••
ثمة توقع منطقي بما فيه الكفاية أن أي شخص يغامر بالكتابة عن الرياضيات ينبغي أن يقدم إسهاما إيجابيا من نوع ما أو يصمت. ثمة استثناءات لمقالات رأي تصدر من آن لآخر، وتلخص نتائج أخرى دون تقديم مادة جديدة في حد ذاتها، لكن حتى مقالة الرأي ينبغي أن تكتب وفق معايير صارمة بما يكفي بحيث إن أي طالب جاد في المجال موضع البحث، ولنقل طالب الدكتوراه، يمكن أن يقبل الأمر على ظاهره ولا يعرف قط أن هناك احتمالية لأن يكون قد جرى تلميعه أو إعادة ترتيبه أو إفساده تماما، وهو ما ينطوي على شيء من الخطورة. ولذا، إذا كان المرء يتصرف وفق قواعد النشر الأكاديمي، فإن تأليف كتاب جاد ومهم من الناحية الفكرية عن الرياضيات يتضمن شيئا من إعادة الترتيب أو الصقل، كما فعل ديفيد فوستر والاس في كتابه هذا، لا ينظر إليه باستحسان.
ثمة ممارسة أخرى تجعل الأكاديميين المتفرغين يستشيطون غضبا على ما يبدو، وهي عبور الحواجز بين فروع المعرفة الشديدة التخصص (أو، في حالة التاريخ، المناطق الجغرافية أو الحقب الزمنية) من أجل كتابة مقالات تجمع بين عدد من الخيوط، وتبرز الموضوعات المشتركة بينها. ومن الأفضل أن تترك الأسباب الفعلية وراء هذا الحظر لعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس، لكنني أستنتج أن هذه النوعية من الأمور ينظر إليها باعتبارها امتيازا يكتسب فقط مع السن وعند التقاعد مع الاحتفاظ بدرجة شرفية، وأن تأليف أي مادة كهذه قبل سن الستين يجعل المرء يصنف على أنه مدع، وهو ما يعني، في الأوساط الأكاديمية، الإعداد لتدابير عقابية تبلغ درجة من الشدة لم يسمع عنها سوى في الأساطير الإغريقية.
إذن قواعد طريق النشر الأكاديمي صارمة وتطبق بقسوة. وهذا يفرض بعض القيود الضيقة والصعبة على الموضوعات التي يمكن أن يكتب عنها الأذكياء من الناس دون أن يتعرضوا للعقاب، وأمر على درجة من الصرامة تكفي لأن يبحث البعض عن سبل للتحايل على القواعد. وأبرز تلك السبل الخيال العلمي على ما يبدو؛ فروائيو الخيال العلمي يزعمون أن لهم الحق فيما يكتبون، وجرى العرف على تمكينهم من ذلك، وهو نوع من الحصانة كتلك التي كانت تمنح لمهرجي البلاط الملكي في العصور الوسطى. في حقيقة الأمر، ثمة عدد كبير من أساتذة العلوم الطبيعية الذين انتهجوا نهج المهرج، والتقطوا القلم وكتبوا أعمالا حققت نجاحا بدرجة أو بأخرى عن الخيال العلمي في مجال العلوم الطبيعية؛ وذلك كطريقة لتفادي هذين القيدين البشعين اللذين يعوقان التبسيط والترويج والجمع الشامل بين خيوط متنوعة.
كذلك يسمح للأكاديميين الجادين أن يؤلفوا كتبا تستهدف بوضوح عموم القراء، بالرغم من أن هذا قد ينظر إليه باعتباره سلوكا من سلوكيات المدعين إذا انخرط فيه الأكاديمي في وقت مبكر أكثر من اللازم من حياته المهنية.
ومن ثم فإنه بوصولنا إلى تلك المرحلة، لدينا قائمتان من الكتب التي تتناول العلم الحقيقي للقراء غير المتخصصين: روايات الخيال العلمي في مجال العلوم الطبيعية، والكتاب الترويجي الذي يؤلفه عالم فعلي. ثمة قائمة ثالثة وهي تضم كتابا مثقفين حصلوا على قدر جيد من العلم دون أن تكون لديهم شهادات أو أوراق اعتماد رسمية في المجال؛ حيث يغوص هؤلاء في أعماق المادة العلمية، ثم يبذلون قصارى جهدهم في شرح هذه المادة وتوضيحها. ثمة اتجاه لا يمكن أن يوصف بأي حال من الأحوال بأنه سيئ؛ وهو أن هذه الكتب تحمل مرجعية للمؤلف، أو تصبح بمنزلة سيرة ذاتية كتبها بنفسه بدرجة أو بأخرى؛ حيث يروي المؤلف فيها حكاية تعليمه الذاتي. وفي حين أن المبدأ، على النحو الذي عرضناه، قد يبدو مراوغا وينطوي على شيء من المخاطرة، يمكن أن تكون هذه الكتب جيدة بحق، حيث يعلم الكاتب كيف يكون الحال عند عدم فهم مادة علمية ما، ويمكن أن يحكي قصة تعلم تلك المادة بطريقة روائية.
هناك قائمة رابعة قد تبدو مختلفة تماما عن القائمة الثالثة، لكنها تشبهها في بعض الجوانب، وهذه القائمة هي كتب تاريخ العلم التي تتخذ عموما الشكل الروائي لتحكي جهود عالم أو أكثر من أجل فهم شيء ما. هنا، يحل العالم الفعلي، الذي فهم هذا الشيء فهما كاملا في الأساس، محل المؤلف الاستقصائي - باعتباره البطل - الذي ذكرناه في القائمة الثالثة.
من جديد، أقول إن هذه المقدمة ربما تصبح وثيقة أكثر أهمية وقيمة - وبالتأكيد كان من الممكن أن تصبح أطول - لو أنها سردت أمثلة محددة لكل قائمة من قوائم الكتب الأربع التي ذكرناها آنفا، وانخرطت في شيء من النقد الأدبي الفعلي. لكن أي شخص يهتم بقراءة مقدمة بقلم روائي خيال علمي لكتاب عن اللانهائية بقلم ديفيد فوستر والاس، لديه على الأرجح في مكتبته أمثلة لجميع القوائم الأربع؛ ومن ثم فإنني سأترك هذا الأمر لجهد القارئ وحكمه، كما يقولون. ولكن حتى يكون قصدي واضحا؛ سأورد بعض الأمثلة هنا:
القائمة الأولى:
أي قصة خيال علمي لجريجوري بينفورد.
القائمة الثانية:
كتاب «تاريخ موجز للزمن» بقلم ستيفن هوكينج.
القائمة الثالثة:
كتاب «1491» بقلم تشارلز مان.
القائمة الرابعة: «أينشتاين في برلين» بقلم توم ليفنسون.
الأمر الذي لا ريب فيه بشأن جميع قوائم الكتب هذه أن تأليفها آمن لا ينطوي على أي نوع من الخطورة؛ بمعنى أن القراء ذوي التفكير النقدي من الأوساط الأكاديمية سرعان ما سيقولون في أنفسهم: «آه، هذا كتاب من هذا النوع.» وبعدها سينخرطون في نقده، إذا هم رغبوا في ذلك، وفقا لقواعد هذا النوع.
يشغل الكتاب الذي بين أيدينا حيزا يصعب تحديده أو وصفه في مخطط فن الذي تشكل في الفقرات السابقة (وقبل الخوض في تفاصيل ذلك، سأكتفي بتقديم معلومات تحذيرية مسبقة، مفادها أن الكتب التي بدون إحداثيات واضحة على مخطط فن غالبا ما تزعج الناس أو تستثير حفيظتهم؛ لأنها لا توضح أي مجموعة من القواعد الأساسية التفسيرية والنقدية يتعين تطبيقها).
بادئ بدء، قيل إن ديفيد فوستر والاس كاتب خيال علمي (استنادا إلى روايته «المرح اللامتناهي») بالرغم من أنه لم يكن ليصنف نفسه كذلك على الأرجح. بطبيعة الحال، الكتاب الذي بين أيدينا ليس من كتب الخيال العلمي أو حتى كتب الخيال على الإطلاق، مع كامل الاحترام لبعض منتقديه، لكن مجرد الحقيقة القائلة بأن ديفيد فوستر والاس كان كاتب خيال علمي تشوش على التصنيف السليم للكتاب، حتى قبل أن نبدأ قراءته. فالروائيون، الذين يحملون شهادات أو وثائق اعتماد غير رسمية - هذا إن منحوا تلك الوثائق من الأساس - ليس من السهل أن ينسجموا مع الأوساط الأكاديمية التي تعد فيها وثائق الاعتماد الرسمية كل شيء، كما أن الكتاب الذين يؤلفون كتبا حول الموضوعات المتخصصة التي تستهدف قراء غير مختصين، عادة ما تحصل على تقييمات سلبية من كلا الجانبين: أي شيء ينقصه دراسة روجعت بالكامل من قبل الأقران يعد خطأ، ويكون عرضة للانتقاد من جانب الأشخاص الذين تكون مهمتهم أن يجعلوها صحيحة، وأي مادة تحتاج إلى جهد غير عادي لقراءتها تضعف من استحقاق العمل الوصول إلى عموم القراء. ومن ثم فإنه في تأليفه كتابا كهذا الذي بين أيدينا، يذكرنا ديفيد فوستر والاس بالجندي الذي ينال قلادة باستدعائه ضربة مدفعية على موقعه مع التوضيح المحتمل بأنه في هذه الحالة يكون في الخارج وسط أرض محايدة مستدعيا ضربات من كلا الاتجاهين.
الدرجة العلمية التي نالها ديفيد فوستر والاس كانت في منطق الموجهات، الذي إن لم تكن تعرفه من قبل، لا يمكن تمييزه عن الرياضيات البحتة من جانب جميع الأشخاص العاديين تقريبا، بالرغم من أنه حتى أكثر تجريدا بكثير مما يمكن أن تكون عليه الرياضيات. وبالرغم من أنه لم يتعقب هذا المسار المهني لنيل درجة الدكتوراه وتقلد منصب أكاديمي، فإن الحقيقة القائلة بأنه كان قادرا على دراسة مثل هذا المجال العويص من الأساس تسلط الضوء بوضوح على حقيقة أنه كان يمتلك كل ما يؤهله لأن يكون متخصصا محترفا في مجال العلوم الطبيعية (الرياضيات، المنطق)، ومن ثم، يجوز انتقاده في نظر نقاد الرياضيات الصرفة. ولذا، ينبغي علينا أن نسأل ما إذا كان ينبغي أن يأخذ عالم حقيقي الكتاب الذي بأيدينا على محمل الجد باعتباره كتابا متخصصا، أم أن هذا نوع من النشر الترويجي. لقد طلب محرروه بوضوح النشر الترويجي له، وفي نهاية المطاف حققوا شيئا أقرب إلى كونه كتابا متخصصا. لا نقول إن ديفيد فوستر والاس قدم إسهامات متخصصة فعلية في مجال الرياضيات - هو لم يفعل ولم يحاول أن يفعل - لكنه تعمق في المادة بطريقة لم يكن بمقدور المحررين، بحكم المنطق، أن يطلبوها أو يتوقعوها من أي كاتب، وترقية أجزاء من النص إلى مستوى متخصص أعلى من المستوى، وهو ما يعد عموما نقلة جيدة في كتب رسالتها الترويج للعلم. ولو افترضنا أن كل ما كان يحرص عليه ديفيد فوستر والاس هو أن يحظى باستقبال جيد ومتحمس من جانب النقاد، فإن هذا قد لا يكون النهج التكتيكي الأمثل. لكنه، على ما يبدو، لم يكن من هذه النوعية من الناس على الإطلاق.
وبلغة الجهاز المناعي، فإن أجزاء هذا الكتاب المليئة بالمعادلات تجعله يعبر عن أجسام مضادة معينة تستثير الرغبة العقابية لدى نقاد العلوم الطبيعية والرياضيات. والصورة التمثيلية هنا معكوسة لأنه عند استثارة الجهاز المناعي، فإنه يولد مجموعة من الاستجابات التي تتراوح ما بين إحساس طفيف بأن ثمة شيئا ما ليس على ما يرام والانفعال والطفح الجلدي وصولا إلى الهجوم المضاد الكامل للخلايا التائية ولفظ العضو الغريب.
وأخيرا، يتناوب تصنيف هذا الكتاب، في كثير من أجزائه، بين القائمتين الثالثة والرابعة (انظر التحليل التصنيفي أعلاه)، حيث نجده في بعض الأحيان أقرب إلى مادة السير الذاتية عندما يسلط الضوء على الكيفية التي تعلم بها ديفيد فوستر والاس الرياضيات، بصفة أساسية على يد د. جوريس، ونجده في أحيان أخرى بمثابة كتاب لتاريخ العلم نتعلم منه أشياء عن الحياة الشخصية والمهنية لكل من ديديكند وفايرشتراس وكانتور وآخرين.
وبالنظر إلى كل هذه الأشياء مجتمعة، فإن أضعف ادعاء يمكنني أن أؤكد عليه الآن هو أنني أحببت بحق هذا الكتاب، وأنني خلال قراءتي له، لم يحدث أن اعتراني نوع من المشقة أو الارتباك أو الانزعاج أو التشوش بسبب أي من الخصائص الملمح إليها: فحقيقة أنه قد جرى تأليفه بواسطة أحد كتاب الخيال، والخوض في الخطاب الشديد التخصص، والإشارات - التي أوردها ديفيد فوستر والاس مرارا وتكرارا وبوضوح - إلى أن التفاصيل المتخصصة قد بسطت وصقلت المادة العلمية بطريقة قد لا تروق علماء الرياضيات، واستخدام كل من مادة السيرة الذاتية التي يكتبها بنفسه عن نفسه، ومادة تسلط الضوء على جانب من السيرة الذاتية للغير. ومن ثم فإن نصيحتي لك، عزيزي القارئ، أن تقرأ الكتاب وحسب، وإذا ما صادفتك تفصيلة رياضية صعبة أو شديدة التخصص، طالع أوجه النقد اللاذعة الموجهة إلى الكتاب، التي ظهرت في أدبيات الرياضيات، واعمل على تحسين فهمك للمحتوى الرياضي البحت عن طريق دراسة الوثائق التي خضعت لمراجعة الأقران والتي تناولت الموضوعات ذاتها، وبوجه عام، تأكد من أن هذا الكتاب ليس آخر ما تقرؤه عن الموضوع قبل الامتحانات الشفهية.
بعد أن قدمت إليك هذه النصيحة، أود أن أضيف نصيحة جديدة بشأن الكيفية التي تقرأ بها هذا الكتاب، وهي أن تسترخي ولا تهتم - بخلاف قراءته والاستمتاع به بطبيعة الحال - بخصيصة يتسم بها هذا الكتاب أثارت قدرا كبيرا وسخيفا من النقد؛ وهي اعتياد ديفيد فوستر والاس على استخدام تعبيرات غير اصطلاحية أو دارجة أو عامية جنبا إلى جنب مع مفردات متخصصة؛ لا سيما عندما يتحدث عن أمور خيالية. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على إجادته الكتابة. فاللغة العامية أو الدارجة غالبا ما تكون أكثر أجنحة اللغة قدرة على التعبير. وقد تمتع ديفيد فوستر والاس بالقدرة على كتابة لغة نثرية قوية ربما يتفوق بها على الكثيرين غيره، لكنه أدرك قيمة المزج بين تلك اللغة النثرية واللغة الإنجليزية اليومية الدارجة، وبالرغم من تميزه فيها بشدة، ينبغي أن يوضع في الحسبان أنه لم يكن الكاتب الإنجليزي الرائع الوحيد الذي فعل هذا. ففي مقابل كل شاعر من أمثال ميلتون الذي سعى لأن يجعل لغته دوما راقية وفخمة، كان هناك شعراء أمثال شكسبير علموا كيف يؤثرون فينا باستخدام لغة بسيطة في التوقيت المناسب (ضمن كتاب مقالات الرأي الذين يحملون درجات علمية في الإنسانيات، يبدو أنه يتعين أيضا التنويه - أو الإشارة بشيء من التفصيل - إلى «ما بعد الحداثة»، باعتباره موضوعا لا يحظى بأي اهتمام من أغلب القراء).
أستنبط من ذلك أن بعض الذين وضعت سمعتهم الأكاديمية على المحك نتيجة لتكليفهم بكتابة مقال رأي عن هذا الكتاب، قد شعروا بشيء من الحنق أو الارتباك؛ نتيجة لإحجام ديفيد فوستر والاس أو رفضه الصريح لاستخدام أسلوب التعبير الأكاديمي الرفيع الذي ينتظر من الأشخاص الذين يريدون أن يزدهروا في إطار هذه المنظومة، والذي، في الوقت نفسه، يمكن أن يتنازل عنه الروائيون مقابل ارتداء «زي مهرج البلاط الملكي». ومن الأمثلة التي تسلط الضوء على هذه الحقيقة، تلك العادة التي يكتب فيها المرء عقب اقتباسه من نص نثري لديفيد فوستر والاس عبارة «هكذا كتبت». وما دمت لست من نوعية الأشخاص الذين لديهم عادة استخدام عبارة «هكذا كتبت» بعد الاقتباس من أعمال الآخرين في مراسلاتك الكتابية، فلن تكون لديك مشكلة مع الأسلوب الذي جرى به تأليف هذا الكتاب. •••
كل ما سبق كان سلبيا تماما، ليس بمنظور علم النفس الرائج فيما يتصل بتبني نبرة مثبطة، لكن بالمنظور التخصصي البحت على اعتبار أن الأمر تعرض لنفي عدد من الافتراضات (لم يقتنع ديفيد فوستر والاس بإجماع بروميثيوس، وهذا الكتاب لا ينسجم مع مخطط فن، فضلا عن انتقادات معينة للكتاب ليست مثيرة للاهتمام أو مفيدة لأغلب القراء). أود أن أختم هذه المقدمة بشيء إيجابي (من كلا المنظورين؛ علم النفس الرائج والمنظور المتخصص). يعكس أسلوب كتابة ديفيد فوستر والاس موقفا جميلا؛ إيمانا مؤثرا ومستندا في أغلبه إلى أسس جيدة بأنك تستطيع توضيح أي شيء بالكلمات إذا اجتهدت بما فيه الكفاية، وأظهرت قدرا من الاحترام الكافي للقراء. وفي حين أن هذا الموقف قد ظهر على الأرجح في أزمنة وأماكن أخرى، فإنه موقف تتبناه دائما المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي.
وكتفسير لردود أفعال أخف وطأة من حيث درجة حساسيتها - وبما أنني أقنعت الكثير من الأصدقاء بأسلوب ديفيد فوستر والاس في الكتابة بمرور السنين، فقد واجهت بعض تلك الاستجابات - يفترض بعض القراء (بطريقة غامضة أو مشاكسة في كثير من الأحيان) أن الأسلوب الأدبي لديفيد فوستر والاس ينطوي على بعض المكر والتحايل الذكي. هذا، بالنسبة إلي على أية حال، نتيجة لا تستند إلى أدلة داعمة، إذا أخذنا في الاعتبار الحب الظاهر الذي يضفيه ديفيد فوستر والاس على الموضوع الذي يكتب عنه ومعارضته الصريحة للتورية كأسلوب حياة في مقالته «واحد من الكثرة». لماذا يستشعرها الناس رغم عدم وجودها؟ الأمر يتعلق بحقيقة أن موهبته اللفظية الجلية والتفنن في استخدام الكلمات يخلقان شعورا مؤرقا لدى بعض القراء أن ثمة طرفة ما لا يفهمونها أو أن ثمة وغدا ذكيا يسخر منهم بطريقة أو بأخرى، وهو ما لا ينطبق على ديفيد فوستر والاس.
من وجهة نظري، هذا الكتاب هو حديث من سماء براري خضراء يجلس فيها الأشخاص الذين لا يروق لهم أسلوب التورية، والذين تلقوا التعليم الأمثل في مدارس البراري تلك، والجامعات الرائعة رغم بساطتها حول موائد غدائهم؛ يضعون الزبد على الذرة الحلوة، ويحتسون الشاي المثلج، ويحاولون في أناة تفسير حتى أكثر ألغاز الكون غموضا؛ استنادا إلى إيمانهم بأن العالم ينبغي ألا يستعصي على فهم البشر، وأنك إذا استطعت أن تفهم شيئا ما، فيمكنك أن توضحه بالكلمات: كلمات تخيلية إذا كان هذا يجدي نفعا، وبسيطة إن أمكن. لكن يمكنك، في جميع الأحوال، أن تصل إلى عقول أخرى عبر هذا الوسيط اللفظي، وهو الكلمة، وأن تصنع رابطا معها. فتوزيع بذور الذرة المشعة على صبية الكشافة وتأليف كتاب يشرح أمورا صعبة بلغة عامية مؤثرة؛ وجهان لعملة واحدة؛ طريقة تقول بها: «لدي هنا شيء رائع أريد أن أشارككم إياه ليس لغرض سوى تعزيز التواصل بين العقول.» لو كانت هذه هي الطريقة التي نشأت عليها، فسيصبح شرحك أي شيء لأحدهم أمرا ممتعا. فشرح الأمور الصعبة يمثل تحديا. وشرح الأفكار التي اشتهرت بأنها صعبة، والتي تكاثرت على نحو هائل إبان أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (اللانهائية ، النسبية، ميكانيكا الكم، مسائل هيلبرت، دليل جودل الأنطولوجي) أمر بالغ الصعوبة.
ولذا، عند قراءتي هذا الكتاب، لم يصلني أي انطباع عاطفي بأن ثمة تحايلا أو مهارة أو دهاء لغويا، لكنني لمست نوعا من الانفتاح الذاتي ورغبة في التواصل ظلا يمارسان تأثيرهما قبل أن يسلم ديفيد فوستر والاس نفسه لمرض لعين لا يرجى شفاؤه في سن الأربعين وأضحى تأثيرهما مفجعا بعد مرضه. ولهذا السبب، لن تكون لدينا الفرصة للاستماع إلى الشروح الأخرى التي كان بمقدوره تقديمها بشأن موضوعات شتى بين علوي وواقعي، والاستفادة بها. ومن ثم، ينبغي أن نقنع بما تركه وراءه؛ وهو أمر مستحيل إذا ما أخذنا في الاعتبار الاستمتاع والتبصر اللذين يمنحنا إياهما في كتابه هذا، وقدرته التي لا ريب فيها على أن يمنحنا المزيد والمزيد لو أن القدر عامله بالاهتمام نفسه الذي عامل به قراءه.
تمهيد موجز، لكنه ضروري
للأسف عليك بالفعل قراءة هذا التمهيد في البداية حتى تتمكن من فهم خصائص بنيوية معينة، وأجزاء مما قد يبدو ترميزا في النص الأساسي. ومن صور هذا الترميز الاختصار «م. إ.» الذي ستجده كثيرا في الكتاب. عليك أن تعلم أن هذا ليس لازمة أو خطأ مطبعيا، لكنها الأحرف الأولى من عبارة «معلومة إضافية» التي استخدمت مرارا وتكرارا في المسودات الأولية، حتى إنها تحولت، في نهاية المطاف، نظرا إلى كثرة تكرارها، من عبارة لغوية عادية كتقدمة لجملة، إلى رمز مجرد خارج النص، «م. إ.»، يعمل على تصنيف أجزاء معينة من النص بطريقة محددة سأشرحها وأوضحها الآن.
كغيره من كتيبات سلسلة «اكتشافات عظيمة»، يعد هذا الكتيب واحدا من المؤلفات المتخصصة التي كتبت باللغة الرائجة. وموضوع الكتاب مجموعة من الإنجازات الرياضية الشديدة التجريد والتخصص، التي تتسم بقدر كبير من العمق والإثارة والجمال في الوقت نفسه. والهدف هو مناقشة هذه الإنجازات بطريقة جذابة ومفهومة للقراء الذين ليست لديهم خلفيات أو خبرات متخصصة في مجال الرياضيات. إذن الهدف هو إضفاء الجمال على الرياضيات، أو على الأقل مساعدة القارئ على إدراك حقيقة أن الرياضيات مادة جميلة . كل هذا يبدو جيدا للغاية، بطبيعة الحال، باستثناء أن هناك عقدة بسيطة: كيف يمكنك أن تجعل عرضك المادة العلمية متخصصا دون أن ينصرف عنك ذهن القارئ ودون أن تغرقه في كم هائل من التعريفات والتعليقات الجانبية؟ إضافة إلى ذلك، إذا افترضت أن بعض القراء لديهم خلفية متخصصة أقوى من غيرهم بكثير، وهو أمر مستحسن، فكيف يمكن تناول الموضوع بطريقة يسهل على المبتدئين استيعابها دون أن تكون مملا أو مزعجا بالنسبة إلى شخص حصل على جانب كبير من دراسة الرياضيات في الجامعة؟
في هذا الكتاب، تشير عبارة «معلومة إضافية» إلى أجزاء من المادة العلمية التي يمكنك أن تتأملها، أو تفحصها، أو تتخطاها ببساطة إذا رغبت في ذلك. هذا معناه أن القارئ يمكن أن يتخطاها دون أن يفقد السياق. أكثر من نصف الحواشي السفلية في الكتاب «معلومات إضافية» يمكنك التعامل معها حسبما يتراءى لك، وكذلك الكثير من الفقرات المختلفة، بل وحتى مجموعة من الأجزاء الفرعية في متن الكتاب نفسه. بعض هذه الأجزاء الاختيارية عبارة عن استطرادات أو معلومات تاريخية عابرة،
1
وبعضها عبارة عن تعريفات أو توضيحات يعلمها القارئ الخبير بالرياضيات؛ ولذا لا داعي لإهدار وقته في قراءتها. لكن الكثير من الأجزاء المسبوقة بعبارة «معلومة إضافية» تستهدف القارئ الذي لديه خلفية متخصصة قوية أو اهتمام استثنائي بالرياضيات أو صبر غير عادي، أو كل هذه العناصر الثلاثة مجتمعة؛ إذ تسلط هذه الأجزاء الضوء بمزيد من التفصيل على أجزاء قد يمر بها النقاش الرئيسي سريعا أو يتغاضى عنها.
توجد أيضا اختصارات أخرى في هذا الكتيب، بعضها يقتصر الغرض منه على تقليل المساحة فحسب، والبعض الآخر هو نتاج مشكلة أسلوبية غريبة في الكتابة التقنية، وهي استخدام الكلمات نفسها مرارا وتكرارا بطريقة تجعلها غير ملائمة على نحو مزعج في النثر العادي؛ الفكرة هي أن بعض الكلمات التقنية لها دلالات محددة للغاية، لا يمكن أن تتوفر في أي مرادف لفظي، وهو ما يعني أن الاختصارات - لا سيما فيما يخص بعض أسماء الأعلام في مجال التكنولوجيا المتطورة - هي الطريقة الوحيدة لتحقيق أي شكل من التنويع. وفي الواقع، لا دخل لك بأي من ذلك. وعموما، إليك قائمة بالمصطلحات الرئيسية التي يمكن استعراضها والرجوع إليها عند الضرورة، وهذه المصطلحات هي ما تضمنتها قائمة الاختصارات في النسخة الإنجليزية:
تناظر أحادي
One-to-One Correspondence
مسلمة الاختيار
Axiom of Choice
نظرية المجموعات البديهية
Axiomatic Set Theory
نظرية فورييه التحليلية للحرارة
Fourier’s Analytic Theory of Heat
نظرية ذات الحدين
Binomial Theorem
نظرية بولزانو - فايرشتراس
Bolzano-Weierstrass Theorem «الاتصال والأعداد غير النسبية» لديديكند
Dedekind’s “Continuity and Irrational Numbers”
فرضية الاتصال
Continuum Hypothesis
حاصل الضرب الديكارتي
Cartesian Product
الأخوية الدينية الفيثاغورية، أو اختصارا «الفيثاغورية»
Divine Brotherhood of Pythagoras
المعادلة التفاضلية
Differential Equation
البرهان القطري
Diagonal Proof
نظرية فايرشتراس للقيم القصوى
Weierstrass’s Extreme Values Theorem
النظرية الأساسية لحساب التفاضل والتكامل
Fundamental Theorem of the Calculus
المسألة العامة لتقارب متسلسلة فورييه
General Convergence Problem of Fourier Series
مبدأ التجريد المحدود
Limited Abstraction Principle
قانون الوسط المستبعد (الثالث المرفوع)
Law of the Excluded Middle
نيوتن ولايبنتس
Newton and Leibniz
خط الأعداد
Number Line
نظرية المجموعات المبسطة
Naive Set Theory
حجة «الواحد والمتعدد» لأفلاطون
مبدأ الاستقراء
مفارقات اللانهائي لبولزانو
Bolzano’s Paradoxes of the Infinite
مسلمة مجموعة القوى
نظرية فيثاغورس
خط الأعداد الحقيقية
Real Line
كتاب «علمان جديدان» لجاليليو
Galileo’s Two New Sciences
مبدأ التجريد المحدود
Unlimited Abstraction Principle
مبرهنة الوحدانية
Uniqueness Theorem
حلقة مفرغة
Vicious Circle
الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق
Vicious Infinite Regress
نظام مسلمات فون نويمان-بيرنايز لنظرية المجموعات
Von Neumann-Bernays system of axioms for set theory
مسألة الوتر المهتز
Vibrating String Problem
معادلة موجية
Wave Equation
نظام مسلمات تسيرميلو-فرانكل-سكوليم لنظرية المجموعات
Zermelo-Fraenkel-Skolem system of axioms for set theory
مفارقة زينون
Zeno’s Paradox
هوامش
الجزء الأول
الجزء 1(أ)
يوجد بالفعل ما يسمى مؤرخ الرياضيات، وفيما يلي اقتباس افتتاحي جيد عن أحد هؤلاء المؤرخين في ثلاثينيات القرن العشرين:
ثمة استنتاج حتمي لا مهرب منه: دون وجود نظرية متسقة عن الحدود الرياضية اللانهائية لا توجد نظرية عن الأعداد غير النسبية، ودون وجود نظرية للأعداد غير النسبية لا يوجد أي شكل من أشكال التحليل الرياضي ولا حتى شكل يشبه - ولو من بعيد - ما لدينا الآن، وفي النهاية، فإنه لولا التحليل لاضمحلت الغالبية العظمى من الرياضيات - بما في ذلك الهندسة ومعظم الرياضيات التطبيقية - على النحو الموجودة به الآن، واختفت جميعها من الوجود. ومن ثم، فإن الهدف الأهم الذي يواجه علماء الرياضيات سيكون فيما يبدو وضع نظرية مرضية عن اللانهائية. حاول كانتور أن يفعل ذلك، وهو ما حقق النجاح الذي سنراه لاحقا.
إن مصطلحات الرياضيات الرنانة ليست ما يهم الآن. يشير اسم كانتور الوارد في السطر الأخير أعلاه إلى البروفيسور جورج إف إل بي كانتور، الذي ولد عام 1845، ومنح الجنسية الألمانية من طبقة التجار، ويعد الأب المعترف به لنظرية المجموعات المجردة والأعداد فوق المنتهية، وقد وردت روايات من بعض المؤرخين عما إذا كان يهوديا. و«كانتور» هي لفظة لاتينية تعني مطربا.
يعد جي إف إل بي كانتور أهم عالم رياضيات في القرن التاسع عشر، وشخصية شديدة التعقيد ومثيرة للشفقة. فقد قضى جزءا كبيرا من حياته خلال مرحلة البلوغ المتأخرة مترددا على المصحات النفسية، ووافته المنية في مصحة في مدينة هاله
1
عام 1918. كما أن كيه جودل أهم عالم رياضيات في القرن العشرين، وتوفي أيضا جراء مرض نفسي. أما إل بولتزمان، وهو أهم علماء الفيزياء الرياضية في القرن التاسع عشر، فقد انتحر، وهكذا. يميل المؤرخون والعلماء الأفذاذ إلى قضاء وقت طويل في مناقشة مشاكل كانتور النفسية وما إذا كانت لها علاقة بأبحاثه في علم رياضيات اللانهائية وماهية تلك العلاقة وأبعادها.
في المؤتمر الدولي الثاني لعلماء الرياضيات المنعقد في باريس عام 1900، وصف البروفيسور د. هيلبرت، الذي أصبح عالم الرياضيات الأول على مستوى العالم، الأعداد فوق المنتهية لجورج كانتور بأنها «نتاج عبقري رياضيات فذ في أنقى صوره.» و«واحد من أبهى إنجازات النشاط البشري على الإطلاق في مجال المعقول.»
وفيما يلي اقتباس من جي كيه تشيسترتون: «الشعراء لا يصابون بالجنون ولكن لاعبي الشطرنج يصابون به، علماء الرياضيات يصابون بالجنون، وكذلك الصرافون، ولكن الفنانين المبدعين نادرا ما يصابون به. إنني لا أهاجم المنطق: أنا فقط أوضح أن هذا الخطر يكمن في المنطق، وليس في الخيال.» وفيما يلي أيضا مقتطف من موجز لسيرة ذاتية صدرت مؤخرا عن كانتور: «في أواخر القرن التاسع عشر، أصيب عالم رياضيات استثنائي بالضعف والهزال في مستشفى للأمراض العقلية ... وكان كلما اقترب من الإجابات التي ينشدها، بدت أبعد كثيرا. وفي النهاية، ساقه هذا إلى حافة الجنون، مثلما حدث لعلماء رياضيات قبله.»
تلقى حالات علماء الرياضيات العظماء الذين أصيبوا بمرض نفسي صدى هائلا لدى صانعي الأفلام والكتاب العصريين. ويتعلق هذا في جزء كبير منه بتحيزات الكتاب (المخرجين أنفسهم) واستعدادهم لتقبل هذه الأمور، التي هي بدورها وظائف لما يمكن أن تسميه القالب النمطي الخاص لعصرنا. وبالطبع، غني عن القول أن هذه القوالب تتغير مع مرور الزمن. وبأشكال عدة، يماثل الآن عالم الرياضيات المريض نفسيا ما كان يمثله الفارس الهائم والقديس الذليل والفنان المعذب والعالم المجنون للعصور الأخرى: شكل من العملاق بروميثيوس الذي ذهب إلى أماكن محرمة وعاد بهدايا وهبات يمكننا جميعا استخدامها، ولكنه وحده من دفع ثمنها. يبدو هذا على الأرجح تشبيها مبالغا فيه بعض الشيء، ولو في معظم الحالات على أقل تقدير.
2
لكن كانتور ينطبق عليه هذا القول أكثر من الغالبية العظمى، وأسباب ذلك تعد أكثر تشويقا بكثير عن كل ما كان يعانيه من مشكلات وأعراض.
3
إن الإحاطة بإنجازات كانتور تختلف عن تقديرها؛ فالتقدير هو المشروع العام هنا، ويتضمن النظر إلى رياضيات ما فوق المنتهي بوصفها ضربا من شجرة ما، شجرة تضرب بجذورها في مفارقتي الاتصال وعدم القابلية للمقايسة لدى الإغريق، بينما تتشابك فروعها في الأزمات الحديثة حول أسس الرياضيات - براور وهيلبرت، وراسل وفريج، وتسيرميلو وجودل، وكوهين وآخرون، الأسماء الآن أقل أهمية من ذلك الشيء الأشبه بالشجرة، الذي يمثل النظرة العامة الرئيسية التي سيطلب منك تذكرها دائما.
الجزء 1(ب)
ما قاله تشيسترتون أعلاه ليس صحيحا في جانب ما. أو على الأقل، غير دقيق. فالخطر الذي يحاول أن يضع له اسما ليس المنطق؛ فالمنطق ما هو إلا وسيلة، والوسائل لا يمكنها إرباك البشر وتشويشهم. ما يحاول تشيسترتون فعليا الحديث عنه هو خصيصة من الخصائص الأساسية للمنطق وللرياضيات. إنه التجريد.
من المفيد أن ندخل مباشرة في معنى التجريد. وربما يكون التجريد هو الكلمة الوحيدة والأهم لتقدير أعمال كانتور والسياقات التي جعلتها ممكنة. نحويا، يرجع أصل الكلمة إلى الصفة المشتقة من اللفظة اللاتينية
abstractus
التي تعني «الانسحاب بعيدا». يشتمل قاموس «أكسفورد» للغة الإنجليزية على تسعة تعريفات أساسية لهذه الصفة، التي يعد أكثرها تناقضا التعريف رقم 4(أ): «منعزل أو مفصول عن المادة، أو عن التجسيد المادي، أو عن التطبيق، أو عن أمثلة معينة. عكس
concrete (مادي، أو ملموس).» ومن التعريفات المهمة أيضا ما ورد في قاموس «أكسفورد» للغة الإنجليزية في التعريف رقم 4(ب): «مثالي، مصفى لأقصى درجة بما يعكس جوهره.» والتعريف رقم 4(ج): «عويص، مبهم.»
فيما يلي اقتباس من كارل بي بوير، الذي يحاكي إلى حد ما جيبون في أهميته ولكن في تاريخ الرياضيات:
4 «ولكن، في النهاية، ما هي الأعداد الصحيحة؟ يعتقد الجميع أنهم يعرفون، على سبيل المثال، ما يعنيه العدد ثلاثة - حتى يحاولوا تعريفه أو توضيحه.» بالنظر إلى ما سوف يتكشف عند التحدث إلى مدرسي الصف الأول والصف الثاني ومعرفة الكيفية التي يتعلم بها الطلاب فعليا موضوع الأعداد الصحيحة. عما يعنيه، على سبيل المثال، العدد خمسة. أولا، لنقل إنهم أعطوا خمس برتقالات، شيء يمكنهم لمسه أو مسكه بأيديهم، ثم طلب منهم عدها. وبعد ذلك، أعطوا صورة لخمس برتقالات، ثم صورة تجمع بين البرتقالات الخمس والعدد «5» بحيث يربطون بين الاثنين. وبعدها صورة للعدد «5» فقط من دون البرتقالات. يشارك الأطفال بعد ذلك في تمارين شفهية يبدءون فيها الحديث عن العدد الصحيح «5» بذاته، كما لو أنه شيء مستقل بذاته، بعيدا عن البرتقالات الخمس. بعبارة أخرى، فإنهم يضللون على نحو منهجي، أو يوجهون نحو التعامل مع الأعداد على أنها أشياء بدلا من أن تكون رموزا لأشياء. وعندئذ، يمكن تدريس الحساب، الذي يشمل العلاقات الأولية بين الأعداد (سوف تلاحظ أوجه الشبه بين هذا والطرق التي تعلمنا بها استخدام اللغة. وهكذا، نتعلم في مرحلة مبكرة أن الاسم «خمسة» يعني؛ أي يرمز إلى، العدد 5، وهكذا).
ولكن، حسبما يقول المعلمون، سيجد الطفل صعوبة في بعض الأحيان. فبعض الأطفال يفهمون أن كلمة «خمسة» تشير إلى العدد 5، ولكنهم يحتاجون مع ذلك إلى معرفة الكلمة التي تأتي بعد 5، هل هي 5 برتقالات، أو 5 أقلام، أو 5 بنسات، أو 5 نقاط؟ هؤلاء الأطفال الذين لا يجدون صعوبة في جمع أو طرح برتقالات أو عملات، لن تكون نتائجهم في اختبارات الحساب جيدة على الرغم من ذلك. فلا يمكنهم التعامل مع 5 كشيء في حد ذاته. فهم كثيرا ما يردون إلى نمط من الرياضيات يتعلق بالتعليم الخاص، حيث كل شيء يجري تدريسه وفقا لمجموعات من الأشياء الفعلية، وليس كأعداد «مستقاة من أمثلة معينة».
5
الفكرة: التعريف الأساسي لكلمة «مجرد» في المغزى الذي نقصده هنا سيكون التعريف المتسلسل نوعا ما «المنزوع من أو الذي يتجاوز الخصوصية الحسية، التجربة الحسية». وبهذا المفهوم وحده، يكون لفظ «مجرد» عبارة عن مصطلح ميتافيزيقي. وفي الواقع، فإن كل النظريات الرياضية تتضمن نوعا من الموقف الميتافيزيقي. مؤسس التجريد في الرياضيات هو فيثاغورس، ومؤسسه في الميتافيزيقا هو أفلاطون.
ومع ذلك، فالتعريفات الأخرى في قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية غير ذات صلة، ليس فقط لأن الرياضيات الحديثة مجردة بمعنى أنها صعبة للغاية وغامضة وعادة يصعب حتى مطالعتها بالنظر. ومن المفاهيم الجوهرية أيضا في ذلك المفهوم الذي يمكن أن يعني به تجريد شيء ما اختزاله إلى جوهره البنائي المطلق، كما في خلاصة مقال أو كتاب. وهكذا، فإنه من الممكن أن يعني إمعان التفكير في الأشياء التي لا يمكن للغالبية العظمى من الناس إمعان التفكير فيها؛ لأن الأمر يسوقهم إلى الجنون.
كل ما نستعرضه هنا هو ضرب من الإحماء؛ فموضوع التجريد ككل لن يكون على هذا النحو. فيما يلي اقتباسان آخران عن شخصين تعانق شهرتهما عنان السماء؛ إم كلاين: «كان من بين إسهامات الإغريق العظيمة لمفهوم الرياضيات الإدراك الواعي لحقيقة أن الكيانات الرياضية عبارة عن تجريدات، والتأكيد على ذلك، وهي أفكار تأملها العقل وتدبرها وجرى تمييزها بوضوح عن الصور أو الأشياء المادية.» إف دي إل سوسور: «ما أغفله الفلاسفة وعلماء المنطق أنه من اللحظة التي يصبح فيها نظام من الرموز مستقلا عن الأشياء المادية، فإنه في حد ذاته يكون خاضعا للإسقاطات الجارية التي لا حد لها من جانب عالم المنطق.»
التجريد يشمل كل أنواع المشاكل والأزمات، حسبما نعرف جميعا. ويكمن جزء من الخطر في طريقة استخدامنا للأسماء. نحن نفكر في معاني الأسماء من حيث دلالاتها. والأسماء ترمز إلى أشياء: رجل، مكتب، قلم، ديفيد، رأس، أسبرين. ويترتب على ذلك نوع خاص من الملهاة عند وجود التباس حول ماهية اسم حقيقي، كما هو الحال في «من هو الأول؟» أو على غرار ما نجده في كتاب «أليس في بلاد العجائب» - «ماذا ترى على الطريق؟» «لا شيء.» «يا لها من رؤية ثاقبة! كيف يبدو اللاشيء؟» ومع ذلك، تتلاشى الملهاة عندما تدل الأسماء على أفكار مجردة؛ أي مفاهيم عامة منفصلة عن الأمثلة المحددة. وكثير من هذه الأسماء المتعلقة بأفكار مجردة تأتي من أفعال الجذر. كلمة «حركة» هي اسم، وكذلك كلمة «وجود»، ونحن نستخدم كلمات كهذه طوال الوقت. ويكون الالتباس عندما نحاول النظر فيما تعنيه هذه الكلمات بالضبط. وهذا على غرار وجهة نظر بوير عن الأعداد الصحيحة. إلام تشير بالضبط كلمة «حركة» وكلمة «وجود»؟ نحن نعلم أن أشياء مادية بعينها موجودة، وأنها تتحرك أحيانا. فهل الحركة في حد ذاتها موجودة؟ كيف؟ ما الكيفية التي توجد بها الأفكار المجردة؟
لا شك أن هذا السؤال الأخير نفسه مجرد للغاية. ولربما بدأت تشعر بالصداع؛ فأمور كهذه تكون مصحوبة عادة بنوع خاص من عدم الارتياح أو نفاد الصبر. مثل «ما هو الوجود بالضبط؟» أو «ما الذي نعنيه بالضبط عندما نتحدث عن الحركة؟» عدم الارتياح شيء مميز جدا ويوجد فقط عند مستوى معين في عملية التجريد؛ لأن عملية التجريد تتم على مستويات، بالأحرى مثل الأسس أو الأبعاد. لنقل إن لفظة «رجل» التي تعني رجلا ما بعينه هي المستوى الأول، ولفظة «رجل» التي تعني النوع هي المستوى الثاني، وشيء مثل «الجنس البشري» أو «الإنسانية» هو المستوى الثالث؛ إذن نحن الآن نتحدث عن المعايير المجردة لشيء ما يوصف بأنه إنسان أو بشري، وهكذا. التفكير بهذا الأسلوب قد يكون خطرا، أو غريبا. التفكير بشكل مجرد بما يكفي في أي شيء ... من المؤكد أننا جميعا مررنا بتجربة التفكير في كلمة ما، ولتكن كلمة «قلم» مثلا، وكررنا الكلمة على مسامعنا مرارا وتكرارا حتى فقدت دلالتها؛ فغرابة إطلاق مسمى «قلم» على شيء ما تبدأ في التوغل تدريجيا إلى داخل الوعي، مثل نوبة صرع.
حسبما تعلم على الأرجح، فإن كثيرا مما نسميه الآن الفلسفة التحليلية يعنى بأسئلة من هذا القبيل تتعلق بالمستوى الثالث أو حتى الرابع. كما في نظرية المعرفة = «ماذا تعني المعرفة بالضبط؟»، والميتافيزيقا = «ما هي بالضبط العلاقات بين التراكيب العقلية والأشياء الحقيقية في الواقع الفعلي؟»، إلى آخره.
6
قد يكون الفلاسفة وعلماء الرياضيات، الذين يقضون وقتا طويلا في التفكير (أ) على نحو مجرد أو (ب)، أو في الأفكار المجردة أو (ج) كليهما، هم من جعلوا أنفسهم عرضة للإصابة بالمرض النفسي. أو ربما تكون الفكرة فقط أن الأشخاص السريعي التأثر بالمرض النفسي هم الأكثر عرضة للتفكير في مثل هذه الأمور. إنها مسألة مستعصية على الحل كمسألة الدجاجة والبيضة وأيهما جاء أولا. ومع ذلك، فثمة شيء واحد مؤكد. وإنها لخرافة لا أساس لها من الصحة أن الإنسان بطبيعته كائن فضولي، لديه نهم إلى الحقيقة، ويريد - فوق ذلك كله - أن يعرف.
7
وبالنظر إلى ما لدينا من حواس متعارف عليها لكي «نعرف»، ففي الحقيقة ثمة أمور كثيرة لا نريد معرفتها. ودليل ذلك هو العدد الهائل من القضايا والأسئلة الأساسية للغاية التي لا نود التفكير فيها على نحو تجريدي.
النظرية: إن مخاوف التفكير المجرد ومخاطره هما أحد الأسباب الرئيسية في أننا جميعا نريد أن نظل مشغولين ومنهمكين تماما بالمحفزات طوال الوقت. التفكير المجرد يحل في أغلب الأحيان خلال لحظات السكون التام. كما هو الحال على سبيل المثال في الصباح الباكر، وخاصة إذا استيقظت قبل أن يتوقف جرس المنبه بقليل، عندها يمكن أن يتبادر إلى ذهنك فجأة وبدون مبرر أنك اعتدت الاستيقاظ كل صباح والنهوض من سريرك دون أن يساورك أدنى شك في أن أرضية الحجرة تدعمك. وبينما أنت مستلق هناك تفكر في الأمر، يبدو أنه من الممكن - ولو نظريا على الأقل - أن يحدث خلل ما في بنية الأرضية أو في وحدتها الجزيئية يجعلها تنبعج، أو حتى أن يؤدي بت شاذ من التدفق الكمومي أو شيء ما إلى انصهارك مباشرة. ومعنى هذا أن الأمر لا يبدو مستحيلا على مستوى المنطق أو أي شيء. والأمر يختلف عن أن تكون خائفا حقا من أن الأرضية ربما تهبط في لحظة ما عندما تنهض فعليا من السرير. والفكرة ببساطة هي أن بعض الحالات المزاجية وخطوط التفكير تكون أكثر تجريدا، بحيث لا تكون مركزة فقط على الاحتياجات أو الالتزامات التي ستنهض من سريرك لمباشرتها والاضطلاع بها. هذا مجرد مثال فحسب. السؤال المجرد الذي تتأمله وأنت مستلق هنا هو: هل لديك ما يبرر حقا ثقتك بشأن الأرضية؟ تكمن الإجابة المبدئية، التي هي «نعم»، في حقيقة أنك استيقظت في الصباح ونهضت من السرير آلاف المرات - بل لعلها في الواقع عشرة آلاف مرة حتى الآن - وفي كل مرة كانت الأرضية تدعمك. وهذه هي الطريقة نفسها التي يوجد بها لديك ما يبرر أيضا إيمانك بأن الشمس سوف تشرق، وأن زوجتك سوف تعرف اسمك، وأنك عندما تشعر بأحاسيس معينة فهذا يعني أنك تستعد لأن تعطس وتسعل وهكذا. وذلك لأن هذه الأمور قد حدثت من قبل مرارا وتكرارا. والمبدأ المتضمن هنا هو في الواقع السبيل الوحيد الذي يمكننا به أن نتنبأ بأي من الظواهر التي نعول عليها، وذلك بصورة تلقائية فحسب دون الاضطرار إلى إعمال العقل فيها. ويتكون الجزء الأكبر من حياتنا اليومية من هذه الأنواع من الظواهر، ولولا هذه الثقة المبنية على التجارب السابقة لكنا أصبنا جميعا بالجنون، أو على أقل تقدير لأصبحنا عاجزين عن أداء وظائفنا؛ لأنه كان سيتعين علينا وقتها أن نقف على كل شيء ونفكر فيه مهما كان صغيرا. وإنها لحقيقة فعلا أن الحياة كما نعرفها ما كان للمرء أن يحياها لولا هذه الثقة. ومع ذلك يبقى السؤال: هل للثقة ما يبررها فعلا، أم أنها تبعث على الراحة فحسب؟ هذا هو التفكير المجرد، بمخططه البياني المميز الذي يشبه في شكله درجات السلم، وأنت موجود الآن في أعلى السلم ببضعة مستويات. أنت الآن لم تعد تفكر فقط في الأرضية وفي وزنك، أو في ثقتك، وكيف أن هذا النوع من الثقة يبدو ضروريا لتلبية الاحتياجات الأساسية للبقاء. أنت الآن تفكر في قاعدة أكثر تعميما ، أو قانون، أو مبدأ يبرر فعليا هذه الثقة غير المدروسة بكل درجاتها وأشكالها التي لا تحصى بدلا من أن تكون مجرد سلسلة من الاهتزازات أو المنعكسات التوترية الغريبة التي تنتابك خلال اليوم. ومن العلامات الأخرى المؤكدة على أنه تفكير مجرد أنك لم تتحرك بعد. فالأمر يبدو كما لو أن طاقة هائلة وجهدا كبيرا يبذلان وأنت لا تزال مستلقيا في مكانك لم تحرك ساكنا. هذا كله يدور في عقلك. والأمر غريب للغاية، ولا عجب في أن معظم الناس لا يروق لهم ذلك. وفجأة، يفهم السبب في أن المجانين غالبا ما يمثلون على أنهم يمسكون رءوسهم بشدة أو يضربونها في شيء ما. ولكن، إذا كنت في الصف الدراسي المناسب الآن في تعليمك المدرسي، فربما تذكر أن القاعدة أو المبدأ الذي تريده موجود بالفعل، وأن مصطلحه الرياضي هو «مبدأ الاستقراء». وهو القاعدة الأساسية للعلم الحديث. ولولا مبدأ الاستقراء، لما استطاعت التجارب تأكيد فرضية ما وإثباتها، وما غدا شيء في الكون المادي يمكن توقعه بأي قدر من الثقة على الإطلاق، وما كانت هناك أي قوانين طبيعية أو حقائق علمية. ينص مبدأ الاستقراء على أنه إذا حدث شيء ما
في ظروف خاصة معينة بعدد
من المرات في الماضي، فثمة ما يبرر لنا الاعتقاد في أن نفس الظروف سوف تنتج
في المرة . مبدأ الاستقراء جدير بالاحترام تماما وموثوق فيه، ويبدو كما لو كان ملاذا واضحا للخروج من المشكلة ككل؛ أي إلى أن يتبادر إلى ذهنك (كما يمكن أن يحدث فقط في الحالات المزاجية المجردة للغاية، أو عندما يبقى على توقف جرس المنبه فترة زمنية كبيرة غير معتادة.) أن مبدأ الاستقراء نفسه ما هو إلا تجريد من التجربة الحسية نفسها. ومن ثم، فالسؤال الآن: ما الذي يبرر بالضبط ثقتنا في مبدأ الاستقراء؟ هذه الفكرة الأخيرة قد تصاحبها ذاكرة مادية لبضعة أسابيع في مزرعة أحد الأقارب في مرحلة الطفولة (وتلك قصة طويلة). كان هناك أربع دجاجات في حظيرة يحوطها السياج قبالة المرآب، كانت بينها دجاجة مميزة تدعى السيدة دجاجة. كل صباح، يتسبب ظهور مستأجر المزرعة في منطقة الحظيرة وهو يحمل كيسا من الخيش في إثارة هذه الدجاجة، وتبدأ في ضرب منقارها بالأرض استعدادا للطعام؛ وذلك لأنها كانت تعلم من ذلك أن وقت الطعام قد حان. ودائما ما كان يحدث ذلك في نفس الزمن
كل صباح، وقد علمت السيدة دجاجة أن
مضروبا في (الرجل + الكيس) = الطعام؛ ومن ثم فإنها في صباح الأحد الماضي أخذت كعادتها تنقر بثقة في الأرض استعدادا للطعام عندما وصل المستأجر وأمسك بها فجأة، وفي حركة انسيابية سريعة لوى رقبتها وأدخلها في الكيس وحملها إلى المطبخ. مثل هذه الذكريات تظل حية في الذاكرة، لو أن أيا منها قد حدث لك. ولكن في ظل المغزى العام، الكامن هنا، الذي يتمثل في أنه يبدو الآن أن السيدة دجاجة كانت محقة - طبقا لمبدأ الاستقراء - في عدم توقع شيء سوى الطعام عند الظهور رقم
للمستأجر + الكيس عند الزمن . إنه أمر لا يتعلق فقط بحقيقة أن السيدة دجاجة لم تتوقع أي شيء، وإنما أيضا بأنه فيما يبدو ثمة ما يبرر تماما عدم شكها في شيء على الإطلاق، وهذا الأمر يبدو غامضا ومزعجا على نحو واقعي وملموس. ومن ثم، فإن إيجاد مبرر ذي مستوى أعلى لثقتك في مبدأ الاستقراء يبدو أكثر ضرورة بكثير عندما تدرك أنه - دون هذا المبرر - سوف نكون في وضع لا يختلف جوهريا عن وضع السيدة دجاجة. ولكن الاستنتاج - المجرد كما هو - يبدو حتميا ولا مفر منه: ما يبرر ثقتنا في مبدأ الاستقراء هو أنه دائما ما أثبت جدواه في الماضي، على الأقل حتى الآن. بمعنى أن مبررنا الحقيقي الوحيد لثقتنا في مبدأ الاستقراء هو مبدأ الاستقراء نفسه، الأمر الذي يبدو هشا ومصادرة على المطلوب إلى أقصى درجة.
المخرج الوحيد حتى لا تصاب بالشلل وتصبح طريح الفراش جراء هذا الاستنتاج الأخير، وهو احتمال وارد، هو أن تستمر في وضع المزيد من الاستفسارات الجانبية المجردة حول ماهية «التجريد» وما يعنيه بالضبط، وما إذا كان صحيحا حقا أن التبريرات الصحيحة فقط لبعض المعتقدات والمبادئ تكون عقلانية ولا يبدأ الاستدلال فيها بما يحاول استنتاجه. على سبيل المثال، نحن نعلم أن عددا من القضايا كل عام تكون لسيارات انحرفت فجأة عبر الخط الفاصل للطريق نحو حركة المرور المقبلة في الاتجاه الآخر، واصطدمت بمقدمة السيارات التي يقودها أشخاص في الاتجاه الآخر من دون أن يتوقعوا أنهم سيلقون حتفهم؛ ومن ثم فنحن نعلم أيضا - على مستوى ما - أنه مهما كانت الثقة التي تجعلنا نقود سياراتنا في طريق ذي اتجاهين فليس ثمة ما يبرر هذه الثقة تبريرا عقلانيا بنسبة مائة بالمائة في قوانين الاحتمال الإحصائي. ومع ذلك، ربما لا ينطبق «التبرير العقلاني» هنا. ربما يعزى الأمر بشكل أكبر إلى حقيقة أنك إذا كنت لا تستطيع أن تصدق أن سيارتك ستتعرض للاصطدام فجأة ومن دون مقدمات، فأنت فقط لا تستطيع القيادة، ومن هنا تكون الحاجة أو الرغبة في أن تتمكن من القيادة كنوع من «تبرير» ثقتك هذه.
8
ومن ثم، فربما كان من الأفضل عدم البدء في تحليل مختلف «المبررات» المفترضة لحاجتك أو رغبتك في أن تتمكن من قيادة سيارة؛ ففي وقت ما سوف تعي أن عملية التبرير المجرد يمكن - ولو مبدئيا على الأقل - أن تستمر إلى الأبد. إن القدرة على إيقاف طريقة التفكير المجرد عندما ترى أنه لا نهاية له هو جزء مما يميز عادة الأشخاص العقلاء الفاعلين - هؤلاء الأشخاص الذين عندما يتوقف في النهاية جرس المنبه يمكنهم النهوض والوقوف على أرضية الحجرة بلا خوف أو ترقب؛ ومن ثم الانهماك في الشئون المادية للعالم الاعتيادي الواقعي - عن المختلين والمعتوهين.
جزء تكميلي
إن السبب التكتيكي لاستخدام الرمز « » أحيانا، بدلا من «ما لا نهاية» في هذا الكتاب المكتوب باللغة الطبيعية، هو أن الغرابة التي يصعب تفسيرها للرمز « » تستخدم على سبيل التذكير بأن من غير الواضح حتى ما الذي نحن بصدد الحديث عنه. وهذا هو الحال حتى الآن. على سبيل المثال، إياك أن تعتقد أن « » ما هو إلا عدد كبير على نحو غير معقول أو لا يصدق. يوجد بالطبع الكثير من تلك الأعداد، ولا سيما في الفيزياء والفلك - فمثلا في الفيزياء من المتعارف عليه عموما أن لحظة فوق نانوية قدرها
من الثانية هي أصغر فترة زمنية ينطبق عليها مفهوم الزمن المستمر العادي (وهو ما عليه الحال بالفعل)، فإن البيانات الفلكية تشير إلى وجود ما يقرب من
من هذه اللحظات فوق النانوية منذ الانفجار الكبير. وهذا العدد عبارة عن
أمامها
صفرا من جهة اليمين. جميعنا سمع عن أعداد كهذه، والتي نتصور عادة أنه لا يمكن فهمها ومعالجتها إلا باستخدام الحواسيب الفائقة التبريد المتقدمة حقا، أو ما شابهها. في الواقع، هناك الكثير من الأعداد الكبيرة للغاية لدرجة أنه لا يمكن لأي حاسوب حقيقي أو حتى نظري معالجتها. حد بريميرمان هو المصطلح المطبق هنا. فعلى ضوء الحدود المفروضة من قبل نظرية الكم الأساسية، أثبت إتش بريميرمان عام 1962 أنه «ما من نظام لمعالجة البيانات، سواء أكان اصطناعيا أو حقيقيا، يمكنه معالجة أكثر من
بت كل ثانية لكل جرام من كتلته.» وهو ما يعني أنه لو أن هناك حاسوبا فائقا افتراضيا بحجم الأرض (=
جرام مضروبا في ، حيث
هو الثابت الممثل لسرعة الضوء) يعمل باستمرار على مدى فترة طويلة تعادل عمر الأرض (حوالي
سنوات، بما يعادل
ثانية في السنة الواحدة) لكان في إمكانه معالجة
بت على الأكثر، وهو العدد المعروف باسم حد بريميرمان. والحسابات التي تتضمن أعدادا أكبر من
تعرف بالمسائل الحسابية الفائقة المعالجة، أي إنها غير قابلة للمعالجة حتى لو نظريا، ويوجد الكثير من هذه المسائل في الفيزياء الإحصائية، ونظرية التعقيد، وهندسة الكسوريات، وغيرها. كل هذا جيد ومثير للاهتمام، ولكنه غير ذي صلة بالموضوع. ولكي نفهم ما هو وثيق الصلة بالموضوع، خذ عددا ما فائق المعالجة، وتخيل أنه حبة رمل، وتصور شاطئا بأكمله، أو صحراء، أو كوكبا، أو حتى مجرة مليئة بهذا الرمل، عندئذ لن يكون
المناظر وحده أصغر من ما لا نهاية، ولكن مربعه أيضا سيكون أصغر من ما لا نهاية، وكذلك ، وهكذا؛ وفي الواقع من غير الصائب حتى أن تقارن بين
وما لا نهاية حسابيا بهذه الطريقة؛ لأنهما لا يندرجان ضمن المجال الرياضي نفسه - حتى لو افترضنا أنهما يشكلان البعد نفسه. ومع هذا، من المعروف أيضا أن بعض قيم
تكون أكبر من غيرها، كما في القيم الأكبر حسابيا. وهذا كله سوف نناقشه لاحقا؛ أما ما يعنينا الآن هو أنه لم يتسن الحديث عن الكميات غير المنتهية وعملياتها الحسابية على نحو مترابط وذي معنى إلا بعد آر ديديكند وجي كانتور. ومن هنا، جاءت فكرة استخدام الرمز « ».
م. إ.: الرمز « » نفسه يسمى رياضيا «منحنى العروتين» (وهو لفظ مشتق فيما يبدو من كلمة إغريقية بمعنى «شريط») وقد أدخل هذا الرمز في الرياضيات على يد جون واليس عام 1655، عندما استخدمه في كتابه «حساب اللانهائي»
Arithmetica Infinitorum ، الذي كان أحد التمهيدات المهمة لعلم التفاضل والتكامل الذي ابتكره نيوتن.
9
اعترض توماس هوبز، وهو علامة رياضي معاصر لواليس، في مقال له بأن كتاب «حساب اللانهائي» جاء تجريديا على نحو مبالغ فيه للغاية، حتى إنه يصعب على المرء حتى محاولة قراءته؛ فهو «حفنة من الرموز»، ومن ثم فإنه كان يتحدث بلسان أجيال قادمة من الطلاب الجامعيين لم تأت بعد. ومن بين الأسماء الأخرى لمصطلح «منحنى العروتين» «عقدة الحب» و«منحنى المستوى الكارتيزي الذي يحقق المعادلة ». ومن جهة أخرى، إذا تناولنا المصطلح من منظور حساب المثلثات، حيث يطلق عليه «المنحنى الذي يحقق المعادلة القطبية »، فإنه يعرف أيضا باسم «منحنى بيرنولي».
نهاية «جزء تكميلي»
الجزء 1(ج)
على ذكر موضوع التجريد ودلالات الأسماء ككل، ثمة عملية ملازمة لذلك؛ إما أن تكون تجريدا عالي المستوى، أو نوعا من الطفرات الاسمية الغريبة. كلمة «حصان» يمكن أن تعني ذلك الحصان الذي أمامنا مباشرة، أو يمكن أن تعني المفهوم المجرد، كما في «حصان = حيوان من الثدييات، له حوافر، ينتمي إلى فصيلة الخيليات.» والشيء نفسه ينطبق على كلمة «قرن» وكلمة «جبين». كل هذه الكلمات يمكن تجريدها من خصوصيتها، ورغم ذلك نظل على علم بأنها مشتقة من أمثلة خاصة بعينها. اللهم إلا ما نجده في حالة وحيد القرن، الذي يبدو أنه مزيج من مفاهيم «حصان» و«قرن» و«جبين»، ومن ثم فإن له أصله الكامل في سلسلة التجريدات. هذا معناه أنه في مقدورنا دمج التجريدات ومعالجتها لتكوين كيانات ليس لأسمائها أي دلالات خاصة على الإطلاق. وهنا تظهر المعضلة الكبرى: ما الطريقة التي يمكن بها أن نقول إن وحيد القرن موجود، وتكون مختلفة اختلافا جوهريا وأقل واقعية عن الطريقة التي توجد بها أفكار مجردة أخرى مثل «إنسانية» أو «قرن» أو «عدد صحيح»؟ وهو ما يقودنا مرة أخرى إلى السؤال: ما الكيفية التي توجد عليها الكيانات المجردة؟ أو هل هي موجودة بأية حال على الإطلاق باستثناء كونها أفكارا في عقل الإنسان - على سبيل المثال، هل هي تخيلات ميتافيزيقية؟ هذا النوع أيضا من الأسئلة يمكن أن يجعلك تلازم الفراش طوال اليوم، ويخيم على الرياضيات منذ البداية - ما الوضع الأنطولوجي للكيانات والعلاقات الرياضية؟ هل الحقائق الرياضية اكتشفت، أم أنها استحدثت ببساطة، أم أنها كلا الأمرين بطريقة ما؟ تحضرنا هنا من جديد مقولة إم كلاين: «المبادئ الفلسفية لدى الإغريق ضيقت على الرياضيات وحجمتها بطريقة ما. خلال الفترة الكلاسيكية اعتقدوا أن الإنسان لا يستحدث الحقائق الرياضية: إنها سابقة عليه في الوجود، ومن ثم يقتصر دوره على التحقق منها وتسجيلها.»
ثمة اقتباس آخر عن دي هيلبرت، العالم الجليل الذي كان أول من أيد كانتور في نظريته عن الأعداد فوق المنتهية:
لا يمكن العثور على اللامتناهي في أي مكان في الواقع، بغض النظر عن الخبرات، والملاحظات، والمعلومات المطلوبة. هل يمكن أن يكون التفكير في الأشياء مختلفا بدرجة كبيرة عن الأشياء نفسها؟ هل يمكن أن تختلف عمليات التفكير كثيرا عن العملية الفعلية للأشياء؟ باختصار، هل يمكن أن ينتزع التفكير من الواقع ويجرد إلى هذا الحد؟
صحيح أنه لا يوجد شيء أكثر تجريدا من اللانهائية، على الأقل فيما يخص مفهومنا البديهي الضبابي باللغة الطبيعية تجاه اللانهائية. إنه نوع من غاية الانسحاب عن التجربة الفعلية. لنتأمل السمة الوحيدة الأوسع انتشارا والأكثر وطأة للعالم المادي، التي مفادها أن كل شيء إلى الزوال مآله، وأنه محدود، وسوف يندثر، ثم نتصور شيئا ما بتجرد من دون هذه السمة. إن القياس على بعض الأفكار المتعلقة بالله تكون واضحة؛ فالتجريد من مختلف القيود هو أحد الأساليب التي يفسر بها الباعث الديني بمصطلحات علمانية. ويعرف هذا أيضا باسم أنثروبولوجيا الدين: كيان كامل يمكن فهم كينونته على أنها كينونة منزهة من كل النقائص التي نلاحظها في أنفسنا وفي العالم، كيان قدرته مطلقة وإرادته غير محدودة، إلخ. حقيقة أن هذا أسلوب جامد وكئيب للغاية للتحدث عن الدين هو أمر غير وارد من قريب أو بعيد؛ فالفكرة هي أنه يمكن بهذا الأسلوب نفسه بالضبط تفسير المصدر الذي استقينا منه مفهوم «اللانهائية» وما نعنيه في النهاية بكل صور لفظة «لا نهائي» و«غير منته» التي نتحاور بشأنها ونتبادل الآراء حولها. ومع ذلك، فإن كون هذا هو التفسير الحقيقي فعلا أم لا ينطوي على ما يلزمنا هذا التفسير القيام به، على نحو ميتافيزيقي. هل نريد فعلا أن نقول إن اللانهائية موجودة فقط بالطريقة التي يوجد بها وحيد القرن، وأن الأمر كله إنما يتعلق بأسلوب معالجتنا للأفكار المجردة حتى يصير مصطلح «لا نهائية» بلا مرجعية حقيقية؟ ماذا عن مجموعة الأعداد الصحيحة؟ ابدأ العد عند 1، 2، 3، وهكذا، واعلم أنك لن تتوقف أبدا، ولا أولادك من بعدك، ولا أولادهم، وهكذا. الأعداد الصحيحة لا تتوقف؛ فهي لا نهاية لها. هل مجموعة الأعداد الصحيحة تشكل لانهائية فعلية؟ أو هل الأعداد الصحيحة نفسها ليست حقيقية بالفعل، ولكنها تجريدات فحسب؛ وما هي المجموعة بالضبط؟ وهل المجموعات حقيقية أم أنها أدوات مفاهيمية فحسب، وهكذا؟ أو هل يحتمل أن تكون الأعداد الصحيحة و/أو المجموعات «حقيقية تبعا للمفهوم الرياضي» فقط في مقابل ما يعنيه كونها حقيقية بالفعل، وما هو الفرق بالضبط، وهل يحتمل أن نريد إسباغ حقيقة رياضية معينة على اللانهائية ولكن ليس النوع الآخر (بافتراض وجود نوع آخر واحد فقط)؟ وإلى أي مدى يمكن أن تصبح الأسئلة مجردة للغاية والفروق دقيقة جدا والصداع متفاقم لدرجة أننا ببساطة لم نعد نقوى على التفكير في أي من هذا أكثر من ذلك؟
إننا نواجه في مجالات مثل الرياضيات والميتافيزيقا واحدة من أغرب سمات العقل البشري للإنسان العادي، وهي القدرة على تصور الأشياء التي لا نستطيع بالأحرى إدراكها. على سبيل المثال، يمكننا أن نتصور على نحو تقريبي مفهوم القدرة المطلقة. يمكننا على الأقل استخدام كلمة «قدرة» ولدينا درجة معقولة من الثقة في أننا نعرف ماهية ما نتحدث عنه. ولكن حتى المفارقة التي يثيرها تلميذ بطرح سؤال من قبيل «هل يمكن لكائن يتمتع بقدرة مطلقة أن يصنع شيئا أثقل بكثير من أن يرفعه؟» هي ثغرات خطيرة تبرز في فهمنا اليومي للقدرة المطلقة. ولذا، ثمة نوع آخر من التجريد وثيق الصلة هنا. وهذا النوع يتعلق أكثر بالجانب النفسي وهو حديث للغاية.
الحقيقة الواضحة: أنه لم يحدث أبدا من قبل أن وجد هذا الكم من الهوات السحيقة بين ما يبدو عليه العالم وبين ما يخبرنا به العلم في هذا الشأن. ويشير الضمير «نا» في «يخبرنا» إلى الأشخاص العاديين غير المختصين. إن الأمر ليبدو مثل مليون ثورة من الثورات الكوبرنيكية تحدث جميعها في آن واحد. كالحال على سبيل المثال عندما «نعرف» - نحن خريجي المدارس الثانوية وقراء «نيوزويك» - أن الزمن نسبي، وأن الجسيمات الكمية يمكن أن تكون موجودة وغير موجودة في آن واحد، وأن الفضاء منحن، وأن الألوان لا تكون ملازمة للأشياء نفسها، وأن المتفردات الفلكية ذات كثافة لا متناهية، وأن حبنا لأبنائنا مبرمج داخلنا مسبقا من منظور تطوري، وأن هناك بقعة عمياء في مركز رؤيتنا تملؤها أدمغتنا تلقائيا، وأن أفكارنا ومشاعرنا هي في الحقيقة مجرد عمليات نقل كيميائية في 2,8 رطل من الأنسجة المكهربة (أي الدماغ)، وأن غالبية أجسادنا مكونة من الماء، والماء أغلبه هيدروجين، والهيدروجين قابل للاشتعال، ومع ذلك لسنا قابلين للاشتعال. نحن «نعلم» عددا من الحقائق التي تتعارض مع خبراتنا المنطقية المباشرة تجاه العالم، ومع ذلك علينا أن نعيش وأن نعمل في هذا العالم. ومن ثم، فإننا نجرد، ونجزئ: هناك أشياء نعرفها وأشياء «نعرفها». إنني أعرف أن حبي لأولادي هو مسألة تتعلق بالانتقاء الطبيعي، ولكني أعرف أنني أحبه، وأشعر وأتصرف على أساس هذه المعرفة. ومن وجهة نظر موضوعية، فإن الأمر كله انفصامي للغاية؛ بيد أن الحقيقة أننا كأشخاص عاديين ذاتيين لا نشعر غالبا بالتناقض. ذلك لأن 99,9٪ من حياتنا هي بالطبع عمليات حسية ملموسة، ونحن نعمل بشكل حسي ملموس على أساس ما نعرف، وليس ما «نعرف».
مرة أخرى، نحن نتحدث عن الأشخاص العاديين غير المختصين مثلي ومثلك، وليس عن عباقرة الفلسفة والرياضيات، الذين اشتهر عن كثير منهم أنه يعاني صعوبة في مواكبة العالم الحقيقي: أينشتاين ترك منزله مرتديا ملابس النوم، جودل عجز عن إطعام نفسه، وغيرهما. لكي نقدر ماهية الحياة الباطنية لعظماء العلماء أو الرياضيين أو الميتافيزيقيين، كل ما نحتاجه هو أن نسترخي ونحاول صياغة فكرة شديدة الدقة ومترابطة تماما - على النقيض من الأفكار الضبابية والنيوزويكية - عما نعنيه فعلا ب «قوة مطلقة»، أو «عدد صحيح»، أو «لا محدود»، أو «متناه ولكنه غير محدود»، أن نحاول ممارسة نوع من التفكير المجرد المنضبط والموجه.
10
ينطوي هذا النوع من التفكير على إجهاد أشبه بالشرود، وهو إجهاد واضح جدا لكن لا يمكن تأويله، والإحساس بأن تكراره كلمة «قلم» مرارا وتكرارا وكأنه مريض بالصرع ما هو إلا ظل شاحب ضعيف لهذا الشرود. إحدى أسرع الطرق إلى هذا الشعور هو (من واقع التجربة الشخصية منذ خلق العالم) أن تحاول التفكير بإمعان في البعد. ثم شيء «أعرفه»، وهو أنه توجد أبعاد مكانية بخلاف الأبعاد الثلاثة المعروفة، بل يمكنني إنشاء مكعب فائق رباعي الأبعاد (تسراكت) أو مكعب زائدي من الورق المقوى. وبوصفه نوعا غريبا من مكعب داخل مكعب، فإن المكعب الفائق الرباعي الأبعاد هو إسقاط ثلاثي الأبعاد لجسم رباعي الأبعاد بنفس الطريقة التي يعتبر بها ( ) عبارة عن إسقاط ثنائي الأبعاد لجسم ثلاثي الأبعاد. الفكرة هنا هي أن نتصور أن كلا من خطوط المكعب الفائق الرباعي ومستوياته متعامد على الآخر بزاوية 90 درجة (هذا ينطبق أيضا على ( ) ومكعب حقيقي)؛ لأن البعد المكاني الرابع هو البعد الذي يوجد بطريقة ما عند الموضع الذي تتكون عنده زاوية قائمة مع أبعاد الطول والعرض والعمق الخاصة بمجال إبصارنا العادي. أنا «أعرف» كل هذا، حسبما تعرفه أنت على الأرجح ... ولكن حاول الآن أن تتصوره حقا، بشكل مادي. يمكنك أن تشعر، على نحو شبه فوري تقريبا، بإجهاد ذهني، حيث تبدأ خيوط التفكير الأولى في التزاحم على الذهن.
بالنظر إلى «المعرفة» بمفهومها العام المطلق في مقابل ما نعرفه بحكم الواقع الفعلي حقا، نجد أن النوع الثاني هو ما قصده ديكارت بقوله «الفهم الواضح والمميز» وما تشير إليه اللغة العامية الحديثة بالفعلين «يعالج» و«يتعامل مع». ومن هنا تتجلى من جديد حالة الانفصام المعرفي للعقل العادي غير المتخصص الحديث: نشعر كما لو كنا «نعرف» أشياء لا يستطيع في الواقع الجهاز الإدراكي لعقولنا التعامل معها. هذه غالبا عبارة عن أشياء ومفاهيم في أقاصي التجريد البعيدة، أشياء لا يمكننا حرفيا تصورها:
من المجمعات، وتصميم الحركة الكمومية، والمجموعات الكسورية، والمادة المظلمة، والجذور التربيعية للأعداد السالبة، وزجاجات كلاين، والمكعب المستحيل (مكعب إيشر)، والدرج المستحيل (درج بنروز)، وبالتأكيد. في الغالب، تتسم هذه الأنواع من الأشياء بأنها موجودة من منظور «عقلي» أو «رياضي» فقط. ومرة أخرى، من غير الواضح تماما ما يعنيه هذا، على الرغم من أن المصطلحات نفسها سهلة الاستخدام للغاية.
يرجى ملاحظة أن هذه القدرة العادية غير المتخصصة على تقسيم وعينا و«معرفة» أشياء لا نستطيع التعامل معها هو أمر حديث على نحو مميز. قدماء الإغريق، على سبيل المثال، لم يستطيعوا فعل هذا أو ما كان ليمكنهم ذلك. إنهم يريدون الأشياء دقيقة ومرتبة، ومن ثم شعروا أنك لا تستطيع معرفة شيء ما لم تكن تفهمه حقا.
11
وليس من قبيل المصادفة أن الرياضيات لديهم لم تتضمن الصفر ولا ما لا نهاية. كما أن الكلمة المرادفة لديهم لمصطلح اللانهائية تعني «فوضى».
خبرت الشخصية الإغريقية الفلسفة وممارسة الرياضيات من البداية. فالحقائق الرياضية تقوم لديهم على البرهان المنطقي، وتتسم بأنها تكون على درجة كبيرة من التنظيم والوضوح. وهذا وحده هو ما يخلص الرياضيات من مشاكل معقدة مثل كيفية تبرير مبدأ الاستقراء؛ فالعلاقات والبراهين الرياضية ليست استقرائية ولكنها استنتاجية، منهجية. وبعبارة أخرى، الرياضيات نظام منهجي، حيث تعني كلمة «منهجي» نموذجا أصليا، مجردا تماما. وجوهر الفكرة هنا أن الحقائق الرياضية مؤكدة وعامة تماما؛ لأنها لا شأن لها بالعالم. وإذا كان الأمر يبدو مبهما بعض الشيء، فها هو جزء من كتاب «اعتذار عالم رياضيات» لمؤلفه جي إتش هاردي، وهو أبرز الأعمال النثرية الإنجليزية التي تناولت الرياضيات من حيث الوضوح وسهولة الفهم.
يقول أيه إن وايتهيد: «يعتمد يقين الرياضيات على تعميمها المجرد تماما.» عندما نؤكد أن ، فإننا نؤكد علاقة بين ثلاث مجموعات من «الأشياء»، وهذه الأشياء ليست تفاحات أو بنسات أو أشياء من أي نوع أو آخر بعينه، ولكنها فقط أشياء، «أي أشياء قديمة». فمعنى الجملة مستقل تماما عن مجموع السمات الفردية لأجزائها. جميع «الكائنات» أو «الكيانات» أو «العلاقات» الرياضية، مثل « » أو « » أو « » أو « » أو « »، وجميع الفرضيات الرياضية التي تظهر فيها، تكون عامة تماما، أي مجردة تجريدا تاما. وفي الواقع، في كلمات وايتهيد إسهاب زائد عن الحاجة؛ إذ إن «التعميم» بهذا المفهوم هو نفسه «التجريد».
يرجى ملاحظة أن كلمة «تعميم» في أي من الاقتباسين لا تشير فقط إلى تجريد المصطلحات الفردية ومرجعياتها، ولكن أيضا إلى الشمولية المجردة تماما للحقائق المؤكدة. وهذا هو الفرق بين الحقيقة المثبتة (أي القاعدة أو الصيغة) في الرياضيات البحتة وبين النظرية الرياضية. وأحد الأمثلة المشهورة على هذا الفرق (وهو مثال معروف لتلاميذ د. جوريس، على أية حال) هو أن (1) «مجموع المتسلسلة
حقيقة مثبتة، في حين أن (2) «لأي ، مجموع أول عدد
من الأعداد الصحيحة الفردية =
هو نظرية، أي رياضيات بمعناها الفعلي».
إن الهدف في الغالب مما سوف نعرضه هنا أن يكون تذكيرا ببعض الأشياء التي تعرفها إلى حد ما أو سبق أن درستها في المدرسة. إذا كانت معرفتك بالنظم الشكلية أفضل من بسيطة، فسوف تتعامل مع الفقرات الثلاث التالية على أنها معلومات بسيطة للغاية وغير معقدة، ومن ثم يمكن أن تتعامل معها على أنها معلومات إضافية يمكنك تخطيها أو المرور عليها سريعا. يتطلب النظام الشكلي للبرهان مسلمات وقواعد استدلال. المسلمات هي فرضيات جلية يمكن التأكد منها دون برهان. على سبيل المثال، لعلك تذكر مسلمات إقليدس أو فرضيات بيانو من أيام الدراسة. أما قواعد الاستدلال، التي تسمى أحيانا قوانين التفكير، فهي المبادئ المنطقية التي تجيز اشتقاق حقائق من حقائق أخرى.
12
وتكون بعض قواعد الاستدلال بسيطة مثل قانون الهوية، الذي ينص أساسا على أنه إذا كان شيء ما هو ، فإنه إذن . والبعض الآخر يكون أكثر تعقيدا. وفيما يخص نقاشنا هنا، ثمة قاعدتان من قواعد الاستدلال ينفردان بأهمية خاصة. تعرف القاعدة الأولى باسم قانون الوسط المستبعد أو الثالث المرفوع. طبقا لهذا القانون، أي فرضية رياضية
إما أن تكون صحيحة أو، إذا كانت غير صحيحة، فإنها خطأ، ولا ثالث بين الاحتمالين.
13
تتضمن القاعدة المهمة الأخرى من قواعد الاستدلال علاقة الاستتباع المنطقي أو الاقتضاء أو الاستلزام، بمعنى أنه «إذا كان ... فإن»، وعادة ما يرمز لها بالرمز « ». والقاعدة الأكثر وضوحا لعلاقة الاستتباع المنطقي أو الاقتضاء هي أن (1) « » و(2) «
صحيح» يستتبعان منطقيا استنتاج أن (3) «
صحيح». وسوف نستخدم كثيرا عكس هذه القاعدة أو مقابلها، وهو ما يسمى عادة «استنتاجا خلفيا»
modus tollens ؛ فهو ينص أن (1) « » و(2) «
خطأ» يستتبعان منطقيا أن (3) «
خطأ».
14
أحد الأسباب التي توضح أهمية قانون الوسط المستبعد والاستنتاج الخلفي بالنسبة إلى الرياضيات هو أنهما يسمحان بتطبيق طريقة البرهان غير المباشر، التي تعرف أيضا بطريقة البرهان بنقض الفرض، أو أحيانا البرهان بالنقض فقط. وفيما يلي توضيح لآلية عمل هذه الطريقة. لنفترض أنك تريد إثبات . ما تفعله هو افتراض العكس
ثم إثبات أن
تمثل « »، (باستخدام قانون الوسط المستبعد، لا شيء يحتمل الخطأ والصواب في آن واحد، ولذا فإن الاقتران « » سوف يكون خطأ دوما.) وباستخدام الاستنتاج الخلفي، إذا كان (1)
و(2) « » خطأ، فإن (3)
تكون خطأ، وباستخدام قانون الوسط المستبعد،
15
إذا كان
خطأ، فإن
لا بد أن يكون صوابا.
الكثير من البراهين العظيمة حقا والمشهورة في تاريخ الرياضيات كانت براهين بالتناقض (أي براهين بنقض الفرض). وإليكم مثالا على ذلك. إنه برهان إقليدس للفرضية 20 في الجزء التاسع من كتاب «الأصول» أو «العناصر» لإقليدس. تختص الفرضية 20 بالأعداد الأولية، وهي - حسبما تذكرها على الأرجح من أيام الدراسة - الأعداد الصحيحة التي لا تقبل القسمة على أي عدد صحيح أصغر منها، ويكون الباقي صفرا. تنص الفرضية 20 بالأساس أنه ليس ثمة ما يقال عنه العدد الأولي الأكبر. (هذا يعني بالطبع أن عدد الأعداد الأولية هو في الحقيقة لا نهائي، ولكن إقليدس أخذ يحوم حول هذا المعنى؛ إذ لم يقل صراحة إنه «لا نهائي».) وفيما يلي برهان ذلك. افترض أن هناك بالفعل عددا أوليا أكبر. دعنا نسم هذا العدد . هذا يعني أن متتابعة الأعداد الأولية ( ) بصورتها الشاملة والمنتهية: ( ) هي جميع الأعداد الأولية الموجودة.
16
لنفكر الآن في العدد الصحيح ، وهو العدد الذي تحصل عليه عند ضرب جميع الأعداد الأولية حتى
في بعضها ثم تضيف . من الواضح أن
أكبر من . ولكن هل
عدد أولي؟ إذا كان كذلك، فإننا أمام تناقض مباشر؛ لأننا افترضنا بالفعل أن
هو أكبر عدد أولي ممكن. لكن إذا كان
ليس عددا أوليا، فما هو العدد الذي يقبل
القسمة عليه؟ من الواضح أنه لا يقبل القسمة على أي من الأعداد الأولية في المتتابعة ( )؛ لأن قسمة
على أي منها سيعطينا الباقي . ولكن هذه المتتابعة هي جميع الأعداد الأولية الموجودة، والأعداد الأولية هي في نهاية المطاف الأعداد الوحيدة التي يقبل القسمة عليها عدد غير أولي. فإذا كان
ليس عددا أوليا، وإذا كان لا يقبل القسمة على أي من الأعداد الأولية ( )، فلا بد من وجود عدد أولي آخر يقبل
القسمة عليه. ولكن هذا يتناقض مع الافتراض أن ( ) متتابعة تشمل جميع الأعداد الأولية. في كلتا الحالتين، نحن إزاء تناقض واضح. وبما أن الافتراض بأن هناك عددا أوليا أكبر يستتبع تناقضا، فإن قانون الاستنتاج الخلفي يقتضي أن الافتراض خطأ بالضرورة، وهو ما يعني طبقا لقانون الوسط المستبعد
17
أن إنكار الفرض صواب بالضرورة، بمعنى أنه لا يوجد عدد أولي أكبر، وهو المطلوب إثباته.
يرجى ملاحظة أن لفظة «الأولية» ليس لها علاقة بالعالم، ولكنها تعنى فقط بالعلاقات بين الأعداد. الإغريق هم المؤسسون الحقيقيون لما نسميه الرياضيات؛ لأنهم - مرة أخرى - أول من تعامل مع الأعداد وعلاقاتها كأفكار مجردة بدلا من كونها خصائص مجموعات من الأشياء الحقيقية. من المهم أن نرى ما مثله ذلك من قفزة كبيرة. بالنظر في سجل التاريخ القديم، أو ما يمكن أن نسميه «سجل الحفريات» إن جاز التعبير، يمكن أن نرى بسهولة أن الرياضيات لها منشؤها في الأساس. تأمل حقيقة أن الأعداد تسمى «أرقاما» وأن معظم نظم العد - ليس فقط النظم ذات الأساس 10، ولكن أيضا النظم ذات الأساس 5، والأساس 20 في أوروبا في عصور ما قبل التاريخ - مصممة بوضوح على أساس العد بأصابع اليدين والقدمين. أو أننا ما زلنا نتحدث عن «ساق» المثلث أو «وجه» متعدد الوجوه أو متعدد السطوح، أو أن «حساب التفاضل والتكامل» مشتق من الكلمة الإغريقية المرادفة لكلمة «حصاة»، وهكذا. من المعروف جيدا وجود حضارات سابقة على الحضارة الإغريقية، كما في حالة البابليين والمصريين، بدرجة بسيطة من التعقيد في مجال الرياضيات؛ ولكن الرياضيات لديهم كانت رياضيات عملية بقدر أكبر، وكانت تستخدم لأغراض المسح، والتجارة والمال، والملاحة، وغير ذلك. بعبارة أخرى، كان البابليون والمصريون مهتمين بالبرتقالات الخمس بدلا من 5. أما الإغريق، فإنهم هم الذين حولوا الرياضيات إلى نظام مجرد، لغة ذات رموز خاصة تسمح للأشخاص ليس فقط بوصف العالم المادي، ولكن أيضا بتفسير أعمق الأنماط والقوانين. ومن ثم، نحن مدينون لهم بكل شيء.
18
والأهم من ذلك أن إنجازات كيه فايرشتراس، وجي كانتور، وآر ديديكند في نظرية المجموعات والأعداد الحديثة يستحيل تقدير أهميتها دون فهم القفزة المتعددة الأبعاد من الرياضيات بوصفها تجريدا عمليا لخصائص العالم الحقيقي إلى الرياضيات بوصفها نظاما سوسوريا - نسبة إلى العالم فرديناند دي سوسور - «من الرموز ... مستقلا عن الأشياء المحددة بعينها.» وما كان من الممكن أيضا الوصول إلى تقدير حقيقي دون النظر كذلك في «الإسقاطات التي لا تحصى ...» التي أعقبت ذلك؛ لأن الرياضيات المجردة التي قضت على الخرافات والجهل واللامعقول، وأنتجت العالم الحديث هي أيضا الرياضيات المجردة المليئة باللامعقول والمفارقات والأحجيات، ولطالما حاولت دائما أن تحل القضايا الشائكة لديها على نحو متسرع وغير مدروس منذ بداية وضعها كلغة حقيقية. مرة أخرى، يرجى أن تأخذ في اعتبارك أن اللغة هي خريطة العالم كما أنها عالم خاص في حد ذاتها، لها دهاليزها وأخاديدها الخاصة، ويقصد بتلك الدهاليز والأخاديد المواضع التي تتضمن جملا تمتثل في ظاهرها لكل قواعد اللغة، ولكن يستحيل على الرغم من ذلك التعامل معها.
يمكن أن نفترض أن معظم عناصر اللغة الطبيعية مألوفة بالفعل، ولكن على سبيل التذكير فقط، انظر إلى المسافة (المستويات المتضمنة) بين استخدام لفظتي «شجرة» و«صخرة» لتحديد أشجار وصخور فعلية، وبين دلالات دبليو جيه كلينتون المريرة للفظتي
inhale «يدخن» أو
have sex «يمارس الجنس». أو حلل المفارقة المشهورة «أنا أكذب» (والإغريق هم من وضعوها أيضا). أو تأمل جملا مثل «عبارة «هراء لا معنى له» ليس لها معنى». أو «هل «إذا كانت الجملة تتبع الاقتباس الخاص بها مباشرة، تكون خطأ» تعني أنه «إذا كانت الجملة تتبع الاقتباس الخاص بها مباشرة تكون خطأ».» سوف تلاحظ أن هذه الجمل الثلاث الأخيرة، مثلها مثل أكثر المواضع تناقضا، تنطوي إما على إحالة ذاتية أو ارتداد لا نهائي، وكلاهما تأثيران سلبيان ابتليت بهما اللغة منذ زمن بعيد جدا.
الرياضيات ليست استثناء في ذلك. وبما أن الرياضيات لغة مجردة تماما، فإنها بالطبع لغة يفترض أن افتقارها إلى مرجعيات محددة في العالم الحقيقي يحقق لها أقصى درجات السلامة والاتساق، مفارقاتها وأحجياتها أكثر بكثير من مجرد مسألة. فالرياضيات ينبغي في الحقيقة أن تتعامل مع تلك المفارقات والأحجيات بدلا من مجرد تجاهلها عندما يزول المحفز. بعض المعضلات يمكن التعامل معها بالقواعد الرياضية الصحيحة، بحكم التعريف والاشتراط إن جاز التعبير.
19
مثال بسيط من مادة الجبر في المرحلة الثانوية: من منطلق الحقيقة غير القابلة للنقاش التي مفادها أن القواسم في معادلة من كسرين تكون متساوية إذا كان البسطان متساويين، أي إذا كان
فإن - سيبدو الأمر أنه إذا كان ، فإن ، أي ، وهو ما ليس صحيحا بكل تأكيد. يمكن معالجة هذا بافتراض أن الحل الوحيد الممكن ل ، هو (حيث إن قسمة الصفر على أي شيء يساوي الصفر نفسه، وهو ما لا يستتبع أن ) وباشتراط أن النظرية
لا تتحقق إلا إذا كان .
أو إليك مثالا آخر يتطلب مزيدا من الانتباه؛ جميعنا يذكر الأرقام العشرية المتكررة، مثل كتابة
على صورة . هذا يعني أنه يمكنك توضيح أن الرقم العشري المتكرر مثل العدد
يساوي
بخطوتين فقط صحيحتين تماما. بعبارة أخرى: إذا كان ، فإن ؛ وعندئذ نطرح
من :
وسوف تحصل على ؛ ومن ثم . هل هذا معقول أم لا؟ يعتمد ذلك على كيفية معالجتنا للمتتابعة غير المنتهية « »، مثل إذا ما اخترنا افتراض وجود عدد ما أكبر من ، ولكن أصغر من . سيتضمن هذا العدد جزءا متناهي الصغر، وهو ما يعني حرفيا كيانا رياضيا صغيرا على نحو لا متناه. ومع ذلك، ربما لا تتذكر جيدا - لأن أحدا لم يخبرك بذلك على الأرجح - أن متناهيات الصغر جعلت أساسيات حساب التفاضل والتكامل متداعية للغاية ومثيرة للجدل على مدى 200 سنة، وذلك لنفس السبب تقريبا الذي جعل رياضيات كانتور للأعداد فوق المنتهية تقابل بهذا القدر من التشكيك في أواخر القرن التاسع عشر: ليس ثمة ما سبب مشاكل للرياضيات - من الناحية التاريخية، والمنهجية، والميتافيزيقية - أكثر من الكميات غير المنتهية. وبطرق شتى، يمثل تاريخ هذه المشاكل المرتبطة باللانهائية
هو قصة الرياضيات نفسها.
الجزء 1(د)
هذه المقدمة سريعة وعامة بالطبع. وتوجد بعض الاختلافات التي سوف تتكشف الآن عندما نبدأ في تناول اللانهائية من منظور أنها موضوع تاريخي. يتمثل الاختلاف الأول في الفرق الواضح بين اللامتناهي في الكبر (= فوق المنتهي أو اللامتناهي) ومتناهي الصغر (= المتناهي = ). والاختلاف الثاني الكبير هو بين اللانهائية بوصفها إحدى سمات العالم المادي - كما هو الحال في مسائل مثل هل الكون لا متناه، هل المادة لا متناهية التقسيم، هل الزمن له بداية أو نهاية - وبين اللانهائية بوصفها كيانا أو مفهوما رياضيا مجردا على غرار الدالة، والأعداد، ومبدأ الأولية، وهكذا. أجريت بالفعل بعض الأبحاث حول أنطولوجيا التجريد والمفاهيم المجردة، وما إذا كانت الكيانات الرياضية موجودة فعلا وكيفية وجودها، وهي موضوعات من الواضح أن ثمة الكثير من الجهود البحثية التي يمكن القيام بها لسبر أغوارها. أما الشيء المهم الذي ينبغي أن تضعه في اعتبارك دائما، فهو أن هذه المسائل الخلافية والجدلية بشأن اللانهائية التي سوف تظل محور اهتمامنا هنا إنما تنطوي على معرفة ما إذا كانت الكميات غير المنتهية يمكن أن توجد حقا في صورة كيانات رياضية.
قد يبدو لأول وهلة أن الاختلاف الثالث تافه وبسيط، فهو يتعلق بالكلمات المتعلقة باللانهائية مثل «كمية»، و«عدد». ولهاتين الكلمتين دلالة مزدوجة غريبة ومحيرة، تماما كما في كلمات مثل «طول» أو «أوقية». فالجزء من الحبل له طول معين، ولكنه أحيانا ما يطلق عليه أيضا «طول من الحبل»، كما أن كمية معينة من الأدوية بوزن جرام واحد يمكن أن يطلق عليها أيضا «جرام من الأدوية». وبالطريقة نفسها، يمكن استخدام كلمتي «كمية» و«عدد» على نحو إسنادي؛ وذلك حين يأتيان كإجابة عن السؤال عن كمية شيء ما أو عدده، كما يمكن استخدامهما كاسمين عاديين يشيران إلى الشيء الموصوف. ومن ثم، قد يكون من غير الواضح عند استخدام مصطلح مثل «عدد لا نهائي» ما إذا كان يستخدم بطريقة إسنادية («يوجد عدد لا نهائي من الأعداد الأولية») أم كاسم («أول عدد لا نهائي (بمعنى غير منته) لدى كانتور هو ألفا الصفري »). والفرق بين الاستخدامين مهم؛ لأن استخدام اللانهائية إسناديا يمكن أن يكون ضبابيا وترجيحيا فيعني فقط «كبير بلا حدود» أو «كبير حقا»، في حين أن بعد ديديكند وكانتور أصبح للاستخدام الاسمي دلالة محددة للغاية ومجردة.
في نواح معينة، تكمن قوة لغة الرياضيات، وربما السبب الرئيسي لوجودها في أنها قد صممت بحيث تكون واضحة للغاية وغير ضمنية؛ حتى تتجنب التباسات كالمذكورة آنفا. فمحاولة كتابة كميات عددية وعلاقات باللغة الطبيعية - لترجمة فرضيات رياضية إلى الإنجليزية أو العكس - غالبا ما تتسبب في حدوث مشاكل.
20
ومن الأمثلة المفضلة التي قدمها د. جوريس حول هذا الموضوع المثال القديم لثلاثة رجال قرروا المبيت بأحد النزل في وقت متأخر من الليل. ولم تكن هناك سوى غرفة واحدة شاغرة، وسعرها 30 دولارا، فقرروا أن يقتسموها، ويدفع كل منهم 10 دولارات، ولكن عند دخولهم الغرفة وجدوا أنها في حالة فوضى مزرية؛ إذ من الواضح أن الغرفة كان بها مجموعة من الأشخاص ولم تنظف منذ مغادرة النزلاء السابقين، وبطبيعة الحال اتصل الرجال بالمدير للإدلاء بشكواهم. ثم ذكرت بعض التفاصيل السردية والتنميقات الأسلوبية التي يمكن حذفها. الفكرة هنا أن الوقت كان متأخرا، وخدمة تنظيف الغرف لهذا اليوم كانت قد انتهت منذ فترة طويلة، ولا توجد غرفة أخرى للانتقال إليها، ومن ثم بعد فترة من الشد والجذب المتبادل وافق المدير على خصم 5 دولارات من سعر الغرفة وتوفير أغطية نظيفة، وأرسل أحد العاملين إلى الغرفة بالأغطية والمناشف ومبلغ الخمسة دولارات المسترد في صورة خمس ورقات نقدية فئة دولار واحد. ومن ثم، أصبح الوضع كالآتي: هناك خمس ورقات نقدية فئة دولار واحد وثلاثة أفراد، وما فعله الأفراد الثلاثة (الذين كانوا مبتهجين على نحو غير مفهوم) هو أن كلا منهم استرد دولارا واحدا وسمحوا للعامل أن يحتفظ بالمبلغ المتبقي وهو دولاران على سبيل الإكرامية. وهكذا، دفع كل رجل في البداية 10 دولارات واسترد دولارا واحدا، أي إن كلا منهم دفع 9 دولارات، وبذلك يصبح إجمالي المبلغ 27 دولارا، بينما حصل العامل على الدولارين الآخرين، وهو ما يجعل المجموع الكلي 29 دولارا، ترى أين الدولار الآخر؟ تكمن الفكرة في مثل هذه المسائل في الإسهاب أو الحشو (الذي كان هناك الكثير منه في رواية د. جوريس، حيث أمضى سنة كاملة في الاستشهاد بقصة هؤلاء الرجال الثلاثة وطرق تعاملهم والصعاب المختلفة وألغاز الرياضيات التي دائما ما يتعثرون فيها) الذي يقودك إلى محاولة مشوشة لحساب
بدلا من العكس ، وهو ما ينتج عنه مزيد من الارتباك والابتهاج والمبلغ الإضافي المحتمل.
توجد مثل هذه الجمل اللغوية البينية المحيرة بجميع أنواعها. الجمل التي يستعصي حلها تصير مفارقات وتناقضات فعلية، بعضها يكون عويصا ومتعمقا. ولا غرو بطبيعة الحال أنه بما أن اللانهائية هي أقصى مستويات التجريد، والغموض مترسخ فيها، فإنها تظهر في الكثير من مثل هذه المفارقات أو التناقضات. لتأخذ، على سبيل المثال، فكرة أنه لا يوجد عدد صحيح أخير أو أكبر، وفكرة أن الزمن يمضي للأمام إلى ما لا نهاية. بعد ذلك، تخيل مصباح مكتب، مركبا جيدا ومشحونا، وله مفتاح أحمر كبير للتشغيل وإيقاف التشغيل، وتخيل أن المصباح لم يكن مضاء هذا الصباح ولكنه سوف يضاء عند الساعة الرابعة والنصف عصرا بالتوقيت المركزي القياسي سوف يضاء، ثم في الساعة الرابعة والنصف عصر الغد سوف يطفأ من جديد، ولكنه سوف يضاء مرة أخرى في الساعة الرابعة والنصف عصر اليوم التالي، ويستمر الحال هكذا كل يوم حتى آخر الزمان. والآن، لك أن تتساءل: هل المصباح سوف يكون مضاء أو غير مضاء بعد عدد لا نهائي من الأيام؟ لعلك تذكر من مقرر الرياضيات الجامعي
21
أن هذه في الواقع مسألة كلامية تتضمن ما يسمى متسلسلة غير منتهية متباعدة، أو بشكل أدق متسلسلة جراندي، ، وهي متسلسلة مجموعها يساوي صفرا إذا نحن جمعناها على الصورة
في حين أن مجموعها يصبح
إذا نحن جمعناها على الصورة ، وبما أن كلتا العمليتين الحسابيتين صحيحتان رياضيا، فإن المجموع «الحقيقي» للمتسلسلة هو
وليس
معا، وهو ما يستحيل أن يكون طبقا لقانون الوسط المستبعد. ومع ذلك، ربما تذكر أو لا تذكر أن متسلسلة جراندي هي نوع فرعي من المتسلسلات غير المنتهية المتباعدة يسمى المتسلسلة التذبذبية؛ ومن ثم فإنها موضوع درس في شروط المجاميع الجزئية (يرمز لها بالرمز )، حيث «الرموز ذات الصلة هي ؛ حيث
عندما يكون
عددا زوجيا و
عندما يكون
عددا فرديا.» ويبدو هذا الترميز قديما وغامضا جدا من الناحية الرياضية؛ إذ كان ينبغي أن يصمم بحيث يتفادى مشاكل مثل مفارقة المصباح.
أو ثمة تعارضات وتناقضات حول اللانهائية ليس بوصفها مفهوما في اللغة الطبيعية أو مفهوما غامضا ذا صلة بالأعداد، ولكن بوصفها إحدى سمات الهندسة، ويمكن تمثيلها في صور بسيطة، ولا يمكن أن تكون مجرد شروط فحسب. لنأخذ مثالا على ذلك موضوع النقاط والخطوط. من المعلوم أن أي خط يشتمل على عدد لا نهائي من النقاط. والنقطة، حسبما تذكر من أيام الدراسة، هي «عنصر في الهندسة يشغل حيزا في الفراغ ولكن ليس لها امتداد.» بمعنى أن النقطة كيان أو موضع مجرد. ولكن، إذا كان الخط يتألف بالكامل من نقاط، والنقاط ليس لها امتداد، فكيف يمكن أن يكون للخط امتداد؟ وهو ما ينطبق على كل الخطوط بحكم تعريفها؛ فجميع الخطوط لها امتداد. والإجابة فيما يبدو تتعلق باللانهائية، ولكن كيف يمكن أيضا أن يكون
يساوي أي شيء أكبر من ؟
22
فيما يلي مفارقة أشد وطأة. كل ما نريده هو إقليدس ومسطرة. ارسم خطا مستقيما على هذا النحو:
حيث القطعة المستقيمة
طولها ثلاثة أضعاف طول القطعة المستقيمة . بما أن القطع المستقيمة تتكون من نقاط، من المنطقي أن عدد النقاط على
لا بد أن يكون أكبر ثلاث مرات من عدد النقاط على . ولكن، يتضح أن عدد النقاط متساو في كلتيهما. يمكنك أن ترى ذلك. حول الخط المستقيم إلى المثلث القائم الزاوية ، ذلك بتدوير
لأعلى بحيث تصبح
فوق
تماما، ثم ارسم القطعة المستقيمة :
ثم تذكر أنه طبقا لإقليدس في مسلمة التوازي،
23
أي نقطة على القطعة المستقيمة
سيوجد خط واحد فقط يمر عبرها ويكون موازيا للقطعة المستقيمة :
وأن هذا الخط الجديد سيقطع القطعة المستقيمة
في نقطة واحدة فقط. وينطبق الأمر نفسه بالنسبة إلى كل نقطة مفردة على - كل ما عليك ببساطة أن ترسم خطا موازيا ل
يقطع
في هذه النقطة، وسوف يقطع هذا الخط
في نقطة واحدة فقط:
بلا أي تكرار، ودون إغفال لأي نقاط؛ أي بمعنى أن لكل نقطة على
توجد نقطة مناظرة على ، أي إن عدد النقاط على
مساو تماما لعدد النقاط على ، مع أن .
يمكنك تكوين مفارقة مماثلة باستخدام الدوائر ورسم دائرتين متحدتي المركز، حيث نصف قطر الدائرة الكبرى ضعف نصف قطر الدائرة الداخلية.
24
بما أن محيط أي دائرة عبارة عن دالة مباشرة في نصف قطرها، سيكون محيط الدائرة الكبرى ضعف طول محيط الدائرة الصغرى. والمحيط هو أيضا خط؛ لذلك لا بد أن يكون عدد النقاط على محيط الدائرة الكبرى ضعف عددها على محيط الدائرة الصغرى. ولكن لا: بما أن الدائرتين لهما المركز نفسه، فإن مجرد رسم عدد من أنصاف الأقطار يؤكد أن أي نصف قطر يقطع الدائرة الكبرى في نقطة ما
سوف يقطع الدائرة الصغرى في نقطة مناظرة واحدة فقط ، دون تكرار نقاط أو إغفالها:
وهو ما يوضح بذلك أن عدد النقاط على محيطي كلتا الدائرتين متساو.
هذه المسائل مستقاة من الواقع، وهي ليست مزعجة أو مخالفة للحدس والبديهة فحسب، ولكنها عويصة ومعقدة من الناحية الرياضية. حل جي إف إل بي كانتور كل هذه المسائل تقريبا. ولكن، في اللغة الطبيعية يمكن بالطبع أن تعني كلمة «حل» أشياء مختلفة. كما سبق أن أشرنا، أحد أساليب الرياضيات في هدم أساس المسائل هو تجريدها من الوجود الفعلي - بإزالة بعض أنواع الكيانات الرياضية و/أو وضع نظريات ذات شروط واستثناءات تهدف إلى درء النتائج غير المعقولة. قبل ظهور رياضيات الأعداد فوق المنتهية، كانت هذه هي الطريقة التي عولجت بها معظم مفارقات اللانهائية وتناقضاتها. لقد «حللتها» أنت أولا بتفادي الفرق بين مفارقة وتناقض، ثم بتطبيق نوع من النقض المتيافيزيقي: إذا افترضنا أن كميات غير منتهية، مثل عدد النقاط على خط أو مجموعة الأعداد الصحيحة بأكملها، تؤدي إلى استنتاجات متناقضة، فلا بد من وجود شيء خطأ أو غير ذي معنى في حد ذاته بشأن الكميات غير المنتهية، ومن ثم لا يمكن أن «توجد» الكيانات المتعلقة باللانهائية في الحقيقة بمفهوم رياضي. وكانت هذه بالأساس هي الحجة التي استخدمت - على سبيل المثال - ضد مفارقة جاليليو الشهيرة في مستهل القرن السابع عشر. وفيما يلي مضمون هذه المفارقة. تنص المسلمة الخامسة من مسلمات إقليدس على أن «الكل دائما أكبر من الجزء»، وهو ما يبدو أمرا غير قابل للجدل ولا يرقى إليه الشك مطلقا. من الواضح أيضا أنه في حين أن كل مربع كامل (أي ) هو عدد صحيح، فليس كل عدد صحيح مربعا كاملا. بعبارة أخرى، مجموعة المربعات الكاملة كلها ما هي إلا جزء فقط من مجموعة الأعداد الصحيحة كلها، وحسب مسلمة إقليدس الخامسة فإنها أصغر منها. المشكلة هي أن نفس فكرة التساوي من خلال التناظر، التي رأيناها مع القطعتين المستقيمتين
والدائرتين متحدتي المركز، يمكن تطبيقها هنا؛ وذلك لأنه بما أن ليس كل عدد صحيح مربعا كاملا، فإن كل عدد صحيح هو فعلا الجذر التربيعي لمربع كامل - فالعدد
هو الجذر التربيعي للمربع الكامل ، و
هو الجذر التربيعي للمربع الكامل ، و
هو الجذر التربيعي للمربع الكامل ، و
هو الجذر التربيعي للمربع الكامل ، وهكذا. وعلى نحو تصويري، يمكنك كتابة المجموعتين بحيث تكون إحداهما أعلى الأخرى، وتثبت وجود تناظر أحادي تام غير متناه بين عناصر المجموعتين:
25
912
911
5
4
3
2
1
831.744
829.921
25
16
9
4
1
ومن ثم، فإن النتيجة المترتبة على مفارقة جاليليو هي أن مسلمة إقليدس الخامسة - وهي جزء لا يتجزأ من الرياضيات الأساسية، ناهيك عن كل حقيقة واضحة يؤكدها كل نوع فريد من المجموعات يمكن أن نراها أو نعدها - تتعارض مع المجموعات غير المنتهية من جميع الأعداد الصحيحة وجميع المربعات الكاملة. بالنظر إلى هذه الحالة، نجد أن هناك طريقين يمكن سلكهما. الطريق القياسي، كما ذكرنا، هو توضيح أن المجموعات غير المنتهية هي المكافئ الرياضي لوحيد القرن أو ال «لا شيء»، الذي تراه أليس على الطريق.
26
أما الطريق الآخر - الذي هو تغيير جذري على المستوى الذهني والنفسي - فهو التعامل مع التكافؤ المتناقض لجاليليو ليس باعتباره تعارضا ولكن باعتباره وصفا لكيان رياضي من نوع جديد بعينه، فهو مجرد وغريب للغاية، حتى إنه لا يتوافق مع قواعد الرياضيات المعتادة، ويتطلب معالجة خاصة. ومثال ذلك أن تقول (حسبما قال واضع العبارة، لك أن تخمن من يكون) إن «الخلل الأساسي في جميع البراهين المزعومة لاستحالة الأعداد غير المنتهية هو أن هذه البراهين تمنح هذه الأعداد جميع خصائص الأعداد المنتهية، في حين أن الأعداد غير المنتهية ... تشكل نوعا جديدا تماما من الأعداد، نوعا ينبغي أن تكون طبيعته وماهيته موضع بحث بدلا من التحامل التعسفي المجحف.»
ولكن، على الجانب الآخر، قد لا يكون هذا الرأي بمثابة تغيير جذري ولكنه محض هراء ولا يمت للمعقول بصلة.
27
وذلك مثل أن تأخذ حقيقة أن أحدا لم ير أبدا وحيد القرن وتزعم أن هذا ليس دليلا على أن وحيد القرن لا وجود له في الواقع، بدلا من أن تأخذه دليلا من باب أولى على أن حيوانات وحيد القرن تمثل حيوانا من نوع جديد كلية يتمتع بخاصية فريدة وهي التخفي عن الأنظار. وهنا نجد بالطبع الخيط الرفيع الذي يفصل بين الذكاء الحاد والجنون الذي يتحدث عنه الكتاب وصانعو الأفلام في العصر الحديث. الحقيقة هي أن كل أنواع الكيانات الغريبة، التي لا يمكن رصدها رصدا مباشرا مثل الصفر والأعداد الصحيحة السالبة والأعداد غير النسبية وغيرها، دخلت أساسا الرياضيات تحت النوع نفسه من سحابة الجنون أو عدم الاتساق، ولكنها مقبولة تماما الآن، بل وأساسية. وفي الوقت نفسه، يوجد الكثير من الابتكارات الأخرى التي كانت حقا محض جنون أو غير قابلة للتنفيذ وأصبحت أضحوكة مجتمع الرياضيات، ولم نسمع - نحن الأشخاص العاديين غير المختصين - عنها أبدا.
ذلك فقط لأن الخيط الرفيع لشيء ما لا يعني أنه ليس خطا، رغم ذلك. التفكير الرياضي مجرد، ولكنه أيضا تفكير يتحكم فيه الأفراد أو المؤسسات الخاصة، ويركز على تحقيق النتائج. ومن ثم، فإن الفرق بين نظرية رياضية عبقرية وجديدة من نوعها وأخرى مجنونة ولا عقلانية يكمن في كل ما يمكن القيام به باستخدام هذه النظرية، من حيث كونها تحقق نتائج ذات دلالة أو لا. فيما يلي شرح جي إتش هاردي لمفهوم «النتائج ذات الدلالة»:
قد نقول على نحو عام إن فكرة رياضية ما تكون «ذات دلالة» إذا كان من الممكن ربطها، بطريقة طبيعية ومستنيرة بمجموعة كبيرة ومعقدة من الأفكار الرياضية الأخرى. ومن ثم، فإن أي نظرية رياضية ذات دلالة، أي نظرية تربط بين أفكار ذات دلالة، من المرجح أن تسفر عن تطورات مهمة في الرياضيات نفسها، بل وفي علوم أخرى كذلك.
هذه بالضبط هي الطريقة التي أصبحت بها نظريات جي إف إل بي كانتور عن المجموعات غير المنتهية والأعداد فوق المنتهية ذات دلالة في نهاية المطاف. ويعزى سبب ذلك في جزء منه إلى أن كانتور كان عالم رياضيات يهتم بالتفاصيل الدقيقة إلى أقصى درجة وتوصل إلى براهين بارعة للخصائص الشكلية المهمة التي جعلت من أفكاره نظريات حقيقية بدلا من أن تكون مجرد فرضيات حماسية. ولكن هناك أيضا أسباب أخرى. لقد افترض جاليليو نفسه أن النتيجة الحقيقية لمفارقته هي أن «المسند «يساوي» و«أكبر» و«أصغر» لا ينطبق على الكميات غير المنتهية، ولكن فقط على الكميات المنتهية». مع ذلك، لم يأخذ أحد هذا الأمر بجدية، وذلك ليس بسبب الغباء؛ الرياضيات لا تميل إلى أن تكون حافلة بالأغبياء أو ذوي التفكير المنغلق. ولكن الزمن لم يكن مهيأ بالمعنى الحرفي للكلمة لاقتراحات جاليليو، كما أنه لم تكن قد استحدثت بعد الأدوات الرياضية المناسبة للتعامل معها بوصفها نظرية حقيقية، حتى إن أراد جاليليو ذلك ... وهو ما لم يرده، وانطلاقا من هذه الحقيقة سيكون من الخطأ استنتاج أنه لم يكن في مثل عبقرية جي كانتور. وعلى غرار غالبية الرواد العظماء الذين أحدثوا ثورة في الرياضيات أو العلوم، كان كانتور رجل زمانه ومكانه تماما، وكانت إنجازاته الاقتران الطبيعي بين الذكاء الشخصي الفائق للعادة والشجاعة،
28
والسياق الصحيح للمسائل العامة والشروط التي - عند النظر إليها لاحقا - تميل إلى جعل التقدم الفكري يبدو أمرا حتميا لا مفر منه؛ ومن ثم يبدو مؤلفوها شيئا عارضا قليل الأهمية نوعا ما.
والآن دعونا نتناول الأمر من منظور آخر، الرياضيات هرمية تراكمية؛ فكانتور لم يأت فجأة من اللامكان. ومن ثم، فإن التقدير الحقيقي يتطلب استيعاب المفاهيم والمشكلات التي ساعدت على ظهور نظرية المجموعات وجعلت رياضيات الأعداد فوق المنتهية مهمة بمفهوم هاردي. لقد استغرق ذلك بعض الوقت، ولكن بما أن طبيعة النقاش أنه هرمي في حد ذاته، يمكننا أن نمضي قدما بأسلوب مرتب بعض الشيء، والموضوع كله لن يكون تقريبا مجردا واستطراديا مثل هذه المقدمة التمهيدية.
هوامش
الجزء الثاني
الجزء 2(أ)
حان الآن إعلان البداية الحقيقية. هناك طريقتان لتتبع سياق نظرية المجموعات لكانتور. تتمثل الطريقة الأولى في الحديث عن العلاقة المتداخلة المجردة بين اللانهائية والنهاية على مدى تطور الرياضيات. بينما تتمثل الطريقة الثانية في فحص الصراع التاريخي للرياضيات مع تمثيل الاتصال، أي جوانب الحركة المتعاقبة بكثافة و/أو المتدفقة بسلاسة وعمليات العالم الحقيقي. أي شخص حتى لو كانت لديه معلومات مشوشة للغاية في ذاكرته في مقرر الرياضيات الجامعي لن يغيب عن ذهنه أن الاتصال والنهاية هما إلى حد كبير الركيزة التي يقوم عليها حساب التفاضل والتكامل، وربما لا يغيب عن ذهنه أيضا أن لهما نفس الأصول العامة في الميتافيزيقا لدى الإغريق، ولهما مصفوفتهما الخاصة في كتابات زينون الإيلي (490-435 قبل الميلاد)، الذي توفي وهو يقضم بأسنانه أذن حاكم إيليا المستبد نيركوس الأول (وهي قصة طويلة)، والذي كانت المفارقات التي سميت باسمه نقطة الانطلاق لكل شيء.
لنستعرض في البداية بعض الحقائق الثابتة التي لا تتزعزع: الحقيقة الأولى هي أن الرياضيات عند الإغريق كانت مجردة تماما، ولكن كانت لها جذورها العميقة في تطبيقات البابليين والمصريين. لا يوجد فرق حقيقي - عند الإغريق - بين الكيانات الحسابية والأشكال الهندسية؛ أي مثلا بين العدد 5 وخط طوله خمس وحدات. والحقيقة الثانية هي أنه لا توجد أيضا أي فروق واضحة أو تمييز صريح لدى الإغريق بين الرياضيات والميتافيزيقا والدين؛ إذ كانت جميعها نفس الشيء في مناح كثيرة. والحقيقة الثالثة أننا في عصرنا وثقافتنا لا نحب الحدود ولا النهايات، كقولنا - مثلا - «رجل محدود» أو «إذا كانت مفرداتك اللغوية محدودة، فإن فرص نجاحك محدودة أيضا.» إلى غير ذلك. وهذه الكراهية للنهايات والحدود هي أمر لم يكن ليفهمه الإغريق. ويكفي أن نقول إنهم أحبوا النهايات كثيرا، وإحدى النتائج المباشرة لذلك هي نفورهم من اللانهائية أو عدم ثقتهم فيها. اللفظة الإغريقية «أبيرون»
to apeiron
لا تعني فقط طويلا أو كبيرا على نحو غير متناه، ولكن أيضا غير قابل للتعريف، معقد على نحو ميئوس منه، الشيء المستغلق الذي لا يمكن التعامل معه أو معالجته.
1
تشير أيضا لفظة «أبيرون»، وهو المعنى الأكثر شهرة، إلى الفوضى اللامحدودة عديمة الجوهر التي بدأت منها نشأة الخلق. يعرف أناكسيماندر (610-545 قبل الميلاد)، أول الفلاسفة السابقين على أرسطو الذي استخدم اللفظة في فلسفته الميتافيزيقية، الكلمة بالأساس على أنها «الركيزة الأساسية اللامحدودة التي نشأ منها العالم.» وكلمة «اللامتناهي» هنا لا تعني فقط لا ينتهي ولا ينضب، ولكن أيضا عديم الشكل، دون كل الحدود والفروق والصفات الخاصة. ضرب من الفراغ، باستثناء ما هو مفتقر إليه في الأساس وهو الشكل.
2
ولم يكن هذا ليس بالأمر الجيد بالنسبة إلى الإغريق. وفيما يلي اقتباس من أرسطو، وهو اقتباس حاسم: «جوهر اللامتناهي هو العوز، ليس الكمال ولكنه افتقار النهاية.» الفكرة هي أنك عندما تستبعد جميع الحدود وتجردها للوصول إلى اللانهائية، تكون كمن يأخذ العاطل بالباطل: لا حد يعني لا شكل، ولا شكل يعني الفوضى، والقبح، والتشوش وانعدام النظام. ومن ثم، لاحظ الحقيقة الرابعة من الحقائق الثابتة التي لا تتزعزع، فلسفة الجمال الجوهرية وكلية الوجود في الفكر الإغريقي. الفوضى والقبح هما الخطأ أو الشر المطلق في حد ذاته، هما الإشارة المؤكدة أن ثمة خطأ في مفهوم ما، بالطريقة نفسها تقريبا التي كان انعدام التناسب أو الفوضى غير مسموح بهما في الفن الإغريقي.
3
يعد فيثاغورس الساموسي (570-500 قبل الميلاد) عنصرا أساسيا بشتى الطرق في تاريخ اللانهائية (في الواقع، من الأدق أن نقول «الأخوية الدينية الفيثاغورية» أو اختصارا «الفيثاغورية»؛ لأنه طبقا لمفهوم اللانهائية، الإنسان أقل أهمية من المذهب). الميتافيزيقا الفيثاغورية هي التي ربطت بوضوح مفهوم «اللامتناهي» أو «اللامتعين» لدى أناكسيماندر بمبدأ النهاية (=
Gr. Peras ) الذي أضفى قواما ونسقا - إمكانية اتخاذ شكل - على الفراغ الأولي. طرح أتباع الأخوية الدينية الفيثاغورية، الذين كما هو معروف جيدا قد أنتجوا نظاما كاملا من الأعداد، هذه النهاية على أنها رياضية، هندسية. ومن خلال تطبيق عمليات «المتناهي» أو «المحدود»
peras
على «اللامتناهي» أو «اللامحدود»
to apeiron ، نتجت الأبعاد الهندسية للعالم المادي: عندما يحدد «اللامتناهي» أو «اللامحدود» مرة واحدة، فإنه ينتج النقطة الهندسية، وعندما يحدد مرتين فإنه ينتج الخط، وعندما يحدد ثلاث مرات فإنه ينتج المستوى، وهكذا. ومع أن هذا قد يبدو غريبا أو بدائيا، فإنه كان مهما للغاية، وكذلك أيضا الفيثاغورية. كان علم الكونيات القائم على فكرة المحدود أو المتناهي
peras
لديهم يعني أن نشأة الأعداد هي نشأة العالم. كان أتباع الأخوية الدينية الفيثاغورية غير تقليديين ومخالفين للمألوف على نحو خرافي، كما في قواعدهم الموسمية أو الفصلية بشأن الجنس أو كراهية فيثاغورس المرضية للحبوب والبقول. لكنهم كانوا أول من اعتبر الأعداد مفاهيم وصورا مجردة وتعامل معها على هذا الأساس. كانت مركزية العدد 10 في مذهبهم، على سبيل المثال، لا تعتمد على العوامل المتمثلة في أصابع اليدين أو القدمين، ولكنها تعتمد على حالة العدد 10 بوصفه المجموع الكامل للمقدار 1 + 2 + 3 + 4.
كان أتباع الأخوية الدينية الفيثاغورية هم أول فلاسفة يعالجون صراحة العلاقة الميتافيزيقية بين حقائق الرياضيات المجردة والحقائق التجريبية الملموسة. وكان موقفهم الأساسي أن الحقيقة الرياضية والعالم المادي هما شيء واحد، أو بالأحرى إن الحقيقة التجريبية عبارة عن ظل أو إسقاط للرياضيات المجردة.
4
علاوة على ذلك، كانت الكثير من حججهم المتعلقة بأولية الأعداد تعتمد على الحقيقة المرصودة أن العلاقات الرياضية الشكلية تماما لها تداعيات مذهلة على ظواهر العالم الحقيقي، ومثال شهير على ذلك كيفية تجريد الفيثاغورسيين لمعادلة المتوسط الذهبي ( ، التي لها الحل التقريبي ) من حلزونات الأصداف البحرية وحلقات الشجر ونشر استخدامها في العمارة. كما سبق أن ذكرنا، فإن الحضارات السابقة على ذلك، مثل الحضارة المصرية القديمة، قد عرفت بعض هذه العلاقات ما بين الرياضيات والعالم، أو ربما من الأفضل لو قلنا إنهم «استخدموها»؛ إذ لم يكن المصريون القدماء يهتمون مطلقا بماهية هذه العلاقات أو ما تعنيه فعليا. وفيما يلي مثالان آخران. عمليا، استخدم المصريون القدماء ما نسميه الآن نظرية فيثاغورس في أعمال الهندسة والمسح على طول نهر النيل، ولكن فيثاغورس هو من صاغ منها نظرية فعلية وأثبتها. والكثير من الثقافات ما قبل الإغريقية كانت أيضا تعزف الموسيقى، ولكن الأخوية الدينية الفيثاغورية كانوا هم من اكتشفوا مفهومي الأوكتاف (الجواب، أو جواب القرار)، الخمس المثالي ... إلخ، من خلال ملاحظة أن بعض الفواصل الموسيقية دائما ما تكون مناظرة لنسب معينة في أطوال الآلات الوترية - 2 إلى 1، 3 إلى 2، وهكذا. وبما أن الأوتار هي خطوط والخطوط هي كيانات هندسية رياضية،
5
فإن نسب أطوال الأوتار هي نفسها نسب الأعداد الصحيحة، التي تعرف أيضا بالأعداد النسبية، التي هي الكيانات الأساسية في الميتافيزيقا الفيثاغورية.
الفكرة هي أن محاولات الأخوية الدينية الفيثاغورية للتعبير عن العلاقات بين الحقيقة الرياضية والعالم المادي كانت جزءا من مشروع أكبر لفلسفة ما قبل سقراط، الذي كان الهدف منه في الأساس هو إعطاء تفسير عقلاني غير أسطوري لما كان حقيقيا، والمنشأ الذي جاء منه. وقد يكون أهم حتى من الأخوية الدينية الفيثاغورية، فيما يخص اللانهائية، قانون الفيلسوف الصوفي الأول بارمينيدس الإيلي (515-؟ قبل الميلاد) ليس فقط لأن تمييزه بين «طريق الحقيقة» و«طريق الظاهر» قد شكل مصطلحات الميتافيزيقا الإغريقية (ومرة أخرى) أثر في أفلاطون، ولكن لأن التلميذ الأول لبارمينيدس والمدافع عنه كان زينون الإيلي، الذي هو الفيلسوف الإغريقي الأكثر ذكاء ومشاكسة (والذي يمكن أن يرى حقا وهو يجادل سقراط ويشاكسه، دافعا بالحجة، في كتاب «محاورة بارمينيدس» لأفلاطون). اتخذت حجج زينون عن الميتافيزيقا البارمينيدية - على النحو المذكور عنها - شكل عدد من المفارقات الأكثر عمقا وحسما في تاريخ العالم. وتأييدا لعلاقة هذه المفارقات الحاسمة بموضوعنا الشامل، إليكم اقتباسا آخر عن بي راسل:
في هذا العالم المتقلب لا شيء أكثر تقلبا من الشهرة بعد الوفاة. وأحد أبرز الأمثلة على افتقار الأجيال القادمة إلى ملكة التمييز والحكم الجيد على الأمور هو زينون الإيلي [...]، الذي ربما ينظر إليه باعتباره مؤسس فلسفة اللانهائية. فقد وضع أربع حجج، جميعها غاية في البراعة والعمق، لإثبات أن الحركة مستحيلة منطقيا، وأن أخيل لا يمكنه أن يسبق السلحفاة، وأن السهم الطائر هو في الواقع عديم الحركة. وبعد دحض هذه الحجج وتفنيدها على يد أرسطو وعلى يد كل الفلاسفة اللاحقين منذ ذلك اليوم وحتى زماننا، أعيدت هذه الحجج، وشكلت الأساس لقيام نهضة رياضية، على يد أستاذ ألماني ربما لم يحلم قط بأي صلة بينه وبين زينون.
إحقاقا للحق، الميتافيزيقا البارمينيدية - التي هي أكثر غرابة من الميتافيزيقا الفيثاغورية، وإذا استرجعنا الماضي فإنها تبدو أكثر شبها بديانات الشرق عنها بالفلسفة الغربية - يمكن وصفها بأنها نوع من الوحدانية الثابتة،
6
ومن ثم فإن مفارقات زينون (التي يتجاوز عددها في الحقيقة الأربعة) موجهة ضد حقيقة (1) التعددية و(2) الاتصال. وفيما يخص نقاشنا الحالي، فإن ما يعنينا هو «الاتصال»، الذي يتخذ عند زينون، كما يشير راسل، شكل الحركة المادية المنتظمة.
تعرف حجة زينون الأساسية ضد حقيقة الحركة بالتقسيم الثنائي («الديخوتومي»). وتبدو بسيطة للغاية وقد استخدمت في اثنين من أشهر مفارقاته، «مضمار السباق» و«أخيل والسلحفاة». واستخدم التقسيم الثنائي وناقشه لاحقا، بكل أنواع الإعدادات والأجندات المختلفة، كل من أفلاطون وأرسطو وأجريبا وأفلوطين والقديس توما الإكويني ولايبنتس وجيه إس ميل وإف إتش برادلي ودبليو جيمس (ناهيك عن دي هوفستادتر في كتابه «جودل، إيشر، باخ: الجديلة الذهبية الأبدية»). وهكذا تجري الأمور.
7
أنت تقف في زاوية والضوء يتغير، وتحاول أن تعبر الطريق. لاحظ الفعل «تحاول»؛ ذلك لأنك قبل أن تتمكن من عبور الطريق بالكامل، عليك أن تصل إلى منتصف المسافة. وقبل أن تصل إلى منتصف المسافة، عليك أن تصل إلى ربع المسافة. وهذا أمر بديهي. وقبل أن تتمكن من الوصول إلى ربع المسافة، من البديهي أنك لا بد أن تصل إلى ثمن المسافة، وقبل الثمن، واحد على ستة عشر، وهكذا إلى ما لا نهاية. ولنتناول الأمر بطريقة أكثر تشويقا، تكمن المفارقة هنا أن الشخص السائر في الطريق لا يمكنه التحرك من النقطة
إلى النقطة
دون عبور كل المسافات الجزئية المتعاقبة للمسافة ، وطول كل مسافة جزئية يساوي ، حيث تكون قيم
المتتابعة ، وتعني « » بالطبع أن المتتابعة ليست لها نهاية محددة؛ فهي ممتدة إلى الأبد. هذا هو الارتداد إلى ما لا نهاية، أو ما يعرف أيضا بالارتداد اللانهائي المنافي للمنطق. وما يجعله مخالفا للمنطق هنا هو أنك يتعين عليك إتمام عدد لا نهائي من الأفعال قبل بلوغ هدفك، وهو ما يجعل الهدف مستحيلا منطقيا؛ بما أن القصد من كونه عددا «لا نهائيا» أنه لا نهاية لعدد هذه الأفعال. ومن ثم، فإنك لا تستطيع عبور الشارع.
عادة ما تكون الطريقة القياسية لشرح التقسيم الثنائي بأسلوب منهجي كالتالي: (1)
لعبور المسافة
لا بد أن تعبر أولا كل المسافات الجزئية ، حيث . (2)
يوجد عدد لا نهائي من المسافات الجزئية. (3)
من المستحيل أن تعبر عددا لا نهائيا من المسافات الجزئية في فترة زمنية محددة. (4)
إذن، من المستحيل أن تعبر المسافة .
غني عن القول إن المسافة
لا يتعين بالضرورة أن تكون طريقا عريضا للغاية، أو حتى طريقا على الإطلاق. ينطبق مفهوم التقسيم الثنائي على أي نوع من الحركة المستمرة. اعتاد د. جوريس في قاعة الدرس على إدارة النقاش بأسلوب مماثل للكشف عن القيادة تحت تأثير المخدر، وهو أن تحرك إصبعك من منطقة الخصر حتى طرف الأنف. وبالطبع، كما يعلم أي شخص عبر طريقا أو لمس أنفه من قبل، يتضح أن هناك شيئا غريبا غير مقنع بشأن حجة زينون. وتقصي هذه الغرابة وتفسيرها هو موضوع آخر تماما. ولا بد أن نتوخى الحذر أيضا؛ فهناك أكثر من طريق يؤدي إلى الخطأ. إذا كنت لا تزال تذكر بعضا من مقرر الرياضيات الجامعي، على سبيل المثال، فقد يدفعك ذلك إلى القول إن الخطوة (2) من التقسيم الثنائي تخفي وراءها مغالطة بسيطة، وهي الافتراض بأن مجموع متسلسلة غير منتهية لا بد أن يكون هو نفسه غير منته. لعلك تذكر أن الخطوة (1)، وهي ، هي ببساطة طريقة أخرى لتمثيل المتسلسلة الهندسية ، وأن الصيغة الصحيحة لإيجاد مجموع هذه المتسلسلة الهندسية هو ، حيث
هو الحد الأول للمتسلسلة و
هو النسبة المشتركة، وأن
هنا يساوي ، وكذلك ، و ، ويتضح في هذه الحالة أن من الممكن عبور الطريق ولمس الأنف دون مشاكل، ومن ثم يكون التقسيم الثنائي مجرد مسألة كلامية صعبة وليس مفارقة على الإطلاق، اللهم إلا الحضارات التي كانت على درجة كبيرة جدا من البدائية والتخلف لم تمكنها من معرفة صيغة إيجاد مجموع متسلسلة هندسية.
ولو لم يكن هذا الرد كافيا، فلننح جانبا الآن موضوع ما إذا كانت الحجة صحيحة تقنيا أم لا. فما يهم حقا أنها بسيطة؛ فهي تمثل ما يطلق عليه الفلاسفة نظرة قاصرة لمسألة زينون. فمن أين نتأكد أن
صيغة صحيحة لإيجاد مجموع هذه المتسلسلة الهندسية؟ أي هل هذه الصيغة مجرد جزء من الدلالات الصارمة الموضوعة لتحديد معضلات بعينها من الوجود، أو هل هي ذات دلالة رياضية بمفهوم هاردي لمصطلح «ذات دلالة»؟ وكيف نحدد أيهما تكون هي؟
من الغريب أنه كلما كانت الرياضيات التي درستها أكثر معيارية ونظامية، كان من الأصعب أن تتفادى الإجابة بأسلوب قاصر. كما في حالة التحقق، على سبيل المثال، من صحة
بملاحظة أن المتسلسلة الهندسية ذات الصلة هنا هي نوع فرعي معين من المتسلسلة غير المنتهية المتقاربة طبقا لأفضل مفاهيم حساب التفاضل والتكامل (2)،
8
وأن مجموع هذه المتسلسلة يحدد على أنه نهاية متتابعة المجاميع الجزئية للمتسلسلة (أي إنه إذا كانت المتتابعة
من المجاميع الجزئية للمتسلسلة تقترب من نهاية ما ، فإن
هي مجموع المتسلسلة)، وهذا بالتأكيد فيما يخص المتسلسلة أعلاه ، ومن ثم فإن
تؤدي المطلوب ... وبذلك تكون قد رددت مرة أخرى على حجة التقسيم الثنائي لزينون بطريقة مركبة، وصحيحة تقنيا، وبسيطة في جوهرها. تماما كالحال عندما تجيب عن سؤال مثل «لماذا يعد القتل جرما؟» بقولك: «لأنه فعل غير قانوني».
المشكلة في مقرر الرياضيات الجامعي، الذي يتألف كله تقريبا من معلومات مجردة يتلقاها الطلبة ويسترجعونها بطريقة نمطية رتيبة، ومصممة بطريقة تزيد هذا التدفق المتبادل للبيانات، أننا يمكن أن ننخدع بصعوبة سطحيتها التامة فنعتقد أننا في الحقيقة نعرف شيئا، بينما كل ما «نعرفه» في الحقيقة هو صيغ وقواعد مجردة لاستخدامها. نادرا ما تخبرنا دروس الرياضيات بما إذا كانت صيغة معينة لها معنى حقيقي، أو بسبب أهميتها، أو منشئها الحقيقي أو ما كان منها على المحك.
9
من الواضح أن هناك فرقا بين أن تكون قادرا على استخدام صيغة ما استخداما صحيحا وأن تعرف حقا كيف تحل مسألة ما، أن تعرف السبب في أن مسألة ما هي مسألة رياضيات فعلية وليست مجرد تمرين. وبخصوص هذا الموضوع، انظر جزءا آخر من فقرة بي راسل عن زينون،
10
مع تقديم تأكيدات هذه المرة:
كان زينون مهتما - في واقع الأمر - بثلاث معضلات، كل منها تعرض من خلال الحركة، ولكن كلا منها أكثر تجريدا من الحركة، وقابلة للمعالجة الحسابية البحتة. وهذه المعضلات هي متناهي الصغر، واللامتناهي، والاتصال. ولبيان الصعوبات التي ينطوي عليها الأمر بوضوح؛ ربما علينا الاضطلاع بالجزء الأصعب من مهمة الفيلسوف.
وفشلت ، دون قدر كبير من السياق وكما لو أنها كانت دافعا، لبيان الصعوبات المتضمنة بوضوح. وفي الواقع، فإن الإتيان على ذكر هذه الصعوبات بوضوح هو الصعوبة الحقيقية والوحيدة المتضمنة هنا (وإذا بدأت تشعر الآن ببعض الإجهاد و/أو الصداع، فسوف تعرف أننا في منطقة زينون الحقيقية).
أولا، لتقليل
كلمة على الأقل، أنعش ذاكرتك بإلقاء نظرة على التمثيلين البيانيين التقريبيين التاليين، اللذين يخص أحدهما المتتابعة المتباعدة
11
بينما يخص الآخر المتتابعة المتباعدة :
واحدة من الصعوبات السياقية الحقيقية المحيطة بالتقسيم الثنائي هي أن الإغريق لم يكن لديهم صفر ولم يستخدموه في الرياضيات عندهم (ابتكر الصفر في وقت متأخر جدا على أيدي البابليين، بأسلوب عملي واكتواري بحت، سنة 300 قبل الميلاد). ومن ثم، يمكن للمرء القول إنه بما أنه لا يوجد عدد معروف أو كمية معروفة تتقارب إليها المتتابعة المتقاربة (انظر الشكل 2أ (2))، فالرياضيات عند الإغريق افتقرت إلى الأداة المفاهيمية لاستيعاب التقارب، والنهايات، والمجاميع الجزئية ... إلخ. وهذا من شأنه أن يكون صحيحا من جانب،
12
وغير بسيط كليا.
ومع ذلك، يظل النفور الإغريقي من اللامتناهي أو اللامحدود، الذي ذكرناه سابقا عند شرح لفظة «أبيرون» لديهم، أقل بساطة. كان زينون أول فيلسوف يستخدم الصفات المنطقية للانهائية الأشبه بالثقب الأسود كأداة نقاش فعلية، وهي الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق، التي لا تزال تستخدم حتى اليوم في النقاشات المنطقية كطريقة للبرهان بالتناقض. مثال: في نظرية المعرفة، الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق هو الطريق الأسهل لدحض الزعم الشائع بأنك لكي تعرف حقا شيئا ما فلا بد أن تعرف أنك تعرفه. وعلى غرار معظم براهين الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق، ينطوي هذا البرهان على عدد من التكرارات التي تدور في حلقة مفرغة، وهو ما يعد عيبا بطبيعة الحال. افترض أن المتغير
يشير إلى أي حقيقة أو حالة مسبوقة بالكلمة «أن »، ثم اذكر الزعم الأصلي على صورة (1) «لكي تعرف أن ، يجب أن تعرف أنك تعرف أن ». بما أن العبارة «أن تعرف أن » بأكملها تصف حقيقة أو حالة، يمكنك ببساطة في الخطوة التالية من البرهان توسيع دلالة
بحيث يصبح الآن = [تعرف أن ]، ثم تعوض عنها بالزعم الأصلي، مع إجراء ما يلزم من التعديل والتبديل في (2) «لكي تعرف أنك [تعرف أن ]، يجب أن تعرف أنك تعرف أنك [تعرف أن ]»، ثم يقودنا توسيع دلالة
التالي الصحيح تماما إلى (3) «لكي تعرف أنك [تعرف أنك تعرف أن ]، لا بد أن تعرف أنك تعرف أنك [تعرف أنك تعرف أن ]»، وهكذا إلى ما لا نهاية، مما يستوجب منك استيفاء عدد لا نهائي من الشروط المسبقة لمعرفة أي شيء. (معلومة إضافية: الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق هو أداة فعالة جدا يمكنك استخدامها بسهولة لإزعاج المنافسين المحترفين، أو لإثارة غضب شريكك في الصراعات المحلية، أو (الأسوأ) لإقحام نفسك في فكرة مسترسلة إلى ما لا نهاية على نحو يدفعك دفعا إلى الجنون، على سبيل المثال، أي نوع من العلاقة بين شيئين أو عنصرين، كالحال عندما نقول: إن
و
مرتبطان بالدالة ، أو إنه إذا كانت السحب تؤدي إلى سقوط الأمطار فإن السحب والأمطار تربطهما إذن علاقة سببية. إذا تناولت الفكرة بصورة مجردة وسألت، بالإشارة إلى أي علاقة، هل هذه العلاقة مرتبطة في حد ذاتها بالعنصرين اللذين تربطهما، فإن الإجابة حتما ستكون بالإيجاب (بما أنه يستحيل أن تعرف كيف يمكن لعلاقة أن تربط بين عنصرين إلا إذا كانت لها صلتها الخاصة بكل عنصر على حدة، مثل الجسر الواصل بين ضفتي النهر الذي يجب أن يكون متصلا بكل ضفة على حدة)، ومن ثم فالعلاقة - مثلا - بين السحب والأمطار تستلزم في الحقيقة علاقتين أخريين، وهما بين (1) السحب والعلاقة و(2) المطر والعلاقة، وكل من العلاقتين الأخيرتين تستلزم بالتأكيد علاقتين أخريين في كل جانب، وهكذا، إلى ما لا نهاية ... وهو ما ليس بالأمر المسلي أو بالأسلوب المجرد النافع الذي يمكن أن يبدأ المرء يومه بالتفكير فيه، لا سيما أن المتسلسلة الهندسية للعلاقات هنا متباعدة وليست متقاربة، ومن ثم فإنها ترتبط بكل أنواع المتسلسلات المتباعدة والمروعة بوجه خاص مثل التضاعف الأسي لحالات الإصابة بالسرطان، والانشطار النووي، وعلم الأوبئة، وغيرها. من الجدير بالذكر أيضا أن أمثلة الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق التي تقوم على التباعد، كالمذكورة أعلاه، دائما ما تنطوي على مجموعة من المفاهيم الميتافيزيقية المجردة، مثل «علاقة»، أو «معرفة». فالأمر أشبه بشق أو صدع عميق دائم الاتساع عند الانتقال من حالات معينة من المعرفة، ما يخص المعرفة، (العلاقة بصورة مجردة).
كان زينون نفسه مولعا إلى حد الهوس تقريبا بالارتداد اللانهائي المنافي للمنطق القائم على التباعد، واستخدمه في العديد من مفارقاته الأقل شهرة. وفيما يلي إحدى مفارقات زينون المناقضة لفيثاغورس على وجه الخصوص،
13
التي هي نقيض فكرة أن أي شيء يمكن أن يكون حقا في موقع معين، وصيغتها على نحو مبسط كالتالي: (1)
أي شيء موجود يكون في موقع ما. (2)
ومن ثم، يوجد موقع. (3)
ولكن بمقتضى (1) و(2)، الموقع يجب أن يكون في موقع ما، و (4)
بمقتضى (1) حتى (3)، موقع الموقع يجب أن يكون هو نفسه في موقع ما، و... (5) ... وهكذا إلى ما لا نهاية.
من الأسهل بالأحرى فهم عناصر هذه المفارقة؛ حيث إن الصعوبة الحقيقية هنا وفقا لراسل هي المعنى المراوغ إلى حد ما لكلمة «يوجد». في الواقع، بما أن الإغريق لم يكن لديهم فعل خاص للوجود، فإن المصدر ذا الصلة هو الأكثر مراوغة في معناه وهو «أن يكون». وعلى أساس نحوي بحت، يمكن أن تتهم حجة زينون بمغالطة الالتباس اللفظي أو المعجمي،
14
نظرا لأن المصدر «أن يكون» يمكن أن يعني كل أنواع المفاهيم المختلفةمثل: «أنا (أكون) خائفا»، أو «هو (يكون) ديمقراطيا»، أو «إنها (تكون) تمطر»، أو «أنا (أكون) أنا» (الأقواس هنا للإشارة إلى أن الفعل (يكون) يأتي مستترا في العربية)، ولكن يمكنك أن ترى أن التأكيد على هذه الحالة سوف يؤدي سريعا إلى طرح الأسئلة الأكثر عمقا في المفارقة، وتكون هذه الأسئلة هنا (مرة أخرى) ذات طابع ميتافيزيقي: ما الذي تعنيه بالضبط هذه المفاهيم المختلفة للمصدر المؤول (أن يكون)، وما الذي يعنيه على وجه التحديد المفهوم الأكثر تخصيصا للمصدر المؤول (أن يوجد)، أي ما هي أنواع الأشياء الموجودة فعلا، وعلى أي صورة توجد، وهل توجد أنواع مختلفة من الوجود لأنواع مختلفة من الأشياء، وإذا كان الأمر كذلك، فهل تتسم بعض أنواع الوجود بأنها جوهرية أكثر من أنواع أخرى؟ وهكذا.
لعلك لاحظت أننا تناولنا هذه الأنواع من الأسئلة أكثر من مرة بالفعل، ومع ذلك ما زال يفصلنا عن جي كانتور أكثر من 2000 عام. هذه الأسئلة هي العملة الفاسدة الحقيقية في قصة اللانهائية، ولا سبيل لتفاديها إذا كنت لا تريد استرجاع عدد من دروس الرياضيات المجردة عن نظرية المجموعات غير المنتهية. أما الآن، فقد حان الوقت لاستعراض حجة أفلاطون حول الواحد والمتعدد، التي تتمثل في المعالجة الكلاسيكية لهذه الأسئلة حسبما تنطبق على قضية الإسناد ذات الصلة.
لعلك تتذكر أيضا مسألة الواحد والمتعدد من أيام الدراسة، ومن ثم لا داعي للقلق بشأنها؛ لأن ذلك لن يستغرق وقتا طويلا. وفقا لأفلاطون، إذا اشترك شخصان في سمة ما، ومن ثم أصبح من الممكن وصفهما
15
بنفس المحمول المسند: «توم إنسان»، «ديك إنسان»، فهناك إذن شيء ما توجد بموجبه هذه السمة المشتركة لدى توم وديك (بالإضافة إلى كل المرجعيات الأخرى للمرفوع المسند «إنسان»). هذا الشيء هو الشكل السرمدي الكامل للإنسان، وهذا الشكل هو ما يوجد حقا في نهاية المطاف، في حين أن البشر هم مجرد مظاهر مؤقتة من هذا الشكل المطلق، مع نوع من الوجود المستعار أو المستنسخ، مثل الظلال أو الصور المسقطة. ويعد هذا شكلا مبسطا للغاية من قضية الواحد والمتعدد، وحتى عند هذا المستوى يفترض أنه لا يكون من الصعب رؤية تأثير فيثاغورس وبارمينيدس على نظرية المثل الأنطولوجية لأفلاطون، التي تعتبر قضية الواحد والمتعدد جزءا جليا منها.
وهنا تصبح الحقيقة معقدة بعض الشيء. وحسبما يحدث كثيرا فيما يبدو، يشمل هذا التعقيد أرسطو. في واقع الأمر، كان أول ذكر لمسألة الواحد والمتعدد في كتاب «بارمينيدس» لأفلاطون، ولكن ما جعل هذه الحجة يذيع صداها حقا هو كتاب «ما وراء الطبيعة» لأرسطو،
16
الذي نوقشت فيه مسألة الواحد والمتعدد بقدر كبير من الإسهاب بحيث يتسنى لأرسطو محاولة نقضها. يوجد العديد من الكتب الجديرة بالذكر هنا في هذا السياق التي يمكن تخطيها غالبا.
17
والغريب (لأسباب سوف يأتي ذكرها لاحقا) هو أن حجة أرسطو الأكثر شهرة ضد نظرية الأشكال لأفلاطون مستقاة بالنص تقريبا من زينون. هذه الحجة، التي تسمى عادة حجة «الرجل الثالث»، هي في حقيقة الأمر برهنة لقضية الواحد والمتعدد بإثبات نقيضها، وهو برهان من نوع الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق بمفهومه القائم على التباعد. بعد ملاحظة أن كلا من الشخصين والشكل السرمدي الكامل للإنسان يشتركان في صفة أو سمة يمكن إسنادها إليه، أوضح أرسطو أنه لا بد من وجود شكل ميتافيزيقي آخر - لنقل مثلا «رجلا» - يتضمن هذه السمة المشتركة، وهو ما يستتبع أيضا شكلا آخر، أي «رجلا»، بما يشمل السمات المشتركة بين رجل و[رجل + رجل] وهكذا، إلى ما لا نهاية.
سواء ما إذا كانت فكرة «الرجل الثالث» قد خطرت ببالك أم لا بوصفها تفنيدا صحيحا لنظرية الواحد والمتعدد، فربما تكون قد لاحظت بالفعل أن نظرية الأشكال لأفلاطون
18
تنطوي على مشاكل في حد ذاتها، كما في حالة الحماقة الواضحة عند تطبيق نظرية الواحد والمتعدد على مسند معين: هل يوجد شكل سرمدي كامل لاستخدام اليد اليسرى؟ أو للغباء؟ أو للحمق؟ ومع ذلك، لاحظ أن نظرية أفلاطون تحوز الكثير من الفعالية والقبول عندما تطبق على أي نوع من النظم التي تعتمد على العلاقات الشكلية بين مفاهيم مجردة. كما في الرياضيات. فالانتقال المفاهيمي من «خمس برتقالات» و«خمس بنسات» إلى الكمية خمسة والعدد الصحيح
هو بالضبط انتقال أفلاطون من «رجل» و«رجال» إلى «الإنسان». وفي النهاية، تذكر توجه هاردي في الجزء 1(ج): عندما نستخدم تعبيرا مثل « »، فإن ما نعبر عنه هو حقيقة عامة يعتمد تعميمها على التجريد الشامل للعناصر المتضمنة فيها؛ فنحن نقول في الحقيقة إن: اثنين من أي شيء زائد ثلاثة من أي شيء سيساوي خمسة من أي شيء.
إلا أننا لا نقول ذلك أبدا في حقيقة الأمر. وبدلا من ذلك، نتحدث عن العدد
والعدد ، وعن العلاقات بين العددين. من المفيد - مرة أخرى - أن نوضح أن ذلك قد يكون مجرد انتقال دلالي أو ميتافيزيقي أو كليهما. ومن المفيد أيضا أن نتذكر ما ورد في الجزء 1(د) عن المفهوم الإسنادي في مقابل المفهوم الاسمي للكلمتين «طول» و«جرام»، ومختلف مزاعم الوجود المتضمنة في «لا أرى شيئا على الطريق»، و«الإنسان كائن فضولي بطبعه»، و«إنها تمطر»، ومن المفيد بعد ذلك أن نتأمل بعناية مزاعم الوجود التي نحيل إليها عندما نتحدث عن الأعداد. هل « » هو مجرد نوع ما من الاختزال المفاهيمي لكل الكميات الخماسية الفعلية في العالم؟
19
من الواضح جدا أنه ليس كذلك، أو على الأقل أن هذا ليس كل ما يعنيه « »، حيث يوجد الكثير من الدلالات التي تخص (على سبيل المثال،
عدد أولي، والجذر التربيعي للعدد
هو ) التي لا تتعلق بالكميات الخماسية في العالم الفعلي، ولكنها تتعلق بكيان من نوع معين يسمى الأعداد وخصائصها وعلاقاتها. ومما يشير إلى الوجود الحقيقي للأعداد، وإن كان غريبا، الطريقة التي تبدو بها هذه الصفات والعلاقات - مثل أن
لا يمكن كتابته على صورة عدد عشري منته أو على صورة نسبة من الأعداد الصحيحة - كما لو كانت قد جرى اكتشافها حقا، وليس اختلاقها أو اقتراحها ثم إثبات صحتها. من المفترض أن أغلبنا سيميل إلى القول إن
عدد غير نسبي حتى لو أن أحدا لم يثبت من قبل أنه فعلا كذلك، أو على الأقل اتضح أن قول أي شيء آخر يعني الإحالة إلى نظرية معقدة جدا وغريبة، تتعلق بماهية الأعداد. لا شك أن القضية برمتها شائكة ومعقدة على نحو لا يمكن تصوره (وهذا هو أحد الأسباب التي تجعلنا نتحدث عنها في جمل مقتضبة)؛ وليس ذلك لأن المسألة مجردة فحسب، ولكن لأن كل شيء متعلق بها هو مفهوم مجرد - الوجود، الواقع، العدد، إلخ. ومع ذلك، تأمل للحظة عدد مستويات التجريد المتضمنة في الرياضيات نفسها . نجد في علم الحساب المفهوم المجرد للعدد، ثم نجد في علم الجبر المتغير الذي هو رمز أكثر تجريدا لعدد (أعداد) ما والدالة التي هي علاقة دقيقة، ولكنها مجردة بين نطاقات من المتغيرات، ثم هناك بالطبع مشتقات وتكاملات الدوال في مقرر الرياضيات الجامعي، ثم المعادلات التكاملية التي تتضمن دوال غير معروفة، ومجموعات الدوال الخاصة، والمعادلات التفاضلية، والدوال المركبة (وهي دوال الدوال)، والتكاملات المحددة التي يجري حسابها على صورة الفرق بين تكاملين، وهكذا وصولا إلى الطوبولوجيا وتحليل الموترات والأعداد المركبة والمستوى المركب والمرافقات المركبة للمصفوفات ... إلخ. وهكذا يصبح الموضوع برمته مثل برج شاهق من التجريدات وتجريدات التجريدات التي ربما كنت ستتظاهر أن كل شيء تعالجه هو شيء حقيقي وملموس، وإلا ستجد نفسك مذهولا لدرجة أنك لن تتمكن حتى من شحذ قلمك الرصاص، وبالتأكيد لن تستطيع إجراء أي عمليات رياضية.
النقاط الأكثر صلة بموضوعنا التي يمكن أن نستخلصها من هذا كله هي أن مسألة الواقع المطلق للكيانات الرياضية ليست شائكة فحسب، ولكنها مثيرة للجدل، وأن نظريات جي إف إل بي كانتور عن اللانهائية هي ما أثارت هذا الجدل من جديد في الرياضيات الحديثة، وأوجبت ضرورة الفصل فيها. وأن علماء الرياضيات الذين يميلون إلى النظر إلى الكميات والعلاقات الرياضية باعتبارها حقيقية من الناحية الميتافيزيقية يسمون في هذا الجدل «أتباع أفلاطون»،
20
وقد أصبح من الواضح الآن على الأقل سبب تسميتهم كذلك، ومن الممكن التطرق إلى هذه التسمية في وقت لاحق.
الجزء 2(ب)
أرسطو هو أول فيلسوف لم يكن من أتباع أفلاطون حقا. ومع ذلك، فإنه فيما يخص مفهوم الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق لزينون الذي ساقه أرسطو ضد المفاهيم الميتافيزيقية لأفلاطون، كان من الغريب ومن دواعي المفارقة أن محاولة أرسطو هي أيضا المحاولة الأولى والأكثر أهمية من جانب الإغريق لتفنيد مفارقات زينون. وهذا يوجد بالأساس في الأجزاء الثالث والسادس والثامن من كتاب «الطبيعة» أو «الفيزياء»، والجزء التاسع من كتاب «ما وراء الطبيعة» أو «الميتافيزيقا»، اللذين تنتهي مناقشات زينون فيهما إلى أن له تأثيرا وخيما على أسلوب معالجة الرياضيات لمفهوم اللانهائية للألفي سنة القادمة. وفي الوقت نفسه، نجح أرسطو بالفعل في توضيح الصعوبات الأساسية في بعض مفارقات زينون على الأقل، ونجح كذلك في أن يطرح بوضوح ولأول مرة بعض التساؤلات المهمة حقا حول اللانهائية التي لم يحاول أحد - حتى أوائل القرن التاسع عشر - الإجابة عنها بطريقة دقيقة، مثل: «ما المقصود بالضبط حين نقول إن شيئا ما لا متناه أو غير محدود؟» و«ما نوعية الأشياء التي يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت لا متناهية أم لا؟»
وفيما يخص الأسئلة المحورية، ربما تذكر ما اشتهر عن أرسطو من ولعه بالتقسيم والتصنيف؛ فهو حرفيا من أدخل «التحليل» في الفلسفة التحليلية. انظر - على سبيل المثال - هذا المقتطف من مناقشة التقسيم الثنائي في الجزء السادس من كتاب «الطبيعة»: «هناك مفهومان يسمى بموجبهما الطول والزمن وعموما أي شيء متصل بأنه «غير متناه»: إنها تسمى كذلك إما من حيث قابليتها للتقسيم وإما من حيث نهاياتها القصوى أو أطرافها [= الحجم].» وهو ما يعتبر المرة الأولى على الإطلاق التي يشير فيها أحد إلى وجود أكثر من معنى لمفهوم «اللامتناهي». أراد أرسطو بالأساس التمييز بين معنى قويا أو كميا، وهو ما يعني حرفيا حجما غير متناه أو طولا غير متناه أو مدة غير متناهية، ومعنى أضعف يتضمن قابلية التقسيم اللامتناهي لطول متناه. وحسبما يزعم، فإن التمييز الأهم يتضمن الزمن: «على الرغم من أنه لا يمكن لشيء في زمن متناه أن يتصل بأشياء غير متناهية كما، فإنه يمكنه الاتصال بأشياء غير متناهية من حيث قابلية التقسيم؛ لأنه طبقا لهذا المفهوم يصبح الزمن نفسه غير متناه أيضا.»
الاقتباسان الواردان أعلاه من إحدى الحجتين الأساسيتين اللتين ساقهما أرسطو ضد التقسيم الثنائي لزينون حسبما عرضناهما في الجزء 2(أ). الهدف من هذه الحجة على وجه الخصوص هو ما جاء في الفرضية (3): «في فترة زمنية محدودة». يرى أرسطو أنه إذا كان زينون قد مثل المسافة
على أنها مجموع عدد لا نهائي من المسافات الجزئية، فلا بد من تمثيل الزمن المخصص الذي يستغرقه اجتياز
بالطريقة نفسها، ليكن مثلا
للوصول إلى ، و
للوصول إلى ، و
للوصول إلى ، وهكذا. ومع ذلك، هذه الحجة غير مفيدة على الإطلاق؛ نظرا إلى أن وجود فترة زمنية غير محدودة لعبور الطريق ليست أقل تناقضا في ضوء تجارب عبور الطريق الفعلية في عشر ثوان من التقسيم الثنائي الأصلي نفسه. بالإضافة إلى أنه من السهولة بمكان صياغة نماذج أخرى من مفارقة زينون التي لا تتطلب في الواقع فعلا أو زمنا مستغرقا. (على سبيل المثال، تخيل كعكة أول قطعة منها = نصف الكعكة الكاملة، والقطعة التالية = نصف القطعة الأولى وهكذا ... إلى ما لا نهاية: هل توجد قطعة أخيرة من الكعكة أم لا؟)، الفكرة هي: الحجج المضادة عن الزمن التتابعي أو المسافات الجزئية أو حتى الحركات الفعلية للإنسان، سوف ينتهي الحال بها دائما إلى إضعاف فكرة التقسيم الثنائي، وعدم التمكن من ذكر الصعوبات الحقيقية المتضمنة. نظرا إلى أن زينون يمكنه تعديل عرضه، والقول ببساطة إن وجودك عند
ثم عند
يستوجب منك أن تشغل عددا لا نهائيا من النقاط الممثلة للمتتابعة ، أو، الأسوأ من ذلك، وصولك فعليا إلى
يستتبع أن تكون قد شغلت بالفعل متتابعة غير منتهية من النقاط. وهذا فيما يبدو يتعارض بوضوح مع فكرة المتتابعة غير المنتهية: إذا كانت «غير المنتهية» تعني حقا «بلا نهاية»، إذن المتتابعة غير المنتهية هي متتابعة أخذ الكثير من حدودها، ومع ذلك لا يزال هناك حدود أخرى ستؤخذ. وبذلك، فإنه بغض النظر عن عبور الطريق أو لمس الأنف، كان في إمكان زينون أن يعالج الموضوع كله على نحو حاسم بدلالة متتابعات مجردة، ومن حيث حقيقة أن فكرة إكمال متتابعة غير منتهية هي أمر ينطوي أصلا على شيء من التعارض أو التضارب.
وضد هذه النسخة الثانية الأكثر تجريدا من فكرة التقسيم الثنائي قدم أرسطو حجته الأكثر تأثيرا. وتعتمد هذه النسخة أيضا على دلالات «اللامتناهي»، لكنها مختلفة، وتسلط الضوء على النوع نفسه من الأسئلة الإسنادية التي أثيرت في حجة الواحد والمتعدد لأفلاطون ومفارقة الموقع لزينون. في كل من كتابي «الطبيعة » و«ما وراء الطبيعة»، يميز أرسطو بين شيئين مختلفين يمكن أن نعنيهما بالفعل عندما نستخدم فعل «يكون» + «لا متناه» في تكوين جملة إسنادية مثل «يكون هناك عدد لا متناه من النقاط التي يجب شغلها بين
و ». والفرق هنا هو فرق ظاهري فقط يتعلق بقواعد اللغة؛ فهو في الواقع فرق ميتافيزيقي بين زعمين مختلفين جذريا فيما يخص الوجود ومفهومين ضمنا في جملة «يكون»، وهو ما يعتمد مفهوم التقسيم الثنائي فيما يبدو على عدم رؤيتنا له. يكمن الفرق بين الحقيقة الفعلية والاحتمالية بوصفهما صفتين متوقعتين؛ وتتمثل الحجة العامة لأرسطو في أن اللامتناهي هو شيء من نوع خاص موجود بشكل احتمالي ولكن ليس فعليا، وأن كلمة «لا متناه» تحتاج إلى أن تسند إلى أشياء بالتبعية، كما يتضح من مفهوم التقسيم الثنائي الغامض. وعلى وجه التحديد، يزعم أرسطو بعدم وجود امتداد مكاني (على سبيل المثال، المسافة ) هي «فعليا غير متناهية»، ولكن كل هذه الامتدادات هي «لا متناهي احتمالي» طبقا لمفهوم لا نهائية التقسيم.
يبدو هذا كله بالطبع متشابكا ومعقدا إلى حد كبير، ولهذا تناولت الكثير من المهن تعريفات أرسطو بالمناقشة والشرح. ويكفي هنا القول إن مسألة الوجود الفعلي مقابل الوجود الاحتمالي للامتناهي تقع في صميم موضوعنا بالفعل، ولكن مما لا يمكن إنكاره أن من الصعب معالجتها هنا. وفي النهاية، فإن تفسيرات أرسطو وأمثلته:
كأن يفسر أن من يبني هو من يكون قادرا على البناء، وأن الاستيقاظ هو النهوض من النوم، وأن البصيرة هي أن تكون مغمض العينين ومع ذلك قادرا على الإبصار. لنفترض أن الحقيقة هي أحد عنصري هذا الطباق، والاحتمال هو العنصر الآخر. ولكن لم تقل كل الأشياء بنفس مفهوم وجودها الفعلي، ولكن بالقياس فقط - مثل
توجد في
أو إلى ، و
توجد في
أو إلى ؛ وتكون للبعض مثل الحركة إلى القدرة، وللبعض الآخر مثل جوهر نوع ما من المادة ...
لا تصنف ضمن عجائب الوضوح أو جلاء التعبير. وما كان يعنيه أرسطو ب «احتمالي» لم يكن بالتأكيد نوعا من الاحتمالية التي يحتمل بها أن تصبح فتاة ما سيدة أو بذرة ما شجرة. إنه بالأحرى أشبه بالنوع الغريب والمجرد من الاحتمالية الذي من المرجح أن توجد بموجبه نسخة طبق الأصل من تمثال «بيتا» أو «رثاء المسيح»
21
لمايكل أنجلو في قالب من الرخام لم يمس. أو بمفهوم اللانهائية، النحو الذي يتكرر به أي شيء على نحو دوري (أو، بلغة أرسطو، «على نحو تتابعي») - مثل القول إنها الآن الساعة 6:54 صباحا، الذي يحدث كل يوم على نحو منتظم يشبه آلية الساعة - وهو ما يرى أرسطو أنه من المحتمل أن يكون غير متناه؛ من منطلق أن التكرار الدوري اللانهائي للساعة 6:54 صباحا أمر ممكن، في حين أن وجود مجموعة تضم كل توقيتات 6:54 صباحا لا يمكن أن يكون فعليا لا متناهيا؛ لأن كل توقيتات 6:54 لا يمكن أبدا أن توجد معا في آن واحد، ومن ثم لا سبيل مطلقا أن «تكتمل»
22
دورة التكرار».
يمكنك على الأرجح أن ترى كيف سيكون لهذا كله مدلوله فيما يخص التقسيم الثنائي. ولكنه، مرة أخرى، مراوغ بعض الشيء. فالقياس على التمثال والساعة 6:54 لن يجدي كثيرا هنا. نعم، المسافة
و/أو مجموعة كل المسافات الجزئية أو كل النقاط بين
و
ليست «غير متناهية فعليا» ولكنها فقط «غير متناهية احتماليا»، ولكن المفهوم الذي كان يعنيه أرسطو بقوله إن «
غير متناهية احتماليا»، يكون أقرب - على سبيل المثال - إلى فكرة دقة القياس اللامتناهية. وهو ما يمكن شرحه وتوضيحه على النحو التالي. يبلغ طول ابنة أخي الكبرى الآن 38,5 بوصة، وهو ما يمكن التعبير عنه على نحو أكثر دقة بالقيمة 38,53 بوصة؛ وفي وجود بيئة أكثر تحكما وأدوات متطورة، يمكن تأكيده على نحو أدق بكثير باستخدام المنزلة العشرية الثالثة أو الحادية عشرة أو المنزلة العشرية لعدد
من المرات، حيث ، من المحتمل أن تكون لا نهائية - ولكن من المحتمل أن تكون لا نهائية فقط؛ لأن في العالم الحقيقي لن توجد أي وسيلة لتحقيق الدقة غير المتناهية الحقيقية، حتى إن أمكن هذا «من حيث المبدأ». وبهذه الطريقة نفسها تقريبا، تعتبر
من وجهة نظر أرسطو قابلة للتقسيم «من حيث المبدأ» عددا لا نهائيا من المرات، بيد أن هذا التقسيم اللانهائي أو غير المتناهي لا يمكن تنفيذه فعليا في العالم الحقيقي.» (معلومة إضافية: ملمح أخير من التعقيد: في الغالب، ما يسميه أرسطو «عددا» (أي، الكميات الرياضية بصفة عامة) يكون فيما يبدو غير متناه احتماليا، ليس على النحو الذي يكون به القياس غير متناه احتماليا، ولكن على النحو الذي تكون به مجموعة كل توقيتات الساعة 6:54 صباحا لا نهائية احتماليا. على سبيل المثال، مجموعة كل الأعداد الصحيحة تكون غير منتهية احتماليا؛ بمعنى أنه لا يوجد عدد صحيح أكبر (في اتجاه الكبر، يمكن دائما التفكير في عدد أكبر)، ولكنها ليست في الواقع غير منتهية؛ لأن المجموعة لا توجد على هيئة كيان واحد مكتمل. بعبارة أخرى، الأعداد عند أرسطو تتألف من متوالية مستمرة: يوجد الكثير من الأعداد على نحو غير متناه، ولكنها لا توجد جميعا معا على نحو متزامن «الشيء الواحد يمكن أن يفضي إلى شيء آخر إلى ما لا نهاية».)
وتفنيدا للقسمة الثنائية لزينون، فإن التمييز بين اللانهائية الاحتمالية في مقابل اللانهائية الفعلية غير مقنع على الإطلاق - ومن الواضح أنه غير مقنع حتى لأرسطو، الذي يبدو أن من الممكن رفض حجته المعروفة باسم «الرجل الثالث» لكونها غير متناهية احتماليا فحسب. ولكن، في نهاية المطاف، اتضح أن التمييز مهم للغاية للرياضيات على مستوى النظرية والتطبيق. والفكرة باختصار أن إحالة اللانهائية إلى حالة الاحتمالية قد سمح للرياضيات الغربية بطرح الكميات غير المنتهية أو على الأقل تبرير استخدامها، أو أحيانا كلا الأمرين معا، حسب ما هو مطلوب. الموضوع كله غريب جدا؛ فمن جهة، أعطت حجة أرسطو مصداقية لرفض الإغريق لفكرة اللانهائية و«حقيقة» المتسلسلات غير المنتهية، وكان ذلك سببا رئيسيا أنهم لم يضعوا ما نعرفه الآن باسم حساب التفاضل والتكامل. ومن جهة أخرى، فإن إسباغ وجود مجرد أو نظري على الأقل، على الكميات غير المنتهية، قد سمح لبعض علماء الرياضيات الإغريق باستخدامها في أساليب أقرب، على نحو ملحوظ، إلى حساب التفاضل والتكامل، قريبة جدا لدرجة أنه من المستغرب وقتها أن الأمر استغرق 1700 عام لوضع حساب التفاضل والتكامل الحقيقي. ولكن، بالرجوع إلى الملمح الأول، كان السبب الرئيسي في أن الأمر استغرق 1700 عام هو مفهوم الاحتمالية لأرسطو الذي كان يحمل ظلالا ميتافيزيقية، والذي نبذت فيه اللانهائية، وهو ما أجاز حساسية الرياضيات تجاه مفهوم لا يمكن حقا معالجته بأي حال من الأحوال.
إلا أنه - من جهة أخرى أو ما أصبح الآن جهة ثالثة
23 - عندما قدم كل من جي دبليو لايبنتس وآي نيوتن حساب التفاضل والتكامل الحقيقي حوالي عام 1700، فإن مفاهيم أرسطو الميتافيزيقية هي بالأساس التي بررت استخدامهما لمتناهيات الصغر، على سبيل المثال،
في المقدار المشهور في رياضيات الصف الأول الجامعي . وحسبما تذكر، أو أخبرت، أن متناهي الصغر يكون قريبا إلى حد ما من الصفر بحيث يمكن إهماله عند الجمع - أي - وبعيدا بقدر كاف عن الصفر بحيث يمكن أن يكون مقسوما عليه في اشتقاقات كالموضحة أعلاه. مرة أخرى، وبإيجاز شديد، فإن التعامل مع متناهيات الصغر بوصفها مقادير ذات وجود احتمالي أو نظري سمحت لعلماء الرياضيات باستخدامها في العمليات الحسابية التي لها تطبيقات مهمة للغاية في العالم الحقيقي، حيث إنهم استطاعوا تجريد ووصف أنواع الظواهر المتصلة والمتجانسة التي يتألف منها العالم. واتضح أن لمتناهيات الصغر هذه أهمية كبرى. فمن دونها، قد ينتهي بك الحال إلى مشاكل مثل
الذي تطرقنا إليه في الجزء 1(ج). كما وعدنا حينها، فإن الحل الأسرع هو ألا نفترض أن
تشير إلى
ولكنها تشير إلى المقدار
مطروحا منه مقدار ما متناهي الصغر، الذي دعونا نسمه ، بحيث يكون . ومن ثم، يمكنك إجراء بعض العمليات كما في السابق: ، الذي = ،
وهو ما يعطينا
وفي هذه الحالة، يظل
هو
ولا توجد أي مشكلة في .
وذلك بالطبع إلا إذا كان السؤال هو ما إذا كان من المنطقي ميتافيزيقيا أو رياضيا إثبات وجود مقدار ما ، سواء أكان وجوده هذا فعليا أم احتماليا، ولكنه لا يزال يتجاوز العدد العشري غير المنتهي . فالموضوع عندئذ ينطوي على تجريد ثنائي، حيث لا يقتصر الأمر فقط على أن
ليس مقدارا من النوع الذي نجده في العالم الحقيقي، ولكنه أيضا شيء لا يمكننا حتى تصوره فعليا ككيان رياضي؛ فمهما كانت العلاقة
24
بين
و ، هناك العدد العشري رقم
وهو مكان لا أحد ولا شيء يمكنه أبدا الوصول إليه ولو حتى نظريا. ومن ثم، من غير الواضح إن كنا فقط نبادل نوعا من الثغرات المتناقضة بآخر. ومع ذلك، فهذا سؤال من نوع آخر وشائك تماما وأثار كثيرا من الجلبة قبل فايرشتراس، وديديكند وكانتور في أوائل القرن التاسع عشر.
أيا كان رأيك في الوجود الاحتمالي للامتناهي من وجهة نظر أرسطو، لاحظ أنه كان محقا تماما على الأقل في كلمات مثل «نقطة» و«يوجد» الجملة غير الإسنادية «هناك [= يوجد] عدد لا نهائي من النقاط المتوسطة بين
و .» وكما هو الحال تماما في مفارقة الموقع لزينون، من الواضح أن ثمة شيئا من الخداع والمراوغة في الصياغة هنا. في فكرة التقسيم الثنائي المنقحة، يكمن الخداع في التشابه أو التجانس الضمني بين الكيان الرياضي المجرد - وهو هنا المتسلسلة الهندسية غير المنتهية - والحيز المادي الفعلي. ومع ذلك، لا يبدو أن كلمة «يوجد» هي الهدف المقصود هنا؛ إذ نلمس قدرا من الغموض أكثر وضوحا في دلالة كلمة «نقطة». إذا كانت
و
يمثلان جانبي طريق ما في العالم الحقيقي، فإن العبارة الاسمية «عدد لا نهائي من النقاط بين
و » تستخدم «نقطة» للإشارة إلى موقع معين في الحيز المادي. ولكن في العبارة الاسمية «العدد اللانهائي من النقاط المتوسطة المحدد من خلال » تشير كلمة «نقطة» إلى مفهوم رياضي مجرد، كيان بلا أبعاد «له موضع ولكن ليس له مقدار». وبما أن المجال لا يتسع لإفراد صفحات عديدة لمناقشة هذا الموضوع، وهو ما يمكنك فعله في وقت فراغك،
25
سوف نلاحظ ببساطة هنا أن من البديهي أن عبور عدد لا نهائي من النقاط التي ليس لها أبعاد رياضية غير متناقض بالكيفية التي عليها عبور عدد لا نهائي من النقاط في الحيز الفعلي. وفي هذا الصدد، يمكن أن تبدو حجة زينون شبيهة إلى حد ما بمعضلة الرجال الثلاثة في الفندق التي ذكرناها في الجزء 1: ترجمة موقف رياضي بالأساس إلى اللغة الطبيعية يقودنا إلى حد ما نحو إغفال أن الكلمات العادية يمكن أن تكون لها مفاهيم ودلالات مختلفة اختلافا كبيرا. لاحظ - مرة أخرى - أن هذا بالضبط هو ما صممت رموز الرياضيات البحتة ومخططها بحيث تتجنبه، ولهذا السبب غالبا ما تكون التعريفات الرياضية المتخصصة مكثفة ومعقدة على نحو مجهد للتفكير. لا وقت للغموض أو المواربة. فالرياضيات مصممة خصيصى لتحقيق الدقة كغاية أساسية. كل هذا يبدو جيدا، إلا أنه اتضح أن هناك أيضا قدرا هائلا من الغموض - الشكلي والمنطقي والميتافيزيقي - في كثير من المصطلحات والمفاهيم الأساسية في الرياضيات نفسها. وفي الواقع، كلما كان المفهوم الرياضي جوهريا بقدر أكبر، كان من الأصعب تعريفه. وهذا في حد ذاته إحدى الخصائص المميزة للنظم الشكلية. تصاغ أغلب التعريفات في الرياضيات من تعريفات أخرى، ومن ثم تكون المصطلحات الأصلية حقا هي الجديرة بالتعريف من البداية. ذلك على أمل، ولأسباب نوقشت من قبل، أن تكون للمصطلحات الأصلية هذه علاقة بالعالم الذي نعيش فيه جميعا.
الجزء 2(ج)
لنعد لحظة إلى زينون ودلالات كلمة «نقطة». العلاقة بين كيان رياضي (مثل المتسلسلة أو النقطة الهندسية) والحيز المادي الفعلي هي أيضا علاقة المتقطع (المنفصل) إلى المتصل (المستمر). تخيل ممرا مرصوفا بالحجر في مقابل طريق ممهد من الأسفلت الأسود اللامع. بما أن ما يحاول التقسيم الثنائي فعله هو تقسيم عملية مادية متصلة إلى متسلسلة غير منتهية من الخطوات المنفصلة، فإنه يمكن النظر إلى ذلك على أنه المحاولة الأولى من نوعها في التاريخ لتمثيل الاتصال رياضيا. لا يهم أن ما كان يحاول زينون أن يفعله فعليا هو إثبات أن الاتصال مستحيل، فما زال هو الأول. وكان هو أيضا أول من أدرك
26
أن هناك أكثر من نوع من اللانهائية. تشير كلمة «أبيرون»
to apeiron ، أي اللانهائي أو غير المحدود، في علم الكونيات لدى الإغريق إلى الامتداد المطلق، والحجم اللانهائي، ومتسلسلة الأعداد الصحيحة
التي تتحرك تصاعديا وتنازليا نحو هذا النوع نفسه من اللانهائية الكبرى. في حين يبدو - على الجانب الآخر - أن اللانهائية الصغرى لدى زينون موجودة وسط الأعداد الصحيحة العادية أو بينها. وهذه الحالة الأخيرة يصعب تصورها أو فهمها.
من الواضح أن أسهل طريقة لتمثيل هذين النوعين المختلفين من اللانهائية هي استخدام خط الأعداد القديم، وهذه ميزة أخرى لقاعة الدرس العادية للصف الثاني.
27
يعد خط الأعداد أيضا إرثا آخر من الإغريق، الذين عالجوا الأعداد والأشكال الهندسية - حسبما قد تتذكر - على أنها نفس الشيء تقريبا. (رفض إقليدس - على سبيل المثال - أي جزء من المنطق الرياضي لا يمكن «إنشاؤه»، أي توضيحه هندسيا.
28 ) من الأمور الجديرة بالتقدير فيما يتعلق باقتران خط الأعداد البسيط بكل من الرياضيات والهندسة أنه أيضا الاتحاد المثالي بين الشكل والمحتوى. ونظرا لأن كل عدد يناظر نقطة، ولأن خط الأعداد يشتمل على جميع الأعداد ويحدد ترتيبها، يمكن تعريف الأعداد بأكملها حسب مكانها على خط الأعداد بالنسبة إلى أماكن الأعداد الأخرى. كالحال - على سبيل المثال - في:
هو العدد الصحيح الذي يقع على يمين
وعلى يسار
مباشرة، وعندما نقول إن
فهذا يعني تماما أن
يقع على مسافة موضعين إلى يمين ؛ أي إن «المسافة» الرياضية بين عددين غير متساويين يمكن تمثيلها، بل وحسابها أيضا، بشكل تصويري. حتى دون الصفر أو الأعداد الصحيحة السالبة،
29
وفي ظل التعريف المبهم نوعا ما الذي قدمه إقليدس ل «النقطة» بأنها «ما لا جزء له»، يعد خط الأعداد أداة مهمة للغاية وفعالة جدا. كما أنه التخطيط الأمثل للمتصل (أو المستمر)، وهو «كيان أو مادة تركيبها أو توزيعها متصل وغير متقطع»، وبذلك فإن خط الأعداد يجسد ببراعة تناقض الاتصال الذي اقترحه زينون ولم يستطع أحد حتى آر ديديكند أن يجد حلا له. ذلك لأن كلا الأمرين التاليين صحيح على خط الأعداد: (1) كل نقطة هي تال لنقطة أخرى، (2) دائما ما توجد نقطة أخرى بين أي نقطتين.
على الرغم من أنه لا يخفى على أحد شكل خط الأعداد،
30
سنقدم نسخة هنا من خط الأعداد، بدءا من الصفر الذي لم يكن موجودا لدى الإغريق؛ لأنه أمر غير مهم حتى هذه اللحظة:
إذا كانت اللانهائية الكبرى، غير متناهية الامتداد، تقع عند الطرف اللانهائي الأيمن لخط الأعداد، فإن اللانهائية الصغرى التي استخدمها زينون تقع في الفترة بين صفر وواحد التي من الواضح أنها محدودة تماما، وقد أوضح زينون أن هذه الفترة تحتوي على عدد لا نهائي من النقاط المتوسطة، التي هي المتتابعة . والأكثر من ذلك (إن جاز التعبير) أن من الواضح أن لانهائية
لا تشمل في حقيقة الأمر النقاط بين صفر وواحد، حيث إنها لا تغفل فقط المتتابعات غير المنتهية المتقاربة مثل
إلخ، ولكن أيضا كل مجموعة الكسور غير المنتهية الأخرى ، حيث
عدد فردي. وعندما نأخذ في اعتبارنا أن كلا من هذه الكسور الأخيرة سوف يناظر المتتابعة الهندسية غير المنتهية الخاصة به عن طريق توسيع نطاق - على سبيل المثال: ، إلخ، يتضح أن الفترة المحدودة على خط الأعداد من صفر إلى واحد تحتوي في الواقع على عدد لا نهائي من المقادير اللانهائية. وأقل ما يقال عن ذلك إنه محير من الناحية الميتافيزيقية وغامض من الناحية الرياضية، فهل سيكتب ذلك على صورة
أو
أو ماذا؟
إلا أن الأمور ربما تسير نحو الأسوأ أو الأفضل؛ لأن جميع الأعداد المذكورة سلفا هي أعداد نسبية. وربما تعلم بالفعل أن الصفة «نسبية» مشتقة هنا من كلمة «نسبة» وأن عبارة «الأعداد النسبية» تشير إلى كل هذه الأعداد التي يمكن كتابتها؛ إما على صورة أعداد صحيحة، أو على صورة نسبة بين عددين صحيحين (أي: على صورة كسر). هذا مجرد توضيح، لكنه مهم. وربما كان اكتشاف أن ليست كل الأعداد نسبية صعب على الأقل من وجهة نظر الإغريق شأنه شأن مفارقات زينون. وربما كان اكتشافا مزعجا بالنسبة إلى «الأخوية الدينية الفيثاغورية» على وجه الخصوص. تذكر قناعات الفيثاغورسيين أن كل شيء هو نسبة أو كمية رياضية وأن لا وجود لشيء غير متناه حقا في هذا العالم (بما أن «النهاية
peras
الشكل» هو ما يتيح الإمكانية للوجود في المقام الأول).
ثم تذكر نظرية فيثاغورس. كما ذكرنا، من الحقائق الهامشية المفيدة أن الأخوية الدينية الفيثاغورية لم يكونوا هم واضعي هذه النظرية الحقيقيين؛ فقد ظهرت في الحقيقة في جداول البابليين القدماء منذ عام 2000 قبل الميلاد. وأحد أسباب تسميتها بنظرية فيثاغورس أنها مكنت الأخوية الدينية الفيثاغورية من اكتشاف «المقادير غير القابلة للقياس»، المعروفة أيضا بالأعداد غير النسبية، أو الأعداد الصماء.
31
أصبحت هذه الأعداد، التي اتضح أنها لا يمكن كتابتها على صورة كميات منتهية، مدمرة جدا للميتافيزيقا الفيثاغورية، حتى إن اكتشافها قد أصبح بطريقة ما النسخة الإغريقية من فضيحة «ووترجيت». لعلك تذكر من أيام الطفولة أن نظرية فيثاغورس لم تسبب أي مشاكل فيما يتعلق بأشكال مثل المثلث القائم الزاوية الذي أبعاده هي
و
و . في مقدمة مقرر الهندسة، حيث إن مجموع مربعي الضلعين البالغ طولهما
و
هو عدد جذره التربيعي عدد نسبي. ولكن، اعلم أن لفظة «مربعي» تخص حرفيا الإغريق. بمعنى أنهم تعاملوا مع كل ضلع في المثلث الذي أبعاده هي
و
و
على أنه ضلع في مربع ... ... وهو ما مجموعه يساوي مساحات المربعات الثلاثة. هناك سببان يجعلان هذه المعلومة جديرة بالذكر؛ ذكر السبب الأول في موضع ما أعلاه: على الرغم من أننا نتحدث الآن عن الأسس والجذور ونناقشها بشكل تجريدي، فإن مسائل الرياضيات لدى الإغريق كانت دائما ما تصاغ وتحل هندسيا. كان العدد النسبي يعني حرفيا نسبة مادية بين طولي خطين؛ حيث كان تربيع شيء ما يؤدي إلى تكوين مربع وحساب مساحته. أما السبب الثاني، فهو أنه وفقا لمعظم التقارير فإن ما بدأ المشكلة برمتها كان مربعا بسيطا وقديما. تأمل على وجه الخصوص مربع الوحدة المألوف، الذي يساوي طول ضلعه ، بل وعلى نحو أكثر تحديدا المثلث القائم الزاوية المتساوي الساقين الذي وتره هو قطر مربع الوحدة:
ما أدركه أتباع «الأخوية الدينية الفيثاغورية» (ربما من خلال القياسات الفعلية والجامحة على نحو متزايد) أنه مهما كانت وحدة القياس المستخدمة صغيرة، فإن ضلع مربع الوحدة يكون غير متقاسم مع القطر، بمعنى أنه لا يوجد عدد نسبي
بحيث يكون . الكمية
هي ما أسماه الفيثاغورسيون في النهاية
arratos ؛ أي غير متقاسم أو «لا نسبة بينهما» أو بما أن
logos
يمكن أن تعني كلا من «كلمة» و«نسبة»، فإن
alogos
تعني بالتالي كلا من «غير متناسب» و«غير واضح».
إن الشرح الفعلي لعدم تناسب المقدار
هو مثال شهير آخر لمفهوم البرهان بالتناقض، وهو مثال جيد جدا لأنه بسيط للغاية ولا يتطلب سوى الإلمام بمقرر الرياضيات للمرحلتين الإعدادية والثانوية. وها هو الموضوع كالتالي؛ أولا: فيما يتعلق بأغراض البرهان بالتناقض، افترض أن كلا من
و
قابل للقياس. هذا يعني أن
يساوي نسبة ما
حيث
و
عددان صحيحان وليس بينهما عامل مشترك أكبر من . نعلم طبقا لنظرية فيثاغورس أن
أو ، أي إنه إذا كان
فإن . ونعلم أيضا أن مربع أي عدد فردي سوف يكون فرديا ومربع أي عدد زوجي سوف يكون زوجيا (يمكنك اختبار ذلك). كما نعلم أن أي شيء مضروب في
سيكون زوجيا. هذا هو كل ما نحتاجه. وطبقا لقانون الوسط المستبعد أو الثالث المرفوع، إما أن يكون
فرديا أو زوجيا. إذا كان (1)
فرديا، فثمة تناقض مباشر؛ لأن
يجب أن يكون زوجيا. ولكن إذا كان (2)
زوجيا، فهذا يعني أنه يساوي عددا ما مضروبا في ، وليكن
مثلا، ومن ثم فإنه بالتعويض في المقدار الأصلي
يكون الناتج ، التي تختصر إلى ، وهو ما يعني أن
زوجي، وهو ما يعني أيضا أن
زوجي، أي إن كلا من
و
زوجي، ومن ثم يكون في هذه الحالة بينهما عامل مشترك أكبر من ، وهو ما يعد مرة أخرى تناقضا. والتناقض واضح في النقطتين (1) و(2) اللتين لا ثالث لهما. إذن،
و
غير متقاسمين؛ بمعنى أنه لا نسبة بينهما. وإلى هنا ينتهي البرهان.
32
إن حقيقة أن الأعداد النسبية لم تستطع التعبير عن شيء عادي مثل قطر المربع، ناهيك عن أعداد نسبية أخرى يسهل تكوينها مثل ، ، وهكذا، قد زعزعت فلسفة الفيثاغورسيين عن نشأة الكون. وكانت رصاصة الرحمة فيما يبدو هي اكتشاف أن الوسط الذهبي المفضل لديهم هو في حد ذاته غير نسبي، وهو ما أفضى إلى
أو . ثمة الكثير من الكتابات اللاذعة المجهولة المصدر عن الأهداف التي يزعم أن الفيثاغورسيين سعوا إليها لإخفاء وجود
33
الأعداد غير النسبية وإبقائه سرا، وهو ما يمكن أن نتجاوزه الآن؛ لأن الأهم من ذلك، تاريخيا ورياضيا، هو الأعداد الصماء نفسها. وهي مهمة لثلاثة أسباب على الأقل. (1) في الرياضيات، الأعداد غير النسبية هي نتيجة مباشرة للتجريد. إنها شيء مغاير تماما عن 5 برتقالات أو
كعكة؛ فلن تصادف الأعداد غير النسبية حتى تبدأ في وضع نظريات مجردة مثل نظرية فيثاغورس. ويرجى ملاحظة أنها ليست في واقع الأمر سوى شيء بسيط بالنسبة إلى الرياضيات البحتة. فقد تعرض المصريون وغيرهم للأعداد غير النسبية في المسح والهندسة، ولكن لأنهم كانوا يهتمون فقط بالتطبيقات لم تكن لديهم أدنى مشكلة في معالجة كمية مثل
على أنها
أو . (2) كان اكتشاف الأعداد الصماء بمثابة أول اختلاف حقيقي بين الرياضيات والهندسة؛ فقد استطاع الرياضيون الآن إنتاج أعداد لم يستطع مختصو الهندسة في الواقع قياسها. (3) اتضح أن الأعداد غير النسبية، تماما مثل
لدى زينون، هي نتيجة لمحاولة التعبير عن مفهوم الاتصال وشرحه بالإشارة إلى خط الأعداد. الأعداد غير النسبية هي السبب في أن خط الأعداد ليس متصلا من المنظور الرياضي المتخصص. وكما هو الحال مع الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق في مفهوم التقسيم الثنائي، فإن الأعداد غير النسبية تمثل ثغرات أو فراغات في خط الأعداد، وهذه الفجوات يمكن أن تكون مدخلا لفوضى اللانهائية غير المحدودة حيث العبث بأساسيات الرياضيات وركائزها.
إنها ليست مشكلة لدى الإغريق فحسب. ذلك لأن المهم في الأعداد غير النسبية أنها لا يمكن كتابتها على صورة كسور؛ ومع ذلك إذا حاولت التعبير عن الأعداد غير النسبية على صورة كسور عشرية،
34
فإن تسلسل الأرقام بعد العلامة العشرية لن يكون نهائيا (كما في حالة العددين النسبيين
و ) ولا حتى دوريا (وهو ما يعني أنه يتكرر بنمط معين، كما في العددين النسبيين ، و
وهكذا).
35
بمعنى أنه، على سبيل المثال، يمكن التعبير عن
على صورة العدد العشري
أو
أو ، أو حرفيا بأي طول تريده ... وأطول. وهو ما يعني بدوره أن نقطة محددة بعينها على خط الأعداد - لتكن النقطة المناظرة لهذه الفترة، التي بضربها في نفسها تناظر نقطة العدد الصحيح 3 - لا يمكن تسميتها أو التعبير عنها بقيمة محددة.
36
وبذلك، فإن الفترة المحدودة من صفر إلى واحد على خط الأعداد تكون أكثر ازدحاما على نحو لا يمكن تصوره. لا يوجد فقط عدد لا نهائي من المتتابعات غير المنتهية من الكسور، ولكن أيضا عدد لا نهائي من الأعداد الصماء،
37
كل منها في حد ذاته لا يمكن التعبير عنه عدديا إلا على صورة متتابعة غير منتهية من الأعداد العشرية غير الدورية. دعنا نتوقف هنا لتأمل مستويات التجريد المتغيرة المتضمنة هنا، إذا كان العقل البشري لا يستطيع فهم اللانهائية أو حتى تصورها حقا، فإنه مطالب الآن على ما يبدو أن يقر عددا لا نهائيا من اللانهائيات، أي عددا لا نهائيا من العناصر الفردية التي لا يمكن التعبير عنها هي نفسها بقيمة محددة، كل ذلك في فترة محدودة وبسيطة في ظاهرها نستخدمها في قاعات الدرس للنشء الصغير. وهذا كله يبدو غريبا على نحو مدو.
توجد، بالطبع، أساليب عديدة لمعالجة هذه الغرابة بعدد ما تحمله كلمة «معالجة» من دلالات. رفض الإغريق ⋆ - على سبيل المثال - معالجة الأعداد غير النسبية ببساطة على أنها أعداد. فكانوا إما أن يصنفوها كأطوال أو مساحات من منظور الهندسة البحتة ولا يستخدموها أبدا في الرياضيات في حد ذاتها، وإما أن يجعلوا استخدام الأعداد الصماء منطقيا من خلال التلاعب بحساباتهم (مثال: كانت خدعة الفيثاغورسيين التالية هي كتابة 2 على صورة الكسر
بحيث يمكنهم التعامل مع
على أنه ).
38
وإذا كان رفضهم الاعتراف بوجود أعداد ينتجها منطقهم الرياضي يبدو غريبا، فاعلم أنه حتى بدايات القرن الثامن عشر كان هناك عدد كبير جدا من أفضل الرياضيين في أوروبا يفعلون الشيء نفسه،
39
حتى عندما بدأت الثورة العلمية المشهورة في إنتاج كل أنواع النتائج التي تطلبت حساب الأعداد غير النسبية. ولم يحدث حتى أواخر القرن التاسع عشر، في واقع الأمر، ⋆
أن استطاع أي شخص ⋆
أن يتوصل إلى نظرية شديدة الدقة للأعداد غير النسبية أو حتى تعريف لها. وأفضل تعريف هو ما قدمه آر ديديكند، ⋆
بينما كانت المعالجة الأكثر شمولا لتمثيل الأعداد الحقيقية على خط الأعداد من نصيب جي كانتور.
الجزء 2(د) ⋆
جزء تكميلي لا يمكن تخطيه، ولكنه يتضمن معلومات إضافية بالأساس
يمكنك تخطي الصفحات القليلة التالية إن أردت، إلا أن علامة النجمة في الفقرة أعلاه تعني أن المادة التالية ليست صحيحة تمام الصحة من الناحية التاريخية. بعبارة أخرى: اقترب طالب يدعى يودوكسوس النيدوسي (408-354 قبل الميلاد)، وهو تلميذ من تلامذة أفلاطون، كثيرا من تقديم تعريف دقيق للأعداد غير النسبية، وهو التعريف الذي أدرجه إقليدس في الجزء الخامس من كتاب «الأصول» تحت عنوان «التعريف الخامس». يتضمن تعريف يودوكسوس تناسبات هندسية ونسبا، وهذا غير مستغرب؛ نظرا إلى أن الرياضيات لدى الإغريق قد تعاملت مع الأعداد غير النسبية في صورة تناسبات هندسية معينة لم يتسن التعبير عنها على صورة نسب. بعد انهيار «الأخوية الدينية الفيثاغورية»، أصبحت هذه المقادير غير القابلة للقياس في كل مكان تقريبا، كالحال مثلا إذا افترضنا أن لدينا مستطيلا فيه ضلعان يساوي طول كل منهما طول قطر مربع الوحدة: كيف يفترض أن تحسب مساحته؟ والأهم من ذلك كيف استطاع الإغريق تمييز حالات عدم القابلية للمقايسة من النوع المتعلق بالأعداد غير النسبية عن الحالات التي يكون لديك فيها ببساطة أنواع مختلفة من المقادير التي لا يمكن مقارنتها بالنسب، مثل خط في مقابل مساحة، أو مساحة في مقابل حجم شكل ثلاثي الأبعاد؟ كان يودوكسوس في الواقع هو أول إغريقي يحاول حتى تعريف «النسبة» رياضيا.
يقال إن المقادير متساوية في النسبة، الأول إلى الثاني والثالث إلى الرابع، إذا أخذت أي مضاعفات متساوية أيا كانت من الأول والثالث، وأي مضاعفات متساوية أيا كانت من الثاني والرابع، وظلت المضاعفات المتساوية الأولى أكبر من أو تساوي، أو أقل من، بالقدر نفسه، وعندئذ تؤخذ المضاعفات المتساوية اللاحقة بنسق مناظر.
وهو ما يمكن التقليل من غموضه بترجمة بعض من نصوص النظرية المكتوبة باللغة الطبيعية إلى رموز الرياضيات الأساسية. ينص تعريف يودوكسوس هنا على أنه: إذا كان ، ، والعددان الصحيحان
و ، فإن
إذا وإذا فقط كان
و
و . قد يبدو هذا واضحا أو بسيطا من الوهلة الأولى.
40
لاحظ، على سبيل المثال، كيف يشبه قاعدة الضرب التبادلي للكسور التي تعلمناها في الصف الرابع. ولكن هذا في الحقيقة ليس بسيطا على الإطلاق. فعلى الرغم من أن يودوكسوس لم يكن يعني تطبيقه إلا على المقادير الهندسية وليس على الأعداد في حد ذاتها، فإن التعريف يعمل على تحديد الأعداد النسبية وتمييزها عن الأعداد غير النسبية وعن الكميات الهندسية المختلفة، على نحو غير قابل للامتزاج، وهكذا. وفضلا عن ذلك، يرجى ملاحظة كيف أن تعريف يودوكسوس يمكن تطبيقه بنجاح على مجموعة غير منتهية بأكملها، ولتكن مجموعة كل الأعداد النسبية.
41
وما فعله يودوكسوس أنه استخدم أعدادا صحيحة اختيارية لتقسيم
42
مجموعة كل الأعداد النسبية إلى مجموعتين جزئيتين: مجموعة كل الأعداد النسبية التي تحقق ، ومجموعة كل الأعداد النسبية التي تحقق . ومن ثم، فإن نظريته هي أول نظرية تستطيع أن تضع - على نحو شامل ومحدد
43 - نطاقا لمجموعة غير منتهية بأكملها. وفي هذا الصدد، يمكن أن نعتبر هذا أول نتيجة ذات دلالة في نظرية المجموعات، قبل وضع نظرية المجموعات بما يقرب من 2300 عام.
كما تجدر الإشارة إلى أنه لا توجد على الأرجح أمثلة في الرياضيات على ما قاله راسل عن نزوة الشهرة الفكرية أفضل من يودوكسوس ومساعده أرخميدس المولود بعده (287-212 قبل الميلاد). فقد اشتهر الأخير بكلمته «أوريكا، أوريكا»؛ أي «وجدتها، وجدتها»، ولكن بالنظر إلى أهدافنا الكلية سيكون من غير المنصف ألا نقر بأن أرخميدس ويودوكسوس قد اخترعا رياضيات حديثة نوعا ما، والتي أعيد اختراعها على مدى قرون عديدة لاحقا؛ لأن أحدا لم يكلف نفسه عناء الانتباه إلى التبعات المترتبة على نتائجهما.
يعرف أهم اختراع لهما على الأرجح باسم «خاصية الاستنفاد»، التي اكتشفها يودوكسوس ونقحها أرخميدس. وكانت عبارة عن طريقة لحساب مساحات وحجوم الأسطح والأشكال المنحنية، وهي أمر من الواضح أن الهندسة الإغريقية قد واجهت صعوبة كبيرة في التعامل معه (حيث إن معظم مشكلات الاتصال والأعداد غير النسبية التي تصادفها تتعلق بالمنحنيات). كان لدى علماء الهندسة السابقين على يودوكسوس فكرة تقريب مساحة شكل منحن عن طريق مقارنتها مع مضلعات منتظمة
44
والتي يمكنهم حساب مساحاتها بدقة. على سبيل المثال، لاحظ كيف أن أكبر مربع يمكن رسمه داخل دائرة يكون بمثابة تقريب بسيط لمساحة الدائرة.
بينما نجد مثلا أن مساحة أكبر شكل ثماني الأضلاع يمكن رسمه داخل دائرة سيكون تقريبا أفضل بعض الشيء.
وهكذا، الفكرة هي أنه كلما زاد عدد أضلاع المضلع الداخلي، كانت مساحته أقرب إلى مساحة الدائرة
نفسها. والسبب في أن هذه الطريقة لم تفلح أبدا في واقع الأمر أنك تحتاج إلى مضلع بعدد لا نهائي من الأضلاع لتحديد المساحة بشكل كامل، وحتى لو كان هذا العدد اللانهائي مجرد واحدة من القيم اللانهائية الاحتمالية لدى أرسطو، فإن الإغريق سيظلون في وضع حرج، لنفس السبب المذكور بخصوص التقسيم الثنائي: لم يكن لديهم مفهوم التقارب إلى نهاية. أدخل يودوكسوس هذا المفهوم في الرياضيات في مقدمته إلى «خاصية الاستنفاد»، التي وردت باسم «الخاصية الأولى» في الجزء العاشر من كتاب «الأصول».
إذا طرحنا جزءا من أي مقدار لا يقل عن نصف المقدار نفسه، وإذا طرحنا مرة أخرى من المتبقي ما لا يقل عن نصفه، وإذا استمرت عملية الطرح هذه، فسوف يتبقى في النهاية مقدار أقل من أي مقدار معين مسبقا من نفس النوع.
في أسلوب الترميز الحديث، يكافئ هذا قولنا إنه إذا كان
مقدارا معطى و
نسبة بحيث يكون ، فإن نهاية
هي صفر عندما تقترب
من - مثل . هذا وهذا يتيح لك الاقتراب على نحو بالغ ودقيق من عدد لا نهائي من الأضلاع في حالة المضلع، أو من عدد لا نهائي من المستطيلات تحت منحنى، حيث يكون كل ضلع أو مستطيل صغيرا للغاية (= على نحو متناه)، ثم يتيح لك جمع أطوال الأضلاع أو المساحات ذات الصلة بتطبيق عكس العملية المستخدمة لحسابها. تعد طريقة الاستنفاد، بكل الأشكال، مثالا جيدا على حساب التكامل القديم. ومن خلالها، استطاع يودوكسوس أن يثبت - على سبيل المثال - أن النسبة بين مساحتي أي دائرتين تساوي النسبة بين مربعي نصفي قطريهما، وأن حجم أي مخروط يساوي
حجم الأسطوانة المشتركة معه في القاعدة والارتفاع، وهكذا. كما استخدم أرخميدس الاستنفاد في كتابه «قياس دائرة» للحصول على تقريب جيد على نحو غير مسبوق ل
وهو: .
لاحظ أيضا البراعة الميتافيزيقية للكيانات المجردة للاستنفاد. لا تزعم طريقة يودوكسوس في إدخال الأضلاع أو الأشكال المتناهية في الصغر في معادلات وجود مقادير صغيرة على نحو لا متناه. لاحظ اللغة البسيطة للخاصية الأولى في كتاب «الأصول» أعلاه. فعبارة «أقل من أي مقدار معين مسبقا.» ملائمة جدا، ومماثلة تماما لعبارة «كبير/صغير على نحو نسبي.» في التحليل الحديث.
45
وهذا بما معناه أنه، وفقا للأغراض الرياضية، يمكنك التوصل إلى مقادير صغيرة قدر ما تريد، وتتعامل معها. وهذا التخوف الخاص بالطريقة نفسها ونتائجها، وليس الأنطولوجيا، هو ما يضفي على يودوكسوس وأرخميدس طابع الحداثة على نحو غريب. فالطريقة التي صيغت بها «المقادير الأصغر من أي من مقادير معينة مسبقا.» واستخدمت في الاستنفاد مطابقة تماما للطريقة التي سوف تعالج بها المتناهيات في الصغر في بدايات حساب التفاضل والتكامل.
إذن، السبب الذي اضطرت أوروبا من أجله أن تنتظر تسعة عشر قرنا لظهور حساب التفاضل والتكامل الفعلي والهندسة التفاضلية والتحليل هو مسألة يطول شرحها كثيرا، لكنها تؤيد بالأساس مقولة راسل. وأحد هذه الأسباب هو نفسه السبب الذي حال دون التفكير في تطبيق الاستنفاد على التقسيم الثنائي لزينون: لم يهتم الإغريق سوى بالهندسة، ومن ثم لم يفكر أحد في الحركة/الاتصال على أنهما مفهومان قابلان للتجريد يمكن إدخالهما في هندسة خط الأعداد. وسبب آخر هو مدينة روما، كالحال مثلا في الإمبراطورية، التي أدى نهبها لمدينة سرقوسة (أو سيراكيوز) وقتل أرخميدس عام 212 قبل الميلاد تقريبا إلى نهاية مفاجئة للرياضيات لدى الإغريق،
46
التي كانت هيمنتها على مدى القرون العديدة التالية تعني أن الرياضيات لدى الإغريق قد فقدت كثيرا من الأهمية والزخم على مدى فترة طويلة. ومع ذلك، كان السبب الأكثر تأثيرا هو أرسطو، الذي لم يدم تأثيره بالطبع لفترات فاقت روما فحسب، ولكنه أيضا بلغ آفاقا جديدة مع انتشار المسيحية والكنيسة في الفترة ما بين عامي 500 قبل الميلاد و1300 قبل الميلاد تقريبا. وأهم ما في هذا الموضوع أن مذهب أرسطو أصبح عقيدة الكنيسة، وكان جزء من مذهب أرسطو هو رفض اللانهائية على أنها احتمالية فقط، وخيال مجرد، ومصدر للارتباك، وغير محدودة، واختصاص الإله وحده، وهكذا. وسادت وجهة النظر الأساسية هذه حتى العصر الإليزابيثي.
نهاية «جزء تكميلي لا يمكن تخطيه، ولكنه يتضمن معلومات إضافية بالأساس»
الجزء 2(ه) (تكملة للمواضع المميزة بعلامات نجمية في الفقرة الأخيرة من الجزء 2(ج) السابق)
نستهل الحديث هنا - كنوع من المشهيات - ببعض الأمور التي اكتشفها جي كانتور
47
في النهاية بشأن لا نهائيات زينون ويودوكسوس المتداخلة. واكتشافه إياها لا يعني فقط إيجادها ولكن إثباتها فعليا. خط الأعداد - كما هو واضح - لا متناهي الطول ويحتوي على عدد لا نهائي من النقاط. ومع ذلك، يوجد العديد من النقاط في الفترة من صفر إلى واحد، كما هو الحال في خط الأعداد بالكامل. وفي الحقيقة، يوجد العديد من النقاط في الفترة
كما هو الحال في خط الأعداد بالكامل. ويتضح أيضا أنه يوجد عدد مماثل من النقاط في الفترة الصغيرة جدا أعلاه (أو في فترة مقدارها واحد على كوادريليون، إذا أردت) كالحال في المستوى الثنائي الأبعاد - حتى إذا كان المستوى كبيرا على نحو لا متناه - أو في أي شكل ثلاثي الأبعاد، أو في كل الفضاء الثلاثي الأبعاد اللامتناهي في حد ذاته.
بالإضافة إلى ذلك، نعلم أنه يوجد عدد لا نهائي من الأعداد النسبية على خط الأعداد اللامتناهي، و(بفضل زينون) فإن هذه الأعداد النسبية ذات كثافة لا نهائية على خط الأعداد حيث لا يوجد حرفيا لأي عدد نسبي معطى عدد نسبي تال؛ أي إنك يمكنك دائما أن تجد عددا ثالثا بين أي عددين نسبيين على خط الأعداد. وفيما يلي إيضاح موجز لهذه الحقيقة. افترض أن لديك أي عددين نسبيين مختلفين
و . بما أنهما مختلفان، فإن ، وهو ما يعني أن أحدهما أكبر من الآخر. لنفترض - مثلا - أن . هذا يعني أن على خط الأعداد مسافة ما على الأقل يمكن قياسها، مهما كانت صغيرة، بين
و . خذ هذه المسافة، واقسمها على عدد ما (
هو الأسهل)، ثم أضف خارج القسمة على العدد الأصغر . سيصير لديك الآن عدد نسبي جديد، ، بين
و . وبما أن العدد الذي يتألف من أعداد صحيحة صريحة يمكنك قسمة
عليها قبل إضافة خارج القسمة إلى
هو عدد لا نهائي، فإنه يوجد فعليا عدد لا نهائي من نقاط الأعداد النسبية بين
و . فكر في الأمر قليلا حتى تفهمه أكثر، وعندئذ ستعلم أنه حتى بالنظر إلى الكثافة اللانهائية لعدد الأعداد النسبية اللانهائي على خط الأعداد، فإنك تستطيع إثبات أن النسبة المئوية الكلية للحيز الفارغ على خط الأعداد الذي تشغله كل الأعداد النسبية اللانهائية معدومة؛ أي تساوي صفرا. ويمثل برهان كانتور النسخة الرياضية المتخصصة من هذا البرهان، ولاحظ كيف أنه يستند في جوهره إلى مفهوم الاستنفاد ليودوكسوس، حتى بصيغته التالية باللغة الطبيعية، التي تتطلب قدرا ضئيلا من التصور الإبداعي.
تخيل أنك تستطيع رؤية خط الأعداد بالكامل، وكذلك رؤية كل نقطة من النقاط الفردية اللانهائية التي يتألف منها. تخيل أيضا أنك تريد طريقة سهلة وسريعة لتمييز النقاط المناظرة لأعداد نسبية عن تلك المناظرة لأعداد غير نسبية. ما ستفعله هو تحديد النقاط المناظرة لأعداد نسبية بوضع منديل أحمر زاه
48
فوق كل منها، وهكذا ستكون بارزة. وبما أن النقاط الهندسية ليست لها أبعاد، فإننا لا نعلم كيف تبدو، ولكن ما نعرفه أن تغطية أي منها لا يتطلب منديلا أحمر كبيرا للغاية. والمنديل الأحمر هنا يمكن في الحقيقة أن يكون صغيرا نسبيا، لنقل - مثلا -
وحدة، أو نصف هذا الحجم أو ربعه، وهكذا. وفي الواقع، فإن أصغر منديل سيكون كبيرا بلا داع، لكن فيما يخص نقاشنا هنا يمكننا القول إن المنديل صغير على نحو لا متناه بالأساس - ولنسم هذا الحجم . ومن ثم، فإن منديلا بالحجم
يغطي النقطة المناظرة لأول عدد نسبي على خط الأعداد. ونظرا إلى أن المنديل يمكن بالطبع أن يكون صغيرا حسب ما تريد، افترض - مثلا - أنك تستخدم منديلا بحجم
فقط لتغطية النقطة المناظرة للعدد النسبي التالي. ولنقل إنك سوف تستمر على هذا المنوال، بحيث يكون حجم كل منديل أحمر تستخدمه نصف حجم المنديل السابق له بالضبط، وذلك لجميع الأعداد النسبية، حتى تنتهي منها جميعا. والآن لمعرفة النسبة المئوية الكلية للحيز الذي تشغله كل النقاط المناظرة للأعداد النسبية على خط الأعداد، فكل ما عليك فعله هو أن تجمع أحجام كل المناديل الحمراء المستخدمة. يوجد بالطبع عدد لا نهائي من المناديل، ولكنها من حيث الحجم تحولت إلى حدود في متسلسلة غير منتهية، وتحديدا متسلسلة زينون الهندسية ، وباستخدام الصيغة القديمة الجيدة
لإيجاد مجموع هذه المتسلسلة، يكون الحجم الإجمالي لكل المناديل اللانهائية هو ، ولكن
صغير على نحو لا متناه، ومتناهيات الصغر (كما ذكرنا في الجزء 2) تكون قريبة على نحو لا يمكن تصوره من الصفر حتى إن أي شيء مضروب في عدد متناهي الصغر يكون أيضا متناهي الصغر، وهو ما يعني أن
هو أيضا متناهي الصغر، ويعني هذا بدوره أن كل الأعداد النسبية اللانهائية مجتمعة لا تشغل إلا جزءا متناهي الصغر من خط الأعداد - وهو ما يعني بالأساس «لا شيء» على الإطلاق
49 - بعبارة أخرى: مجموعة النقاط الكبيرة للغاية على أي خط متصل ستكون مناظرة لأعداد غير نسبية، ومن ثم على الرغم من أن خط الأعداد الحقيقية المذكور سابقا هو خط في واقع الأمر، فإن
من خط الأعداد الذي يتألف من كل الأعداد النسبية - رغم كثافته اللانهائية فيما يبدو - عبارة عن فراغ، كالحال مع الكون نفسه.
دعونا نتوقف مع أنفسنا برهة لمحاولة تخيل ما كان يجول في ذهن البروفيسور جي إف إل بي كانتور عند إثبات أمر كهذا.
قد يعترض القارئ الفطن هنا بأن البرهان أعلاه ينطوي على نوع من حيل زينون وخفته، وقد يسأل: لماذا لم تطبق طريقة مماثلة لطريقة المنديل والمتسلسلة على الأعداد غير النسبية من أجل «إثبات» أن النسبة المئوية الكلية للحيز الذي تشغله الأعداد غير النسبية من خط الأعداد هو أيضا . السبب في أن هذا البرهان لا يمكن تنفيذه هو أنه بغض النظر عن العدد اللانهائي من المناديل الحمراء التي تستخدمها، فإن الأعداد غير النسبية سوف تفوق دائما عدد المناديل. وهذا ما سوف يكون عليه الأمر دائما. وهذا ما أثبته كانتور أيضا.
هوامش
الجزء الثالث
الجزء 3(أ)
من المناسب الآن أن نحزم معنا كل ما قيل عن الاتصال من ادعاء خاطئ ونتجول عبر عدة قرون بطريقة منهجية في صورة جدول زمني، لنقل - مثلا - إنه يمتد من 476 ميلادية (سقوط روما) حتى أوائل الستينيات من القرن السابع عشر (نشأة حساب التفاضل والتكامل). ولتكن أبرز الأحداث على هذا الخط الزمني أمورا ذات صلة باللانهائية و/أو الوضع العام للرياضيات عندما ظهر ديديكند وكانتور في المشهد. وذلك مع التعويض إلى حد ما عن مساوئ التجريد النظري هنا بمزايا العرض المكثف؛ مراعاة لحدود المساحة. ومن ثم، سيكون الهدف هنا في الجزء 3 أن نستعرض بإيجاز شديد بعض التطورات التي تساعد في التوصل إلى الشروط الضرورية/الكافية النهائية لرياضيات الأعداد فوق المنتهية.
1
من حوالي 500 إلى 1200 ميلادية:
ليس ثمة الكثير في الرياضيات بالغرب مما ينسب الفضل فيه إلى روما، وأرسطو، والأفلاطونية الحديثة، والكنيسة، وهكذا. بل تدور الأحداث الحقيقية الآن في آسيا والعالم الإسلامي. بحلول عام 900 ميلادية على أقل تقدير، أدخلت الرياضيات الهندية الصفر ليصبح «الرقم العاشر» ورمزه المعروف الذي يشبه بيضة الأوز،
2
ووضعت نظاما عشريا للترميز الموضعي الذي نجده بالأساس في نظام العد الذي له الأساس ، ووضعت الأساسيات التي توضح كيفية استخدام الصفر في الحساب ( ، و ، وعدم جواز القسمة على صفر، وهكذا). استطاع علماء الرياضيات الهنود والعرب، الذين لم يكن لديهم ولع الإغريق بالهندسة، التعامل مع الأعداد بوصفها أعدادا، واستطاعوا تحقيق نتائج مهمة فيما يخص الأعداد السالبة، والصفر السالف ذكره، والجذور غير النسبية، والمتغيرات بوصفها تمثل الأعداد الاختيارية؛ ومن ثم ذكروا الخصائص العامة لها.
3
انتقلت أغلب اكتشافات الهنود والعرب إلى أوروبا بعد ذلك، وهو ما يرجع الفضل فيه بالأساس إلى الفتوحات الإسلامية (على سبيل المثال، الفتح الإسلامي للهند (التي استوعب العرب رياضياتها جيدا) في أوائل القرن السابع، وامتد غربا حتى وصل إلى إسبانيا عام 711، وهكذا).
حوالي عام 1260:
تمثل الأدلة التي ساقها القديس توما الإكويني على وجود الله
4
الدمج الرسمي بين ميتافيزيقا أرسطو ومذهب الكنيسة. ذهب توما في مسعاه الأساسي إلى أنه بما أن كل شيء في العالم له علة أو سبب، وأن هذه العلل والأسباب بدورها لها علل وأسباب، وهكذا، فلا بد أن يكون هناك عند نقطة ما في هذه السلسلة سبب أصيل غير مسبب، وهو الله. لاحظ، لمعلوماتك، أن هذا يتطابق بالأساس مع حجة أرسطو الشهيرة «السبب الأول» أو «العلة الأولى» في الجزء الثامن من كتابه «ما وراء الطبيعة»، وهي الحجة التي تبناها أيضا كل من أوغسطينوس وموسى بن ميمون لإثبات وجود الله. الأهم من ذلك، لاحظ أنه لكي تكون حجة توما منطقية، عليك أن تقبل الفرضية غير المعلنة باستحالة التداعي بلا نهاية في سلسلة انتقالية غير منتهية من الأسباب والنتائج، وبانعدام الترابط والاتساق في هذه الفكرة. بعبارة أخرى، يجب أن تنظر إلى استحالة أن تكون اللانهائية سمة فعلية للزمن أو للكون على أنها أمر بديهي، وهو ما يعني بصفة أساسية أنك تقبل إحالة أرسطو للانهائية إلى تلك الحالة الغريبة التي تقول بأنها احتمالية فقط، والتي تطابق حالة تمثال «المفكر» لرودان المصنوع من البرونز.
في موضع آخر في «الخلاصة اللاهوتية»، يقدم توما حجة على قدر أكبر من الأصالة:
يستحيل في الواقع وجود تعداد غير محدود إلى ما لا نهاية؛ ذلك لأن أي مجموعة من الأشياء يتأملها المرء يجب أن تكون عبارة عن مجموعة محددة ومنتهية. وتتحدد مجموعة الأشياء من خلال عدد الأشياء التي تشتمل عليها. وبذلك، لا يوجد عدد لا نهائي؛ لأن العدد ينتج عن عد العناصر داخل المجموعة بالوحدات. ومن ثم، لا توجد مجموعة من الأشياء يمكن أن تكون غير محدودة بطبيعتها، ولا يمكن أبدا أن تكون غير منتهية.
استشهد جي كانتور نفسه بهذه الفقرة في بحثه «إسهامات في دراسة الأعداد فوق المنتهية»،
5
حيث يسميها الاعتراض الوحيد المهم حقا في التاريخ على وجود اللانهائية الفعلية. وفيما يتعلق بأهدافنا هنا، يوجد أمران مهمان عن حجة توما: (1) أنها تعالج اللانهائية بدلالة «مجموعات الأشياء»، وهو ما سيفعله كانتور وآر ديديكند بعد 600 عام من الآن (بالإضافة إلى أن جملة توما الثالثة هي بالضبط الطريقة التي سوف يعرف بها كانتور العدد الكاردينالي لأي مجموعة). (2) الأهم من ذلك أنها تختزل كل الفروق والتعقيدات المتيافيزيقية لدى أرسطو في مسألة وجود الأعداد غير المنتهية من عدمها. ومن السهل أن ترى أن ما أعجب به كانتور حقا هو السمة (2)، التي جعلت الحجة نوعا من التحدي المصمم خصيصى له، حيث سيكون الرد الوحيد المعقول حقا على توما هو أن يضع شخص ما نظرية مترابطة ودقيقة عن الأعداد غير المنتهية وخصائصها.
حوالي 1350 ميلادية (وبعده بقفزة زمنية وجيزة):
ثلاث شخصيات متوسطة الأهمية فيما يتعلق بالاتصال والمتسلسلات غير المنتهية: إن أورسمه، آر سويسث (سواينسهيد) (الملقب بالآلة الحاسبة)، والأب جي جراندي. استحدث أورسمه في خمسينيات القرن الرابع عشر طريقة متعلقة ب «خط العرض» لتمثيل الحركة والتسارع
6
المنتظم بيانيا. قدمت هذه الطريقة، ضمن أشياء أخرى، أول تلميح بأن السرعة النسبية (= الخط المائل) والمساحة النسبية (= المساحة تحت الخط المائل) هما وجهان لشيء واحد. وفي الوقت نفسه تقريبا، حل سويسث مسألة معينة تتعلق بخط العرض أدت إلى إثبات أن المتسلسلة غير المنتهية
لها مجموع منته، هو (ملاحظة: لم يفكر أحد حتى الآن في تطبيق هذه الطريقة على التقسيم الثنائي). رد أورسمه بعد ذلك بإثبات أن متسلسلة غير منتهية أخرى - ، المعروفة باسم المتسلسلة التوافقية - ليس لها مجموع منته على الرغم من أنه من الواضح فيما يبدو أن متتابعة الحدود الفردية تقترب من الصفر. (معلومة إضافية: برهان أورسمه بسيط للغاية. فمن خلال تجميع حدود المتسلسلة بحيث يكون الحد الأول = المجموعة الأولى، الحدان الثاني والثالث = المجموعة الثانية، الحدود من الرابع إلى السابع = المجموعة الثالثة ... وهكذا، ومن ثم المجموعة
تحتوي على
حدا، أثبت أنك سوف تخلص في النهاية إلى عدد غير منته من المجموعات، التي المجموع الجزئي لكل منها ، مما يؤدي إلى مجموع غير منته لهذه المتسلسلة.)
متسلسلات سويسث وأورسمه هي بالطبع أمثلة خاصة عن التقارب والتباعد، ولكن أحدا لن يستطيع على مدى قرون أن يعرف كيف يسمي الأنواع المختلفة من المتسلسلات غير المنتهية أو يعالجها.
7
حتى في عصر ما بعد حساب التفاضل والتكامل عندما أصبحت المتسلسلات هي الطريقة الواضحة لتمثيل دوال معقدة لعملية التفاضل والتكامل، ظلت بعض أفكار زينون تأتي بمفارقات أربكت المحاولات المختلفة لمنهجة التقارب والتباعد. إحدى هذه المحاولات الصعبة للغاية كانت المتسلسلة التذبذبية القديمة
من الجزء 1(د)، التي كان عالم الرياضيات الكاثوليكي جي جراندي يحب استخدامها لإرهاق الأخوين بيرنولي، زميلي لايبنتس الشهيرين اللذين أثبتا تباعد المتسلسلة التوافقية لأورسمه في تسعينيات القرن السابع عشر. تذكر أن الفكرة وراء متسلسلة جراندي أنه بناء على كيفية تقسيم حدود المتسلسلة فإنها في النهاية تساوي كلا من صفر وواحد؛ أو، بالتعويض ب
في الدالة اللوغاريتمية الأولية ، فسوف تحصل على المعادلة ، وهو ما جعل جراندي يتساءل بطريقة هزلية: كيف يخلق الله شيئا ( ) من لا شيء ( ). (معلومة إضافية: إذا كنت لا تزال تذكر بعضا من مقرر الجبر في المرحلة الثانوية، فمن المفيد أيضا أن تلقي نظرة على متسلسلة متباعدة صغيرة ومعقدة، وهي التي اصطدم بها إل أويلر (1707-1783، مؤسس التحليل) وعرقلته في ثلاثينيات القرن الثامن عشر. سوف تتذكر أنه طبقا لقواعد القسمة المطولة لكثيرات الحدود، فإن ، والتي عند التعويض فيها ب
تصبح . أو يمكنك أيضا الحصول على متسلسلة جراندي مرة أخرى عن طريق استخدام
في المفكوك أعلاه.
أو، إذا كان مقرر الرياضيات الجامعي راسخا في ذهنك، فيمكنك أن تستمتع بإيجاد مفكوك
باستخدام نظرية ذات الحدين لكي تحصل على
وتعرف (مثلما فعل كل من آي نيوتن وإن مركاتور وجيه واليس) أنه عندما
فإنه يكون لهذه المتسلسلة مجموع غير منته ولكن يجب أيضا أن تساوي . ولا توجد على الأغلب نهاية لهذه الأنواع من النقاشات.)
حوالي 1425-1435:
المهندس المعماري الفلورنسي إف برونليسكي يستحدث أسلوب المنظور الخطي في الرسم. وكان بحث «حول فن الرسم والتصوير » (
De
أو
Della
) لمؤلفه إل بي ألبيرتي هو أول وصف منشور لآلية عمل هذا الأسلوب. وجميعنا يعلم على الأرجح كيف أن اللوحات قبل عصر النهضة كانت تبدو مسطحة ومستوية تماما وبلا روح وغير متناسبة على نحو غريب. طبق برونليسكي الهندسة على الفراغ التصويري من خلال الوقوف على طريقة لتصوير «سطح مستو» أفقي ثلاثي الأبعاد على هيئة «مستوى صورة» رأسي ثنائي الأبعاد. ويرى هذا الأسلوب بسهولة غالبا في تصوير المربعات الأفقية (مثل بلاط الأرضية في معمودية فلورنسا) على هيئة متوازيات أضلاع (في العديد من صور المعمودية نفسها) تظهر أكثر استواء وبزوايا أكثر حدة؛ حيث تمتد الأرضية بعيدا في خلفية الصورة. فكر برونليسكي وألبيرتي في لوحة وصوروها على نحو فعال كنافذة شفافة تتوسط بين مشهد ما والرائي، ولاحظا أن أي وكل «المتعامدات»، أو الخطوط المتوازية التي تنحسر في الفراغ بزاوية 90 درجة في اتجاه تلك النافذة، سوف تبدو وكأنها تتقارب من نقطة تلاش عند مستوى عين الرائي. ترى نقطة التلاشي هذه، هندسيا، على أنها نقطة على مسافة لا نهائية من الرائي. ولا يخفى على أحد تقريبا ما استطاع أن يفعله مازاتشو ودورر ودا فينشي وآخرون بهذا الاكتشاف.
في الرياضيات، استخدم مفهوم «النقطة في اللانهاية» فيما بعد من قبل جيه كيبلر في مبدأ الاتصال الذي وضعه بالأساس للقطاعات المخروطية، ثم استخدمه لقوانينه للحركة الكوكبية (انظر أدناه)، كما أنه كان محوريا في اختراع جي ديزارج للهندسة الإسقاطية حوالي عام 1640، ومن ثم أصبح بعد ذلك محوريا بالنسبة إلى الطوبولوجيا والهندسة الريمانية، والتحليل التنسوري (الذي بدونه ما وجدت نظرية النسبية العامة)، وهكذا دواليك.
1593:
يحتوي كتاب «المتغير التابع»
Varia Responsa
لمؤلفه إف فييت (محامي، مختص تشفير فرنسي) يحتوي على أول صيغة لإيجاد مجموع متسلسلة هندسية غير منتهية،
8
التي كانت قريبة جدا من الصيغة
السابق ذكرها بمنهج الرياضيات للصف الأول الجامعي. وعلى الرغم من أنها ليست رائعة، كان فييت هو أيضا أول من وضع تعبيرا عدديا دقيقا ل ، أي على صورة حاصل ضرب لا نهائي يمكن التعبير عنه على النحو التالي: (معلومة إضافية : الهدف من ملاحظات مثل هاتين الملاحظتين الأخيرتين هو إثبات أن اللانهاية في التراكيب والسياقات المختلفة سيكون لها المزيد والمزيد من التطبيقات المثمرة حتى لو ظلت محل شك ميتافيزيقيا، ولم يكن لدى شخص أدنى فكرة عن كيفية التعامل معها رياضيا.)
1637:
قدم كتاب «الهندسة»
La geometrie
لمؤلفه آر ديكارت مستوى الإحداثيات الديكارتية المستخدم على نطاق واسع حاليا، الذي أتاح تمثيل الأشكال الهندسية رياضيا (جبريا).
حوالي 1585-1638:
ثلاث شخصيات مهمة، من بينهم اثنان ذائعا الصيت للغاية: إس ستيفين، وجيه كيبلر، وجي جاليلي.
في ثمانينيات القرن السادس عشر، أعاد ستيفين (المهندس البلجيكي) استخدام خاصية الاستنفاد ليودوكسوس في اشتقاق صيغ لخصائص تحمل الوزن لأشكال هندسية مختلفة، على سبيل المثال، في مقاله «علم السكون»
Statics (1586) أثبت ستيفين أن مركز ثقل المثلث يقع على مستقيمه المتوسط، وذلك برسم عدد لا نهائي من متوازيات الأضلاع الصغيرة نسبيا في المثلث وإثبات بعض العلاقات عن مراكز الثقل للأشكال الداخلية الناتجة. يستحق ستيفين، المعروف أيضا بأرخميدس الهولندي، شهرة أكثر مما حازها. فيما يلي اقتباس عن كارل بوير، وهو اقتباس خارج سياقه ولكنه مناسب: «إن التعديلات الناتجة للأساليب المتناهية الصغر القديمة هي إلى حد كبير ما أدى في النهاية إلى حساب التفاضل والتكامل، وكان ستيفين هو أول من اقترح هذه التغييرات.»
كما جاء في كتاب «الفلك الجديد»
Astronomia nova (1609) لمؤلفه جيه كيبلر، يعتمد قانون كيبلر الثاني للحركة الكوكبية على تصور المساحة المحاطة بمتجه نصف قطري يربط الكوكب أثناء دورانه في مداره بالشمس كما لو كانت تتكون (أي: تتكون المساحة) من عدد لا نهائي من المثلثات المتناهية في الصغر، التي لكل مثلث منها الرأس
عند الشمس ورأسان أخريان
و
تقتربان من بعضهما على نحو متناهي الصغر على طول المسار المداري. وكانت طريقة كيبلر لإيجاد مجموع مساحات هذا العدد اللانهائي من متناهيات الصغر، قبل 70 عاما من لايبنتس، هي حساب التفاضل والتكامل التطبيقي.
9
1636-1638: قدم جاليليو جاليلي، وهو رهن الاعتقال من قبل مكتب التحقيقات في فلورنسا، كتابه «علمان جديدان»
Two New Sciences ، وهو مناقشة حوارية في علمي الميكانيكا والديناميكا على غرار أسلوب أفلاطون. يشتمل الكتاب على مجموعة كبيرة وكاملة من المعلومات المتعلقة باللانهائية. ومثال واحد على ذلك هو طريقة جاليليو في تطبيق أساليب أورسمه في التمثيل البياني باستخدام خطوط العرض على حركة المقذوفات، وإثباته أن المنحنى الذي يرسمه مسار المقذوف هو قطع مكافئ. بعد دراسة القطاعات المخروطية رياضيا على مدى 2000 عام، أصبح القطع الناقص للمدار الذي اكتشفه كيبلر والقطع المكافئ للمقذوف الذي اكتشفه جاليليو هما أول تطبيقين حقيقيين للقطاعات المخروطية في علم الفيزياء. أوضح من قبل كتاب كيبلر الأقل شهرة
Vitellionem paralipomana
10
أن القطوع الناقصة والزائدة والمكافئة والدوائر جميعها نتاج رقصة توافقية غريبة بين بؤرتين: يفسر القطع المكافئ على أنه ما يحدث للقطع الزائد عندما يقترب موضع إحدى البؤرتين بالنسبة إلى الأخرى من ما لا نهاية. ومن ثم، ليس من قبيل المصادفة على الإطلاق أن عرفت العلاقات المتبادلة لنظرية كيبلر في القطوع المخروطية باسم مبدأ الاتصال.
كان كتاب جاليليو «علمان جديدان» في نواح معينة محل استياء مطول في محاكم التفتيش، التي تعاملت مع جاليليو جاليلي على أنه مدان بجريمة شائنة. وكان جزء من هذا المخطط هو جعل الرجل المستقيم في هذا الحوار متحدثا باسم الميتافيزيقا الأرسطية والعقيدة الإيمانية للكنيسة، ودفع شريكه الأكثر استنارة إلى الهجوم عليه فكريا. يتمثل أحد الأهداف الرئيسية في تصنيف أرسطو الأنطولوجي للانهائية إلى فعلية واحتمالية، وهو ما حولته الكنيسة بالأساس إلى المذهب القائل بأن الله وحده هو الكيان اللانهائي فعليا وليس في خلقه من يمكن أن يكون كذلك. مثال: سخر جاليليو من فكرة أن عدد الأجزاء التي يمكن تقسيم أي قطعة مستقيمة إليها يكون لا نهائيا «على نحو احتمالي» فقط (أي: غير حقيقي)، وذلك بتوضيح أنك إذا طويت حواف هذه القطعة المستقيمة لتكون منها دائرة - وهو ما يعرف، على غرار نيكولاس الكوزاني،
11
بأنه مضلع منتظم عدد أضلاعه يساوي ما لا نهاية - فإنك قد «خلصت إلى حقيقة أن عدد الأجزاء اللانهائي الذي زعمته، عندما كانت القطعة مستقيمة، قد أصبح متضمنا فيها على نحو احتمالي فقط.»
أمضى المتحدث باسم جاليليو وقتا طويلا أيضا في دراسة متناهيات الصغر ، ويرجع هذا بصفة أساسية إلى فائدتها في نتائج ستيفين وكيبلر. وكان جاليليو أول من ميز بين «الرتب» المختلفة لمتناهيات الصغر، وكان هذا بالأساس من خلال حجة مضمنة تتعلق بالسبب في أن الأرض إذا كانت تدور فإن الأجسام لا تخرج عن مسار العالم في مماسات مختلفة تمس منحنى الدوران، وهو موضوع يطول شرحه، ولكن خلاصته أنه إذا كان لدينا اثنان من متناهيات الصغر، فإنهما يكونان مختلفين في الرتبة إذا كانت نسبتهما تقترب إما من الصفر أو من ما لا نهاية، ويكونان متماثلين في الرتبة إذا كانت نسبتهما منتهية. هذا منطقي لأن: (1) فكرة أن متناهيات الصغر ذات الرتبة الأعلى صغيرة جدا وسريعة الزوال على نحو لا يمكن تصوره، حتى إنها يمكن استبعادها من أي معادلة؛ لأنها لن يكون لها أي تأثير على الناتج، أصبحت في نهاية المطاف جوهرية بالنسبة إلى حساب التفاضل والتكامل الكلاسيكي، و(2) تمييز جاليليو توقع بعضا من اكتشافات جي كانتور الخاصة بشأن حساب الكميات غير المنتهية، وهي أنه ليس كل اللانهائيات متماثلة الحجم، ولكن الاختلافات بينها لا تتعلق في الواقع بعلم الحساب (على سبيل المثال: إضافة
إلى
لا تزيد قيمتها، ولا حتى إضافة
إلى
أو ضرب ∞
في ) ولكن أقرب كثيرا إلى الهندسة.
12
وفي استباق للأحداث قبل حدوثها، تعزى الغرابة الشديدة للانهائية رياضيا، التي قضى جاليليو وقتا طويلا في كتابه «علمان جديدان» في إعطاء أمثلة عليها، إلى نظرية المعرفة وليس الميتافيزيقا. وطبقا للناطق بلسان جاليليو جاليلي، فإن المفارقات لا تنشأ إلا «عندما نحاول، بعقولنا المتناهية المحدودة، مناقشة اللامتناهي، بأن نخلع عليه تلك الخصائص التي نمنحها للمتناهي والمحدود.» وأبلغ مثال على ذلك هو مفارقة جاليليو في الجزء (1)، التي يمكنك فيها - حسبما تذكر - إيجاد تناظر أحادي بين كل الأعداد الصحيحة وكل المربعات الكاملة لها حتى لو كان من الواضح أن الأعداد الصحيحة أكثر بكثير من المربعات الكاملة.
13
ومن هذه المعلومة المهمة، استنتج جاليليو ما يلي: «علينا أن نقول إن هناك مربعات بقدر ما هناك أعداد.» ومن ثم (مرة أخرى) فإن «السمات «يساوي » و«أكبر» و«أصغر» لا يمكن تطبيقها على غير المحدود أو اللامتناهي، وإنما فقط على الكميات المحدودة أو المنتهية.» وعلى الرغم من أنه تبين عدم صحة هذا الاستنتاج الأخير، فإن كتاب جاليليو «علمان جديدان» ما زال أول توجه حديث حقا نحو التعامل مع اللانهائيات الفعلية بوصفها كيانات رياضية. لاحظ، على سبيل المثال، أن جاليليو لم يتنصل من أسلوب أرسطو القديم في برهنة القضية بإثبات فساد نقيضها، أو البرهان بنقض الفرض، واستنتج من سلوك المجموعات غير المنتهية المتناقض أن اللانهائية لا يمكن تبريرها أو تعليلها منطقيا. وبدلا من ذلك، نجح إلى حد ما في أن يسبق كلا من كانط (بأن يرجع السبب في مفارقات اللانهائية إلى القيود الراسخة ل «العقول المتناهية المحدودة» بدلا من أي حقيقة خارج العقل) وكانتور (عن طريق استخدام تناظر أحادي كمقياس نسبي للمجموعات، بزعم أن الكميات غير المنتهية تتبع نوعا من الحساب يختلف عما تتبعه الكميات المنتهية، وهكذا).
حقيقة معروفة: شهد القرن السابع عشر، من خلال حركة الإصلاح المضاد والثورة العلمية، أول طفرة حقيقية في مسار فلسفة الرياضيات منذ ذروة العصر الهلنستي. وهذا هو القرن الذي شهد اختراع الهندسة الإحداثية (وكذلك الشك الراديكالي) على يد ديكارت، واختراع الهندسة الإسقاطية على يد ديزارج، والتجريبية على يد لوك، ورياضيات التعليم الجامعي على يد نيوتن ولايبنتس. وما كان شيء من هذا ليكون ممكنا لولا تخفيف قبضة الهيمنة الأرسطية على الفكر الغربي. وفيما يتعلق بكسر السيطرة، هناك كتاب «علمان جديدان» لجاليليو، بالإضافة إلى «مقال عن المنهج» لديكارت وكتاب «الأورجانون الجديد» أو «التوجيهات الصحيحة لتفسير الطبيعة» لبيكون، وليس من قبيل المصادفة على الإطلاق أن جزءا كبيرا من وقته كان مكرسا للانهائية. ومن بين مجموعة كاملة من الاقتباسات الداعمة والملائمة هنا، انظر اقتباسا للبروفيسور تي دانزيج يقول فيه: «عندما تخلص الفكر الأوروبي، بعد سبات دام ألف عام، من تأثير الحبوب المنومة التي برع الآباء المسيحيون في إعطائهم إياها بمهارة، كانت مسألة اللانهائية من أولى المسائل التي جرى إحياؤها.»
وثمة اتجاه آخر تتجلى فيه أهمية كتاب «علمان جديدان»، وهو استخدامه المثبت والمستحدث للدالة. لا بد أنك تذكر بالتأكيد مفهوم الدالة في الرياضيات، والسبب في صعوبة تعريفها بوضوح (كالحال، على سبيل المثال، عندما نقول إنها «علاقة بين متغيرات»، أو «قاعدة لتحديد صورة مجال»، أو «تخطيط»). تكون الدالة أعلى من المتغيرات بمستوى تجريد واحد على الأقل، حيث إنها بالأساس قاعدة لربط عناصر في مجموعة ما مع عناصر في مجموعة أخرى. لنفترض هنا أننا جميعا على دراية إلى حد كبير بمعنى الدالة، أو بالأحرى بوظيفتها، حيث إن الدالة هي في حقيقة الأمر إجراء من نوع ما رغم أن ترميزا مثل « » يجعلها تبدو كما لو كانت شيئا. بيانيا على الأقل، كانت فكرة الدالة متداولة بعض الشيء منذ أورسمه في القرن الرابع عشر، على الرغم من أن لأورسمه مصطلحات سكولاستية، وأطلق على أسلوبه اسم «خط عرض الأشكال»، حيث كلمة «شكل» هي مصطلح أرسطو للسمات أو الصفات، التي كان يرى أنها تشمل أشياء مثل سرعة جسم متحرك. ولم يكن الناس ليفهموا، حتى جاليليو، أن السرعة ليست صفة للأشياء المتحركة، ولكنها بالأحرى عملية مجردة يمكن تمثيلها من خلال الدالة البسيطة ، كالحال تماما (أعلى بمستوى تجريد واحد) في أن جاليليو جاليلي كان هو من حدد أن العجلة تعمل كدالة .
كتاب «علمان جديدان» هو أول كتاب رياضيات استخدم بكثافة الدوال دون شكلها البياني، رغم أن الدوال هنا وصفت لفظيا وغالبا (على غرار الإغريق) بدلالة التناسبات والنسب. ومما يسترعي الانتباه هنا السرعة التي برز بها مفهوم أو نظرية الدوال، وحاز رواجا عندما توفرت بعض المتطلبات المهمة ومجموعة من الظروف المواتية.
14
تضمنت معظم هذه المتطلبات مبدأ الاتصال. وأهم ما في الموضوع هنا أن علم الفلك لدى كيبلر ودراسات جاليليو عن الحركة - التي حفزتها إلى حد كبير الحاجة إلى طريقة محسنة لضبط الوقت في الملاحة (وهو ما يطول شرحه أيضا) - أوجدت الدافع لإجراء دراسة دقيقة للمنحنيات، تلك المنحنيات التي أتاح مستوى الإحداثيات الديكارتية التعبير عنها جبريا، كالحال مثلا في دوال مثل ، و ، وهكذا. استخلصت الفروق المهمة بين الدوال الكثيرة الحدود والجبرية والمتسامية
15
بسهولة من تصنيفات ديكارت للمنحنيات، وكذلك من التمثيلات الصريحة للدوال باستخدام أنواع مختلفة من المتسلسلات بعد ذلك بقليل (= حوالي عام 1670). بالمناسبة، جاءت كلمة «دالة» نفسها من جي دبليو لايبنتس.
16
وهو ما يصعب أن يكون مصادفة؛ نظرا لأن لايبنتس ساعد في اختراع حساب التفاضل والتكامل، وواحدة من أبرز سمات حساب التفاضل والتكامل هي استخدام الدوال لتمثيل العمليات. بعد لايبنتس، حلت الدالة المتصلة والمتسلسلات اللانهائية محل مفهوم «الظواهر المتصلة» في الرياضيات ... وفي واقع الأمر، جاءت اكتشافات جي كانتور بشأن اللانهائية نتيجة تطبيق معين لهذه الأدوات على مجموعة معينة من المسائل تتضمن الحرارة. ومن الواضح أن هذه قصة طويلة للغاية، ونعكف الآن على محاولة التحضير لها وإعدادها.
وعلى ذكر ذلك، فيما يلي اقتباس من دي بيرلينسكي: «إن التباين بين المتصل والمتقطع هو محرك التوليد الرائع الذي به أسست الأعداد الحقيقية وصيغ حساب التفاضل والتكامل». وذلك فقط لكي نتذكر أين نحن في المشهد المتداخل ككل؛ حيث يمثل هذا الجزء مجرد بعض عناصره.
حوالي 1647-1665:
ظهور ثلاث شخصيات متوسطة الأهمية، وهم الذين لو عاشوا قبل 200 عام لذاع صيتهم بدرجة كبيرة: جريجوري من سانت فينسنت وجيه واليس وجيه جريجوري.
حوالي 1647:
اقترح جريجوري من سانت فينسنت حلا للقسمة الثنائية لدى زينون الذي ذكر فيه صراحة مجموع متسلسلة هندسية.
17
كما أنه أول عالم رياضيات يفترض أن المتسلسلة غير المنتهية تمثل مجموعا أو مقدارا فعليا، الأمر الذي كان هو أيضا أول من أثبته بوصفه «نهاية المتسلسلة»، التي أطلق عليها «نهاية تقدم المتوالية»، ووصفه بمصطلحات يودوكسوس بأنه نهاية «لن تصل إليها المتوالية، حتى لو استمرت إلى ما لا نهاية، ولكن يمكنها الاقتراب منها أكثر من الاقتراب الذي تبلغه بواسطة أي فترة معطاة.»
1655:
نشر واليس، ثاني أعظم عالم رياضيات بريطاني في القرن السابع عشر، كتابه المذكور آنفا «حساب اللانهائي» الذي لم يكن عنوانه من قبيل المصادفة. فقد كان ذلك أول أهم عمل عن تطبيق المتسلسلات غير المنتهية في حوسبة الهندسة، وسيكون جوهريا في نسخة نيوتن من حساب التفاضل والتكامل
18
بعد عقدين من ذلك الحين. ومن بين النتائج المهمة لكتاب «حساب اللانهائي»: أول تعريف عام صحيح لنهاية المتتابعة غير المنتهية ومجموع متسلسلة غير منتهية، واستخدام حاصل ضرب لا نهائي لتمثيل دالة الجيب ودالة جيب التمام، إثبات أن (قارن هذا بالعلاقة
بعد ذلك ببضع سنوات)، وبالطبع أول استخدام « » كرمز للانهائية أو ما لا نهاية.
1665:
عرف الأسكتلندي جيه جريجوري «الدالة»، وحاول أن يجعل الاقتراب من نهاية ما هو الدالة الأساسية السادسة للجبر، وأوجد مفكوك عدد من الدوال المثلثية والمثلثية العكسية المختلفة في صورة متسلسلات غير منتهية؛ إذ أثبت - على سبيل المثال - أن » صحيحة عندما . شهدت هذه الفترة محاولات كثيرة لفك مقادير على صورة متسلسلات؛ وذلك غالبا لأن الملاحين والمهندسين وغيرهم كانوا بحاجة إلى حساب مثلثات وجداول لوغاريتمات أكثر دقة وتفصيلا، وكانت مفكوكات الدوال على صورة متسلسلات غير منتهية هي أفضل طريقة لإدخال قيم الجداول واستيفائها. (معلومة إضافية: وفي عام 1665 أيضا حررت نظرية ذات الحدين (وهي صيغة مفكوك
في المرحلة الثانوية) على يد آي نيوتن بحيث أصبحت لا تعتمد على صيغة مثلث باسكال . وكان يعتقد أن المفكوك يكون لا نهائيا عندما تكون
كسرا أو عددا سالبا، إلا أن أحدا لم يثبت فعليا أي شيء عن نظرية ذات الحدين أو تقارب وتباعد المتسلسلات بصفة عامة حتى جيه بي جيه فورييه في عشرينيات القرن التاسع عشر).
الجزء 3(ب)
كما ذكرنا ضمنا على الأقل وكما سنشرح الآن بالتفصيل، هناك إجماع آراء في تاريخ الرياضيات على أن أواخر القرن السابع عشر يمثل بداية عصر ذهبي حديث، شهد مزيدا من التطورات المهمة في الرياضيات مقارنة بأي فترة أخرى في تاريخ العالم. بدأت الأحداث تأخذ إيقاعا أسرع حقا، وأصبح في مقدورنا الآن أن نفعل ما هو أكثر من مجرد محاولة بناء طريق بدائي من بداية العمل على الدوال وحتى فيض الأعمال الغزير لكانتور حول المجموعات غير المنتهية.
سنتعرف في عجالة على تغييرين واسعي النطاق في عالم الرياضيات. يتضمن التغيير الأول التجريد. تقوم أغلب الرياضيات منذ الإغريق وحتى جاليليو على أساس تجريبي: مفاهيم الرياضيات كانت عبارة عن تجريدات صريحة من الخبرة الواقعية. وهذا هو أحد أسباب أن الهندسة (مع أرسطو) هيمنت على المنطق الرياضي لفترة طويلة. وكان الانتقال الحديث من المنطق الهندسي إلى المنطق الجبري
19
هو في حد ذاته مؤشرا على حدوث تحول كبير. بحلول العقد الأول من القرن السابع عشر، أصبحت كيانات مثل الصفر والأعداد الصحيحة السالبة والأعداد غير النسبية تستخدم بشكل روتيني. والآن، سأضيف إلى ذلك ما شهدته العقود اللاحقة من تعريف الأعداد المركبة واللوغاريتمات النابيرية وكثيرات الحدود ذات الدرجات الأعلى والمعاملات الحرفية في الجبر - بالإضافة بالطبع إلى المشتقتين الأولى والثانية والتكامل - ومن الواضح أنه اعتبارا من تاريخ ما قبل عصر التنوير أصبحت الرياضيات بمنأى تام عن أي نوع من الملاحظة الواقعية حتى إن سوسور ونحن نستطيع القول بأنها الآن - بوصفها نظاما من الرموز - قد أصبحت «مستقلة عن العناصر المحددة»؛ بمعنى أن الرياضيات أصبحت الآن تهتم بالعلاقات المنطقية بين المفاهيم المجردة أكثر من أي تناظر معين بين هذه المفاهيم والواقع المادي. القصد أنه في القرن السابع عشر أصبحت الرياضيات بالأساس نظام تجريدات من تجريدات أخرى، بدلا من كونها نظام تجريدات من العالم.
أضفى هذا نوعا من التناقض على ثاني تغيير مهم: اتضح أن توجه الرياضيات الجديد نحو التجريد المفرط مفيد على نحو لا يمكن تصوره في تطبيقات العالم الحقيقي، في العلوم والهندسة والفيزياء وغيرها. ولنأخذ - كمثال واحد واضح على ذلك - حساب التفاضل والتكامل، الذي يعد أكثر تجريدا بكثير عن أي نوع من الرياضيات «العملية» (مثل: ما الملاحظة الحياتية التي يمكن من خلالها أن يتراءى للمرء أن ثمة علاقة ما بين سرعة الجسم والمساحة المحصورة بمنحنى؟)، ومع ذلك فإنه يصلح على نحو غير مسبوق في تمثيل/تفسير الحركة والعجلة والجاذبية وحركة الكواكب والحرارة - أي شيء يخبرنا به العلم عن العالم الحقيقي هو حقيقة. ومن ثم، لم يكن عبثا ما أطلقه دي بيرلينسكي على حساب التفاضل والتكامل من حيث كونه «القصة التي رواها هذا العالم لنفسه عندما أصبح العالم الحديث»؛ لأن موضوع العالم الحديث، وماهيته، هما العلم. وشهد القرن السابع عشر اكتمال الاندماج بين الرياضيات والعلم، حيث كانت الثورة العلمية سببا ونتيجة لانتشار الرياضيات الساحق؛ لأن العلم - الذي تحرر على نحو متزايد من قيود أرسطو بوضع الجوهر في مقابل المادة والاحتمالي في مقابل الفعلي - قد أصبح الآن مشروعا رياضيا بالأساس
20
حيث تشكل القوة، والحركة، والكتلة، والقانون كصيغة، القالب الجديد لفهم الآلية التي يعمل بها الواقع. وبحلول أواخر العقد الأول من القرن السابع عشر، أصبحت الرياضيات الجادة جزءا من علم الفلك والميكانيكا، والجغرافيا والهندسة المدنية وتخطيط المدن، وأعمال المحاجر والنجارة والتعدين، والكيمياء والهيدروليكا (علم السوائل المتحركة) والهيدروستاتيكا (علم توازن السوائل)، وعلم البصريات وصقل العدسات، والاستراتيجية العسكرية وتصميم البنادق والمدافع (علم الأسلحة)، وصناعة النبيذ، والهندسة المعمارية، والموسيقى، وبناء السفن، وضبط الوقت، وحساب التقويم، وكل شيء.
وكان التأثير العملي بمثابة سلاح ذي حدين. وهنا يحضرنا اقتباس حاسم من إم كلاين «عندما بدأ اعتماد العلم يزداد أكثر وأكثر على الرياضيات للوصول إلى استنتاجاته المادية، بدأ اعتماد الرياضيات يزداد أكثر وأكثر على النتائج العلمية لتفسير طرقها الخاصة.» وهذا الاتحاد - كما سنعرف بمزيد من التفصيل في الجزأين 4 و5 أدناه - مثمر، ولكنه أيضا محفوف بالمخاطر. باختصار، كل أنواع المقادير والطرق المشكوك فيها سابقا أصبحت مقبولة الآن للرياضيات نظرا إلى فعاليتها العملية، بمعنى أن الرياضيات إذا كانت تريد الاحتفاظ بصرامتها الاستنتاجية فسوف يتعين عليها أن تضع لها «نظريات» تفسرها بدقة ويكون لها أساس في مخطط الرياضيات البديهي. ترى ما الأمثلة التي سنهتم بعرضها هنا فيما يخص هذه المفاهيم التي ظلت موضع شك وتساؤل لفترة طويلة؟ فلنلق نظرة على كلاين بأسلوبه المستساغ مرة أخرى، في كتابه «الفكر الرياضي»، وتحديدا في فصل بعنوان «الرياضيات اعتبارا من عام 1700»: «أصبح لا بد [الآن] من التعامل مع المقادير المتناهية الكبر التي عمل الإغريق جاهدين على تجنبها، وكذلك المقادير المتناهية الصغر التي اجتنبها الإغريق بمهارة.»
الجزء 3(ج)
ثم بعد ذلك عندما ظهرت قصة اللانهاية في أواخر العقد الأول من القرن السابع عشر ، أصبحنا الآن ننطلق بسرعة فائقة لا رجعة فيها نحو كانتور وآخرين، وأصبحت الرياضيات أكثر تجريدا واختصاصا. ومن المتفق عليه سلفا أنك عند نقاط محددة سوف تكون في حاجة ملحة إلى معاجم صغيرة وسريعة تستعين بها عند الضرورة، تشتمل على تعريفات لبعض المصطلحات/المفاهيم التي لا يمكن تجنبها بحيث يتسنى لك بعد ذلك استخدامها دون أن تضطر باستمرار إلى التوقف وقضاء الوقت في استكشاف معناها. بعضها سيكون جديدا، وبعضها سبق ذكره أو ربما يبدو واضحا نوعا ما، ولكنه مهم بما يكفي لأن يستلزم تعريف معناها ومعنى بعض المصطلحات الفرعية المرتبطة بها بدقة وإحكام تام.
ملاحظة: ربما يكون مسرد المصطلحات الأول التالي جافا إلى حد ما؛ لأنه مقتضب تماما، وعلى الرغم من أنه كان من المحبذ تحديده على أنه معلومة إضافية للقراء الذين لديهم خلفية قوية بالرياضيات، فالواقع أن الكثير من التعريفات مستخلص ومبسط بعناية حتى إنه يجدر بك على الأرجح أن تخصص وقتا على الأقل لتصفح هذا المسرد كي تستوضح الطرق المحددة التي سوف تستخدم بها هذه المصطلحات. وفيما يخص القراء الذين لا تتوفر لديهم دراية كبيرة بمحتوى الرياضيات الجامعي، على الجانب الآخر، من المفترض أن يكون مسرد المصطلحات التالي هو كل ما يلزمهم للمضي قدما على الأقل في الأجزاء القليلة التالية.
مسرد المصطلحات الأول مع قفزة زمنية تتضمن نبذة وصفية ذات صلة
خط الأعداد الحقيقية:
كما ذكرنا، هذا بالأساس خط أعداد محدود، بمعنى أنه خط هندسي ذو مقياس ثابت الكثافة بحيث إن أي عدد حقيقي يكون مناظرا لنقطة وحيدة على الخط. وفيما يخص أهدافنا، فإن خط الأعداد الحقيقية هو «فراغ طوبولوجي»، وهو ما يعني هنا أن الخط ومجموعة جميع الأعداد الحقيقية التي يمثلها يمكن استخدامهما بالتبادل للإشارة إلى نفس الشيء المجرد
21 - وسبق أيضا أن ذكرنا هذا الشيء، الذي يطلق عليه عادة «الاتصال»، حيث يعني هذا المصطلح في حد ذاته ما يبدو تماما أنه يعنيه: أصل الاتصال مع اشتقاق حالات خاصة له.
الدالة:
سبق أن ناقشناها بالتفصيل في الجزء 3(أ) - أو يمكنك إلقاء نظرة على هذا التعريف الرائع المستقى مباشرة من رياضيات الصف الخامس الدراسي: «علاقة بين شيئين حيث قيمة أحدهما تتحدد بقيمة الآخر.» لعلك تتذكر من الجبر الأساسي أن في دالة تحليلية مثل ، يكون
هو المتغير المستقل و
هو المتغير التابع، وهو ما يعني ببساطة أن أي تغيرات في
يترتب عليها تغييرات في
طبقا لقواعد . تسمى مجموعة
22
جميع القيم التي يمكن إعطاؤها للمتغير المستقل «مجال» الدالة، بينما تسمى مجموعة جميع قيم
الممكنة «مدى» الدالة.
الدالة الحقيقية:
دالة مجالها ومداها مجموعتان من الأعداد الحقيقية.
الدالة المتصلة (أ):
تكون الدالة
متصلة إذا كانت التغييرات الطفيفة جدا في
لا تؤدي إلا إلى تغييرات طفيفة جدا في ؛ ومن ثم لا توجد قفزات أو فراغات أو انحرافات غريبة. وإذا كانت الدالة غير متصلة، فإنها تكون عادة غير متصلة عند قيمة معينة للمتغير المستقل، على سبيل المثال
دالة غير متصلة عند .
23 (لمعلوماتك، توجد أنواع مختلفة من حالات عدم الاتصال، التي لكل منها سلوكها المميز وشكلها البياني واسمها التقني - «عدم اتصال قفزي»، «عدم اتصال قابل للإزالة»، «عدم اتصال لا نهائي» - ولكننا لن نخوض على الأرجح في تمييز هذه الفروق.)
الفترة:
المسافة على خط الأعداد الحقيقية بين نقطتين، لنقل مثلا
و ، وهذا مكافئ لمجموعة جميع الأعداد الحقيقية بين
و . وهنا، تسمى كل من
و
بنقطتي نهاية الفترة. الفترة المغلقة
تتضمن نقطتي نهاية الفترة، والفترة المفتوحة
لا تتضمنهما. لاحظ نوع الأقواس المربعة المستخدمة للفترة المغلقة والأقواس الهلالية المستخدمة للفترة المفتوحة؛ فهذه هي طريقة تمييز الفارق باستخدام الرموز.
الجوار:
على خط الأعداد الحقيقية، جوار نقطة
هو الفترة المفتوحة
حيث . ويمكن التعبير عن ذلك بطريقة أخرى بالقول إن الجوار
للنقطة
هو مجموعة كل النقاط التي تبعد عن
بمسافة أقل من .
الدالة المتصلة (ب):
دائما ما تعرف الدوال على أنها متصلة أو غير متصلة في فترات أو على فترات معينة. الدالة
تكون متصلة على الفترة المفتوحة
إذا كانت متصلة عند كل نقطة في الفترة . ولكي تكون الدالة متصلة على الفترة المغلقة ، يجب أن يتحقق ما يلي:
وهو ما لن يفهم معناه إلا إذا كنت ملما بموضوع النهايات.
النهايات:
أو بالأحرى النهايات في مقابل الحدود، حيث إنهما مرتبطتان، ولكنهما أيضا مختلفتان بشكل كبير. وربما يمكن ملاحظة الفارق بسهولة أكبر فيما يتعلق بالمتتابعات.
المتتابعة:
أي تتابع للحدود تشكل بناء على قاعدة ما، على سبيل المثال المتتابعة الهندسية .
النهايات في مقابل الحدود: (أ-د) دائما ما كان يشير د. جوريس على نحو موجز ومبسط إلى أن النهاية تتضمن التعبير «تقترب من»، بينما الحد يكون متبوعا بالصفة «أعلى» أو «أدنى». (أ) نهاية المتتابعة هو المفهوم الرئيسي غير المعلن وراء التقسيم الثنائي لزينون والمتضمن في طريقة الاستنفاد ليودوكسوس والقياس الحجمي لكيبلر وغير ذلك. وفيما يتعلق بالمتتابعات، تشير «النهاية» إلى العدد الذي لن تصل إليه أبدا ولكنه تقترب منه أكثر وأكثر كلما ازداد عدد الحدود في المتتابعة. وما يزيد الأمر إثارة أن النهاية
للمتتابعة غير المنتهية
هي العدد الذي تقترب منه المتتابعة عندما تقترب
من ، حيث يشار إلى هذا الاقتراب الأخير بالرمز « » وتكتب الجملة كاملة على هذا النحو: . (ب) نهاية الدالة هي في الأساس القيمة التي يقترب منها المتغير التابع عندما يقترب المتغير المستقل من قيمة أخرى. والمثال المشهور على ذلك في حساب التفاضل والتكامل
I
هو
حيث
تقترب من
عندما
تقترب من ، وهو ما يكتب على النحو التالي: .
24 (ج) حد الدالة هو أمر مختلف تماما. إنه قيد من نوع ما على مدى الدالة. ومثال كلاسيكي على ذلك من حساب المثلثات، الدالة ، حيث تقع جميع قيم
تقع بين
و . والأهم فيما يخص أهداف النقاش هنا أن الدوال يمكن أن تكون لها حدود عليا ( ) و/أو حدود دنيا ( ) بحيث تكون
و/أو
لجميع قيم
في مجال الدالة. بل والأهم من ذلك أيضا الحدان الأكثر تحديدا وهما «أصغر حد أعلى» و«أكبر حد أدنى» للدالة، حيث
هو أصغر حد أعلى للدالة
إذا كان أي حد أعلى آخر، وليكن
مثلا، ، ويكون
هو أكبر حد أدنى للدالة إذا كان
أي حد أدنى آخر . (د) المتتابعات يمكن أن تكون لها حدود كما للدوال تقريبا. المتتابعة غير المنتهية من الأعداد الصحيحة الموجبة
كما هو واضح لها حد أدنى عند ، الذي يمثل أيضا الحد الأعلى للمتتابعة . أما المتتابعة المنتهية، فهي المتتابعة التي لها حد أعلى وحد أدنى معا، على سبيل المثال إذا كان ، فمن السهل أن نلاحظ أن المتتابعة التي تنتج عن فك
25
سيكون لها حدان أيضا.
26 ،
27
المتسلسلة:
يمكن تعريف المتسلسلة بأنها مجموع حدود متتابعة من الأعداد، كما في المتسلسلة الهندسية . وتعني العلاقة الوثيقة بين المتسلسلات والمتتابعات أنهما يشتركان في أغلب الصفات والدلالات المرتبطة بها، مع استثناء واحد مهم: بينما المتتابعات لها نهايات؛ فالمتسلسلات لها نهايات ومجاميع على حد سواء. لعلك تذكر الحرف اللاتيني الشهير (سيجما) في مقرر الرياضيات الجامعي، الذي تميز من خلاله مجموع المتسلسلة حتى لو كانت تحتوي على عدد لا نهائي من الحدود؛ لأنه اتضح أن كل المتسلسلات المهمة هي متسلسلات غير منتهية. يكتب مجموع المتسلسلة غير المنتهية
على الصورة ؛ حيث يشير كل من رمز
الصغير و
إلى نهايات المتسلسلة (وهو ما يعني هنا نطاق القيم الممكنة ل ).
28
المتسلسلات غير المنتهية تكون متقاربة عندما تتقارب إلى مجموع منته (لاحظ، على سبيل المثال، كيف أن المتسلسلة
تتقارب إلى المجموع ) وتكون متباعدة عندما لا تتقارب إلى مجموع منته (كما في المتسلسلة )، ولكن كلا النوعين من المتسلسلات يكون لهما على الأقل مجاميع مجردة
29
وهي التي يمكن الإشارة إليها بالرمز « » والتعامل معها على أنها مقادير العمليات الحسابية الأخرى.
حاصل الضرب اللانهائي:
يشبه المتسلسلة غير المنتهية باستثناء أن الحدود تكون مضروبة بعضها في بعض.
30
الكثير من الأشياء في حساب المثلثات، من
إلى دالة الجيب ودالة جيب التمام، يمكن تمثيلها كحاصل ضرب لا نهائي؛ اعتمادا على كيفية التعامل مع المفكوكات.
المفكوك:
يعني هذا كتابة شيء رياضي على صورة متتابعة/متسلسلة/حاصل ضرب (وما يعنينا هنا على وجه الخصوص هو المفكوكات على صورة متسلسلات). وتعتمد آلية ذلك على ما تريد الحصول على مفكوكه. عادة ما يكون مفكوك تعبير رياضي سهلا ومباشرا للغاية، كما هو الحال عند تذكر كل عمليات
الآلية من رياضيات المرحلة الثانوية (وهو ما سوف تستحضر عنه أيضا أن أي ثوابت موجودة أمام متغيرات الحدود تعرف بمعاملات المتسلسلة). أما الدوال، على الجانب الآخر، فهي أكثر أهمية ومن ثم أكثر تعقيدا. بل لا تقبل جميعها الفك، وذلك لسبب واحد؛ فلكي يمكن تمثيل الدالة على صورة متسلسلة، فإن مفكوك الدالة على صورة متسلسلة يجب أن يكون إما (1) منتهيا، وإما (2) إذا كان غير منته فلا بد أن يتقارب إلى قيمة الدالة عند جميع قيم المتغيرات. مثال: يمكن تمثيل الدالة المثلثية
بواسطة متسلسلة القوى المتقاربة .
31
متسلسلة القوى:
نوع خاص من المتسلسلات يحتوي على أسس (أو ما يعرف أيضا بالقوى)، والصيغة العامة لمتسلسلة القوى هي
حيث قيم
أعداد حقيقية وقيم
هي المعاملات. حقيقة مثبتة: مفكوكات الدوال الأساسية: دالة الجيب، ودالة جيب التمام، والدالة الناقصية، والدالة الزائدية، والدالة اللوغاريتمية، والدالة الأسية، هي جميعها متسلسلات قوى (وكذلك التقسيم الثنائي لزينون).
متسلسلة فورييه:
عبارة عن مجموع متسلسلتي قوى، وهي مصطلح يدرس في رياضيات السنة الثالثة أو الرابعة في الجامعة،
32
وقد تكون مجهدة حقا للذهن، ولكنها أساسية في سياق رياضيات الأعداد فوق المنتهية، ويجب تحديدها بصفة عامة على أقل تقدير. ما يهمنا هنا هو أن متسلسلات فورييه يمكن اعتبارها مفكوكات لدوال دورية، وكل ما ينبغي معرفته عن الدوال الدورية أنها طرق لتمثيل أنواع مختلفة من الموجات، ومن ثم أحيانا ما تعرف أيضا باسم الدوال الموجية. الدوال الموجية الأساسية هي الدالتان المثلثيتان
و ، ومتسلسلة فورييه الأولية هي مفكوك دالة مثلثية
على صورة ،
33
حيث كل من
و
هما ما يعرفان بمعاملات فورييه، التي يصعب استيعابها جيدا؛ ومن ثم نعتزم تجنبها بأي ثمن تقريبا.
تربيع:
هذا هو المصطلح الذي أطلق في العقد الأول من القرن السابع عشر على نوع معين من المسائل التي أدت إلى حساب التكامل. تقنيا، يشير المصطلح إلى إنشاء مربع مساحته تساوي المساحة المحاطة بمنحنى مغلق. بعبارة أخرى، فإنه نسخة ترجع إلى عصر الحداثة المبكرة من مسألة «تربيع الدائرة» القديمة. نهتم هنا بتعريف «التربيع»؛ لأنه سوف يستخدم أدناه في سياقات تاريخية معينة، حيث سيكون من الخطأ أن نقول «تكامل» بدلا من «تربيع»؛ لأن التكامل - على وجه التحديد - لم يكن موجودا بعد.
المشتقة:
التفاضل لمكجوفين. بمصطلحات أظرف، هي تعبير عن معدل التغير في دالة ما بالنسبة إلى متغيرها المستقل.
34
بما أن هذا قد يذكرنا بصف الرياضيات، دعونا نضف أن مشتقة الدالة
عند نقطة معينة
يمكن فهمها على أنها ميل المماس للمنحنى المعطى بواسطة
عند ، مع أن هذا لن يكون له الكثير من التطبيقات لدينا. حقيقة إضافية مهمة: تسمى عملية إيجاد مشتقة محددة ب «الاشتقاق».
التكامل:
هذا هو عكس المشتقة؛ فهو الدالة التي لها مشتقة معلومة، أي الدالة التي اشتقت منها المشتقة؛ بمعنى أنه إذا كانت
هي مشتقة ، فإن
هي تكامل . سيرد المزيد عن هذا كله في سياق فعلي في الجزء 4. (ملاحظة: تعرف عملية إيجاد تكامل/تكاملات معطاة باسم التكامل، وهذا هو غالبا ما يفعله علماء الرياضيات عندما يتعثرون في مسألة ولا يعرفون كيفية المتابعة. ومن هنا جاء الشعار المكتوب في الكثير من مكاتب طلاب الرياضيات للدراسات العليا: لا تجلس منتظرا، وبادر بإجراء التكامل.)
التحليل:
مصطلح آخر عالي التجريد لا يمكن التحايل عليه أو تجنبه. يوجد تعريف اصطلاحي جدا يتضمن الأسلوب الذي تتباين به أنواع معينة من الدوال حول جوار نقطة ما على سطح، وهو ما يمكن الاستغناء عنه على ضوء جدول أعمالنا ككل لصالح فكرة أن التحليل هو فرع الرياضيات الذي يدرس كل ما له علاقة بالنهايات و«العمليات على النهايات»، أي: حساب التفاضل والتكامل، والدوال ذات المتغيرات الحقيقية والمركبة، وطوبولوجيا خط الأعداد الحقيقية، والمتتابعات والمتسلسلات غير المنتهية، وهكذا. غالبا ما يشار في الكتب الدراسية وقاعات الدرس إلى التحليل على أنه «رياضيات الاتصال». وقد يكون هذا مضللا بعض الشيء؛ لأن أغلبنا درس أيضا أن الاتصال هو الاختصاص الفعلي لحساب التفاضل والتكامل ومنطقة نفوذه، وأن هناك بعض المجالات التي لا صلة لها تماما بحساب التفاضل والتكامل ، ومع ذلك لا تزال تختص بالتحليل، ومنها مجالات وثيقة الصلة بالموضوع بوجه خاص. الجبر يشبه تماما التحليل من خلال نظرية ذات الحدين
35
عندما تكون
ويصبح مفكوك
متسلسلة ذات الحدين الشهيرة؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى التحليل في حالة الدوال المثلثية عندما تفك - على سبيل المثال - دالة الجيب ودالة جيب التمام على صورة متسلسلة القوى المناظرة لهما.
وما يزيد الأمر تعقيدا أن «التحليل» في الرياضيات الحديثة يمكن أيضا أن يشير ضمنا إلى نوع معين من الدلالة المنهجية، التي تدرس تمشيا معها أنواع المجالات المذكورة أعلاه. انظر، على سبيل المثال، الاقتباس التالي من «قاموس أوكسفورد المختصر للرياضيات»: «صار مصطلح «التحليل» يستخدم للإشارة إلى نهج أكثر دقة لفهم موضوعات حساب التفاضل والتكامل، ولأساسيات نظام الأعداد الحقيقية.» التي فيها العبارة الأخيرة الموازية مكافئة لاختصاص ديديكند وكانتور، حيث تشكل الأسباب التي توجب إيلاء موضوعات حساب التفاضل والتكامل «نهج أكثر دقة» الدافع الحقيقي وراء أعمالهم. باختصار، كانت الدقة الصارمة والأساسيات جزءا من الضرورة الفلسفية الكبيرة لرياضيات ما بعد حساب التفاضل والتكامل، وهو انقسام سحيق حول كيفية النظر إلى الكيانات الرياضية وبرهنة النظريات؛ وهذا الانقسام هو بدوره السياق العميق الكامن وراء الخلافات القائمة حول رياضيات الأعداد فوق المنتهية لكانتور. وهذا كله سوف نتحدث عنه ونناقشه أثناء المضي قدما.
من الأمور الأخرى المتضمنة في اقتباس «قاموس أكسفورد» المتضادات القديمة بين المنفصل/المتقطع، في مقابل المتصل/المستمر، وبين الهندسة والرياضيات البحتة. في واقع الأمر، اهتمت جميع الأسماء الكبيرة وراء بدايات حساب التفاضل والتكامل بالدوال المتصلة والمقادير التي هي إما هندسية تماما (الخطوط، المنحنيات، المساحات، الحجوم) وإما يمكن تمثيلها هندسيا (القوة، السرعة، العجلة). ومع ذلك، اعلم الآن أن إحدى القضايا الرياضية الكبرى في القرن، التي أدت إلى ذيوع صيت كل من كانتور وديديكند، هي «حوسبة التحليل» أي معالجة التحليل بمفاهيم الحساب الأساسية، وهو ما يعني جوهريا اشتقاق نظريات عن الدوال المتصلة باستخدام الأعداد فقط، وليس المنحنيات أو المساحات. وأدت حوسبة التحليل هذه في نهاية المطاف إلى أن استخدام التحليل على نطاق أوسع في الجبر ونظرية الأعداد، وهي المجالات التي كانت حتى هذه اللحظة مكرسة تماما لكيانات/ظواهر الرياضيات المنفصلة. ما حدث في القرن التاسع عشر هو انفصال عن الهندسة مماثل لما حدث مع الرياضيات لدى الإغريق، بعد اكتشاف الأخوية الدينية الفيثاغورية للأعداد غير النسبية.
نحن الآن بعيدون كثيرا عن سياق الموضوع الأساسي، من الناحية الزمنية. والسؤال المهم فيما يتعلق باللانهائية، الذي ينبغي أن نضعه دائما نصب أعيننا على مدار الجزأين القادمين، هو: ما السبب بالضبط الذي جعل حساب التفاضل والتكامل يستوجب الدقة الإضافية المذكورة أعلاه في مسرد المصطلحات (الذي لم نعد بصدده الآن على الأرجح). يجدر بنا التأكيد، مرة أخرى للاستخدام المستقبلي، على أن الفارق الأهم بين الظواهر المنفصلة (المتقطعة) والمتصلة (المستمرة) في الرياضيات هو أن الأولى يمكن تمييزها باستخدام الأعداد النسبية، بينما يتطلب الاتصال كل الأعداد الحقيقية، أي الأعداد غير النسبية أيضا.
ويصادف أن شخصية مهمة في كل من «حوسبة التحليل» ورياضيات اللانهائية، وهو الأب بي بي بولزانو (1781-1848) من جامعة براج، الذي يعد هذا هو الموضع المناسب للحديث عنه لعدة أسباب - على الرغم من أننا لكي نفعل ذلك سيتعين علينا المرور سريعا على بدايات القرن التاسع عشر، وسوف يعقب هذا نوع من التوقف سنعود بعده مجددا إلى الجزء التالي. فيما يتعلق بحوسبة التحليل، يعد الكاهن بولزانو هو الأقل شهرة بين علماء الرياضيات الأربعة الذين كان لهم السبق فيما عرف بعد ذلك ب «التحليل الدقيق» في مستهل القرن التاسع عشر، والثلاثة الآخرون هم أيه إل كوشي وإن أبيل وبي جي إل دركليه. وكان كوشي هو من حصل على أعلى قدر من الشرف والتقدير، وذلك بالأساس بفضل كتابه «دروس في التحليل»
Cours d’analyse (1821)، الذي أصبح الكتاب الدراسي القياسي في مقرر الرياضيات الجامعي في أوروبا على مدى 150 عاما. بصفة عامة، يتضمن مشروع كوشي محاولة تخليص حساب التفاضل والتكامل من صعوباته الميتافيزيقية
36
عن طريق تعريف المتناهيات في الصغر بدقة باستخدام النهايات، ولكن الكثير من تحليل كوشي ما زال مدينا بالفضل للهندسة على نحو أدى في النهاية إلى إثارة المشاكل . وكان بولزانو في الواقع هو من قدم في كتابه «الدليل التحليلي البحت للمبرهنة ...»
37
Rein analytischer Beweis des Lehrsatzes ...
الصادر عام 1817، أول برهان حسابي بحت لنظرية تتضمن الدوال المتصلة.
38
في هذا الكتاب نفسه، قدم أيضا ما يعتبر الآن التعريف الرياضي الصحيح للاتصال:
تكون متصلة في الفترة
إذا كان من الممكن عند أي نقطة
في
أن يصبح الفرق
صغيرا بقدر ما تريد بإعطاء
قيما صغيرة نسبيا. وفي الواقع، ضرب بولزانو مثالا حيا آخر على التحول السريع والمفاجئ لمكانة العالم وشهرته في الرياضيات. سيبدو بعض ذلك بلا سياق وسابقا لأوانه هنا، ولكن كن على علم أن أسلوبه - على سبيل المثال - في تحديد ما إذا كانت متسلسلة متصلة لا يزال مستخدما حتى يومنا هذا، وينسب إلى كوشي. أو اعلم أيضا أن بولزانو كان أول عالم رياضيات يتوصل إلى دالة متصلة ولكن غير قابلة للاشتقاق (أي إنها ليست لها مشتقة)، وهي نتيجة قلبت فرضية حساب التفاضل والتكامل في بداياته بأن الاتصال والتفاضل شيئان متلازمان رأسا على عقب - وقد جرى تجاهلها تماما، بينما أشيد بكيه فايرشتراس عندما أنشأ دالة مماثلة بعد ذلك ب 30 عاما على أنه «اكتشافها» الفعلي.
39
كل ذلك سيكون له مردود أكثر أهمية عما يبدو الآن، لا سيما فكرة الاتصال على أنه خاصية حسابية. ومع ذلك، ما يقع في صلب الموضوع هنا هو عمل بولزانو اللاحق عن المقادير غير المنتهية،
40
حتى لو كان السبب الوحيد لذلك أنه الصلة التاريخية الأكثر أهمية بين «علمان جديدان» لجاليليو وأبحاث ديديكند/كانتور. فمن ناحية، بولزانو (الذي كان منشقا، رياضيا وعقائديا على حد سواء (على سبيل المثال: فصل في النهاية من جامعة براج لإلقائه خطبا مناهضة للحرب.)) هو أول عالم رياضيات منذ جاليليو يعالج صراحة الفرق بين اللانهائيات الفعلية والاحتمالية لأرسطو. وعلى غرار كتاب «علمان جديدان» لجاليليو، كان بحث «مفارقات اللانهائي» لبولزانو مناقضا بشدة لأفكار أرسطو، على الرغم من وجود فروق مهمة أيضا - تتسم حجج بولزانو بأنها رياضية أكثر من حجج جاليليو جاليلي، وكذلك الحال بالنسبة للدافع وراء هذه الحجج. في إشارة مجددا إلى بعض الأمور التي سوف نشرحها بمزيد من التفصيل أدناه، يتعلق الدافع وراء «مفارقات اللانهائي» ببعض الصعوبات الميتافيزيقية المتضمنة في استخدام حساب التفاضل والتكامل للكميات والتغيرات الصغيرة المتعلقة باللانهائية. حاول أغلب علماء الرياضيات بعد ظهور حساب التفاضل والتكامل تفادي هذه الصعوبات أو التعتيم عليها بإقحام أرسطو على نحو غامض، وافتراض أن جميع اللانهائيات التي يتحدثون عنها احتمالية فقط أو «غير مكتملة» (كانت هذه هي الفكرة الأساسية وراء نهايات كوشي). وكانت محاولة بولزانو للوقوف على نقاط الضعف الكبرى والثغرات الكثيرة في هذه الفرضية هي إحدى الأسباب التي حالت دون أن تحظى أعماله سوى بالقليل من الاهتمام. ولهذا السبب أيضا غالبا ما كان البروفيسور جي كانتور، الذي يميل إلى أن يكون ناقما دائما على معظم المعالجات التاريخية للانهائية، يخص بولزانو بإشادة خاصة.
41
إن «مفارقات اللانهائي» هو نتاج اهتمامات بولزانو المشتركة بالدوال، والمجموعات غير المنتهية، وخط الأعداد الحقيقية. وفي الواقع، فإن الكتاب لا يتضمن سوى بعض المفاهيم التي لا تكفي لوضع النظرية الحديثة في المجموعات - «حديثة» هنا بمعنى قادرة على التعامل مع المجموعات غير المنتهية.
42
من الجوانب المهمة التي تستبق بها أعمال كانتور أنها تعلن صراحة عن شيء لم يؤت على ذكره سوى ضمنا في مفارقة جاليليو، وهي فكرة التناظر الأحادي بوصفه أسلوبا لتوطيد التكافؤ بين مجموعتين. كان مدخل بولزانو إلى مفارقة جاليليو مجردا تماما، وبأسلوب كانتور. كان يقوم على أخذ شيء قد نسبه جاليليو إلى قيود العقل البشري ومحدوديته وجعله خاصية جوهرية وصفة متأصلة في المجموعات غير المنتهية - هذا الشيء هو حقيقة أن المجموعة الجزئية من مجموعة غير منتهية يمكن أن تحتوي على عدد من العناصر مماثل لعدد عناصر المجموعة نفسها - وكما سنرى، بعد جي كانتور (الذي كانت أبحاثه مثيرة للجدل ولكنها لم تهمل مطلقا)، استوعب علماء الرياضيات أن هذه الخاصية كانت في الحقيقة السمة المميزة للمجموعات غير المنتهية، والتعريف الاصطلاحي في الرياضيات للمجموعات غير المنتهية يستند الآن إلى هذا التكافؤ الغريب.
لاحظ أيضا أن نسخة جاليليو عن التكافؤ لم تول اهتماما سوى باللانهائيات الكبيرة فقط من كل الأعداد الصحيحة وكل المربعات الكاملة. وكان بولزانو هو أول من صاغ التكافؤات بين لا نهائيات زينون الصغيرة المكثفة لخط الأعداد الحقيقية. وهذا هو ما فعله في «مفارقات اللانهائي» عن طريق فحص المجموعة المكونة من جميع الأعداد الحقيقية ما بين
و ؛ أي مجموعة كل النقاط في الفترة المغلقة
على خط الأعداد الحقيقية. وضع بولزانو الدالة الأولية
43 ، ولاحظ أنه إذا كانت قيم
في مجالها هي جميع النقاط الواقعة في الفترة ، فإن الدالة سوف تخصص لكل
قيمة واحدة فقط من قيم
في الفترة المغلقة الأكبر . ومن ثم، فإن
سوف يناظر ، و
سوف يناظر ، و
سوف يناظر ، وهكذا. بعبارة أخرى، فإنه تناظر أحادي مثالي: يوجد عدد نقاط على خط الأعداد الحقيقية في الفترة
مساو تماما لعدد النقاط في الفترة . و(كما هو واضح الآن، ولكن كان بولزانو هو أول من أشار إليه) فإنه يمكنك ببساطة عن طريق تغيير معامل
للدالة إلى أي عدد صحيح آخر - ، - إثبات أن عدد الأعداد الحقيقية بين
و
مساو تماما لعدد الأعداد الحقيقية بين
وأي عدد محدود آخر يمكن أن تفكر فيه. ⋆ ⋆
جزء تكميلي يتضمن معلومات إضافية
في الواقع، كما رأينا في الجزء 2(ه)، فإن عدد النقاط في الفترة
يكون في النهاية مساويا لعدد النقاط اللانهائي على خط الأعداد الحقيقية بالكامل، حيث يمتد إلى ما لا نهاية في كلا الاتجاهين. وعلى الرغم من أن البرهان الشكلي/الصوري لذلك معقد جدا،
44
فإن شرح التكافؤ أمر يقع في نطاق قدرات الطالب المتوسط في الصف الدراسي الرابع. خذ القطعة المستقيمة المناظرة للفترة
من خط الأعداد الحقيقية وألصقها على خط الأعداد الحقيقية بالكامل، ثم ضع الجزء المدبب لفرجار على نقطة منتصف القطعة المستقيمة تماما وارسم النصف السفلي لدائرة
طول قطرها يساوي ،
45
ورتب كل شيء كما هو موضح:
اختر أي نقطة على خط الأعداد الحقيقية، وارسم خطا مستقيما
من هذه النقطة إلى مركز الدائرة ، أي: إلى نقطة منتصف القطر. وحيثما يقطع
نصف الدائرة، ارسم خطا مستقيما رأسيا ليقطع القطر
القطر ، مرة أخرى على هذا النحو:
وهكذا، يمكن إثبات أن كل نقطة على خط الأعداد الحقيقية، عن طريق ، تكون في علاقة تناظر أحادي مع نقطة ما في الفترة . وهو المطلوب إثباته.
نهاية «جزء تكميلي يتضمن معلومات إضافية» •••
بعيدا عن المنظور الرياضي المتخصص، من اللافت للنظر أيضا في «مفارقات اللانهائي» أجندته الميتافيزيقية. وهو يشبه في ذلك أيضا كتاب «علمان جديدان» وبعضا من أعمال كانتور اللاحقة. تتمثل صفقة بولزانو الأساسية في أنه تنصل من سلسلة الوجود الأرسطية-السكولاستية، واعتقد أن الكون المخلوق لا نهائي في امتداده وقابل للتقسيم على نحو لا نهائي. وليس «الخلود» إلا لا نهائية مؤقتة. ومثل معظم علماء الرياضيات الرهبان من فيثاغورس إلى جودل، اعتقد بولزانو أن الرياضيات هي لغة الإله، وأن الحقائق الميتافيزيقية العميقة يمكن استنتاجها وإثباتها رياضيا. ما كان يعوزه، فيما يخص بلورة أفكاره عن لا نهائية الحجم والكثافة وعن التكافؤ في صورة نظريات حقيقية، هو المفاهيم النظرية المرتبطة بالمجموعات، وهي «الكاردينالية» و«الترتيبية»، و«القوة» كما تنطبق على مجموعات من النقاط.
46
استطاع إنشاء التكافؤ الغريب للمجموعات/المجموعات الجزئية غير المنتهية، وإثباته، وأدرك سلفا أن العلاقة بينها ليست تناقضية ولكن نموذجية، إلا أنه لم تكن أمامه وسيلة لتحويل براهينه إلى نظرية فعلية عن المجموعات غير المنتهية وعلاقاتها، وسلوكها، إلى آخره. والسبب الرئيسي لذلك - الذي قد يبدو غريبا الآن - هو أنه في عصر بولزانو لم تكن هناك بعد أي نظرية متسقة عن نظام الأعداد الحقيقية، ولا تعريف دقيق للعدد غير النسبي.
هوامش
الجزء الرابع
الجزء 4(أ)
يوجد إجماع بين العلماء على أن أساسيات الرياضيات الغربية قد شهدت ثلاث فترات كبيرة من الأزمات. الفترة الأولى كانت فترة «الكميات غير القابلة للقياس» لفيثاغورس. والفترة الثالثة هي العصر (الذي يمكن القول إننا ما زلنا فيه) بعد براهين جودل عن عدم الاكتمال وانهيار نظرية المجموعات لكانتور.
1
أما الأزمة الثانية الكبرى، فقد طوقت وضع حساب التفاضل والتكامل.
ستكون الفكرة الآن هي تتبع كيفية تطور رياضيات الأعداد فوق المنتهية تدريجيا من أساليب ومسائل معينة مرتبطة بحساب التفاضل والتكامل/التحليل. أو بعبارة أخرى، إرساء نوع من الركيزة المفاهيمية لعرض إنجازات جي كانتور وتقدير قيمتها.
2
وكما ذكرنا، هذا يعني العودة بالتزامن إلى الوراء إلى حيث يتوقف الجدول الزمني الأصلي في نهاية الجزء 3(أ).
ومن ثم، فإننا نقترب الآن من نهاية القرن السابع عشر، عصر استرداد الحكم الملكي الإنجليزي وحصار فيينا، عصر الباروكات الكبيرة والمناديل المعطرة، إلى آخر ذلك. ولا شك أنك تدرك بالفعل أن حساب التفاضل والتكامل كان الاكتشاف الرياضي الأهم منذ إقليدس. وهو تقدم مؤثر في قدرة الرياضيات على تمثيل الاتصال والتغير وعمليات العالم الحقيقي. وقد تحدثنا عن بعض هذه الموضوعات من قبل. ومن المحتمل أنك تعرف أيضا أن آي نيوتن أو/وجي دبليو لايبنتس هما من ينسب إليهما عادة فضل اكتشافه.
3
لعلك تعلم أيضا - أو على الأقل يمكنك أن تتوقع من الجدول الزمني للجزء 3(أ) - أن فكرة نسب الفضل حصريا إلى شخص بعينه أو إلى شخصين معا هي فكرة غير منطقية ومنافية للعقل، بدليل الحقيقة القائلة بأن اختراع ما يسمى الآن حساب التفاضل والتكامل لم يكن حكرا على عالم رياضيات بعينه. وبحسبة بسيطة للغاية، سندرك أن حقوق التأليف كان ليتقاسمها عدد كبير من علماء الرياضيات في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا الذين انكبوا جميعا على تقسيم أعمال كيبلر وجاليليو عن الدوال، والمتسلسلات غير المنتهية، وخصائص المنحنيات، مدفوعين في ذلك ببعض المشكلات العلمية الملحة التي كانت أيضا إما مسائل في الرياضيات أو يمكن التعامل معها على أنها كذلك.
وفيما يلي بعض من أكثر المسائل إلحاحا: حساب السرعة اللحظية والعجلة (الفيزياء، الديناميكا)، وإيجاد المماس لمنحنى (البصريات، الفلك)، وإيجاد طول منحنى والمساحة المحصورة بمنحنى والحجم المحصور بسطح (الفلك، علم الهندسة)، وإيجاد القيمة العظمى والصغرى لدالة (العلوم العسكرية، وخصوصا المدفعية). وكان هناك على الأرجح بعض المشكلات الأخرى أيضا. ونعلم الآن أن هذه المشاكل مرتبطة ارتباطا وثيقا ببعضها؛ فهي جميعها جوانب من حساب التفاضل والتكامل. ولكن علماء الرياضيات الذين بحثوا فيها في أوائل القرن السابع عشر لم يكن لديهم علم بذلك ، ومن ثم استحق نيوتن ولايبنتس حقا أن ينسب إليهما الفضل في إدراك العلاقات وتصورها، على سبيل المثال، بين السرعة اللحظية لنقطة أو المساحة المحصورة بمنحنى حركتها، أو معدل التغير في دالة والمساحة المعطاة بدالة معدل تغيرها معلوم. فقد كان نيوتن ولايبنتس هما أول من رأى كل ذلك - أي النظرية الأساسية بأن التفاضل والتكامل كل منهما يمكن عكسه بواسطة الآخر - وتمكنا من استنباط أسلوب عام طبق بنجاح على كل المشاكل السابقة على اختلاف أنواعها. بل وعلى مسألة الاتصال نفسها. ولكن الأمر لم يخل من الخوض في بعض الجوانب الصعبة والمعقدة في هذا الموضوع الشائك، وبالتأكيد لم يخل من كل أنواع النتائج والاكتشافات الأولية المتشابكة لأشخاص آخرين. هذا بالإضافة إلى ما تضمنه الجدول الزمني بالفعل، على سبيل المثال: عام 1629 - طريقة بي دي فيرما لإيجاد القيم العظمى والصغرى لمنحنى كثيرة حدود، وحوالي عام 1635 - اكتشاف جي بي دي روبرفال أن مماس منحنى ما يمكن التعبير عنه على صورة دالة السرعة عند نقطة متحركة مسارها هو هذا المنحنى،
4
و1635 - أسلوب «غير القابل للتقسيم» لبي كافاليري لحساب المساحات تحت المنحنيات، وعام 1664 - أسلوب آي بارو الهندسي للمماسات.
بالإضافة إلى ذلك، حوالي عام 1668 اشتملت مقدمة كتاب مواجهة كتاب جيه جريجوري «الجزء العام من الهندسة»
Geometriae Pars Universalis
على فقرة رائعة تتسم ببعد النظر، كانت محصلتها النهائية أن التقسيم المهم حقا للرياضيات ليس أن نقسمها إلى هندسية وحسابية، ولكن إلى عامة وخاصة. والسبب في أن الفقرة بعيدة النظر: أن علماء الرياضيات المختلفين من يودوكسوس إلى فيرما قد وضعوا واستخدموا أساليب متعلقة بحساب التفاضل والتكامل، ولكن دائما ما كان هذا بأسلوب هندسي ودائما ما كان حكرا على مشكلات بعينها. وكان نيوتن ولايبنتس هما من دمجا أسلوبي خطوط العرض والكميات غير القابلة للقياس المختلفين في أسلوب حسابي واحد يعد اتساع نطاقه وعموميته هما نقطة قوته الكبرى.
5
ومع ذلك، فإن خلفيات الاثنين ونهجهما مختلفة. كان مدخل نيوتن إلى حساب التفاضل والتكامل من خلال أسلوب بارو للمماسات ونظرية ذات الحدين وبحث واليس عن المتسلسلات غير المنتهية. أما لايبنتس فقد تضمن مساره الدوال، وأنماطا من الأعداد تسمى «متتابعات المجموع» و«متتابعات الفرق»، وميتافيزيقا مميزة
6
حيث يمكن التعامل مع المنحنى على أنه متتابعة مرتبة من النقاط تفصل بينها مسافة متناهية في الصغر حرفيا. (باختصار، المنحنيات عند لايبنتس تنشأ بواسطة معادلات، في حين أن المقادير المتغيرة على مسار منحنى تعطى باستخدام الدوال (مع العلم بالتأكيد أننا سبق أن ذكرنا أنه أول من وضع كلمة «دالة»).)
كثيرا ما نتطرق إلى نيوتن ولايبنتس بالمقارنة، ولكن الفروق الميتافيزيقية في أسلوب عرضهم للمقادير المتناهية في الصغر وثيقة الصلة بالموضوع.
7
استخدم نيوتن، الذي هو في الأساس فيزيائي فكر بلغة السرعة ومعدل التغير، زيادات متناهية الصغر في قيم متغيراته كأدوات متاحة عند التوصل إلى مشتقة دالة. كانت مشتقة نيوتن بالأساس بمثابة حد من النوع اليودوكسوسي لنسبة هذه الزيادات، بينما تتزايد في الصغر على نحو نسبي. أما لايبنتس، المحامي والدبلوماسي ورجل البلاط الملكي والفيلسوف الذي كانت الرياضيات بالنسبة إليه ضربا من الهواية،
8
فقد كان لديه - كما ذكرنا آنفا - ميتافيزيقا متفردة تتضمن بعض المكونات الغريبة والجوهرية والمتناهية في الصغر للواقع كله،
9
وقد أسس في الأغلب فكره في حساب التفاضل والتكامل حول العلاقات القائمة بينها. ومن الواضح أن هذه الاختلافات كانت لها تبعاتها المنهجية، حيث نظر نيوتن إلى كل شيء من حيث معدلات التغير ونظرية ذات الحدين؛ ومن ثم نزع إلى تمثيل الدوال
10
على صورة متسلسلات غير منتهية، بينما فضل لايبنتس ما يعرف باسم «الأشكال المغلقة» وتجنب المتسلسلات لصالح التجميعات والدوال الصريحة، بما فيها الدوال المتسامية عندما لا تصلح الدوال الجبرية. وكانت بعض هذه الاختلافات مجرد تفضيل شخصي - على سبيل المثال، كلاهما استخدم رموزا ومفردات مختلفة تماما، وإن كانت رموز لايبنتس ومفرداته هي الأفضل، وكانت لها الغلبة في أكثر الأحيان.
11
أما بالنسبة لنا، فإن المهم هو أن نسختي حساب التفاضل والتكامل لكلا الشخصين قد أسفرتا عن مشاكل خطيرة للرياضيات؛ بوصفها فرعا معرفيا يقوم على الاستنتاج والدقة المنطقية الصارمة، وهوجمت كلتاهما بقوة على الرغم من أنهما أفسحتا المجال أمام كل أنواع النتائج المذهلة في الرياضيات والعلوم. ومن المفترض أن مصدر التداعي الأساسي يمكن رؤيته بسهولة، سواء أكانت المسألة تبدو منهجية أكثر (كما في حالة نيوتن) أو ميتافيزيقية أكثر (كما في حالة جي دبليو لايبنتس). وكما ذكرنا سابقا في الجزء 2 وربما في موضع آخر (وكما هو معروف جيدا على أية حال)، فإن المسألة تخص اللامتناهيات في الصغر، وهو الأمر الذي - عودا على بدء - قد أرغم الجميع في أواخر القرن السابع عشر على محاولة التعامل مع رياضيات اللانهائية.
إن أفضل طريقة للحديث عن هذه المسائل هو توضيح آلية عمل حساب التفاضل والتكامل في بداياته. سنجري استنتاجا غير قياسي بعض الشيء من النوع التربيعي لتوضيح مختلف جوانب الأسلوب دفعة واحدة بحيث لا تضطر إلى الخوض في مجموعة من القضايا المختلفة. كما سنجري نوعا من المزج والتوفيق بين أساليب نيوتن ولايبنتس ومنهجيتهما المختلفة، حيث إن الهدف هنا ليس تحري الدقة التاريخية ولكن وضوح الشرح. ولهذا السبب نفسه، سوف نتجنب الخوض في قضيتي «كيفية إيجاد المماس» أو «كيفية الانتقال من السرعة المتوسطة إلى السرعة اللحظية» المعتادتين اللتين تستخدمهما معظم الكتب الدراسية.
12
ارجع أولا إلى ما سوف نسميه الشكل 4(أ)، الذي يرجى ملاحظة أنه لم يرسم بما يتناسب مع الأبعاد الفعلية، ولكنه سيساعد في توضيح الأمور. وللأسباب نفسها، فإن «المنحنى» ذا الصلة في الشكل 4(أ) عبارة عن خط مستقيم، وهو أبسط نوع من المنحنيات، الذي تنطوي العمليات الحسابية الخاصة به على أقل مستوى من الصعوبة.
13
يمكن النظر إلى المنحنى في الشكل 4(أ) هنا باعتباره إما مجموعة من النقاط حصلنا عليها من دالة متصلة على فترة مغلقة، وإما مسار نقطة متحركة في فراغ ثنائي الأبعاد. بالنسبة إلى الحالة الأخيرة وهي حالة نيوتن (المفضلة فيما يبدو لمعظم الصفوف الجامعية)، لاحظ أن المحور الرأسي هنا يمثل الموضع والمحور الأفقي يمثل الزمن، أي إنهما معكوسا المحورين في التمثيلات البيانية الخاصة بالحركة التي من المحتمل أنها صادفتك في مرحلة الدراسة (وهذه قصة طويلة لأسباب وجيهة). إذن:
أولا : افترض أن ، المساحة تحت المنحنى، تساوي . (سيبدو هذا غريبا لأن منحنى الشكل 4(أ) هو خط مستقيم، ومن ثم يبدو الأمر كما لو أن
يجب أن تكون ، ولكن بالنسبة إلى معظم المنحنيات التي رسمت بما يتناسب مع الأبعاد الفعلية بالضبط، فإن
سوف يكون صحيحا، ومن ثم يرجى التغاضي عن ذلك، والتظاهر بأن
مساو تماما ل .) وهو ما يعني اصطلاحيا أن نفترض أن: (1) . ثم افترض أن
تزيد بمقدار متناهي الصغر ،
14
حيث تزيد المساحة تحت المنحنى تبعا لذلك بمقدار . وبمعلومية ذلك، وعلاقة التساوي المحددة في «1»، نحصل على: (2) . وبفك ذات الحدين في الخطوة رقم «2»، نحصل على: (3) . وبما أنه، طبقا للخطوة رقم «1»،
يمكن اختصار «3» إلى: (4) . والآن دقق النظر. نأخذ «4» ونقسم كلا الطرفين على
فنحصل على: (5) . دقق النظر مرة أخرى: بما أننا حددنا
على أنها مقدار متناهي الصغر، فإن
للمقدار المحدود ، ومن ثم تصبح المعادلة ذات الصلة: (6) . وإلى هنا نكون انتهينا. وسنعرف كل ما يوضحه ذلك قريبا.
لعلك لاحظت على الأرجح شيئا من المراوغة البالغة في معالجة هذا الاشتقاق للمقدار المتناهي الصغر . عند الانتقال من «4» إلى «5»، يكون
أكبر من
بما يكفي لأن يكون قاسما صحيحا. أما عند الانتقال من «5» إلى «6»، فيبدو أن
يساوي ، حيث إن
زائد
يعطينا . بعبارة أخرى، عومل
على أنه
عندما كان ذلك مناسبا وعلى أنه
عندما كان ذلك مناسبا أيضا،
15
وهو ما أدى فيما يبدو إلى التناقض
و ، الذي - حسبما تذكر من المناقشة السابقة عن البراهين بنقض الفرض أو برهنة القضية بإثبات فساد نقيضها - يبدو سببا كافيا لمراجعة الأمر والقول بأن ثمة خطأ ما في استخدام مقادير متناهية في الصغر مثل . ومن ثم، فإن
أشبه بحيلة رمزية، شيء مثل التلاعب في دفاتر الحسابات، ولكنه هنا في الرياضيات وليس في علم المحاسبة.
16
ويستثنى من ذلك هنا شيء واحد. إذا تغاضيت عن التناقض الواضح، أو على الأقل توقفت عن تطبيق مبدأ البرهان بنقض الفرض عليه، فإن استنتاجا مثل استنتاج الشكل 4(أ) (الذي، على الرغم من تشابهه مع مثلث لايبنتس المميز، نسخة مبسطة فعلا من العملية التي استخدمها نيوتن في كتابه «التحليل»
17
أصبح جزءا قيما حقا لا يتجزأ من ذخائر الرياضيات، الذي يؤدي على الأقل إلى نتيجتين مهمتين. النتيجة الأولى هي أن معدل تغير
يمكن توضيح أنه
إذا قبلت العملية الحسابية
على أنها تمثل التغير في
أثناء «اللحظة» .
18
أما النتيجة الثانية، فهي أنه يمكنك توضيح معدل تغير المساحة
على أنه «المنحنى» (أي
في الشكل 4(أ) (تذكر أن الخط المستقيم هو نوع من المنحنى)) الذي يحد . لتفهم ذلك، احسب
واختصر لتحصل على ، ثم اقسم كلا من البسط والمقام على
المناسب على نحو مثير للشك لتحصل بذلك على ، الذي حسبما تذكر يكون «أكبر على نحو لا متناه» عن
ومن ثم يمكن هنا أن نعتبره يساوي .
19
وفي النهاية، تحصل على ، وهذه في الواقع هي الدالة التي تنتج منحنى الشكل 4(أ). وهو ما يعني أن النتيجة
تتضمن المبدأ الأساسي لحساب التكامل: معدل تغير المساحة المحدودة بمنحنى ما هو إلا هذا المنحنى نفسه. وهذا يعني بدوره أن تكامل دالة ما لها مشتقة محددة هو الدالة نفسها، وهو ما يعد في الواقع النظرية الأساسية لحساب التفاضل والتكامل،
20
بمعنى أن التفاضل والتكامل مرتبطان ارتباطا عكسيا
21
شأنهما شأن الضرب والقسمة والأسس والجذور، وهذا هو السبب الذي جعل حساب التفاضل والتكامل شديد الأهمية، وأجاز لكل من نيوتن ولايبنتس أن ينسب إليهما كل هذا التقدير - تجمع النظرية الأساسية لحساب التفاضل والتكامل كلا الأسلوبين في بوتقة واحدة بارزة (ما دمت تقبل المراوغات المتعلقة بما إذا كان
أم لا).
مع ذلك، هذا ليس الأسلوب الذي شرحت به لمعظمنا هذه الأمور أيام الدراسة. إذا كنت درست حساب التفاضل والتكامل (1)، فمن المحتمل أنك تعلمت عن طريق منحنيات السرعة والعجلة، «لإيجاد نهاية »، أو أن ، حيث « » هو أسلوب الترميز الذي استخدمه لايبنتس ومفهوم النهاية هو أسلوب لاحق في التحليل ما بعد حساب التفاضل والتكامل للالتفاف حول مسألة اللامتناهيات في الصغر بأكملها. لعلك تعلم أو تذكر، على سبيل المثال، أنه في معظم الكتب الدراسية الحديثة يعرف متناهي الصغر على أنه «مقدار يساوي
بعد إجراء إحدى عمليات النهايات ». وإذا كنت تذكر فعلا حساب التفاضل والتكامل (1)، فمن المؤكد أنك تستطيع أيضا أن تتذكر كيف أن النهايات موضوع شديد التجريد ومن الصعب جدا محاولة تعلمه: لا يحدث تقريبا أن أحدا أخبر طلاب الجامعة بالأسباب الكامنة وراء هذا الأسلوب أو نشأته،
22
أو نوه عن وجود أسلوب أسهل أو على الأقل أكثر بديهية لفهم
و
و ، أي بوصفها رتبا من . بدلا من ذلك، يحاول غالبية المدرسين صرف انتباه الطلاب بأمثلة منمقة عن قدرة حساب التفاضل والتكامل على حل جميع أنواع المشاكل الواقعية المعقدة - بدءا من السرعة اللحظية والعجلة كمشتقة أولى ومشتقة ثانية، مرورا بمدارات القطوع الناقصة لكيبلر ودالة نيوتن ، ووصولا إلى حركة الزنبركات المعلقة والكرات المرتدة، وشبه ظل الكسوف، والجهارة كدالة لدوران مقبض مستوى الصوت، ناهيك عن موضوعات حساب المثلثات المتشعبة التي تبدأ في الظهور عندما تعلم أن
و ، وأن المماس هو نهاية القاطع، وهكذا. وتعرض هذه الموضوعات عادة كدوافع لإتقان مفهوم النهايات، وهو مفهوم لا يقل في الواقع تجريدا أو صعوبة عن محاولة تصور
أو
على أنهما صغيران على نحو لا يمكن تصوره أو استيعابه.
كما ينبغي أن يفهم من المذكور أعلاه، كان الدافع الحقيقي وراء أسلوب النهايات في حساب التفاضل والتكامل هو أن كلا من المقادير المتناهية الصغر والتلاعب البارع بالرموز لدى نيوتن ولايبنتس قد أحدث تصدعات خطيرة في أساسيات الرياضيات، نظرا لأن الافتراض «
و » يخالف كل أنواع البديهيات الأساسية لقانون الوسط المستبعد أو الثالث المرفوع. وبالنظر إلى ما أوردناه حتى الآن، يبدو أن أسهل ما يمكن قوله إن معظم المشاكل المفترضة هنا كان سببها في الواقع عدم قدرة الرياضيات على التعامل مع المقادير غير المنتهية؛ ذلك أنه على غرار ما وجدناه في التقسيم الثنائي لزينون ومفارقة جاليليو، كانت الصعوبة الحقيقية أن أحدا لم يكن قد فهم بعد علم حساب اللامتناهي. وما كان من الخطأ حرفيا قول ذلك، إلا أنه في ضوء أهدافنا كان سيبدو ضربا من العوز أو الإفلاس التوثيقي.
23
كما هو الحال مع كل شيء آخر عن الرياضيات بعد حساب التفاضل والتكامل، فإن المخاطر والمشاكل الحقيقية هنا أكثر تعقيدا.
الجزء 4(ب)
دعنا نعد صياغة ما قلناه ونلخصه قليلا. عرضت أهمية حساب التفاضل والتكامل وقوته المطلقة الرياضيات في مستهل العصر الحديث لنفس نوع الأزمة التي سببها التقسيم الثنائي لزينون للإغريق. إلا أنها كانت على نحو أسوأ. فمفارقات زينون لم تحل أي مشكلات قائمة في الرياضيات، بينما حلت أدوات حساب التفاضل والتكامل ذلك. ذكرنا بالتفصيل مجموعة النتائج الحقيقية التي أتاحها حساب التفاضل والتكامل، وكذلك التوقيت غير العادي، حيث إن كل نوع من العلوم التطبيقية كان يتعارض بشدة مع مسائل الظواهر المتصلة، مثلما حدث تماما عندما توصل نيوتن ولايبنتس وإطارات العمل الخاصة بهما إلى تفسير رياضي للاتصال.
24
وكان تفسيرا جيدا، أدى مباشرة إلى فك التشفير الحديث الرائع لقوانين الفيزياء في صورة معادلات تفاضلية.
ولكن يبدو الأمر كارثيا من ناحية التأسيس؛ فالموضوع برمته بني دون أساس ثابت أو ركيزة واضحة. لم يستطع تلامذة لايبنتس
25
شرح أو استنتاج مقادير فعلية ليست
بطريقة ما، ولكنها لا تزال تقترب على نحو متناهي الصغر من . أخفق تلامذة نيوتن،
26
الذين زعموا أن حساب التفاضل والتكامل لا يعتمد في الحقيقة على المقادير المتناهية في الصغر ولكن على «المشتقات الزمنية» - حيث تعني كلمة «مشتق زمني» معدل التغير لمتغير معتمد على الزمن - في الشرط القائل بأن نسب هذه المشتقات الزمنية تؤخذ نسب هذه التدفقات بمجرد أن تتلاشى في
أو تنبثق عنه، وهو ما يعني حقيقة اللحظة الأولى أو الأخيرة المتناهية الصغر عندما تكون هذه المشتقات الزمنية ، وهذا بالطبع إحلال للحظات الوجيزة على نحو متناه محل المقادير المتناهية الصغر. ولم يكن لدى تلامذة نيوتن تفسير لهذه النسب اللحظية أفضل مما قدمه تلامذة لايبنتس عن المقادير المتناهية في الصغر.
27
الميزة الحقيقية الوحيدة للتصور الذي قدمه تلامذة نيوتن (للجميع باستثناء طلاب حساب التفاضل والتكامل (1)) هي أنه يشتمل فعليا على مفهوم النهاية المتضمن في فكرة اللحظة الأولى والأخيرة المتناهية الصغر للغاية، وهذا هو ما استنتجه غالبا أيه أل كوشي، ثم كيه فايرشتراس لاحقا. (كان فايرشتراس، بالمناسبة، أحد معلمي كانتور.)
على ذكر الاتصال ومتناهيات الصغر وحساب التفاضل والتكامل، من المفيد إلقاء نظرة سريعة على مفارقة أخرى من مفارقات زينون وهي مفارقة نفي الحركة. تسمى هذه المفارقة عادة بمفارقة السهم؛ لأنها تتعلق بالفترة الزمنية التي ينتقل سهم خلالها من قوسه إلى الهدف.
28
لاحظ زينون أنه عند أي لحظة معينة في هذه الفترة، يشغل السهم «فراغا مساويا لنفسه»، وهو ما يعني حسب قوله إن السهم يكون «في حالة سكون». والفكرة هي أن السهم لا يمكن في الحقيقة أن يكون في حالة حركة في لحظة ما؛ لأن الحركة تتطلب فترة زمنية، واللحظة هنا ليست فترة؛ فهي أصغر وحدة زمنية مؤقتة يمكن تصورها، وليست لها مدة بقاء أو استمرارية، تماما مثل النقطة الهندسية لا يكون لها أي بعد. وإذا كان السهم - عند كل لحظة - في حالة سكون، فإن السهم لا يتحرك أبدا. في الواقع، لا شيء على الإطلاق يتحرك، بما أن كل شيء يكون في حالة سكون عند أي لحظة معطاة.
هناك على الأقل افتراض واحد ضمني في حجة زينون، يساعد تنظيمه بشكل معين في توضيحه: (1)
عند كل لحظة، يكون السهم في حالة سكون. (2)
أي فترة زمنية تتكون من لحظات. (3)
إذن، خلال أي فترة زمنية، لا يكون السهم في حالة حركة.
الفرض الأساسي الخفي هو رقم (2)، وهو بالضبط ما يهاجمه أرسطو في كتاب «الطبيعة»، برفضه مفارقة زينون برمتها على أساس أن «... الزمن لا يتكون من لحظات غير قابلة للتقسيم.»
29
أي إن فكرة أن يكون الشيء إما في حالة حركة أو في حالة سكون في لحظة ما هي فكرة غير مترابطة. لاحظ، مع ذلك، أن هذه الفكرة على وجه التحديد عن الحركة في لحظة ما هي ما استطاع حساب التفاضل والتكامل لكل من نيوتن ولايبنتس أن يجعل لها مفهوما في الرياضيات - وليس فقط الحركة العامة، ولكن السرعة الدقيقة عند أي لحظة، ناهيك عن معدل التغير في السرعة عند لحظة ما (= العجلة، المشتقة الثانية)، ومعدل التغير في العجلة عند لحظة ما (المشتقة الثالثة)، وهكذا.
فيما يخص مفارقة السهم، فإن حقيقة أن حساب التفاضل والتكامل الكلاسيكي استطاع أن يعالج بدقة ما قال أرسطو أنه تتعذر معالجته ليست محض مصادفة. أولا: انظر مرة أخرى إلى ما قيل عن أن اللحظة «ليس لها مدة بقاء أو استمرارية» في الفقرتين السابقتين، ولاحظ أن هذا المصطلح غامض بعض الشيء. يتضح أن نوع اللحظة التي يتحدث عنها زينون ليست، على الأقل رياضيا، شيئا مدة بقائه صفر، ولكنها شيء متناهي الصغر. وهكذا يجب أن تكون. انظر إلى الصيغة القديمة للحركة في مرحلة التعليم المتوسطة: المسافة × الزمن = السرعة، أو . وبذلك، من البديهي أن قيمة
لسهم ما في حالة سكون ستكون
وقيمة
التي يقطعها هي . ولكن، بالنسبة إلى الزمن، إذا كانت لحظة ما ، فإن سيناريو زينون يفترض في نهاية المطاف
كقاسم في العلاقة ، وهذا غير جائز رياضيا أو ينطوي على مغالطة من الناحية الرياضية مثلما أن العلاقة « » بأكملها غير جائزة/تنطوي على مغالطة.
إلا أن علينا توخي الحذر هنا مجددا، على غرار ما حدث تماما مع مفارقات زينون الأخرى. وكما ذكر في كل أنواع السياقات المختلفة، توجد «معالجة» لشيء ما في مقابل معالجته فعليا. حتى لو افترضنا جدلا أن اللحظة لدى زينون متناهية الصغر، ومن ثم من المناسب التعامل معها بواسطة المشتقة الزمنية لنيوتن أو
للايبنتس، فربما يمكنك بالفعل ملاحظة أن «حلا» يعتمد على حساب التفاضل والتكامل الكلاسيكي لمفارقة السهم لزينون من المحتمل أن يكون تافها مثلما أن « » فيما يخص التقسيم الثنائي. أي إن السهم هو في حقيقة الأمر مفارقة ميتافيزيقية، وهو على وجه التحديد تفسير ميتافيزيقي لمتناهيات الصغر لم يستطع حساب التفاضل والتكامل التوصل إليه. ولولا هذا التفسير، لكان كل ما نستطيع فعله هو التصديق على الصيغة الجذابة نوعا ما لمفارقة السهم التي سوف تعتمد على نفس متناهيات الصغر الغامضة والمتناقضة في ظاهرها التي استخدمها زينون في المقام الأول، كما سيظل السؤال المحير مطروحا حول كيفية وصول سهم فعليا إلى الهدف خلال فترة تتكون من عدد من اللحظات المتناهية الصغر مقدارها .
30
المشكلة هي أنه بما أن السهم ميتافيزيقي فهو أيضا دقيق جدا ومجرد. افترض للحظة أن هناك فرضية أخرى خفية، أو ربما ضربا من فرضية فرعية متضمنة في حجة زينون رقم (1): هل صحيح فعلا أن الشيء إما أن يكون متحركا أو ساكنا؟ في البداية، يبدو هذا صحيحا بالتأكيد، شريطة أن نفترض أن «ساكن» هي مرادف ل «غير متحرك». تذكر قانون الوسط المستبعد، في نهاية المطاف. بالتأكيد، عند أي لحظة محددة ، يكون شيء ما إما متحركا أو غير متحرك، بمعنى أنه عند
إما أن تكون له سرعة أكبر من صفر أو سرعة تساوي صفرا. وفي الحقيقة، يمكن إدراك عدم صحة هذا الاختيار الضمني - أي عدم انطباق قانون الوسط المستبعد حقا هنا - عن طريق دراسة الفرق بين العدد
وبين الكلمة المجردة «لا شيء». إنه فرق خادع، ولكنه مهم. و«عجز» الإغريق عن إدراكه هو على الأرجح ما حال دون تمكنهم من استخدام الصفر في الرياضيات عندهم، الأمر الذي كلفهم الكثير جدا. لكن الصفر مقابل اللاشيء هو واحد من تلك الاختلافات المجردة الذي يستحيل تقريبا الحديث عنه مباشرة، بل يتعين أن تورد أمثلة على ذلك. تخيل أن هناك فصل رياضيات معينا، وأن هذا الفصل يؤدى فيه اختبار صعب جدا في منتصف الفصل الدراسي من 100 درجة، وتخيل أن كلينا لم يحصل ولو على درجة واحدة من الدرجات المائة في هذا الاختبار. ولكن يوجد هنا فارق معين: أنت لست مقيدا في الفصل ولم تؤد الاختبار، بينما أنا مقيد في الفصل وأديت الاختبار. وبذلك، فإن حقيقة أنك حصلت على
درجة في الاختبار في غير محلها؛ الصفر في حالتك يعني «غير موجود»، أي لا شيء، بينما الصفر في حالتي هو صفر فعلي. أو إذا لم يرقك هذا المثال، فتخيل أنك أنثى وأنا ذكر، وكلانا يتمتع بصحة جيدة ويتراوح عمره ما بين 20 و40 عاما، وكلانا في عيادة الطبيب، وكلانا لم تأته دورة شهرية خلال الأسابيع العشرة الماضية، وهو ما يعني في هذه الحالة أن إجمالي عدد الدورات في حالتي هي «لا شيء»، بينما في حالتك هنا هي صفر، وهذا أمر مهم وذو مغزى. وإلى هنا تنتهي الأمثلة.
وعليه، من غير الجائز ببساطة أن يكون الشيء دائما إما صفرا أو ليس صفرا؛ فربما يكون بدلا من ذلك لا شيء؛ أي غير موجود.
31
وفي هذه الحالة، يوجد رد واحد غير مبتذل على فرضية زينون رقم (1)، وهو: حقيقة أن السهم لا يتحرك عند
لا تعني أن
له عند
هي
ولكنه يعني بالأحرى أن
له عند
هي لا شيء. والسبب في أن هذه الحالة من عدم التيقن في الفرضية رقم (1) لم تكتشف مباشرة يرجع في جزء إلى فكرة الصفر مقابل اللاشيء، وفي جزء آخر إلى تجريد المستوى الرابع المتقلب لكلمات مثل «تحرك» و«حركة». فالاسم «حركة» على سبيل المثال، مخادع جدا؛ لأنه لا يبدو مجردا إلى تلك الدرجة؛ فهو ببساطة يشير فيما يبدو إلى شيء واحد أو عملية واحدة - بينما، إذا فكرت في الأمر،
32
فحتى أبسط نوع من الحركة يكون حقا علاقة معقدة بين (أ) جسم واحد و(ب) أكثر من مكان واحد و(ج) أكثر من لحظة واحدة. والنتيجة: تكمن مغالطة السهم في افتراض زينون أن السؤال «هل السهم يكون في حالة حركة أم لا عند لحظة ما ؟» لا يزيد في ترابطه عن السؤال «ماذا كانت درجتك في هذا الفصل الذي لم تحضره؟» أو «هل النقطة الهندسية منحنية أم مستقيمة؟» الإجابة الصحيحة لكل هذه الأسئلة الثلاثة هو: لا ينطبق.
33
من الواضح هنا أن هذا الرد على مفارقة السهم هو بالأحرى فلسفي وليس رياضيا. تماما مثلما سيكون حل من حساب التفاضل والتكامل الكلاسيكي فلسفيا، أيضا، بما يعني أنه يجب أن يقدم مزاعم ميتافيزيقية عن المتناهيات في الصغر. أما عن أسلوب التحليل الحديث في التعامل مع مفارقة زينون هذه، فهو مختلف جدا وتقني بحت. مرة أخرى، إذا كنت قد درست مفارقة السهم في مقرر الرياضيات الجامعي، فمن المحتمل أنك عرفت أن فرضية زينون الخادعة هي رقم (1) ولكنك لم تسمع شيئا
34
عن اللحظة على أنها متناهية في الصغر. وهذا (مرة أخرى) لأن التحليل قد أوجد طرقا لتفادي كل من المتناهيات في الصغر ومسألة الصفر كقاسم في عرضه للاتصال. ومن ثم، في فصول الرياضيات الحديثة، يصرح بأن الفرضية رقم (1) خطأ؛ نظرا لأنه يمكن حساب قيمة
للسهم عند لحظة
على صورة «نهاية
المتوسطة» خلال متتابعة من الفترات المتداخلة التي تقارب
ودائما ما تشمل ، أو شيئا قريبا من ذلك. ولتعلم أن لغة هذا الحل
35
ترجع إلى فايرشتراس: إنه مفهومه المنقح عن النهاية
36
الذي سوف يتيح لحساب التفاضل والتكامل معالجة المسائل المرتبطة عن متناهيات الصغر وقابلية القسمة اللانهائية التي طرحها زينون.
تتسم العلاقات المحددة بين هذه المسائل بأنها معقدة ومجردة، ولكنها بالنسبة لنا وثيقة الصلة بالموضوع تماما. فمهما تكن متناهيات الصغر غريبة أو مفتقرة إلى الركائز الثابتة، يتضح أن عزلها عن الرياضيات/الميتافيزيقا قد أحدث بعض الصدوع الصغيرة الصعبة كذلك. مثال: لولا المتناهيات في الصغر، لكان من غير المنطقي على ما يبدو التحدث عن «اللحظة التالية» أو «الجزء من الثانية التالية مباشرة»؛ لا يمكن أن تكون لحظتان متعاقبتين تماما. توضيح: لولا وجود المتناهيات في الصغر، إذن فإنه فيما يخص أي لحظتين يفترض أنهما متعاقبتان
و ، يوجد خياران اثنان فقط: إما أنه لا توجد فترة مؤقتة (أي إن الفترة المؤقتة تساوي صفرا) بين
و ، أو أن بينهما فترة مؤقتة أكبر من صفر. إذا كانت الفترة الفاصلة تساوي صفرا، فمن الواضح إذن أن
و
ليستا متعاقبتين؛ لأنهما حينئذ سيكونان نفس اللحظة تماما. أما إذا كانت ثمة فترة مؤقتة ما بينهما، فسوف توجد دائما لحظات أخرى أصغر بين
و ؛ لأن أي فترة مؤقتة محدودة يمكن دائما تقسيمها إلى فترات جزئية أصغر فأصغر، تماما مثل المسافات على خط الأعداد.
37
بمعنى أنه لن توجد أبدا
تالية مباشرة ل . في الواقع، ما دامت المتناهيات في الصغر غير مرغوب فيها، لا بد دائما من وجود عدد لا نهائي من اللحظات بين
و . ذلك لأنه لو كان هناك عدد محدود فقط من هذه اللحظات المتوسطة، لكانت إحداها - وليكن مثلا - هي الأصغر طبقا للتعريف، وهو ما كان سيعني أن
هي اللحظة الأقرب إلى ، أي إن
هي اللحظة التالية مباشرة بعد ، وهو ما رأينا سابقا أنه مستحيل (لأن هذا بالطبع يطرح السؤال: ماذا عن اللحظة ؟)
إذا كنت تلاحظ الآن وجود بعض التشابه العائلي بين هذه المشكلة عن عدم وجود لحظات متعاقبة ومفارقات زينون وبعض مشاكل خط الأعداد الحقيقية الموضحة في الجزء 2(ج) والجزء 2(ه)، فاعلم أن هذا ليس من قبيل المصادفة. فجميعها جوانب من معضلة الاتصال الكبرى بالنسبة إلى الرياضيات، التي مفادها أن الكيانات اللانهائية يتعذر على ما يبدو معالجتها أو الاستغناء عنها. وما من مثال أوضح على ذلك من . فهو مليء بالتناقض ولا يمكن تعريفه، ولكن إذا حذفته من الرياضيات فسوف تضطر في نهاية المطاف إلى افتراض وجود كثافة لا نهائية لأي فترة،
38
الأمر الذي تصبح فيه فكرة التعاقب خاوية من المعنى ويتنافى معه وجود أي ترتيب كامل للنقاط في الفترة، بما أنه لن توجد بعض النقاط الأخرى فحسب بين أي نقطتين وإنما عدد لا نهائي منها.
الفكرة الشاملة: مهما يكن حساب التفاضل والتكامل جيدا في التحديد الكمي للحركة والتغير، فلا شيء يمكن فعله لحل التناقضات الفعلية للاتصال. ولا سبيل إلى ذلك دون وجود نظرية مترابطة في اللانهائية، على أية حال.
هوامش
الجزء الخامس
الجزء 5(أ)
الهدف من هذين الجزأين التاليين هو توضيح كيف أن الأفكار الجديدة التي قدمها كل من ديديكند وكانتور ظهرت على نحو مماثل تقريبا لنشأة حساب التفاضل والتكامل، أي في صورة أساليب لمعالجة بعض المشكلات الملحة للغاية التي عجزت الرياضيات حقا عن إحراز أي تقدم دون التصدي لها ومواجهتها. تتمثل فكرة الجزء 5 في رسم مخطط لرصد التطورات والخلافات الخاصة بما بعد حساب التفاضل والتكامل التي خلقت بيئة مواتية أصبحت فيها رياضيات الأعداد فوق المنتهية أمرا ممكنا، بل وضروريا أيضا إن جاز التعبير. كما يرجى ملاحظة أننا سوف نكون هنا بصدد «رسم مخطط». فلا سبيل لإنشاء جدول زمني، حتى لو كان جدولا زمنيا تقريبيا ، للفترة ما بين عامي 1700 و1850. فالأحداث كانت كثيرة للغاية ومتواترة على نحو سريع جدا.
في العموم، كان وضع الرياضيات بعد عام 1700 غريبا جدا، وكان جزء كبير من هذه الغرابة يتعلق - مرة أخرى - بالعلاقات بين الواقع التجريبي والتجريد المفاهيمي.
1
وحسبما يمكن أن يشهد أي شخص انتقل من دراسة الرياضيات في المرحلة الثانوية إلى المرحلة الجامعية، فإن التحليل أكثر تجريدا بكثير وأصعب من أي شيء جاء قبله.
2
وفي الوقت نفسه، فإن قوته التفسيرية غير مسبوقة وتطبيقاته العملية تتجاوز الآفاق. ويعزى سبب ذلك بصفة أساسية إلى قدرة التحليل على التحديد الكمي للحركة والمعالجة والتغير، وكذلك إلى التعميم المتزايد للغاية لقوانين الفيزياء التي تكتب على صورة معادلات تفاضلية أو متسلسلات مثلثية. وفي الوقت نفسه، ومثلما حدث تماما مع تطور حساب التفاضل والتكامل الكلاسيكي، فإن الكثير من التقدم الذي شهدته الرياضيات في الفترة ما بين عام 1700 وعلى أقل تقدير عام 1830 كان رد فعل على مشاكل علمية، سبق أن ذكرنا بعضها من قبل. الفكرة هنا أكثر رسوخا عما كانت عليه في الجزء 3(ب): لقد نجحت أدوات التحليل حقا في كل شيء بدءا من علم الفلك ووصولا إلى العلوم الهندسية، والملاحة، وأساليب الحرب، وغيرها. والنتيجة كانت ما أطلق عليه العالم الكبير البارع إم كلاين «امتزاج افتراضي للرياضيات ومجالات العلم الواسعة.»
في الواقع، مميزات هذا الامتزاج أكثر جلاء من مخاطره. ولنتذكر مرة أخرى أن إحدى ميزات الرياضيات التي لا تقدر بثمن أنها من المفترض أن تكون استنتاجية، وهي حقيقة بديهية مسلم بها لنظرياتها. تؤسس الحقائق العلمية على أساس تجريبي؛ فهي حقائق استقرائية، ومن ثم فإنها تخضع إلى جميع الشكوك المجردة التي يتعرض لها المرء في الصباح الباكر والتي تحدثنا عنها بالتفصيل في الجزء 1. الاستقراء - بلغة المنطق - لا أساس له، بينما تبنى الحقائق الرياضية على أساس راسخ من المسلمات وقواعد الاستنتاج. هذا كله ناقشناه من قبل، وكذلك الصلة بين الأساسيات والصرامة، بالإضافة إلى ما ورد في مسرد المصطلحات الأول بالجزء 3(ج) بشأن محاولة التحليل (في النهاية) لإضفاء مزيد من الدقة والصرامة على حساب التفاضل والتكامل.
جوهر الموضوع: لا يكفي أن تكون النظريات الرياضية قابلة للتطبيق؛ فمن المفترض أيضا أن تكون معرفة بدقة ومثبتة على نحو يتفق مع المعيار الاستنتاجي الرائع لدى الإغريق. ومع ذلك، ليس هذا ما حدث خلال معظم العقد الأول من القرن الثامن عشر. كان الأمر في الحقيقة أشبه بفقاعة سوق الأوراق المالية. وبدا الوضع رائعا لفترة وجيزة. خلق «الامتزاج الافتراضي»، الذي مكنت فيه الاكتشافات الرياضية حدوث تطورات علمية حفزت بدورها مزيدا من الاكتشافات في الرياضيات،
3
وضعا للرياضيات أشبه بشجرة
4
ذات فروع وارفة وممتدة ولكنها بلا جذور حقيقية راسخة. لم تكن توجد حتى هذه اللحظة تعريفات ذات أساس راسخ ودقة صارمة لمفهوم التفاضل أو المشتقة أو التكامل أو النهاية أو المتسلسلات المتقاربة والمتباعدة. ولا حتى تعريف للدالة. كان هناك جدل مستمر، ولكن في الوقت نفسه بدا أن أحدا لم يكن يهتم.
5
أثبتت حقيقة أن متناهيات الصغر في حساب التفاضل والتكامل (والآن النهايات من النوع اللانهائي التي يمكن أن «تقترب» منها المقادير دون أن تصل إليها تماما)، صحتها دون أي أساس مترابط. وهذا أمر اعترى موضوع التحليل برمته. ودون أن يصرح أحد بذلك بوضوح، شرعت الرياضيات في اتباع النهج الاستنتاجي.
الكثير من التطورات المهمة والالتباسات الهائلة التي شهدها العقد الأول من القرن الثامن عشر كان من نصيب المجالات الخاصة بالدوال والمعادلات التفاضلية والمتسلسلات المثلثية. وفيما يخص موضوعنا هنا، سيكون من المهم إلقاء نظرة على بعض المشاكل المحددة في الرياضيات والعلوم التي استخدمت فيها هذه المفاهيم. وسوف يتطلب هذا بدوره وضع مسرد مصطلحات آخر ذي صلة بالموضوع (ولكنه سيكون أصعب،
6
والذي يمكنك مرة أخرى أن تكرس له قدرا كبيرا من الوقت والاهتمام حسبما تسمح خلفيتك واهتمامك (ولكن ربما ينبغي لك أن تتجاوزه على الأقل ثم تستعد للرجوع إليه لاحقا إذا صادفتك صعوبات في موضعها) وهكذا.
مسرد المصطلحات الثاني
مشتقة (اسم) مقابل تفاضلة (اسم):
يجب التمييز بين هذين المصطلحين رغم أنهما وثيقا الصلة للغاية، حتى إن المشتقة أحيانا ما تسمى «معامل تفاضلي». ونذكر مما ورد في مسرد المصطلحات الأول أن المشتقة هي معدل تغير دالة بالنسبة إلى المتغير المستقل. وفي حالة دالة بسيطة مثل ،
7
تكون المشتقة هي . ومع ذلك، فإن كلا من
و
هنا عبارة عن تفاضلتين. وفي حالة مثل ، حيث
هي المتغير المستقل، تكون تفاضلة (أي ) هي أي تغير اختياري في قيمة ، وفي هذه الحالة يمكن تعريف
عن طريق ، حيث
هي مشتقة . (هل هذا مفهوم؟ إذا كانت ، فإن
هي بديهيا ).
من الطرق السهلة لفهم هذين المصطلحين بسلاسة ويسر أن نتذكر أن المشتقة هي حرفيا النسبة بين تفاضلتين، وهذه هي الطريقة التي عرف بها تلامذة لايبنتس المشتقة في المقام الأول.
مشتقة جزئية مقابل تفاضلة تامة:
يعد هذا هو التمييز الوثيق الصلة بالنسبة إلى «الدوال في عدة متغيرات»،
8
أي تلك الدوال التي تتضمن أكثر من متغير مستقل واحد. المشتقة الجزئية هي معدل تغير دالة متعددة المتغيرات بالنسبة إلى أحد المتغيرات ذات الصلة، حيث تعامل المتغيرات الأخرى على أنها ثوابت، ومن ثم سيكون للدالة عموما مشتقات جزئية بعدد ما لها من متغيرات مستقلة. يستخدم رمز خاص أسماه د. جوريس «ديسلكسيك 6» للمشتقات الجزئية، كما على سبيل المثال في المشتقتين الجزئيتين لمعادلة دالة حجم الأسطوانة القائمة، ، وهما:
و . أما التفاضلة التامة، على الجانب الآخر، فهي تفاضلة دالة في أكثر من متغير مستقل، وهو ما يكافئ عادة قولنا إنها تفاضلة المتغير التابع. يستخدم الرمز « » للتفاضلات التامة أيضا. في حالة دالة متعددة المتغيرات مثل ، التفاضلة التامة ل
ستكون .
ربما يبدو أول مدخلين هنا شديدي التخصص، ولكنهما في الواقع ضروريان للمعادلات التفاضلية.
معادلات تفاضلية (بدءا من (أ) إلى (ج)) (أما (ب)، فهي عامة إلى حد ما):
هي أول أداة في الرياضيات لحل مسائل في الفيزياء وعلوم الهندسة والقياس عن بعد والتشغيل الآلي (الأتمتة) وكل أنواع العلوم المادية. وعادة ما تكون بداية تعاملك مع المعادلات التفاضلية في نهاية مقرر الرياضيات في العام الأول بالجامعة؛ فسوف تكتشف في حساب التفاضل والتكامل (3) مدى صعوبتها وكيف أنها موجودة حقا في كل شيء . (أ)
بمفهوم واسع، تتضمن المعادلات التفاضلية علاقات بين متغير مستقل
ومتغير تابع ، ومشتقة (مشتقات) ما ل
بالنسبة إلى . يمكن النظر إلى المعادلات التفاضلية إما على أنها حساب تكامل في نوع من العقاقير المهلوسة من الفئة الرابعة وإما (وهذا أفضل)
9
على أنها «دوال أعلى»، بمعنى أنها أعلى من الدوال العادية بفارق مستوى واحد من التجريد، وهو ما يعني بدوره أنه إذا كانت الدالة العادية عبارة عن آلة مدخلاتها بعض الأعداد ومخرجاتها أعداد أخرى،
10
فإن المعادلة التفاضلية عبارة عن آلة مدخلاتها دوال معينة ومخرجاتها دوال أخرى. وهكذا، فإن حل أي معادلة تفاضلية يكون دائما عبارة عن دالة ما، بل وتحديدا دالة يمكن التعويض بها في المتغير التابع للمعادلة التفاضلية لإنشاء ما يعرف باسم «المتطابقة»، وهي مساواة بين عبارتين رياضيتين؛ أي نوع من طوطولوجيا الرياضيات.
قد لا يكون هذا ذا فائدة كبيرة للغاية. وبمصطلحات أكثر تحديدا،
11
فإن معادلة تفاضلية بسيطة مثل
يكون حلها هو الدالة التي مشتقتها هي . هذا يعني أن المطلوب الآن هو التكامل، أي إيجاد الدالة (الدوال) التي تحقق . وإذا كنت لا تزال تذكر بعضا من مقرر الرياضيات في العام الأول بالجامعة، فستعرف على الأرجح أن
يساوي (حيث
هو ثابت التكامل الشهير،
12
التي هي نفسها المعادلة ، والتي ستكون فيما بعد حل المعادلة التفاضلية . وستكون الحلول الخاصة لهذه المعادلة التفاضلية هي تلك الدوال التي يأخذ فيها
قيمة محددة، كما في حالة
وهكذا. (ب)
من حيث التمثيلات البيانية، نظرا إلى وجود
وما يسمى بالحلول العامة/الخاصة، تميل المعادلات التفاضلية إلى إعطاء «مجموعات من المنحنيات» كحلول. بينما تميل عادة مفكوكات هذه المعادلات، على الجانب الآخر، إلى إعطاء متتابعات من الدوال، ولتعلم أن الانتقال في التحليل من متتابعات/متسلسلات من المقادير إلى متتابعات/متسلسلات من الدوال هو في نهاية المطاف عنصر جوهري ومحوري في موضوع اللانهائية. ومن الناحية التاريخية، هذا الانتقال هو ما حدد تحول الرياضيات من تحليل أويلر في بداية القرن الثامن عشر إلى تحليل كوشي في الفترة ما بين أوائل القرن التاسع عشر ومنتصفه. وكما ذكرنا بإيجاز في الجزء 3، ينسب الفضل إلى البارون أيه إل كوشي في أول محاولة حقيقية لإضفاء الدقة على التحليل؛ فقد استحدث مفهوما أكثر تطورا للنهاية يعتمد على التقارب، واستطاع أن يعرف في ضوئه الاتصال والمتناهيات في الصغر بل وحتى اللانهائية.
13
كان كوشي أيضا أول من بحث جديا في متسلسلات الدوال التي تتضمن أيضا المسائل المحورية فيها موضوع التقارب. ⋆ ⋆
جزء تكميلي سريع للنقطة (ب)
معادلة تفاضلية (ب):
يوشك المصطلح أن يزداد تعقيدا. وفضلا عن إمكانية العودة إلى مسرد المصطلحات الأول عند الحاجة، عليك أن تعلم هنا حقيقتين مترابطتين: (1) التقارب هو (أو على الأقل يبدو) مختلف جدا في حالة متتابعات/متسلسلات الدوال عنه في حالة متتابعات/متسلسلات المقادير. على سبيل المثال، ما تتقارب إليه متسلسلة متقاربة من الدوال هو دالة معينة ... أو من الأدق أن نقول إن مجموع متسلسلة متقاربة من الدوال سوف يتقارب دائما من دالة ما.
14 (2) توجد مجموعة كبيرة ومتبادلة من العلاقات بين مفاهيم الاتصال للدوال والتقارب لمتسلسلة من الدوال. ولحسن الحظ، لا يعنينا منها سوى القليل، ولكن في العموم تقع هذه العلاقات في صميم موضوع التحليل المضطرب في القرن التاسع عشر، وتتداخل معها بعض الأمور بدرجة كبيرة. ومثال على ذلك خطأ شهير ارتكبه كوشي، وهو الذي نعرضه هنا كإشارة فقط إلى مدى ارتباط الاتصال والتقارب بالنسبة إلى الدوال. ذهب كوشي إلى أنه إذا كان مجموع متتابعة من الدوال المتصلة
تتقارب عند جميع نقاط فترة معينة إلى دالة ما ، فإن الدالة
نفسها تكون متصلة على هذه الفترة. ونأمل أن تتضح أكثر أهمية ذلك ووجه الخطأ فيه في الجزأين التاليين.
نهاية «جزء تكميلي سريع للنقطة (ب)» قيد النقاش. •••
بما أنك لا تستطيع فعليا إيجاد مجاميع جزئية من متسلسلات من الدوال، يصبح من المهم إذن وضع اختبارات عامة لتقارب هذه المسلسلات/المتتابعات. ينص اختبار عام رائد، يسمى شرط كوشي للتقارب (أو ) خلال العقد الثاني من القرن التاسع عشر، على أن متتابعة غير منتهية
تتقارب (أي تكون لها نهاية) إذا وإذا فقط كانت القيمة المطلقة ل
أقل من أي مقدار محدد لجميع قيم ، على افتراض أن
كبيرة بما يكفي.
15
حقيقة أخيرة عن الدوال والتقارب (كان ينبغي على الأرجح تضمينها في التكملة السريعة المضمنة أعلاه): لإثبات أن دالة ما
قابلة للتمثيل (= قابلة للفك) على صورة متسلسلة غير منتهية، يجب أن تتأكد من أن المتسلسلة تتقارب عند جميع النقاط من . ومن الواضح أن هذا لا يمكن تحقيقه بجمع عدد لا نهائي من الحدود؛ فلا بد هنا من برهان مجرد. وهذا أيضا سيكون مهما عندما نتحدث عن أبحاث كانتور الأولى في التحليل. (ج)
أحد الأسباب التي تجعل المعادلات التفاضلية صعبة للغاية في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي وجود الكثير من الأنواع والأنواع الفرعية منها، التي يتم تحديدها بكل أنواع المصطلحات شديدة التخصص مثل «رتبة»، و«درجة»، و«قابلية الفصل»، و«التجانس»، و«الخطية»، و«التأخر»، و«معامل النمو» في مقابل «معامل التضاؤل»، وغيرها. وبالنسبة لنا، فالتمييز الأهم هو بين المعادلة التفاضلية العادية والمعادلة التفاضلية الجزئية. تحتوي المعادلة التفاضلية الجزئية على أكثر من متغير مستقل واحد، ومن ثم تكون لها مشتقات جزئية (ومن هنا جاء الاسم)، بينما المعادلة التفاضلية العادية لا تكون لها أي مشتقات جزئية. وبما أن معظم الظواهر الفيزيائية تكون معقدة للغاية بما يتطلب دوال متعددة المتغيرات ومشتقات جزئية، من غير المستغرب أن تكون المعادلات التفاضلية المفيدة والمهمة حقا هنا هي المعادلات التفاضلية الجزئية. ثمة تعريفان آخران ينبغي معرفتهما عن المعادلات التفاضلية، وهما الشروط الحدية والشروط الابتدائية، وهما يتعلقان بتحديد قيم
المسموح لها أو قيم أي ثوابت موجودة في المعادلة. المصطلحان وثيقا الصلة نظرا إلى وجود علاقات مهمة بين هذين الشرطين وتحديد فترات معينة على خط الأعداد الحقيقية يمكن تحديد مدى الدالة عليها، والأخيرة ستكون مهمة للغاية في تحليل فايرشتراس خلال الفترة ما بين منتصف القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر الذي سنتحدث عنه في الجزء 5(ه).
المعادلة الموجية:
هذه معادلة تفاضلية جزئية شهيرة وفعالة للغاية . وهي مؤثرة للغاية في كل من الرياضيات البحتة والتطبيقية، وبصفة خاصة في الفيزياء والعلوم الهندسية.
16
فيما يخص أهدافنا هنا، الصيغة ذات الصلة هي صيغة
أو «غير اللابلاسية» للمعادلة الموجية، التي (معلومة إضافية) تبدو على النحو التالي:
المتسلسلات المثلثية:
كان ينبغي على الأرجح تناولها في مسرد المصطلحات الأول، وهي بالأساس متسلسلة حدودها مكتوبة على صورة نسب الجيب وجيب التمام
17
لزوايا متنوعة. وتكون الصيغة العامة عادة شيئا من قبيل . تلعب المتسلسلات المثلثية دورا رئيسيا في موضوعنا، ليس فقط لأنها تشمل متسلسلة فورييه كأحد أنواعها الفرعية،
18
ولكن أيضا لأن بعض الدوال المهمة للغاية يمكن تمثيلها بواسطة المتسلسلات المثلثية وكذلك المعادلات التفاضلية الجزئية. وتقع الصلة بين المعادلات التفاضلية الجزئية والمتسلسلات المثلثية في صميم تعريف الدالة. وفي الواقع، فإن تعريف الدالة في الرياضيات الحديثة، الذي يختلف عن التعريف الوارد لها في مسرد المصطلحات الأول في تحديد أن العلاقة بين كل
و
الخاصة بها يمكن أن تكون اختيارية تماما، دون الحاجة إلى قاعدة أو حتى تفسير
19
هو نتاج جهود بحثية مضنية على العلاقات بين الدوال، وتمثيلها على صورة متسلسلات.
التقارب المنتظم والمعلومات الفرعية المرتبطة به (أ-ه):
تتضمن هذه العناصر التعريفات الواردة في مسرد المصطلحات الأول لمصطلحي الفترة والدالة المتصلة، وكذلك الجزء المتعلق بتقارب متسلسلة من الدوال في الجزء الخاص بكوشي - المعادلات التفاضلية (ب) - أعلاه. بالإضافة إلى كون هذا المصطلح ضروريا لفهم بعض النتائج الكبرى السابقة على كانتور التي سوف نتحدث عنها في أجزاء لاحقة، فإنه سوف يعطيك فكرة عما اتسم به التحليل في القرن التاسع عشر من تجريد متقلب حقا. (أ)
التعريف الأساسي: تكون متسلسلة من الدوال المتصلة في متغير ما
على فترة ما
منتظمة التقارب إذا كانت تتقارب عند كل قيمة من قيم
بين
و . هناك أيضا معلومة متداولة بأن «بواقي»
20
المتسلسلة التي يجب أن تكون صغيرة على نحو غير متناه بما يتيح لنا تخطيها. وجوهر الموضوع هو أن مجموع المتسلسلة المتقاربة المنتظمة التقارب سوف يكون في حد ذاته دالة متصلة في
على الفترة . (ب)
وكما أنه ليست كل متسلسلة متقاربة، فإن كل متسلسلة متقاربة لا تكون بالضرورة منتظمة التقارب. وبالمثل، ليس جميع المتسلسلات المتقاربة رتيبة (مطردة)، وهو ما يعني بصفة أساسية أنها تتغير في الاتجاه نفسه دائما. مثال على المتسلسلة الرتيبة النقصان: الثنائي .
21 (ج)
من الأمور المتعلقة بتقارب متسلسلة على فترة معطاة
مسألة أن دالة ما
تكون متصلة قطاعيا على فترة معطاة،
وهو ما نحصل عليه عند إمكانية تقسيم
إلى عدد محدود من الفترات الجزئية، بحيث تكون
متصلة على كل فترة جزئية على حدة وتكون لها نهاية محددة عند كل نقطة نهاية دنيا (= ) وعليا (= ). (لاحظ هنا أن كلمة «قطاعي» يمكن أيضا أن تعدل (تحدد) كلمة رتيبة)،
22
بمعنى أن بعض المتسلسلات الرتيبة - وليس جميعها - تكون رتيبة قطاعيا، وهذه معلومة عابرة سوف تحتاج إليها في الجزء 5(د). (د)
لأسباب معقدة، إذا كانت دالة ما متصلة قطاعيا، فسوف يكون لها عدد محدود فقط من نقاط عدم الاتصال في الفترة
المعرفة عليها. ولفهم الفكرة جيدا، فإن عدم الاتصال ما هو إلا نقطة
23
تكون الدالة
عندها غير متصلة. مثال: من الواضح أن دالة فورييه غير الكاملة
سوف تكون لها نقاط عدم اتصال عند أي قيمة من قيم
تجعل
يساوي . يوجد العديد من الأنواع الفرعية المختلفة لنقاط عدم الاتصال، وهي حقيقة سوف نتجاهلها غالبا. وفيما يخص التمثيلات البيانية، فإن عدم الاتصال عبارة عن نقطة لا يكون المنحنى عندها أملس، أي حيث يرتفع أو ينخفض فجأة، أو حتى حيث يوجد فراغ. لاحظ أيضا تنقيحا دلاليا بسيطا: بما أن المصطلح «نقطة عدم الاتصال» يمكن أيضا أن يشير - حسب التجريد من المستوى الثاني - إلى الشرط العام لكون شيء ما غير متصل، فإن المصطلح «نقطة استثنائية» يستخدم أحيانا للإشارة إلى نقطة محددة يوجد عندها عدم اتصال. ولب الموضوع هنا أن التحليل يميل إلى استخدام «نقطة عدم الاتصال» و«النقطة الاستثنائية» بالتبادل. (ه)
أخيرا: يبدو مصطلح «التقارب المنتظم» مشابها على نحو خادع لمصطلح «التقارب المطلق»، وفي الواقع فإنهما مصطلحان مختلفان تماما في الرياضيات. يمكن أن تحتوي متسلسلة غير منتهية متقاربة
على حدود سالبة (مثل متسلسلة جراندي من الجزء 3(أ)). إذا أصبح أي من أو جميع الحدود السالبة للمتسلسلة
موجبة (أي: إذا سمح فقط بالقيم المطلقة للحدود) وظلت
متقاربة، فإنها تكون إذن «متقاربة مطلقا»، وإلا فستكون «متقاربة شرطيا».
نهاية «مسرد المصطلحات الثاني»
الجزء 5(ب)
المغزى العام في غالبية محتوى الجزء 5 حتى الآن: شهد القرن الثامن عشر تداولا لأفكار مهمة، ولكنها غير مدعومة بالأدلة عن الدوال والدوال المتصلة والدوال المتقاربة وغيرها، وخضعت تعريفاتها وخصائصها المختلفة لتغيير وتنقيح مستمرين مع معالجة التحليل لمسائل متنوعة. وكما ذكرنا من قبل، وكما كان الحال تماما في القرن السابع عشر، فإن الكثير من هذه المسائل كانت علمية فيزيائية. وفيما يلي بعض المسائل الكبرى في القرن الثامن عشر: سلوك السلاسل المرنة المعلقة بين نقطتين (وهو ما يعرف أيضا ب «مسائل منحنى السلسلة»)، وحركة نقطة على طول منحنيات الهبوط (= «المنحنى الأسرع هبوطا/الأقصر زمنا»)، وحزم مرنة تحت تأثير الشد، وحركة بندول في وسائط مقاومة، والأشكال التي يتخذها شراع تحت تأثير ضغط الرياح (= «فلاريا») ومدارات الكواكب فيما بينها، والمنحنيات الكاوية في علم البصريات، وتحركات البوصلة الثابتة على كرة (= الخطوط الثابتة المتوازية مع خطوط الطول). فيما يخص أهدافنا هنا، أهمها جميعا هي مسألة «الوتر المهتز» الشهيرة، التي ترجع في بعض جوانبها إلى اكتشافات فيثاغورس بشأن السلم الموسيقي الثنائي النغمات في الجزء 2(أ). تتمثل مسألة «الوتر المهتز» العامة فيما يلي: بمعلومية طول وتر مشدود بشكل مستعرض، وموضعه الابتدائي، وشده، احسب حركته عند تحريره ليبدأ في الاهتزاز. ستكون هذه الحركة عبارة عن منحنيات، وهو ما يمكن أن نسميه أيضا دوال.
السبب في أن مسألة الوتر المهتز تعد غالبا إحدى الركائز الأساسية في رياضيات السنة الثانية بالجامعة هو أنها تعد أول تطبيق حقيقي للمعادلات التفاضلية الجزئية في مسألة تخص الفيزياء. وإليكم لمحة تاريخية عن هذا الموضوع. في فترة الأربعينيات من القرن الثامن عشر، اقترح جيه إل آر دالمبير ما هو في الأساس معادلة موجية في بعد واحد لتكون التمثيل الصحيح لمسألة الوتر المهتز، معطيا
24
الحل العام
حيث
هي نقطة على وتر طوله
و
هي الإزاحة المستعرضة ل
عند الزمن
و
ثابت،
25
وكل من
و
دالتان تحددان عن طريق الشروط الابتدائية. وكان موضع الخلاف المثير للجدل هو النطاق المسموح به لكل من
و . واتضح أن حل دالمبير لا يكون صحيحا إلا عندما يكون «المنحنى الابتدائي» للوتر (وهو طريقة تمديده في البداية) هو في حد ذاته دالة دورية. وهذا يضع قيدا كبيرا على تمديده، في حين أن الرياضيات والعلوم في حاجة بالطبع إلى حلول عامة تماما، ومن ثم بدأت الشخصيات الرئيسية الفاعلة أمثال إل أويلر ودي بيرنولي وجيه إل لاغرانج وبي إس لابلاس ودالمبير
26
الجدال بشدة بعضهم مع بعض حول ما إذا كان يمكن جعل التمديد الابتدائي للوتر على هيئة منحنى أو دالة بأية حال، ويظل تطبيق المعادلة الموجية ممكنا، وكيف يمكن ذلك. مختصر القول إنهم توصلوا في النهاية إلى إجماع آراء بأن المنحنيات ستكون دوال دورية، وتحديدا موجات جيبية. ومن هنا، لأسباب معقدة، استنتج أنه مهما يكن شكل تمديد الوتر في البداية - بمعنى أي منحنى متصل على أية حال - فسيكون من الممكن تمثيل هذا المنحنى بواسطة متسلسلة مثلثية.
بإيجاز: أدى الخلاف حول مسألة الوتر المهتز إلى ظهور قدر كبير جدا من الاكتشافات المهمة والعظيمة حول طبيعة الدوال، والمعادلات التفاضلية، والمتسلسلات المثلثية، والعلاقات بينها. والاكتشاف المهم في موضوعنا هنا هو فكرة أن أي دالة متصلة
27
يمكن تمثيلها على صورة متسلسلة مثلثية. بدأ أويلر أولا، ثم دالمبير وجيه إل لاغرانج وأيه سي كليروت، في استنتاج طرق لتمثيل «دوال اختيارية» على صورة متسلسلات مثلثية. ولكن المشكلة أن هذه الطرق كانت دائما ما تستنتج وتطبق فيما يخص مسألة فيزياء معينة أو أخرى، ثم يزعم أن حل هذه المسألة هو تفسير الطريقة. لم يستطع أحد إثبات فكرة تمثيل الدالة على صورة متسلسلة مثلثية بوصفها نظرية مجردة. واستمر الحال على هذا النحو حتى نهاية القرن الثامن عشر تقريبا.
والآن نحن في بداية القرن التاسع عشر ، الذي بدأ خلاله كوشي والنرويجي إن إتش أبيل،
28
أبحاثا مهمة عن تقارب المتسلسلات، وهي الأبحاث التي برزت أهميتها على نحو أكبر عام 1822. ففي هذا العام، أوضح البارون الفرنسي جيه بي جيه فورييه
29 (1768-1830)، الذي كان يعمل على مسائل في قابلية التوصيل الحراري في الفلزات، في كتابه «النظرية التحليلية للحرارة» أن قابلية التمثيل بواسطة متسلسلة مثلثية يمكن في الواقع إثباتها لكل من الدوال
30
المتصلة وغير المتصلة، وحتى للمنحنيات «المرسومة رسما حرا». كان شرح فورييه شديد التخصص بما جعله عصيا على الفهم، ولكن ما فعله بالأساس أنه استغل العلاقة بين مجموع متسلسلة وتكامل دالة: لقد أدرك أن قابلية تمثيل الدوال الاختيارية تماما بواسطة متسلسلات يتطلب إهمال النظرية الأساسية لحساب التفاضل والتكامل وتعريف التكامل هندسيا
31
بدلا من مجرد أنه عكس التفاضل.
نظرا إلى أن العديد من الفصول الدراسية تدرس متسلسلات فورييه دون إعطاء لمحة عن تاريخ الرياضيات آنذاك، فمن الجيد أن نذكر على الأقل أن فورييه بدأ بمعادلة تفاضلية جزئية من الرتبة الثانية لانتشار الحرارة في جسم أحادي البعد، ،
32
حيث
هي درجة حرارة نقطة ما
عند الزمن ، التي استخدم بعدها أسلوبا قياسيا للمعادلات التفاضلية يسمى «فصل المتغيرات»، بالإضافة إلى الشرط الابتدائي أن ، لاستنتاج تلك المتسلسلة المثلثية الخاصة جدا المعروفة الآن بمتسلسلة فورييه، التي صيغتها معروضة في المثال 5(ب):
المثال 5(ب)
حيث
إن متسلسلة فورييه هذه قريبة جدا في واقع الأمر مما اقترحه دي برنولي كحل لمسألة الوتر المهتز من قبل في خمسينيات القرن الثامن عشر، باستثناء أن فورييه استطاع أن يحسب معاملات
33
المتسلسلة لجميع القيم بين
و . في حالة ، على سبيل المثال، - أي إنك إذا أجريت التكامل لكل حد على حدة، فإن المعاملات
سوف تكون
مضروبا في المساحة تحت المنحنى ( ) في الفترة بين
و . مع إمكانية إجراء عمليات حسابية مماثلة لكل من
و .
وعليه، فإن الفكرة هنا أنه، من خلال صيغة معاملات فورييه هذه، كل دالة وحيدة القيمة يمكن تصورها - سواء أكانت جبرية أو متسامية أو متصلة أو حتى غير متصلة
34 - تصبح قابلة للتمثيل بمتسلسلة مثلثية من نوع متسلسلات فورييه على الفترة . تتوفر في هذا الأسلوب كل المميزات ومواطن القوة الرائعة (التي طورها فورييه في الأساس لإعطاء حل عام لمعادلة الانتشار (وهو ما قدمه حقا)). مثال على ذلك: أتاح فهم التكامل هندسيا وتصور الدالة بمعلومية قيمها بدلا من صيغتها التحليلية،
35
أتاح لفورييه افتراض إمكانية تمثيل الدوال على صورة متسلسلات على فترات محدودة فقط، وهو ما يعد خطوة تقدم أساسية في مرونة التحليل خلال القرن التاسع عشر.
وفي الوقت نفسه، فإن متسلسلات فورييه على الرغم من ذلك تعد غالبا عودة إلى بدايات حساب التفاضل والتكامل فيما يتعلق بالفاعلية العملية مقابل الدقة الاستنتاجية. وأصبحت متسلسلة فورييه، لا سيما عندما نقحها إس دي بواسو في عشرينيات القرن التاسع عشر، الطريقة الأولى لحل المعادلات التفاضلية الجزئية، التي هي - كما ذكرنا سابقا - المفتاح الذهبي للفيزياء الرياضية والديناميكا والفلك وغيرها، ومن ثم فقد أحدثت طفرة هائلة في الرياضيات والعلوم مجددا. لكنها أيضا تفتقر إلى أساس ثابت؛ فلا يوجد ما يسمى بنظرية دقيقة عن متسلسلة فورييه. وكما جاء على لسان أحد مؤرخي الرياضيات، فإن أساليب فورييه «أثارت من الأسئلة ما يفوق مستوى اهتمامه بالإجابة عنها أو قدرته على حلها.» من الصائب أيضا أن «النظرية التحليلية للحرارة» تنص، ولكنها لا تبرهن، على أن دالة «اختيارية تماما» يمكن تمثيلها بواسطة متسلسلة، كالموضحة في المثال 5(ب)، كما أنها لا توضح الشروط المحددة التي يجب أن تحققها الدالة حتى يمكن تمثيلها على هذا النحو. بل والأهم من ذلك أن فورييه زعم أن متسلسلته المسماة باسمه دائما ما تكون متقاربة على فترة ما بغض النظر عن ماهية الدالة أو حتى إمكانية كتابتها على صورة دالة مفردة « »، وعلى الرغم من أن لهذا تأثيراته المهمة على نظرية الدوال، فلا يوجد برهان أو حتى اختبار لصحة ما زعمه بشأن التقارب الدائم. (معلومة إضافية: كانت هناك مسألة مماثلة تتضمن تكاملات فورييه، التي كل ما يجب أن نعرفه عنها هو أنها أنواع خاصة من حلول «الأشكال المغلقة» للمعادلات التفاضلية الجزئية التي يزعم فورييه - مرة أخرى - أنها تصلح لأي دوال اختيارية، والتي يبدو بالفعل أنها تصلح، أي إنها جيدة بوجه خاص لمسائل الفيزياء. ولكن لم يستطع فورييه ولا غيره في بدايات العقد الثالث من القرن التاسع عشر إثبات أن تكاملات فورييه تصلح لكل الدوال على الصورة ؛ وذلك جزئيا لأنه لا يزال هناك التباس شديد في الرياضيات حول كيفية تعريف التكامل ... ولكن، على أية حال، فإن السبب الذي يجعلنا نأتي على ذكر مسألة تكاملات فورييه هو أن أبحاث أيه إل كوشي عنها قادته إلى «دقة التحليل» وهو أمر ينسب إليه الفضل فيه، وجزء من هذه الدقة يشمل تعريف التكامل على أنه «نهاية مجموع» لكن معظمها (= معظم الدقة) يخص مسائل التقارب المذكورة في النقطة (ب) والجزء التكميلي السريع الذي تضمنه جزء المعادلات التفاضلية في مسرد المصطلحات الثاني، وتحديدا كما في تلك المسائل المتعلقة بمتسلسلة فورييه.)
36
يوجد أسلوب آخر لتوضيح الصعوبة العامة. كان لدى فورييه (إلى حد ما مثل لايبنتس وبولزانو) أسلوب هندسي بالأساس لفهم الأشياء، وكان مولعا بالإثباتات الهندسية لا بالبراهين الشكلية. في العديد من الجوانب، يعد هذا امتدادا لحساب التفاضل والتكامل الكلاسيكي واتجاه التفكير الذي يرى أن النتائج أهم من البراهين في العقد الأول من القرن الثامن عشر. لكن إمكانية الدفاع عن هذا النهج في تراجع الآن. فقد كان عشرينيات القرن التاسع عشر لفورييه هو العقد الذي اكتشفت فيه أول الهندسيات غير الإقليدية (التي اعتمدت بصفة أساسية على اكتشاف أن مسلمة توازي العناصر
37
غير ضرورية ويمكن الاستغناء عنها)، الذي أصبحت فيه فكرة أن الهندسة يمكن أن تكون أي نوع من الأساسيات الثابتة الأحادية المعنى لأي شيء منافية للعقل وغير منطقية رسميا. من القضايا ذات الصلة أن علماء الرياضيات من نيوتن إلى أويلر وصولا إلى سي إف جاوس قد واجهوا مشكلة متناقضة مريعة في استخدام المتسلسلات دون الاهتمام بالتقارب في مقابل التباعد،
38
وساعدت تأكيدات فورييه وكوشي على التقارب في فترات على كشف إلى أي مدى كان التحليل يفتقر إلى الدقة فيما يخص المتسلسلات. وكانت المحصلة النهائية هي بدء إجراء تصحيحي في حالة عدم التيقن المحيطة بالتحليل، أو كما عرضه إم كلاين، «بدأ علماء الرياضيات يقلقون بشأن عدم دقة المفاهيم والبراهين الخاصة بفروع التحليل الواسعة.» وشهدت عشرينيات القرن التاسع عشر بداية إطلاق تصريحات من قبيل تصريح كوشي «سيكون من الخطأ الجسيم أن تعتقد أن المرء لا يمكنه العثور على اليقين إلا في الإثباتات الهندسية أو في شهادة الحواس.» وتصريح أبيل «قليل جدا من النظريات في التحليل المتقدم جرت برهنتها بأسلوب سليم منطقيا. ويجد المرء في كل مكان هذه الطريقة البالية للتوصل من الخاص إلى العام.»
39
التي أصبحت فيما بعد مقولة شهيرة عن خفض النفقات في العقد الأول من القرن التاسع عشر بنفس شهرة مقولة دالمبير: «فقط استمر في المضي قدما.» عن سياسة الحرية الاقتصادية في القرن الثامن عشر.
الفكرة العامة: إلى جانب سقوط إقليدس، كانت قضايا الدوال الاختيارية والتقارب التي أثارتها «متسلسلة فورييه» هي ما حدا بعلماء الرياضيات في هذا العصر إلى إدراك أن المفاهيم الأصغر مثل «مشتقة» و«تكامل» و«دالة» و«متصل» و«متقارب» يجب تعريفها بدقة، حيث تعني «بدقة» هنا تأسيس التحليل على البراهين الشكلية والمنطق الحسابي بدلا من الهندسة أو الحدس، أو الاستنتاج من مسائل بعينها.
وذلك باستثناء أن كلمة «حسابي» تعني بدورها نظام الأعداد الحقيقية، الذي في ذلك الوقت كان لا يزال في حد ذاته فوضى غير قائمة على أساس. كانت هناك، على سبيل المثال، مشاكل كبيرة مع الأعداد السالبة؛ إذ كان أويلر مقتنعا أن الأعداد السالبة هي في الواقع ، أي إنها يجب أن تكون على طول الجانب الأيمن على خط الأعداد، وفي أربعينيات القرن التاسع عشر رأى أيه دي مورجان أن الأعداد السالبة كانت «تخيلية» مثلها تماما مثل ، ودعونا لا نتحدث حتى عن اللغط الذي أثير حول الأعداد المركبة. ومع ذلك، كانت المشكلة الأسوأ أن مفهوم الجذر بالنسبة إلى «العدد الحقيقي» كان في حد ذاته غير واضح؛ لأن الأعداد غير النسبية كانت لا تزال غير معرفة. إذا كنت لا تستطيع تعريف أعداد مثل
أو
بطريقة متسقة، فإنك لا تستطيع إثبات أي من قوانين الحساب الأساسية المتعلقة بها، كأن تثبت - على سبيل المثال - أن .
40
هذا ليس جيدا من حيث الدقة. يوجد قدر معين من الأعمال الجانبية القيمة في هذه الفترة عن الأعداد غير النسبية المتسامية مقابل الجبرية،
41
ولكن في الغالب كان نظام الأعداد الحقيقية الذي يسعى الجميع جاهدين إلى اتخاذه أساسا للتحليل هو في حد ذاته معلق في الهواء بلا أساس، وذلك من الناحية المنطقية.
الجزء 5(ج)
جزء تكميلي يتضمن أخبارا طريفة، لن نتطرق إليها بعد الآن؛ منعا للإخلال بالزخم الهائل للواقع الرياضي ما قبل كانتور
يوجد العديد من الصور الحية لجي إف إل بي كانتور في الكتب، والتي نأمل أن نستطيع رصد واحدة منها على الأقل وإعادة نسخها هنا في موضع ما. كان كانتور ألمانيا برجوازيا ذا مظهر عادي يرجع إلى عصر الياقات المنشاة واللحى القابلة للاشتعال (لاحظ، في صور العائلة، الصدرية وساعة الجيب التي تتدلى منها سلسلة تنم عن الوجاهة، وضفائر الزوجة وملابسها ذات الحشوة التي ترفع مؤخرة الثوب، والملامح الهادئة أو الشاردة للغاية للرجل الفيكتوري النموذجي. وفي الولايات المتحدة، كان يضع قبعة).
هذه الصورة ينقصها الضفائر وساعة الجيب ذات السلسلة الفخمة، ولكنك فهمت الفكرة.
حوالي عام 1940، ذكر مؤرخو رياضيات بارزون ينتمون إلى الحزب الاشتراكي الوطني أن جي إف إل بي كانتور كان لقيطا، حيث ولد على متن سفينة ألمانية في طريقها إلى ميناء سان بطرسبرج وعثر عليه هناك، والداه غير معلومين. وهو ما كان محض خيال. وكان الألمان قلقين فيما يبدو من أن كانتور ربما يكون يهوديا؛ فقد كان وقتئذ واحدا من أعظم المفكرين على الإطلاق في ألمانيا. ولا تزال قصة كونه لقيطا تتداول أحيانا؛ فهي تتماشى مع بعض قوالبنا النمطية تماما كما مع النازيين. وثمة قصة أخرى كبيرة عن أن كانتور قد استنتج العديد من أشهر براهينه عن اللانهائية أثناء وجوده في إحدى المصحات، وهو ما يعد أيضا محض هراء. فقد كانت أول مرة يدخل فيها كانتور المستشفى عام 1884، عندما كان عمره 39 عاما، وكان وقتها قد أنجز بالفعل معظم أعماله المهمة. ولم يدخل المستشفى مرة أخرى حتى عام 1899. وكان ذلك في العشرين عاما الأخيرة من حياته حيث كان دائم التردد على المستشفيات والخروج منها. وتوفي في مستشفى هاله للأمراض العقلية في 6 يناير 1918.
كان منزل عائلة كانتور الكائن في شارع هاندلشتراس يشهد إقامات لفترات وجيزة أثناء الحرب العالمية الثانية. ولا يوجد دليل على أن النازيين كانوا يعرفون مالكي هذا المنزل. ومع ذلك، كان من الواضح أن الأجزاء الرئيسية من تركة كانتور الأدبية قد سرقت أو حرقت. وكان معظم ما ترك موجودا في أكاديمية العلوم بمدينة جوتينجن ومتاحة للقراءة والاطلاع من خلف الزجاج. والخطابات العائلية وسلاسل النسب وغيرها. وما زال يوجد أيضا القليل من سجلات الرسائل الخاصة بكانتور، التي كان يستخدمها الأشخاص المتعلمون آنذاك لكتابة مسودات بالرسائل قبل نسخها بعناية استعدادا لإرسالها. وذلك بالإضافة إلى وجود علماء رياضيات آخرين كتب إليهم وكانوا لا يزالون يحتفظون برسائله. وهذه هي المصادر الرئيسية.
رسم بالقلم الرصاص مشار إليه بعد فقرتين أدناه، ولا أدري تماما لماذا يضعونه هنا.
فيما يلي اقتباس على لسان جيه دبليو دوبين، عميد تلامذة كانتور في الولايات المتحدة: «لم يبق إلا قدر ضئيل للغاية من المعلومات بما لا يتيح أي مجال لتقديم تقييم مفصل حول شخصية كانتور، وهو ما يدفع المؤرخ إما إلى التزام الصمت المطبق إزاء الموضوع أو الاجتهاد في التخمين قدر استطاعته.» وجل التعليقات المنشورة يخص والد كانتور، السيد جورج دبليو كانتور، وتحديدا القضية الحديثة الكبرى حول ما إذا كان «جورج فولديمار له تأثير ضار وهدام تماما على صحة ابنه النفسية»
42
أم أن جورج دبليو كان حقا «رجلا حساسا وموهوبا، محبا لأبنائه بشدة، وأراد لهم أن يحيوا حياة سعيدة وناجحة ومثمرة.» وفي كلتا الحالتين، من المؤكد أنه كان هناك اثنان من رجال الأعمال لهما بالغ الأثر في حياة جي إف إل بي كانتور، أحدهما كان والده والآخر كان البروفوسير ليوبلد كرونكر الذي سوف يبدأ يلوح في الأفق في الجزء 6.
كان لدى السيد جورج والسيدة حرمه ستة أبناء، وكان أولهم هو جورج الابن. وكانت الأسرة بأكملها أسرة فنية وصاحبة أداء عال: العديد من الأقارب كانوا عازفي كمان كلاسيكيين أو رسامين لهم أعمال معروضة، وكان عمه الأكبر مدير معهد كونسرفاتوار في فيينا ومدرس الفنان المبدع جوزيف خواكيم، وكان عمه الكبير أستاذ القانون الذي درس لتولستوي في جامعة كازان. ولد جي إف إل بي كانتور يوم 3 مارس 1845، برج الحوت. وكان عبقريا في عزف العود عندما كان طفلا. ولا أحد يدري سبب تركه العزف، لكن بعد حضوره فصلا دراسيا في الرباعيات الكلاسيكية في الجامعة لم يرد ذكر آخر لموضوع الكمان. كما أنه فنان يجيد رسم المناظر الطبيعية. ولا يزال يوجد له من أيام الطفولة رسم بالقلم الرصاص استثنائي تماما، ويرجع سبب شهرة هذا الرسم إلى «تصريح» غريب بما لا يقبل الجدل ومكتوب باليد اليسرى كان جورج دبليو تداوله عن الرسم، وما زال هذا التصريح نفسه موجودا؛ لأن جورج الابن احتفظ به لديه طوال حياته (وهو ما كان غريبا أيضا):
في حين أن جورج فرديناند لويس فيليب كانتور لم يقض سنوات في دراسة الرسم وفقا للنماذج القديمة، وفي حين أن هذا هو أول عمل له وفي هذا الفن الصعب لا يتحقق أسلوب متقن إلا بعد اجتهاد كبير ومثابرة، وفي حين أنه حتى الآن قد أهمل بشدة هذا الفن الجميل، فإن الوطن - أعني الأسرة - يشعرون نحوه بالامتنان بإجماع الآراء نظير عمله الأول هذا، الذي يعد فعلا مبشرا للغاية.
تتفق كل المصادر على أن جورج دبليو قد أشرف بشخصه على تنشئة أبنائه الدينية بأسلوب حازم للغاية. ولاحظ كيف يمكن بسهولة النظر إلى هذه التنشئة بمنظور عصرنا الحالي على أنها استبداد أو تعصب، في حين أنها قد تكون في الحقيقة مجرد أسلوب تنشئة مواكب للزمان والمكان آنذاك. وقد يصعب تحديد ذلك على نحو قاطع. تماما كما في حقيقة أن كانتور الأب «كان يولي اهتماما خاصا بتعليم ابنه [جورج] وكان حريصا على توجيه تطوره الشخصي والفكري.»
انتقلت الأسرة من سان بطرسبرج إلى ألمانيا الغربية عندما كان عمر جورج 11 عاما. والسبب - وفقا للمؤرخين - هو «اعتلال صحة» جورج دبليو، الذي كان في خمسينيات القرن التاسع عشر رمزا لمرض السل؛ كان تغيير مكان السكن مشابها للانتقال من شيكاغو إلى مدينة سكوتسديل. وعاشوا بصفة أساسية في فرانكفورت على نهر الراين. والتحق جورج بمدرستين إعداديتين في درامشتات وفيسبادن. ومثلما حدث على ما يبدو مع معظم علماء الرياضيات، فإن عبقرية كانتور في التحليل اكتشفت في بداية سنوات المراهقة، ولا يزال يوجد في الأكاديمية خطابات إطراء من مدرسيه في مادة الرياضيات. النسخة القياسية من القصة هي أن جورج دبليو كان يريد أن توظف ملكات جورج الابن في استخدامات عملية، وحاول إرغام الصبي على التخصص في الهندسة، وأن جورج كان مولعا بدراسة الرياضيات البحتة، وكان عليه أن يثور تارة ويستجدي تارة أخرى وهكذا، وأنه عندما نزل جورج دبليو عند رغبة ابنه في النهاية كان ذلك بأسلوب فرض ضغطا هائلا على ابنه الضعيف للإنجاز والتميز. ومرة أخرى، من غير الواضح ما إذا كانت هذه الرواية صحيحة حقا وإلى أي مدى كانت العلاقة بين الأب وابنه فريدة من نوعها.
43
أتم كانتور دراسته الجامعية في زيورخ، ثم حصل على الدرجة الألمانية المكافئة لدرجة الماجستير والدكتوراه في جامعة برلين، التي كانت في ذلك الوقت تكافئ في أوروبا «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا». وكان من بين أساتذته في برلين إي إي كومر وإل كرونكر وكيه فايرشتراس. وكان كرونكر هو الأستاذ الذي أشرف على رسالة كانتور العلمية ومعلمه الحقيقي ونصيره في القسم. وسيتجلى ما ينطوي عليه هذا من مفارقة في الجزء 6.
الجزء 5(د)
نعود الآن إلى عشرينيات القرن التاسع عشر مع فورييه والمتسلسلات المثلثية وكل التحديات والفرص المرتبطة بهذا الشأن. إذا كان شرح متسلسلات فورييه في الجزء 5(ب) وكل المعلومات المقحمة ضمن موضوع المعادلات التفاضلية في مسرد المصطلحات الثاني حول الاتصال والتقارب واضحة جزئيا، فلن تفاجأ حين تعلم أن فورييه في كتاب «النظرية التحليلية للحرارة» قدم أول تعريف حديث للتقارب بالإضافة إلى تقديم الفكرة الأساسية للتقارب في فترة ما. لكن مرة أخرى لم يستطع فورييه إعطاء برهان دقيق، أو حتى تحديد معايير التقارب التي من شأنها أن تجعل هذا البرهان ممكنا. ومن ثم، فإن الفكرة هي أننا الآن بصدد الحديث عن التقارب.
كان بولزانو،
44
وطبقا لرواية أكثر تداولا، كوشي هو من قدم أول عمل بارز عن الشروط والاختبارات الخاصة بالتقارب. وكما ذكر في موضعين بالفعل، فإن الكثير من نتائج كوشي كانت قيمة، لكنه وقع أيضا في أخطاء غريبة تسببت في مشكلات أكثر. وعلى الرغم من أن جزءا كبيرا من عمله كان ينصب على متسلسلات الدوال، على سبيل المثال، اختار كوشي أن يعرف «النهاية» بدلالة المتغيرات لا الدوال. أو ربما يوجد مثال أفضل هنا وهو الأسلوب الذي حاول به إثبات وجود تطابق كامل بين التقارب والاتصال بدلالة متتابعات/متسلسلات من الدوال. تذكر
45
أن ما ذهب إليه كوشي هو أنه إذا كانت متتابعة من الدوال المتصلة تتقارب في فترة
إلى دالة ، فإن
نفسها تكون متصلة على ، وهو ما اتضح أنه لا يكون صحيحا إلا إذا كانت المتتابعة المتقاربة تقاربا منتظما. وما حدث في هذه الحالة هو أن إن أبيل، بينما كان بصدد إثبات خطأ كوشي
46
وتعديل النظرية، قد وضع ما يسمى الآن باختبار التقارب المنتظم
47
لأبيل، مثلما وضعت تماما كل أنواع المعايير والشروط الأخرى لأنواع التقارب المختلفة لمختلف أنواع المتسلسلات المثلثية والمتسلسلات الكثيرة الحدود عندما اجتهد علماء رياضيات مختلفون في القرن التاسع عشر لتصويب أخطاء علماء رياضيات آخرين، أو لحل المسائل بطرق أفضل.
يعد جي بي إل دركليه (1805-1859)، صديق فورييه، واحدا من أبرز علماء الرياضيات في تنقيح البراهين في ذلك العصر، والذي أسهم المقال البحثي الذي نشره عام 1829 بعنوان «حول تقارب المتسلسلات المثلثية»
Sur la Convergence des Series Trigonometriques
كثيرا في توضيح وتدقيق ما بات يعرف بعد ذلك باسم «المسألة العامة لتقارب متسلسلة فورييه». يوجد العديد من التطورات المهمة في هذا البحث، مثل أن دركليه كان أول من اكتشف وميز بين التقارب المطلق والتقارب المشروط، بالإضافة إلى أنه أثبت بطلان ادعاء كوشي بأن المتسلسلة الرتيبة النقصان هي نفسها المتسلسلة المتقاربة. ومع ذلك، فالأهم هو أن دركليه في مقاله «حول التقارب» أسس وأثبت أول مجموعة من الشروط الكافية
48
لكي تتقارب متسلسلة فورييه إلى دالتها الأصلية .
هذه النتيجة الأخيرة وثيقة الصلة بالموضوع وتستحق بعض التفاصيل. استخدم دركليه دالة دورية
على الفترة
وأثبت بصفة أساسية أنه (1) إذا كانت متسلسلة فورييه لهذه الدالة الدورية متصلة قطاعيا؛ ومن ثم لها عدد محدود فقط من نقاط عدم الاتصال
49
في هذه الفترة، و(2) إذا كانت المتسلسلة رتيبة قطاعيا، فإن (3) المتسلسلة سوف تتقارب دائما إلى ، حتى إذا كانت تلك الدالة تتطلب أكثر من نوع من الصيغة « » لتمثيلها على الفترة.
يوجد شرط واحد إضافي، أثبته أيضا دركليه. يجب أن تكون الدالة
قابلة للتكامل؛ أي إن
يجب أن يكون محدودا؛ ذلك بالأساس لأن معاملات فورييه للمتسلسلة ذات الصلة تحسب على أنها تكاملات، ويجب أن تكون هذه المعاملات «معرفة جيدا» (وتلك قصة طويلة). وكمثال على هذه الدالة غير القابلة للتكامل؛ ومن ثم لا يمكن تمثيلها بواسطة متسلسلة فورييه المعرفة جيدا، ابتكر دركليه دالة باثولوجية
قيمها تساوي الثابت
عندما يكون
عددا نسبيا، لكنه يساوي الثابت (حيث ) عندما يكون
عددا غير نسبي، وتكون بذلك فعلا دالة غير قابلة للتكامل. وهذه الدالة الباثولوجية
هي غالبا التي قادت دركليه، بعد ثماني سنوات،
50
إلى تعريف «الدالة» الذي ما زال مستخدما في الرياضيات الحديثة: «تكون
دالة في
عندما يكون لكل قيمة من قيم
في فترة معطاة قيمة فريدة ل
مناظرة لها». وجوهر الموضوع أن التناظر يمكن أن يكون اختياريا تماما؛ فلا يهم ما إذا كان اعتماد
على
يتفق مع أي قاعدة معينة، أو حتى ما إذا كان يمكن التعبير عنه رياضيا.
51
يبدو هذا غريبا، ولكنه في الواقع دقيق تماما من وجهة نظر الرياضيات، حيث إن الاختيارية هنا تقتضي العمومية القصوى، وهو ما يعرف أيضا بالتجريد. (في الواقع، تعريف دركليه قريب جدا أيضا من فكرة بولزانو وكانتور عن التناظر الأحادي بين مجموعتين من الأعداد الحقيقية، إلا أن «المجموعة» و«العدد الحقيقي» لم يكن بالطبع قد جرى تعريفهما بعد في الرياضيات).
في مقاله عام 1837، استطاع دركليه أيضا توضيح أنك تستطيع تخفيف شرط الرتابة (2)، بل والسماح بعدد أكبر من نقاط عدم الاتصال (1) في برهانه عام 1829، وما زال يضمن تقارب متسلسلة فورييه إلى دالتها القابلة للتكامل ... ما دام عدد نقاط عدم الاتصال في (1) ما زال محدودا. ومع ذلك، هذا لا يشبه برهنة تقارب متسلسلة فورييه لأي
اختيارية، لا سيما عندما تحاول تطبيق مبدأ فورييه على الدوال الصعبة وغير المتصلة غالبا للتحليل والبحث ونظرية الأعداد.
52
وفيما يخص هذه الدوال المعقدة، كان السؤال الذي لم يستطع دركليه الإجابة عنه أبدا هو ما إذا كان يمكن تخفيف المعيار (1) في برهانه للسماح بعدد لا نهائي
53
من نقاط عدم الاتصال في الفترة؛ على أن يظل المعيار يمثل شرطا كافيا للتقارب.
يدخل الصورة الآن جي إف بي ريمان (1826-1866، عملاق الرياضيات البحتة الذي أحدث ثورة في كل شيء؛ بدءا من الدوال، إلى نظرية الأعداد، وصولا إلى الهندسة،
54
وكان المنافس المهم الوحيد لكانتور من بين علماء الرياضيات في ذاك القرن، وإن يكن لفترة وجيزة وفي دور انتقالي غالبا. كان ريمان يكبر كانتور بعشرين عاما، ومن ثم كان تلميذ دركليه في جامعة برلين، وكذلك كان صديق آر ديديكند.
55
وفي بحث رائد عام 1854،
56
شرع ريمان في تناول المسألة العامة لتقارب متسلسلة فورييه بأسلوب جديد تماما. فمن خلال تركيزه على الشرط القائل بأن
يجب أن تكون قابلة للتكامل لكي يمكن تمثيلها بواسطة متسلسلة فوررييه، استنتج الشروط العامة التي يجب أن تحققها أي دالة لكي يكون لها تكامل، وأصبحت هذه الشروط في نهاية المطاف مهمة لكل من نظرية التكامل الخاصة بالتحليل للتكامل ولتقارب المتسلسلات. وكونها «شروطا عامة يجب أن تحققها أي دالة» يعني في جوهر الأمر أنها شروط ضرورية، في حين أنك تذكر أن برهان دركليه عام 1829 كان يتضمن شروطا كافية. واستطاع ريمان عن طريق عكس أسلوب أستاذه والتركيز على الشروط الضرورية للتقارب؛ أن يحل مشكلة دركليه الكبرى: أنشأ دالة لها عدد لا نهائي من نقاط عدم الاتصال في كل فترة، ولكنها مع ذلك قابلة للتكامل ومتقاربة 100٪ عند كل نقطة.
57
وترتب على هذه النتيجة ما يعرف ب «نظرية التوطين» لريمان، التي تنص على أن تقارب متسلسلة مثلثية عند نقطة ما لا يعتمد إلا على سلوك دالتها
ذات الصلة
في جوار
58
صغير على نحو اختياري لتلك النقطة. وهذا «الجوار الصغير على نحو اختياري» هو ما يؤكد في النهاية صحة ادعاءات فورييه ودركليه عن تمثيل المتسلسلات لدوال اختيارية تماما: فمن خلال نظرية التوطين، يمكن تمثيل الدوال الباثولوجية أو حتى الدوال غير المتصلة بدرجة كبيرة؛ بواسطة متسلسلات مثلثية، وبواسطة متسلسلة فورييه إذا كانت هذه الدوال قابلة للتكامل.
كما يحدث غالبا، مع أن أبحاث ريمان كانت تجيب عن أسئلة طرحت في السابق، فقد أثارت أيضا في الوقت نفسه أسئلة جديدة، وهذه الأسئلة هي في النهاية ما جعل بحثه لعام 1854 مهما للغاية. مثال: إحدى النتائج المتضمنة في «نظرية التوطين» أنه يمكن تمثيل دالتين مختلفتين قابلتين للتكامل بواسطة نفس المتسلسلة المثلثية حتى لو كانتا تختلفان عند عدد كبير - ولكنه محدود - من النقاط، فهل يمكن بأية حال الحصول على نفس النتيجة لدالتين تختلفان عند عدد لا نهائي من النقاط؟ تساؤلات أخرى مهمة: ما هي بالضبط خصائص المتسلسلات المثلثية التي يسمح لها أن تكون متقاربة حتى مع وجود عدد لا نهائي من النقاط الاستثنائية في كل فترة؟ ما هي بالضبط علاقة الاتصال والفترات والجوار فيما يخص
بنظرية المتسلسلات المثلثية؟ وهل كل متسلسلة مثلثية هي متسلسلة فورييه (أي: هل كل متسلسلة مثلثية تتقارب إلى دالة قابلة للتكامل؟) وإذا كان يمكن تمثيل أكثر من دالة بنفس المتسلسلة المثلثية، فهل العكس صحيح؟ أو هل لكل دالة
فريدة تمثيل فريد بمتسلسلة مثلثية وحيدة؟
59
بعد أبحاث ريمان، كان البرنامج البحثي المهم التالي لعلماء الرياضيات البحتة بصدد التفكير في الأساليب اللازمة لحل المشاكل التي طرحت، ولا سيما التحدي الخاص بوضع أسس دقيقة لتلك الأساليب، بدلا من الحدس الاستقرائي أو الديني الذي كثيرا ما تميز به التحليل في الماضي. لاحظ أن التركيز على الدقة أو الأسس يعزى جزئيا إلى أن دوال ريمان المجردة تماما قد أخرجت في النهاية متسلسلة فورييه من الرياضيات التطبيقية في مجال الفيزياء وأدخلتها في الرياضيات العليا في حد ذاتها. لكن بالإضافة إلى أننا بالطبع الآن في خمسينيات القرن التاسع عشر والحاجة إلى الدقة (كما سبق أن ناقشنا في عشرينيات القرن التاسع عشر في الجزء 5(ب)) أمرا أكثر إلحاحا بصفة عامة. ففي الواقع، استغرق الأمر عدة عقود، ولكن ازدهار أسلوب التبرير بالنتائج قد أفسح الآن المجال تماما أمام اقتصاد أكثر انكماشا يطبق أسلوب «البرهنة في حينها» لما أسماه جميع مؤرخي الرياضيات «حوسبة التحليل».
الجزء 5(ه)
الشخصية الرئيسية في هذه المرحلة هو كارل فايرشتراس (1815-1897)، الذي يمكن الآن الكشف عنه بوصفه واحدا من أبطال الاقتباس الذي جاء على لسان بي راسل عن مفارقات زينون في الجزء 2(أ). وفيما يلي بقية الاقتباس:
60
من زمنه [زمن زينون] حتى يومنا هذا، شرع أنبه المفكرين من كل جيل في دراسة المسائل، ولكنهم - بوجه عام - لم يحققوا شيئا. ومع ذلك، في زماننا هذا، كان هناك ثلاثة رجال - هم فايرشتراس وديديكند وكانتور - لم يطوروا المسائل فحسب ولكنهم حلوها تماما. وجاءت حلول علماء الرياضيات النابغين هؤلاء واضحة جدا بما لا يدع مجالا للشك أو الصعوبة ... ومن بين المسائل الثلاث، كانت مسألة المتناهي في الصغر من نصيب فايرشتراس الذي حلها، بينما كان ديديكند هو من بدأ حل المسألتين الأخريين وأنجزهما كانتور بشكل حاسم.
لم يسلك فايرشتراس مباشرة نفس الاتجاه الأكاديمي لكل من فورييه وكوشي ودركليه وريمان، وحتى أصبح في الأربعينيات من عمره، كان غامضا وملتبسا بنفس النهج الذي كان عليه بولزانو. وقضى السنوات الأولى من حياته المهنية في التدريس في المدارس الثانوية في بروسيا الغربية (ليس مركزا بالضبط)،
61
وقد قال حرفيا إنه فقير جدا لدرجة أنه لا يقوى على تحمل أجرة بريد إرسال أبحاثه إلى الدوريات العلمية. ولكنه شرع في نشرها في النهاية في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر وأحدث ثورة في الرياضيات ككل . وقد عين أستاذا في جامعة برلين المرموقة، وتلك قصة طويلة ومن النوع الرومانسي. (معلومة إضافية: كان فايرشتراس أيضا مشهورا وسط علماء الرياضيات بأنه ضخم البنية، ورياضي موهوب، وحزبي مخضرم، ومتفوق في الكلية، وغير مكترث بالموسيقى (أغلب علماء الرياضيات كان لديهم شغف بالموسيقى)، ومرح، وغير عصبي، واجتماعي، وجيد ككل، ومحبوب كثيرا من زملائه. كما كان أعظم مدرس رياضيات في ذاك القرن، مع أنه لم يحدث أبدا أن نشر محاضراته، ولا حتى أن ترك مسودات لتلاميذه).
62
إن السبب الفعلي الذي جعلنا نتحدث الآن عن فايرشتراس هو أن اكتشافاته في الأغلب هي التي مكنت الرياضيات من تفنيد التساؤلات التي أثارتها أبحاث دركليه وريمان عن المسألة العامة لتقارب متسلسلات فورييه. لدرجة ما قاله مؤرخ الرياضيات أيه جراتان جينيس، «تاريخ التحليل الرياضي خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر كان يتعلق بقدر كبير وملحوظ بقصة تطبيق علماء الرياضيات لأساليب فايرشتراس على مسائل ريمان.» ولم يكن الإلهام الحقيقي وراء هذه الأساليب هو فورييه ولا ريمان، لكنه كان إن إتش أبيل الذي ذكرناه على هامش الموضوع (وكان فايرشتراس من أشد المتحمسين لأبيل)، وتحديدا ابتكار سمي بالدوال الناقصية التي استنتجها أبيل من التكاملات الناقصية حوالي عام 1825، التي برزت بعد ذلك - اختصارا لهذه القصة الطويلة - في حساب طول قوس القطع الناقص وكانت عنصرا مهما في كل من الرياضيات البحتة والتطبيقية.
63
كان أول بحث مهم لفايرشتراس (عودة إلى بروسيا الغربية، على ضوء الشموع، أثناء تصحيحه الاختبارات) يتضمن مفكوك دوال ناقصية على صورة متسلسلات قوى، الذي أدى به إلى المسائل المتعلقة بتقارب متسلسلات القوى،
64
ومن ثم إلى التقارب والاتصال والدوال بصفة عامة.
إن السبب الذي جعل راسل يشيد به في مسألة المتناهيات في الصغر هو نفسه السبب الذي جعل فايرشتراس يحوز قصب السبق في حوسبة التحليل ويتصدر المشهد. كان أول من قدم نظرية دقيقة تماما ولا تشوبها شائبة من الناحية الميتافيزيقية عن النهايات. ونظرا لأنها مهمة وتشكل أساس الأسلوب الذي درس به معظمنا حساب التفاضل والتكامل في المدرسة، دعونا ننوه سريعا على الأقل أن تعريف فايرشتراس للنهايات حل محل مصطلحات كل من أبيل وبولزانو وكوشي المستقاة من اللغة الطبيعية مثل «تتقارب إلى نهاية.» و«تصبح أقل من أي مقدار معطى.» مع الرمزين إيبسلون ودلتا الصغيرين
و
ورمز القيمة المطلقة « ». ونختتم بفائدة مهمة أخيرة لنظرية فايرشتراس وهي أنها ميزت مصطلحي النهايات والاتصال بطريقة تتيح تعريف أي منهما بدلالة الآخر. انظر، على سبيل المثال، تعريفه للدالة المتصلة الذي ظل التعريف القياسي في الرياضيات على مدى 150 عاما فيما بعد:
65
دالة متصلة عند نقطة
إذا وإذا فقط كان، لأي عدد موجب ، هناك عدد
بحيث إن لأي
في الفترة ، فإن . ⋆ ⋆
جزء تكميلي سريع يتضمن معلومات شبه إضافية
يرجى تخطي الأسطر الثلاثة التالية إذا، وفقط إذا كان تعريف فايرشتراس مفهوما تماما بالنسبة إليك.
بما أن التعريف السابق ليس بمعلومة إضافية، التأكيد على احتمالية أن يكون السبب وراء أهمية هذا التعريف واضحا مائة بالمائة. يمكن أن نتحدث عن كيف أن التعريف يعد على وجه التحديد تدقيقا رياضيا لما جاء في كتاب كوشي «دروس في التحليل» عن أن «
سوف تكون دالة متصلة في المتغير إذا كانت القيمة العددية للفرق
تتناقص بلا حدود مع تناقص »؛ وكان الجديد الذي قدمه فايرشتراس أنه أتى ببديل حسابي تماما ودقيق لعبارة «يتناقص بلا حدود.» المبهمة. لكن لا شيء من ذلك سوف يعني الكثير إذا لم نستطع أن نرى كيف أن تعريف فايرشتراس الجديد صحيح حقا، وهو ما يقتضي بدوره فهم بناء الجملة الشديدة التقنية والتخصص التي صيغ بها لعلماء الرياضيات. فاللغة الفائقة التجريد يمكن أن تجعل التعريف يبدو إما بسيطا تماما (على سبيل المثال، بما أن
و
غير معرفين على أن أيا منهما له علاقة مباشرة بالآخر، ألا يصبح واضحا أنه يمكنك أن تختار
لأي
تريده؟) أو غامضا تماما (على سبيل المثال، كيف يمكنك تحديد قيمة
إذا كنت لا تعلم ما هو ؟) أو على الأقل مثل الشكاوى الأولية التي أدلى بها فصلنا إلى د. جوريس، والتي عالجها بأسلوبه المعتاد الذي لا ينسى، على النحو التالي تقريبا.
66
أولا، تذكر من مسرد المصطلحات الأول كيف أن الدالة المتصلة تعني أن تغيرا ضئيلا جدا في المتغير المستقل للدالة
لن يؤدي إلا إلى تغير ضئيل جدا في المتغير التابع ( ، المعروف كذلك ب )، «التغير الضئيل جدا» هو ما يعنينا حقا هنا أنه: يوضح أن فروقا مثل
في التعريف سيجري تصورها باعتبارها مقدارا صغيرا فعلا. وفيما يخص
و :
هي نقطة معينة؛ أي النقطة التي سوف نحسب قيمة اتصال الدالة بالنسبة إليها، و
هي - تقنيا - أي نقطة على الإطلاق في فترة تعريف الدالة، مع أنه بالنظر إلى تعريف الدالة المتصلة من الأفضل التفكير في
على أنها أي نقطة «قريبة بدرجة كافية» من . ذلك لأن الفكرة في تعريف فايرشتراس هي أن نتحقق من أن فرقا ضئيلا جدا بين
و
لن يؤدي إلا إلى فرق ضئيل جدا بين
و . وتكمن آلية هذا التحقق في العددين الموجبين
و ، ويمكننا فهم هذين العددين وعلاقتهما في إطار لعبة. ها هي اللعبة: اختر أي عدد موجب
تريده، مهما كان صغيرا، وسأحاول من جانبي إيجاد عدد موجب
يجعل علاقة الاقتران
صحيحة،
67
وإذا استطعت إيجاد هذا العدد الموجب
لأي عدد موجب
تختاره، فإن الدالة تكون إذن متصلة عند ، وإذا لم أستطع فإنها إذن غير متصلة.
على غرار ما فعله د. جوريس، سنتناول هنا مثالا على دالة غير متصلة، حتى ندرك أن جوهر الموضوع أنه ليس أي عدد
قديم سيكون صالحا لعدد
معطى. ومن ثم، يكون تعريف الدالة كالتالي:
إذا كان ؛ و
إذا كان . سوف نحسب قيمة اتصال الدالة
هذه عند النقطة
حيث . وفكرة اللعبة أنك تستطيع اختيار أي قيمة موجبة تريدها ل ، ولنقل - مثلا - إنك اخترت . وبذلك، يكون علي الآن إيجاد قيمة موجبة ل
بحيث تكون علاقة الاقتران
صحيحة. لكن يرجى الآن الرجوع إلى أو استرجاع القاعدة الواردة في الحاشية السفلية رقم 14 في الجزء 1(ج) بأن علاقة الاقتران المنطقي لا تكون صحيحة إلا عندما يكون كل من الحد السابق لعلامة
والحد التالي لها صحيحا. والآن، انظر الحد التالي لعلامة
في مثالنا، « ». طبقا لتعريف الدالة لدينا ، نعلم أن ، وطبقا للتعريف نفسه، نعلم أن أي نقطة
أخرى بجوار النقطة
تكون قيمة
لها هي ؛ (لأن
هي النقطة الوحيدة التي عندها ). ومن ثم، بما أن ، فإن
سوف يساوي
دائما، الذي من الواضح أنه أكبر من . وبغض النظر عن قيمة
التي سوف أختارها ليكون المقدار
أصغر منها، لن يكون المقدار
أبدا أقل من
عندما . وبما أن الحد الثاني سيكون خطأ، فإن علاقة الاقتران
سوف تكون خطأ أيا كانت قيمة . ويترتب على ذلك أنه لا توجد هنا قيمة
موجبة تكون لها ، وعليه فإن معيار التعريف «لأي عدد موجب ، يوجد عدد موجب
بحيث إن ...»، غير متحقق. ومن ثم، فإن الدالة غير متصلة عند (وهو ما كنا نعلمه عندما بدأنا، لكن الفكرة كلها كانت في تطبيق تعريف فايرشتراس على حالة واضحة). انتهت اللعبة.
نهاية «جزء تكميلي سريع يتضمن معلومات شبه إضافية»، وعودة إلى المحتوى الرئيسي للجزء 5(ه) الجاري. •••
من الموضوعات المحيرة نوعا ما التي لم نتناولها في الجزء التكميلي: لم يعرف فايرشترايس أعلاه سوى الاتصال عند نقطة، لكن بما أنك تستطيع اختيار أي نقطة في فترة معطاة لتكون هي ، فإن
يمكن تعريفها بوضوح على أنها متصلة في فترة ما إذا كانت متصلة عند كل
في هذه الفترة. ومن ثم، يستنتج من التعريف الأول تعريف عام لاتصال الدوال، وهذا هو ما زعزع عالم الرياضيات، وكذلك فعل تعريف النهاية: إذا أخذت بتعريف فايرشتراس الأصلي، فإن
يمكن أن تعرف على أن لها نهاية
عند
إذا كان بإمكانك إحلال
محل ، ومع ذلك تجد
لأي
بحيث تكون العلاقة
صحيحة.
إن السبب في أن هذا كله يبدو مجردا للغاية أنه فعلا كذلك. ولكن، هذا التجريد الشديد هو ما جعل نظرية فايرشتراس عن الاتصال والنهايات أوضح وأصح نظرية صادفها أي شخص في هذا الموضوع.
68
لا وجود لأي غموض يتعلق باللغة الطبيعية؛ فالتعريف لا يستخدم سوى الأعداد الحقيقية ومؤثرات أولية مثل « » و« ». ونظرا لأن النظرية مجردة وصحيحة وحسابية، فقد مكنت أيضا فايرشتراس من تعريف «التقارب » في مقابل «التقارب المنتظم» في مقابل «التقارب المطلق» بدقة، وتقديم اختبارات حقيقية لهذه المصطلحات،
69
وإثبات عدد من الفرضيات المتعلقة بالاتصال وتقارب المتسلسلات المثلثية التي لم يستطع أحد أن يثبتها من قبل. وتشمل الأمثلة الوثيقة الصلة هنا (1) إثباته أن متسلسلة من الدوال المتصلة
70
يمكن أن تتقارب إلى دالة متصلة و(2) إثباته المشار إليه سلفا لعدم صحة نظرية أن الاتصال = عدم القابلية للاشتقاق (التفاضل)، وهو ما أوضحه عن طريق استنتاج دالة متصلة 100٪ ولكن ليس لها مشتقة عند أي نقطة. وإذا كان الفضول يدفعك إلى معرفة هذه الدالة، فإنها
بمعلومية
حيث
عدد فردي و
و ، وهو ما يعني بالتبعية أنك إذا مثلت
بيانيا فإنك تحصل على منحنى لا يتضمن أي مماس على الإطلاق. سوف تتذكر من الجزء 3(ب) أن بي بي بولزانو قد قدم دالة مماثلة (التي لا يوجد أي دليل أن فايرشتراس كان على علم بها)، بيد أن هناك اختلافا جوهريا بينهما. كل ما فعله بولزانو أنه قدم المثال خاصته، ولكن بفضل تعريفاته الشديدة التخصص كان لدى فايرشتراس الأهلية التي مكنته أن يثبت حقا أن الدالة
التي أوجدها متصلة وقابلة للتفاضل في آن واحد. ومن الإنجازات الأخرى التي تحسب له أنه في تحليل فايرشتراس دائما ما يكون المثال المادي متطابقا مع البرهان العام المجرد.
كما ذكر في الجزء 3(ج)، يرجع الفضل إلى كل من بولزانو وفايرشتراس معا في نظرية مهمة عن نهايات الدالة المتصلة،
71
وهي نظرية في محلها الآن وذلك جزئيا لأنها تصور متسلسلة/متتابعة غير منتهية من الأعداد الحقيقية على أنها مجموعة غير منتهية من نقاط خط الأعداد الحقيقية (ومجموعات النقاط هذه هي أول أنواع المجموعات اللانهائية التي سوف تستهوي جي كانتور وتثير اهتمامه). ربما تريد هنا تذكر التعريفات الخاصة بكل من «الفترة» و«النهايات في مقابل الحدود» في مسرد المصطلحات الأول. تنص نظرية بولزانو وفايرشتراس اصطلاحيا أن كل مجموعة غير منتهية من النقاط تحتوي على نقطة نهاية واحدة على الأقل، وهي نقطة
بحيث كل فترة حول
تحتوي على عدد لا نهائي من عناصر المجموعة.
72
ربما لا يبدو الأمر كذلك على الفور، لكن نظرية بولزانو وفايرشتراس هي حقا بمثابة كرة من اللهب. على سبيل المثال، للحصول على حل شاف وخال من متناهيات الصغر لمفارقة عدم وجود لحظة تالية التي تضمنها الجزء 4(ب) (التي هي في حد ذاتها نتيجة للفرضية التي يصعب فهمهما عن كثافة خط الأعداد الحقيقية وكونه يتألف من عدد لا نهائي من النقاط).
إذا كنت مستعدا لهذا، فإليك آلية ذلك. في واقع الأمر، تتألف نظرية بولزانو وفايرشتراس من نظريتين؛ إحداهما هي نظرية بولزانو التي ترجع إلى حوالي عام 1830 وتنص على أنه إذا كانت لدينا فترة مغلقة ، فإن أي دالة
متصلة في ، التي هي موجبة لقيمة ما من قيم
وسالبة لقيمة أخرى من قيم ، يجب أن تساوي
لقيمة ما من قيم .
73
هندسيا، يمكنك فهم ذلك بملاحظة أن أي منحنى متصل من موضع ما أعلى المحور
إلى موضع ما أسفل المحور
لا بد فعليا أن يقطع المحور
في نقطة ما. ولكن من حيث الدقة، كانت مشكلة بولزانو هي أن إثبات هذه النظرية يتطلب منه إثبات أن كل مجموعة محدودة من القيم أو النقاط يجب أن يكون لها حد أعلى أصغر،
74
وهذا الإثبات الأخير انهار لعدم وجود نظريات مترابطة للحدود والأعداد الحقيقية. ولذا، مرة أخرى، لم يستطع بولزانو في الحقيقة إلا أن يقترح نظريته وتوضيح صحتها هندسيا؛ إذ لم يستطع إثباتها رياضيا. ولكن بعد عشرين عاما، استخدم كيه فايرشتراس نظريته الدقيقة عن النهايات لإثبات «تمهيدية الحد الأعلى الأصغر» لبولزانو كجزء من نظريته عن القيم المتطرفة، التي هي الجزء الكبير الآخر من نظرية فايرشتراس وبولزانو. ومن خلال نظرية القيم المتطرفة (= إذا كانت
متصلة في ، فلا بد أن توجد نقطة واحدة على الأقل في
حيث تكون
لها قيمة قصوى مطلقة هي ، ونقطة أخرى في
حيث تكون
لها قيمة صغرى مطلقة هي )، وكذلك تعريف فايرشتراس الفعال للاتصال، الذي قدم مخرجا رياضيا من إشكالية عدم وجود لحظة تالية. بعبارة أخرى: بما أن من الواضح أن الزمن دالة مستمرة التدفق،
75
يمكننا أن نفترض فترة محدودة
بين أي لحظتين
و ، وعندئذ يمكننا بفضل نظرية القيم المتطرفة إثبات وجود نقطة في
حيث تكون دالة الزمن لها أصغر قيمة مطلقة ، ومن ثم أن القيمة
هذه ستكون من وجهة نظر الرياضيات هي اللحظة التالية مباشرة بعد .
بناء على هذه النتيجة، ربما يمكنك ملاحظة كيف أن نظرية القيم المتطرفة يمكن توظيفها ضد حجة التقسيم الثنائي نفسها لدى زينون (حيث
دالة متصلة نموذجية). ومع ذلك، في تحليل فايرشتراس الصارم، لا تعد نظرية القيم المتطرفة ضرورية حتى، حيث إن النظرية الحسابية للنهايات تسمح لنا أن نفسر - بمعنى دقيق - السبب في أن المتسلسلة المتقاربة
مجموعها يساوي .
الجزء 5 ه(1)
جزء تكميلي حول تحليل فايرشتراس وزينون
سوف تتذكر أننا قد حاولنا استحضار
وصيغ حلول أخرى مختلفة للقسمة الثنائية، لنجد فقط أنها لا «تذكر بوضوح الصعوبات المتضمنة»، بل إنها لا تعدو أن تكون مجرد شرح لكيفية عبور الطريق. ويمكن الآن تجاهل كل هذه المحاولات السابقة، مع أنه لا ضرر من استرجاع أو مراجعة ما ورد في الحاشية السفلية رقم 35 في الجزء 2(ج) عن كيف أن الأعداد العشرية عبارة عن تمثيلات لمتسلسلات متقاربة. وهذا بالإضافة بالطبع إلى بضع الصفحات الأخيرة في الجزء 5(ه) أعلاه. وهكذا كان أحد ملامح الرد الذي قدمه تحليل فايرشتراس على مبدأ التقسيم الثنائي.
76
في الواقع، تدور فكرة التقسيم الثنائي حول عدد نسبي معين (= عرض الطريق، وطول القوس من الفخذ إلى الأنف)، وهو العدد الذي يدعونا زينون إلى تقريبه بواسطة متسلسلة قوى متقاربة من أعداد نسبية أخرى
حيث يرمز
نفسه إلى المتتابعة غير المنتهية . ربما يبدو هذا غامضا من الناحية النظرية المجردة، لكن العديد من الأعداد النسبية يمكن تقريبها بنفس الطريقة. العدد النسبي ، على سبيل المثال، يمكن تقريبه بواسطة المتسلسلة المتقاربة
التالية: . في الواقع، يعد التقسيم الثنائي أكثر صعوبة إلى حد ما من موضوع العدد النسبي ، ويمكن الحد من هذه الصعوبة بالحديث عن التقسيم الثنائي «المنقح» الأكثر تجريدا كما جاء في الجزء 2(ب)، حيث لا يوجد زمن أو حركة، ولكن كل ما هنالك ببساطة هو مقدار ما
نوجد نصفه ثم نصف هذا النصف (أي الربع)، ثم نصف هذا النصف المنصف (أي الثمن) وهكذا، حتى أصغر الأجزاء التي تبدأ بالمقدار الذي يساوي
حيث
هي عدد كبير على نحو اختياري.
77
وبجمع كل هذه الأجزاء الناتجة على هذا النحو نحصل على
لهذا التقسيم الثنائي على صورة متسلسلة القوى المتقاربة التالية: . والملاحظ أن
تقريب للعدد
تماما كما أن
تقريب للعدد . بمعنى أن مجموع
يختلف عن
بفارق
فقط، وهذا الفرق سوف يصبح صغيرا على نحو اختياري عندما يزيد
بلا حدود.
لا شك أن لفظتي «على نحو اختياري» و«بلا حدود» هنا تبدوان غامضتين وغير موفقتين في أداء المعنى، وهكذا أراد زينون أن يكونا؛ فهو يريد أن يعوقنا بحقيقة وجود عدد لا نهائي من الحدود في « »، وأنك في العالم الحقيقي لا تستطيع أبدا التوقف عن جمع هذه الحدود، وهذه هي الإشكالية التي جاء فايرشتراس لإنقاذنا منها.
ثمة مبدآن أوليان سيساعدان في معرفة آلية ذلك بسهولة. أولا، اعلم أن الدليل
يعمل أيضا بمثابة عدد ترتيبي
78
لأي حد معطى في المتسلسلة ؛ أي إن
هو الحد الأول، و
هو الحد الرابع، و
هو الحد رقم
وهكذا. لاحظ، أيضا، أن الفرق بين أي حدين متتاليين من
يتضاءل أكثر فأكثر كلما تقدمت أكثر في المتسلسلة. ويمكن تمثيل «الفرق» في هذه الجملة الأخيرة كمسافة على خط الأعداد؛ أي إننا هنا بصدد التحدث عن الفترات.
إذن، دعونا نبدأ من هنا. نعلم أن مجموع
للقسمة الثنائية سوف يختلف عن
بفارق
فقط؛ حيث . لإثبات أن
هو فعلا مجموع ، علينا إثبات أن
هو نهاية الدالة
حيث .
79
ونثبت ذلك عن طريق نظرية فايرشتراس التي تنص على أن «
تكون لها نهاية
عند النقطة
إذا وإذا فقط كان، لأي عدد موجب ، يوجد عدد موجب
بحيث تكون لأي
في الفترة .
و
كلاهما يساوي ، و
هي ، و
يمكن أن يكون أي شيء نريده، وأبسط طريقة لهذا البرهان هي أن تفترض أن
النقطة . وتذكر (بافتراض أنك قرأت تكملة الجزء 5(ه)) أن بناء الجملة الغريب في هذا التعريف يعني حقا أننا بحاجة إلى إيجاد
لأي
بحيث تكون علاقة الاقتران المنطقي
صحيحة. ومن ثم، فإن المبدأ الأساسي الآخر الوحيد هو التأكد من تذكر ما تعنيه علامتا القيمة المطلقة:
و
كلاهما يساوي 9، و
و
متكافئان أيضا. يستخدم فايرشتراس القيم المطلقة؛ لأننا نتحدث عن فترات على خط الأعداد؛ أي عن المسافة العددية بين النقاط المختلفة، التي تكون هي نفسها في كلا الاتجاهين. وهنا، تتمثل وظيفة علامتي القيمة المطلقة « » في أنها جعلتنا نبدل موضعي حدي الطرح المختلفين، وهو ما يتيح لنا بسهولة تمثيل الفترات التي نتحدث عنها على خط الأعداد الحقيقية بوضوح.
نعتذر عن كل هذا الإطناب، فهذا في الواقع أسهل مما يبدو عليه الأمر. إذن: لإثبات أن
هو نهاية الدالة الثنائية ، علينا أن نوجد لأي عدد موجب
بحيث تكون الفترة بين
و
أقل من ، عددا موجبا
بحيث تكون العلاقة
صحيحة، وهو أمر لا يصعب إيجاده. وفيما يخص
والحد الثاني في علاقة الاقتران، فالوضع عبارة عن عكس للمثال الوارد في الجزء التكميلي: لن يكون
خطأ أبدا أيا كانت القيمة الموجبة التي تختارها ل . كأن تحدد - مثلا - أن . ويمكنك عندئذ أن تجعل
صحيحة بافتراض أن
يساوي (كما سيكون في الحد العاشر من )، وفي هذه الحالة ، وفي هذه الحالة ، وفي هذه الحالة ، وهي نفسها ، التي هي بالفعل أصغر من . الفكرة هي أنه بغض النظر عن صغر قيمة
التي تختارها، يمكنك تعديل قيمة
بحيث يكون
أقل من .
وعليه، فإن الحد الثاني في علاقة الاقتران سيكون دائما صحيحا. والآن، كل ما يجب أن ننشغل به هو الحد الأول في علاقة الاقتران وإيجاد العدد الموجب
الذي سيجعل
صحيحا لقيمة
معطاة. من الواضح أنه ليس لدينا الحرية المطلقة نفسها لاختيار
على غرار ما كان لنا عند اختيار ؛ لأن اختيارنا ل
يحدد القيمة التي نعينها ل ؛ ومن ثم إلى
وقيمة
لها التي يجب أن يكون
أكبر منها. لكن يتضح أن علاقة اعتماد
على
تتيح إيجاد
ذات صلة بسهولة. لنلق نظرة مجددا على المثال حيث
ومن ثم
و . نحتاج هنا إلى قيمة
موجبة بحيث يكون . في هذه الحالة تحديدا،
سوف يحقق المطلوب تماما ... وفي الحقيقة اتضح أن
سوف يفي بالغرض لكل قيم
الممكنة. وربما تعلم على الأرجح تعليل ذلك. السبب هو أن كل قيم
الممكنة يجب، طبقا للتعريف، أن تكون موجبة. وعلى الرغم من أن
تتضاءل أكثر فأكثر، وكلما تضاءلت قيمة
ازدادت قيمة
لتجعل
أقل من ، وكلما ازدادت قيمة
سيقترب
من - ومع ذلك، يضمن شرط أن تكون
أكبر من
أن يكون
دائما أقل من . وبما أنه - بغض النظر عن قيمة
الموجبة التي تختارها - يضمن
أن تكون علاقة الاقتران
صحيحة دائما، ومن ثم يتحقق المعيار الأساسي للتعريف «لأي عدد موجب ، يوجد عدد موجب ». وعليه، فإن ، وهكذا يكون
هو مجموع . وعندئذ، يمكنك حقا عبور الطريق.
هكذا يكون قد زال الالتباس الأساسي للقسمة الثنائية: الانتقال من النقطة
إلى النقطة
لا يقتضي عددا لا نهائيا من المهام الجزئية الضرورية، وإنما بدلا من ذلك مهمة واحدة يمكن تقريب « » يمكن أن يكون بطريقة صحيحة عن طريق متسلسلة غير منتهية متقاربة. وآلية هذا التقريب هي ما استطاع تحليل فايرشتراس شرحه فعلا، بطريقة حسابية تماما، من دون متناهيات الصغر، أو أي غموض يتعلق باللغة الطبيعية على غرار ما برع فيه زينون. وليس بغني عن القول إن التقسيم الثنائي - بعد فايرشتراس - قد أصبح مجرد مسألة كلامية أخرى.
ومع ذلك، فالخلاصة هي أن البرهان الذي أوردناه تفصيلي على غير العادة. وفي مراحل الدراسة قبل الجامعية، نادرا ما نشير فعليا إلى إثبات أن
أو
في سياق الفترات أو
لفايرشتراس. تعد هذه البراهين الآن الأساس الخفي - إن جاز التعبير - لمفهوم النهايات، تبريره الاستنتاجي؛ فما زال المفهوم نفسه يشرح بمصطلحات اللغة الطبيعية مثل «بلا حدود» و«تقترب من». وهو ما قد يكون جيدا. وبدلا من أي استفاضة في الإجابات التقنية في مقابل الواقعية، دعونا نلاحظ فقط أن حلا قياسيا للقسمة الثنائية في دروس الرياضيات سوف يتوقف أساسا بعد الفقرة الثانية من الجزء 5 (ه)، وتحديدا النقطة (1). أي إن درس الرياضيات سوف ينشئ المتسلسلة المتقاربة ، ويوضح أن الفرق بين
و1 هو ، ويشرح أن هذا الفرق يصبح صغيرا على نحو اختياري كلما زادت قيمة
بلا حدود، ويعلمك أن الأسلوب الصحيح لمعالجة متسلسلة كهذه هو «بافتراض أن المجموع
يقترب من النهاية
عندما يقترب
من ما لا نهاية، وبكتابته على الصورة » الجزء الوارد بين علامتي الاقتباس مأخوذ من كتاب دراسي فعلي في الرياضيات، نسخة منقحة ترجع إلى عام 1996، وكان وضعها هكذا على سبيل التأكيد. ويستمر السرد في الكتاب نفسه:
لا تعني هذه «المعادلة» أنه يتوجب علينا حقا أن نجمع عددا لا نهائيا من الحدود؛ فهذا مجرد تعبير مختصر لحقيقة أن
هو نهاية المجموع المحدود
عندما يقترب
من ما لا نهاية (وهي مدى غير منته على أي حال). ولا يدخل المدى غير المنتهي إلا في الإجراء المستمر بلا نهاية وليس كمقدار فعلي.
دعونا نؤكد، بأسلوب هادئ جدا ومعتدل النبرة، أنك إذا استطعت في رأيك أن تستشف أثرا طفيفا من المدرسة الأرسطية في كل هذه التأكيدات الملحة بوجوب عدم التعامل مع اللانهائية على أنها «مقدار فعلي» في مسائل مثل التقسيم الثنائي، فإنك لا تستشف الأمور جيدا. كما أن المسألة ليست فقط في أسلوب المعادلات الذي تدرس به الآن الرياضيات للطلاب الجامعيين. الموضوع أعمق من ذلك وأقدم. كان من بين الأمور اللافتة للنظر في تحليل القرن التاسع عشر ونظرية الدالة أنهما كلما ازدادا تعقيدا، جاءت معالجتهما للانهائية - على نحو أكثر غرابة - أقرب شبها بمفهوم «الاحتمالية» العتيق للغاية لأرسطو. ويمثل تحليل فايرشتراس ذروة هذا التعقيد والتشابه.
ومع ذلك، إذا لاحظت - عن طريق مصادفة أخرى - أن التقسيم الثنائي وحله المزعوم في قاعات الدرس يعنيان فقط بالأعداد النسبية وخط الأعداد، ناهيك عن أن المثال النموذجي على برهاننا المتمثل في البرهان باستخدام
و
في الجزء 5(ه) كان كله أيضا يعنى بالأعداد النسبية. ومن ثم، فأنت في وضع يمكنك أن تدرك فيه وجود نوع من المفارقة اللطيفة.
هوامش
الجزء السادس
الجزء 6(أ)
في النهاية، الأهم من أي نتيجة محددة هو الروح التي أعاد بها فايرشتراس تعريف النهايات والدوال المتصلة. ويقصد بذلك التزامه بتأسيس تعريفه على الدقة والحقائق الدامغة وغير ذلك. ويعد مصطلح «حوسبة التحليل» لفايرشتراس حرفيا ومعبرا عن مضمونه تماما؛ فهو لا يهدف فقط إلى استبعاد المفاهيم الهندسية والاستقراء الحدسي من البراهين، ولكن يهدف أيضا إلى تأسيس كل الرياضيات ما بعد حساب التكامل والتفاضل على نظام الأعداد الحقيقية بالطريقة نفسها التي يرتكز بها الحساب على ذلك. ولكن نظام الأعداد الحقيقية يعني خط الأعداد الحقيقية لا يخلو تماما - كما رأينا - من الإشكاليات المتعلقة باللانهائية.
تناول مؤرخو الرياضيات هذا الأمر بطرق شتى، كما نرى - على سبيل المثال - في مقولة كلاين: «كان فايرشتراس هو أول من أوضح أنه لإرساء خصائص الدوال المتصلة بدقة كان لا بد له من نظرية الاتصال الحسابي.» أو في مقولة بيل: «إن الأعداد غير النسبية التي أعطتنا مفاهيم النهايات والاتصال، التي انبثق عنها التحليل، يجب إحالتها؛ لأسباب دامغة غير قابلة للجدل، إلى الأعداد الحقيقية.» والنتيجة هي المفارقة التي أشرنا إليها في نهاية الجزء 5: اتضح أن مفهوم النهايات الدقيق لفايرشتراس، الذي فيما يبدو قضى نهائيا وبالتبعية على الحاجة إلى مقادير من قبيل
و
في التحليل، هو نفسه يتطلب نظرية واضحة ودقيقة في الأعداد الحقيقية؛ أي الأعداد الصماء واتصال خط الأعداد الحقيقية. وانظر أيضا ما قاله فيلسوف الرياضيات إس لافين: «أعادت هذه النظرية على الفور تقديم الأعداد غير المنتهية إلى التحليل. وحلت ببساطة اللانهائية الجديدة من المجموعات الكبيرة بشكل لا نهائي محل اللانهائية القديمة للأعداد فوق المنتهية والأعداد غير المنتهية.»
الحقيقة أن هناك العديد من الأسباب المترابطة المختلفة التي جعلت الأعداد غير النسبية/الحقيقية الآن مشكلة ملحة تتصدر المشهد. أحد هذه الأسباب، كما سبق أن أشرنا، يتعلق بالأسس. وثمة سبب آخر يتضمن التطبيقات: اتضح أن البرهان باستخدام
و
الذي قدمه فايرشتراس وظهر في نهايات المسائل المستقاة من الواقع الفعلي كانت في الغالب أعدادا غير نسبية، وهو ما جعل فكرة تحديد
لكل
أصعب بكثير. بالإضافة إلى أن هناك المسألة العامة لتقارب متسلسلة فورييه التي ذكرناها سلفا ، وفقد الثقة في مسلمات إقليدس، وغير ذلك. هناك أيضا حقيقة أن التأكيد الجديد للرياضيات على الدقة والترابط المنطقي إنما يلقي الضوء على مشكلة منطقية في أسلوب معالجة الجذور الصماء للأعداد الصحيحة منذ أن تناولتها لأول مرة الأخوية الدينية الفيثاغورية في الجزء 2(ج). وكان هذا التناول - كما رأينا - من منظور هندسي، أي في صورة مقادير غير قابلة للقياس و
ونسب يودوكسوس، وغير ذلك، وظلت التعريفات المستخدمة للجذور الصماء في الرياضيات هندسية منذ ذلك الحين. ظهر هذا الأسلوب في مصطلحات بي راسل الواضحة:
غير منطقي للغاية؛ لأنه إذا كان تطبيق الأعداد على فراغ [هندسي] يفترض أن يسفر عن أي شيء ما عدا المصدوقات (الافتراضات التي تكون صحيحة دائما بغض النظر عن صحة الافتراضات المكونة له)، فلا بد من تحديد الأعداد المطبقة على نحو مستقل. وإذا كان لا يمكن إعطاء تعريف سوى التعريف الهندسي، فلن توجد على الأرجح مثل هذه الكيانات الحسابية التي يزعم أن التعريف يوضحها.
وهذا نقاش يطول شرحه ولكن يمكنك على الأقل معرفة المغزى والاتجاه العام.
وعليه، فإن ما حدث هو أن في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر بدأ العديد من علماء الرياضيات في محاولة وضع نظريات دقيقة عن الأعداد غير النسبية/الحقيقية. ونذكر من بين الأسماء الكبيرة هنا دبليو آر هميلتون وإتش كوساك وكيه فايرشتراس وإف ليندمان وإتش سي آر ميراي وجي كانتور وإتش إي هاينه وآر ديديكند. ولك أن تخمن بأيهم نهتم.
أولا، يبدو أنه من خلال العمل على الأفكار التي استعرضها فايرشتراس في محاضراته في جامعة برلين، حاول بعض تلاميذه وأتباعه استخدام تعريفاته الأساسية لتعريف العدد غير النسبي على أنه، في جوهره، نهاية نوع معين من المتسلسلة غير المنتهية من الأعداد النسبية. أسلوب التعريف تقني ومتخصص بدرجة كبيرة، ولكن لحسن الحظ أننا لسنا في حاجة إلى الخوض في ذلك؛ لأن النظرية حسبما اتضح ليست صحيحة؛ فهي مبنية على الاستدلال الدائري.
1
ذلك لأن نهاية الأعداد غير النسبية التي أشار إليها فايرشتراس لا يمكن أن يكون لها وجود منطقيا حتى يوجد تعريف للأعداد غير النسبية. كلمة «وجود» هنا تعني بدقة ما كان راسل يعنيه أعلاه حين قال: «لن توجد مثل هذه الكيانات الحسابية التي يزعم أن التعريف [الهندسي] يوضحها.» وأن تستخدم مفهوم «عدد غير نسبي» على نحو مترابط لتعريف «العدد غير النسبي» لا يعدو أن يكون أكثر من تعريفك كلمة «أسود» على نحو مترابط بأنه «لون كلب أسود». ومن ثم، مختصر القول إن جهود فايرشتراس لم تصل في الواقع إلى شيء.
ظهرت نظرية جي كانتور عن الأعداد الحقيقية في سياق بحثه عن شيء ما يسمى مبرهنة الوحدانية للمتسلسلات المثلثية، وثمة أسباب وجيهة للتريث بعض الشيء في الحديث عنها.
إن النظام الأكثر فاعلية وتميزا وغرابة في تعريف الأعداد غير النسبية هو ذلك الذي يعود إلى جيه دبليو آر («ريتشارد») ديديكند 1831-1916 الذي كان يصغر فايرشتراس باثني عشر عاما ولكنه يشبهه كثيرا. كان شخصا دمثا، سويا من الناحية النفسية، أمضى معظم حياته في التدريس في الجامعات التقنية في مدينتي برونزفيك وزيورخ. ظل أعزب
2
طوال حياته وكان يعيش مع أخته. عاش ديديكند عمرا مديدا وكان محبوبا جدا حتى إنه يظهر في كل مناحي الرياضيات الحديثة: تلميذ دركليه وجاوس في جوتينجن، ومحرر «نظرية الأعداد» لدركليه، وصديق عمر ريمان، وشبيه فايرشتراس، ومن أوائل من تعاونوا مع إل كرونكر في الهندسة الجبرية، وصديق جي كانتور ومعاونه، ولم يكن كانتور بالشخص الذي يمكن أن يصادقه المرء بسهولة. وإحدى الروايات المفضلة بين مؤرخي الرياضيات أن ديديكند عاش حياة طويلة للغاية، لدرجة أن «التقويم الرياضي» الشهير لتيوبنر ظل يعلن وفاة ديديكند في يوم محدد في عام 1899، حتى إن ديديكند في النهاية بعث برسالة إلى المحرر ذات عام يبلغه أنه ما زال على قيد الحياة، بل والأكثر من ذلك أنه قضى ذاك اليوم بالتحديد «في حوار مشوق حول «النظام والنظرية» مع ضيفي على الغداء وصديقي الموقر جورج كانتور من مدينة هال.»
نشر مقال ديديكند الشهير «الاتصال والأعداد غير النسبية»
3
في عام 1872. وكان في جزء منه ردا على تعريف كانتور نفسه للأعداد غير النسبية، الذي ظهر كجزء من بحث مطول عن مبرهنة الوحدانية في تاريخ سابق من ذلك العام. ولكن من الواضح أن ديديكند كان قد وضع نظريته الأساسية في عام 1860، وعلى غرار فايرشتراس (ولكن على نحو مغاير لكانتور) لم يكن متحمسا جدا لنشر أبحاثه. استقى ديديكند حافزه، تماما مثل فايرشتراس، من تدريس حساب التفاضل والتكامل للمدارس الثانوية؛ إذ ازداد عدم اقتناعه باستخدام مفاهيم هندسية غير معرفة لتعريف النهايات والاتصال. ولكن بدلا من التركيز على حوسبة النهايات، ذهب ديديكند إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى المشكلة الأصلية التي شغلت زينون والأخوية الدينية الفيثاغورية ويودوكسوس وأرسطو وبولزانو، وعكف على دراسة التحليل منذ النظرة الأساسية. وكانت المشكلة الأساسية هي كيفية التوصل إلى نظرية حسابية 100٪ عن «الاتصال البحت»، كما في الحركة والبنى الهندسية المتصلة مثل الخطوط والمساحات والحجوم،
4
الذي يفترض أنه موضوع يعنى به في المقام الأول حساب التفاضل والتكامل، ولكنه لم يعرف أبدا بالقدر الكافي من الوضوح والدقة الذي يجعل براهينه وجيهة حقا.
الكيان الذي اختاره ديديكند لتمثيل الاتصال الحسابي هو خط الأعداد الحقيقية القديم الجيد، الذي ينبغي مع ذلك أن نطلق عليه خط الأعداد؛ إذ لم يصبح من الأصح من حيث الدقة أن نسميه «خط الأعداد الحقيقية» إلا بعد وضع ما يسمى بمسلمة كانتور - ديديكند (أسماه ديديكند )، وحسبما تذكر من الجزء 2(ج) فهو مرتب ومتناهي الكثافة وممتد، ويمكنك استخدامه لتمثيل الأعداد النسبية عن طريق تعيين نقطة فريدة على الخط لكل عدد نسبي. ومع ذلك، فإن السبب الرئيسي في أن التحليل يتطلب أكثر من الأعداد النسبية هو أن خط الأعداد، مثل جميع الخطوط، متصل على نحو لا تجده في مجموعة الأعداد النسبية. ويرجع الأسلوب الذي صاغ به ديديكند هذا إلى الإغريق «ومع ذلك، فإن الأهم حقا هو حقيقة أن هناك عددا لا نهائيا من النقاط في الخط المستقيم
لا تناظر أي عدد نسبي.» حيث استشهد بعدها بمثال على قطر مربع الوحدة القديم. ومن ثم، كانت استراتيجيته ببساطة هي شرح ما الذي يجعل
متصلا وبدون فراغات بينما مجموعة الأعداد النسبية ذات الكثافة اللانهائية ليست كذلك. وبالطبع، كان يعلم كما هو معلوم لنا جميعا وقتها أن السبب هو الأعداد غير النسبية، لكن أحدا لم يستطع أن يعرفها تعريفا مباشرا. وعليه، سيتقمص ديديكند هنا شخصية سقراط ويباشر عمله كما لو أنه لم يسمع أبدا بالأعداد غير النسبية ويتساءل ببساطة: ما الشيء الذي يلازمه تماما اتصال
ويعد جزءا لا يتجزأ منه؟
5
وكانت إجابته عن هذا السؤال هي ما جعلت خط الأعداد الحقيقية واقعا رياضيا، وأثبت - بالتعاون مع كانتور - أن مجموعة الأعداد الحقيقية تكون سلسلة متصلة.
الجزء 6(ب)
جزء تكميلي
إن أداة ريتشارد ديديكند، المعروفة الآن ب «حدود ديديكند»، لإنشاء خط الأعداد الحقيقية بارعة وغريبة للغاية، وقبل الخوض في تفاصيلها المعقدة يجدر التنويه إلى أن اهتمام ديديكند بمعالجة اللانهائي الفعلي هو ما مكن برهانه من المرور. وكما ذكرنا في الجزء 5 وفي مواضع أخرى، فإن أحد الأسباب التي جعلت مفهوم النهايات يلقى قبولا ورواجا كبيرا في التحليل أنه توافق جيدا مع الفكرة القديمة للانهائي الاحتمالي، ويبدو أن فكرة أن اللانهائية شيء يمكنك «الاقتراب منه» دون الاضطرار حقا إلى بلوغه مستقاة تقريبا من كتاب «الميتافيزيقا». ويتضح احتفاء الرياضيات الضمني بتمييز أرسطو في نص يستشهد به كثيرا ويرجع إلى سي إف جاوس (نعم: جاوس أستاذ ديديكند) حوالي عام 1830:
أعترض على استخدام مقدار لا نهائي على أنه كيان فعلي؛ فهذا غير جائز أبدا في الرياضيات. اللانهائي ما هو إلا أسلوب في الحديث، حيث يتحدث المرء على الأرجح عن النهايات التي يمكن أن تقترب منها بعض النسب حسب المطلوب، بينما يسمح للآخرين بالزيادة دون قيد.
ومن دواعي المفارقة بالطبع أنه بعد عقدين فقط من تخليص فايرشتراس للنهايات من آخر الأجزاء الغامضة المتعلقة باللانهائية بدأنا نرى كبار علماء الرياضيات الذين لم يتبنوا فقط اللامتناهي الفعلي، بل استخدموه أيضا في براهينهم. وكان ديديكند واحدا منهم. ولا يبدو أنه اقتنع بما قاله كانتور أو بولزانو أو غيرهم عن اتساق المجموعات غير المنتهية. كان ديديكند، مثلما أوضحنا في الجزء 2(أ)، من أتباع أفلاطون. ومن الواضح أنه كان يعتقد أن الحقيقة الرياضية ليست تجريبية بقدر ما هي معرفية:
إن ما أعنيه عند الحديث عن الحساب (الجبر والتحليل) كجزء من المنطق هو التلميح إلى أنني أفترض أن مفهوم الأعداد مستقل تماما عن مفاهيم أو بديهيات الفراغ والزمن؛ أنني أفترض أنه نتيجة مباشرة لقوانين التفكير (أي المبادئ العقلية).
أو ربما يكون من الأفضل أن نسميه فينومينولوجيا، إذ إن التمييز بين حقائق الرياضيات على أنها إبداعات في مقابل اكتشافات لم يكن بالأمر المهم من وجهة نظر ديديكند: «الأعداد هي إبداعات حرة للعقل البشري؛ فهي تستخدم كوسيلة لفهم الفرق بين الأشياء بسهولة ووضوح أكبر.»
أو انظر إلى ذلك. في مقال مصاحب لبحث «الاتصال والأعداد غير النسبية»، الذي يترجم عادة إلى «طبيعة الأعداد ومعناها»،
6
عرض ديديكند برهانا مميزا لنظريته «النظرية 66، توجد نظم غير منتهية»، الذي سار على النحو التالي: «إن عالم أفكاري،
7
أي مجمل
من كل الأشياء التي يمكن أن تكون أفكاري، لا نهاية له. فإذا كان
يشير إلى عنصر من ، إذن فإن الفكرة ، أي إن
يمكن أن تكون إحدى أفكاري، هي نفسها عنصرا من ، ...» وهكذا؛ أي إن المتسلسلة غير المنتهية ( + [
هي إحدى أفكاري] + [«
هي إحدى أفكاري» هي إحدى أفكاري] + ...) موجودة في عالم الأفكار، وهو ما يستلزم أن يكون عالم الأفكار في حد ذاته لا متناهيا. وفيما يخص هذا البرهان، لاحظ (أ) كيف أنه يشبه كثيرا أفكار زينون عن الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق الذي سبقت الإشارة إليه في الجزء 2(أ)، و(ب) كيف أنه يمكننا بسهولة الاعتراض بأن البرهان قد أوضح فقط أن عالم أفكار ديديكند «لا متناه احتماليا» (وبمفهوم أرسطو تماما للمصطلح)، حيث لا أحد يستطيع فعليا أن يجلس ويفكر في متسلسلة غير منتهية كاملة من الأفكار على غرار ( )، أي إن المتسلسلة هي تجريد تام.
الفكرة هي أن برهان ديديكند في «الطبيعة والمعنى» لن يقنع أي شخص ليس لديه استعداد بالفعل للإقرار بوجود
8
نظم /متسلسلات/مجموعات غير منتهية فعليا ... وهو ما كان عليه كل من ديديكند وكانتور بالتأكيد. ولكن، على خلاف ديديكند، كان كانتور يميل إلى تقديم نفسه على أنه يجر جرا للخوض في اللانهائيات الفعلية، كما في المثال التالي:
إن فكرة النظر إلى المتناهي في الكبر ليس فقط في صورة مقدار يزيد بلا حدود وفي الصورة الوثيقة الصلة بالمتسلسلات غير المنتهية المتقاربة ... ولكن أيضا لمعالجته رياضيا بواسطة الأعداد في الصورة المحددة للامتناهي المطلق قد فرضت علي فرضا بحكم المنطق، ورغما عن إرادتي تقريبا حيث كان ذلك على خلاف العادات التي تعلقت بها على مدى سنوات عديدة من الجهد العلمي والأبحاث.
يعزى هذا الاختلاف في أسلوب العرض في جزء منه إلى أن جي كانتور كان أكثر بلاغة من ديديكند، ويعزى في جزء آخر إلى أن كانتور كان عليه أن يتصدر الصفوف الأولى في معركة الرياضيات حول اللانهائية، وتصدر هذه الصفوف بالفعل، على نحو لم يفعله ديديكند أبدا.
ومع ذلك، فثمة شيء آخر ينبغي وضعه في الاعتبار، وهو أن رياضيات الأعداد فوق المنتهية لكانتور سوف ينتهي بها المطاف إلى تحجيم اعتراضات أرسطية تماما على غرار الاعتراض (ب) أعلاه على برهان ديديكند، حيث إن نظرية كانتور ستشكل الدليل المباشر على أن المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي يمكن فهمها ومعالجتها والتعامل معها بواسطة العقل البشري، تماما مثلما يتعامل مع السرعة والعجلة باستخدام حساب التفاضل والتكامل. ومن ثم، ينبغي الإشادة مقدما بأنه مهما كانت النظم غير المنتهية مجردة، فمن المؤكد أنها بعد كانتور لم تكن مجردة على النحو غير الحقيقي/المصطنع الذي كانت عليه وحيدات القرن.
نهاية «جزء تكميلي»
الجزء 6(ج)
عودة إلى مناورة ديديكند الافتتاحية في الاستفسار عما يميز اتصال خط الأعداد . حسبما تبين، حاول كل من جاليليو ولايبنتس وبولزانو افتراض أن اتصال
يعتمد في الواقع على الكثافة اللانهائية للنقاط التي تشكله؛ أي على حقيقة أن بين أي نقطتين على خط الأعداد دائما ما تستطيع إيجاد نقطة ثالثة. ومع ذلك، كما رأينا، تنطبق السمة نفسها على جميع الأعداد النسبية على الصورة ،
9
وحيث إن (1) كل عدد نسبي يمكن كتابته على الصورة ،
10
و(2) نعلم أن مجموعة جميع الأعداد النسبية ليست متصلة، وديديكند رفض فكرة أن اتصال
يلازم أي نوع من الكثافة أو «المعية/التلازم»: «من الواضح أن إبداء ملاحظات غامضة بشأن علاقة الاتصال غير المنقطع في أصغر أجزاء خط الأعداد
لن يسفر عن شيء على الإطلاق، فالمسألة هي الوقوف على صفة الاتصال المحددة التي يمكن أن تكون هي الأساس للوصول إلى استنتاجات سليمة.»
كانت ضربة ديديكند الموفقة هي تحديد هذه «الصفة المحددة» ليس في كثافة
أو ترابطه، ولكن في خاصية مقابلة، وهي قابلية التجزئة/القسمة، التي هي بدورها إحدى النتائج المترتبة على أن خط الأعداد مرتب ومتتابع؛ أي على أن كل نقطة على خط الأعداد تكون على يمين كل نقاط الأعداد الأصغر منها، وعلى يسار كل نقاط الأعداد الأكبر منها. وهذا يعني أننا نستطيع أن نتخيل عند أي نقطة معينة على خط الأعداد أنها قسمت
11
خط الأعداد إلى جزأين؛ أي إلى مجموعتين غير منتهيتين غير متقاطعتين،
12
على اليسار و
على اليمين، حيث كل عدد نسبي في
أكبر من كل عدد نسبي في . يتضمن مقال «الاتصال والأعداد غير النسبية» (الذي جاء، كما ذكرنا، مسهبا على نحو غير معتاد بالنسبة إلى مقال رياضي متخصص) فقرة على هامش الموضوع، يسلك فيها ديديكند كل مسلك، ويتظاهر بالاعتذار عن النحو الذي قد تبدو عليه فكرة التقسيم سخيفة وبديهية، على سبيل المثال: «سوف يستاء غالبية قرائي عندما يعرفون أن سر الاتصال سيفشى من خلال هذه الملاحظة العادية المبتذلة.» والملاحظة التي يشير إليها النقيض المنطقي لجملة قابلية التجزئة/القسمة الموضحة أعلاه، وهي أن:
إذا كانت كل نقاط الخط المستقيم تقع في فئتين اثنتين بحيث تكون كل نقطة في الفئة الأولى على يسار كل نقطة في الفئة الثانية، فهناك إذن نقطة وحيدة هي التي تنقسم عندها كل النقاط إلى فئتين، وهذا يقسم الخط المستقيم إلى جزأين.
ومعنى هذا أنك بتحديد عناصر وحدود المجموعتين
و
تستطيع تحديد قيمة النقطة التي نقسم عندها
إلى
و . وكما سوف تذكر من الجزء 2(ج)، فإن تحديد نقطة يعني تحديد عدد.
أحد الاعتراضات التي أثيرت في هذا الصدد أنه بما أن الخط المعني هو خط الأعداد وتعين عليه فقط الأعداد النسبية، فمن الإنصاف أن نسأل كيف سيساعد حد في تحديد الأعداد غير النسبية، التي هي بالطبع «سر اتصال» خط الأعداد الحقيقية. وإن القول بأن كل عدد نسبي سيناظر حدا ما لكن ليس كل حد سيناظر عددا نسبيا قد يبدو كما لو كان إعادة تأكيد، على أننا لا نستطيع تحديد الأعداد غير النسبية بدلالة أعداد نسبية. والإجابة هي أن ديديكند استطاع حرفيا تحديد كل عدد غير نسبي من خصائص المجموعتين اللتين يقسم الخط إليهما. وفيما يلي آلية ذلك.
افترض أن حدا على خط الأعداد يقسم المدى اللانهائي الكامل من الأعداد النسبية إلى مجموعتين
و
بحيث تكون كل العناصر
في المجموعة
أكبر من كل العناصر
في المجموعة . وعلى نحو أكثر تحديدا، فكر أيا من
و
ستحتوي على أكبر/أصغر عناصر.
13
توجد ثلاثة احتمالات فقط، بناء على مكان الحد وطريقة تحديده، واحتمال واحد فقط منها يمكن أن يكون صحيحا. الاحتمال (1) = المجموعة
تحتوي على عنصر أكبر (كالحال، على سبيل المثال، إذا كانت المجموعة
للحد تحتوي على كل الأعداد النسبية ، والمجموعة
تحتوي على كل الأعداد النسبية )، الاحتمال (2) = المجموعة
تحتوي على عنصر أصغر (كالحال، على سبيل المثال، إذا كانت المجموعة
للحد تحتوي على كل الأعداد النسبية )، الاحتمال (3) = لا يوجد عنصر أكبر في المجموعة
ولا عنصر أصغر في المجموعة . ⋆ ⋆
جزء تكميلي صغير
بما أن هذه هي الخيارات الثلاثة الوحيدة، ربما لاحظت على الأرجح أنه يستحيل أن تتضمن المجموعة
عنصرا أكبر؛ لأن
تتضمن كل شيء بدءا من الحد إلى ، والخط
بمفهوم ديديكند هو خط الأعداد الحقيقي، ويحتوي أيضا على الأعداد النسبية الممتدة إلى اليسار بدءا من ؛ ومن ثم فإن
تتضمن كل شيء من
إلى الحد، ولا يمكن أن يكون بها عنصر أصغر. ورغم ذلك، إذا تساءلت لماذا لا يوجد احتمال رابع يفترض وجود عنصر أكبر
في
وعنصر أصغر
في ، فثمة أسلوب سهل لإثبات استحالة ذلك. إنه برهان بنقض الفرض؛ ولذا نفترض أنه يوجد عنصر أكبر
وعنصر أصغر . ولكن هذا يعني أنه سيوجد عدد نسبي معين، يساوي ، يكون أكبر من
وأصغر من ، ومن ثم لا يمكن أن يكون عنصرا في أي من
أو . ولكن
و
حسب تعريفهما تحتويان معا على كل الأعداد النسبية. وعليه، فإن الاحتمال الرابع متناقض.
ولكن لماذا إذن لا يكون الاحتمال الثالث متناقضا أيضا بنفس الطريقة؟
نهاية «جزء تكميلي صغير» •••
ذكرنا على نحو غير رسمي أن مثال ديديكند بخصوص الاحتمال (3) عبارة عن حد تحتوي المجموعة
له على كل الأعداد النسبية السالبة وكل الأعداد النسبية الموجبة
بحيث تكون ، والمجموعة
له تحتوي على كل الأعداد النسبية الموجبة
بحيث تكون . إذا كان من الممكن إثبات عدم وجود عدد نسبي يناظر هذا الحد، فسنكون حددنا عددا غير نسبي معينا، وهو في هذه الحالة العدد غير القابل للقياس أبدا .
14
رأينا في الجزء 2(ج) برهانا على أن
ليس عددا نسبيا،
15
ونستطيع أن نسلم جدلا بصحة هذا الأمر. لكن ديديكند لم يسلم بالأمر، وقدم برهانه الخاص على أن الحد في المثال الوارد في الاحتمال 3 لا يناظر أي عدد نسبي. وهو ما سوف نستعرضه هنا. لعلنا نرغب جميعا الآن في أخذ نفس عميق للحظة والاسترخاء واستعادة حالة اليقظة والاهتمام. البرهان الذي قدمه ديديكند هو برهان بنقض الفرض؛ ومن ثم يبدأ بافتراض أن هناك فعلا عددا نسبيا
يناظر الحد في الاحتمال (3). وإذا كان هذا العدد النسبي
موجودا، إذن طبقا لتعريف المجموعة ، فإن
إما أن يكون أكبر عنصر في المجموعة ، وإما أن يكون أكبر من أي عنصر في (بمعنى أنه يقع في المجموعة ). وفي كلتا الحالتين، أي عدد أكبر من (وليكن ) - طبقا للتعريف - سوف يكون قطعا في المجموعة ، وهو ما يعني أن
يجب أن يكون . وبذلك، إذا كان لأي
مناسب يمكننا إيجاد
أكبر من
حيث ، فإن الافتراض الأولي بأن
عدد نسبي سيتم نقضه.
وعليه، سلم جدلا بالتعريف الوارد أعلاه لكل من
و ، وعرف عددا موجبا
على أنه يساوي ، وعرف كذلك
على أنه يساوي . قد يبدو التعريف الأخير غريبا بعض الشيء، لكن يمكنك التحقق بسهولة أنه بمعلومية التعريف الأصلي وقيمة ، فإن
سيكون أكبر من ، ومن ثم يظل الافتراض الحاسم بأن
محافظا على صحته. والآن نستعرض بقية البرهان وهو مجرد جزء من مقرر الرياضيات القديم الممل للصف الثامن: (1) (2) . بما أن
طبقا للتعريف أكبر من ، فإن ، ومن ثم ، ومن ثم (3) . بضرب البسط والمقام لهذا المقدار الأكبر ليكون
هو المقام المشترك، نحصل على (4) . وبما أنه، طبقا للتعريف، ، فمن الواضح إذن أن ، وعليه بتعويض المقدار في (4) يصبح (5) ، وهو ما يصبح بعد توزيع الثوابت (6) ، وهو ما يصبح بعد توزيع
في الحد الثاني (7) ، وهو ما يختصر بديهيا إلى (8) ، وهو نفسه (9) ، وبمعلومية أن
طبقا للتعريف أكبر من ، سيكون هذا المقدار دائما أصغر من . وعليه، فمن خلال الخطوات من (1) إلى (9) (مع تركيز خاص على (1) و(3) و(9))، نكون قد أثبتنا أن (10) ، وهو ما يعني طبقا لقانون التعدي أن (11) ، وهو المطلوب بالضبط لنقض الفرض الأولي بأن الحد يناظر عددا نسبيا . أي إنه لا يناظر عددا نسبيا . وهو المطلوب إثباته.
وعقب البرهان مباشرة، كتب ديديكند: «بالنظر إلى خاصية أنه ليس كل الحدود (التقسيمات) تنشأ بواسطة أعداد نسبية، نستنتج أن النطاق الذي يتضمن كل الأعداد النسبية منفصل أو غير متصل.» ولكن هذا ليس كل ما في الأمر. فقد سمحت فكرة الحد (التقسيم) بتعريف الأعداد غير النسبية بدلالة الأعداد النسبية، وهذه هي الطريقة الوحيدة لوضع نظرية استنتاجية دقيقة 100٪ عن الأعداد الحقيقية. والتعريف كالتالي: العدد غير النسبي هو قيمة نقطة ما ينقسم عندها خط الأعداد بواسطة حد ما إلى مجموعتين منفصلتين تماما هما المجموعة
والمجموعة
بحيث لا تشتمل المجموعة
على عنصر أكبر ولا تشتمل المجموعة
على عدد أصغر.
16
هذا التعريف هو ما أدى إلى ظهور السلسلة المتصلة - أي مجموعة كل الأعداد الحقيقية - وحول خط الأعداد إلى خط الأعداد الحقيقية.
17
ومن الأمور اللطيفة والرائعة أن أسلوب ديديكند قد استخدم ما جعل الأعداد الصماء غامضة للغاية - وهو تناظرها لنقاط غير مسماة على خط الأعداد - كجزء من تعريفها الدقيق.
الجزء 6(د)
بالطبع، تفترض أيضا نظرية ديديكند وجود المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي. والأكثر من الافتراضات أن التعريف الاصطلاحي للعدد الحقيقي - من خلال فكرة الحد (التقسيم) - قد أصبح كالتالي: «زوج معين من المجموعات غير المنتهية ذو خصائص معينة». ويوجد هنا عدد من أوجه الغرابة المحتملة التي ينبغي ملاحظتها. أولا، نظرا إلى حساسية الرياضيات الطويلة الأمد التي كثيرا ما يشار إليها تجاه اللانهائيات الفعلية، ربما ينظر إلى نظرية ديديكند على أنها ببساطة عبارة عن مبادلة مقدار من النوع غير القابل للتعريف بمقدار آخر، أي على أنها استحضار - بغرض إرساء الأعداد الصماء وتعريفها - للفكرة الغامضة بأنها ليست مجموعة واحدة وإنما مجموعتان كبيرتان على نحو لا يمكن تصوره ومع ذلك مرتبتين بدقة، كل منهما غير منتهية نوعا ما ولكنها محدودة بطرق خاصة للغاية. وهو ما قد يفاجئك كونه شديد الشبه بما ذهب إليه زينون مرة أخرى. وإن كان الأمر كذلك، فاحتفظ بهذه الفكرة جيدا.
وجه الغرابة الثاني: إذا كنت مصغيا على غير العادة ولا يعتريك الملل، فربما تكون قد لاحظت تشابها لافتا بين نظرية ديديكند وفكرة يودوكسوس النيدوسي عن عدم القابلية للقياس الهندسي السابق ذكرها في الجزء 2(د). وفيما يخص هذا التشابه، يرجى استرجاع الجزء 2(د) أو مراجعته وملاحظة كيف أن مفهوم الحد (التقسيم) قد ساعد الآن في توضيح الدور الذي لعبه تعريف يودوكسوس لفكرة «النسبة» في تحديد الأعداد غير النسبية: العدد المكتوب على صورة النسبة
هو عدد غير نسبي (أي إن
و
غير قابلين للمقايسة) فقط عندما تكون، لأي عدد نسبي ، عبارة الفصل
أو
صحيحة،
18
أي عندما . ليس ثمة اتهام هنا بأن ديديكند قد سرق فكرة يودوكسوس أو حتى أنه كان بالأحرى يعرف من هو. انظر، على سبيل المثال، مقدمة مقال «طبيعة الأعداد ومعناها» التي يشير فيها ديديكند إلى التعريف الخامس ليودوكسوس في كتاب «الأصول» دون أي وعي واضح على معرفته بالمصدر الذي استقى منه إقليدس هذا التعريف. يبرز هذا الاستشهاد الاختلاف الكبير بين ديديكند ويودوكسوس، وكذلك بين الرياضيات لدى الإغريق والتحليل الحديث:
إذا نظر المرء إلى العدد غير النسبي على أنه النسبة بين مقدارين قابلين للقياس،
19
فهل هذه الطريقة [= طريقة ديديكند] في تحديده المذكورة سلفا بأوضح أسلوب
20
في التعريف الشهير الذي قدمه إقليدس عن تساوي نسبتين (كتاب «الأصول»، الجزء الخامس، مسلمة 5).
يكمن الاختلاف في الجملة الافتتاحية «إذا ... مقدارين قابلين للقياس». كان يودوكسوس وإقليدس (مرة أخرى) عالمين في الهندسة، وكانت مسألة الأعداد غير النسبية بالنسبة إليهما تخص مقادير هندسية مثل الخطوط/المساحات/الحجوم. في حين كان مشروع ديديكند بأكمله (على غرار ما كان، مرة أخرى، مع فايرشتراس) يهدف إلى الخروج تماما من علم الهندسة وتأسيس التحليل كليا في علم الحساب.
21
وهذا هو السبب الذي جعل ديديكند يقول مرارا وتكرارا إن خط الأعداد والنقاط الهندسية في نظريته للتقسيم كانا لأغراض الترفيه ليس إلا. في الواقع، تتضمن مقدمته المشار إليها أعلاه واحدة من أكثر الجمل إثارة على الإطلاق عن جماليات الحوسبة، وهي: «من الأمور الجميلة بوجه خاص أنني أرى فيما يبدو أن المرء يمكنه المضي قدما نحو إنشاء نطاق الأعداد المتصل البحت، من دون أي اعتبار للمقادير القابلة للقياس، وفقط من خلال نظام متناه من خطوات التفكير البسيطة.»
على الجانب الآخر، من الجيد أن نتساءل عما إذا كان من المقبول القول بأن استخدام المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي في تعريف رياضي ينطوي فقط على «نظام متناه من خطوات التفكير»، وهو ما يعود بنا إلى الموضوع الذي ذكرناه قبل فقرتين من هنا. إذا اعترضت على استخدام المجموعات غير المنتهية في تعريف دقيق؛ لأنك تشعر أن هذه المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي غير حقيقية/غير جائزة رياضيا، فإنك تحاكي إذن فكر أرسطو/جاوس، وسيكون من أوائل المؤيدين لك البروفيسور إل كرونكر (1823-1891)، الذي كان - كما ذكر من قبل - معلم كانتور في وقت ما، ثم صار بعد ذلك عدوه اللدود والشخص الذي يرى بعض المؤرخين أنه السبب الوحيد تقريبا الذي دفعه إلى الجنون، والذي (= كرونكر) كان على الأغلب أول «عالم حدسي» في تاريخ الرياضيات، وذهب إلى أن الأعداد الصحيحة هي الشيء الوحيد الحقيقي رياضيا لأنها الشيء الوحيد «الواضح للحدس» وهو ما يعني أن الأعداد العشرية والأعداد غير النسبية وبالتأكيد المجموعات غير المنتهية؛ جميعها وحيدات قرن رياضية. وفي الغالب، فقد اختزل كرونكر في تاريخ الرياضيات في مقولته: «الأعداد الصحيحة وحدها هي من خلق الله، وكل ما عداها هو من صنع البشر.» تماما مثلما حصر دالمبير في مقولته: «امض قدما فحسب، وسوف يأتيك اليقين.» وأرخميدس في كلمته المشهورة: «وجدتها!».
22
يوجد ما هو أكثر مما تريد على الأرجح معرفته عن إل كرونكر والحدسية في بضع فقرات أدناه، أما الآن فيكفي أن تعرف أنه مثلما كان فايرشتراس وديديكند وآخرون يريدون استبعاد الهندسة من التحليل وتأسيس كل شيء على نظام الأعداد الحقيقية، ذهب كرونكر إلى ما هو أبعد من ذلك، وأراد أن يؤسس التحليل فقط على الأعداد الصحيحة وعلى الأعداد النسبية المكتوبة على صورة نسبة بين عددين صحيحين.
والآن، نعود إلى الاعتراض الخاص بعدم إمكانية استخدام مجموعات غير منتهية في تعريف ما على نظرية ديديكند للأعداد الحقيقية. هناك طريقتان على الأقل للرد على هذا الاعتراض. تتمثل الطريقة الأولى في القول بأن (انظر الحاشية السفلية رقم 21) نظرية ديديكند لا تطالبنا في الواقع بمعالجة المجموعات غير المنتهية بمفهوم «المعالجة» الخاص كما ورد في الجزء 1. وعلى وجه التحديد، لا يفترض أسلوب الحد (التقسيم) اللانهائيات الفعلية بقدر ما يفترضها المقدار . وهو ما يعني أن المجموعتين غير المنتهيتين
و
في نظرية ديديكند مجردتان وافتراضيتان تماما: لسنا مضطرين إلى عدهما أو رسمهما أو حتى التفكير فيهما خارج نطاق معرفة أن
وتحديد العنصر الأكبر
مقابل العنصر الأصغر
مقابل عدم تحقق أي من الحالتين.
إذا كنت غير مقتنع بهذا الرد وما زلت تشعر أن كل ما يفعله تعريف ديديكند الذي يفترض أنه دقيق هو مبادلة الغموض الرياضي للأعداد غير النسبية بالغموض الرياضي للمجموعات غير المنتهية، فمن المستحسن إذن توضيح أنه في الوقت الذي ظهر فيه مقال «الاتصال والأعداد غير النسبية»، بدأ جي إف إل بي كانتور في نشر بحثه الذي أزال غموض المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي التي افترضها ديديكند. وكما توقعنا مقدما في الجزأين 1 و4، كان ظهور كانتور وديديكند المتزامن تقريبا في الرياضيات بمثابة تكرار إلى حد ما لظهور كل من نيوتن ولايبنتس، وهو ما كان علامة مؤكدة على أن الوقت أصبح مواتيا للمجموعات من النوع اللانهائي. ومما لا يقل إثارة عن ذلك الأسلوب الذي تتداخل به أبحاث الرجلين، على غرار لوحات إيشر المستوحاة رياضيا التي يمثل من خلالها المفارقات الرياضية عن طريق الفن.
23
استطاع كانتور تعريف وإرساء مفهومي «المجموعة غير المنتهية» و«العدد فوق المنتهي» وصياغة أساليب دقيقة للجمع بين الأنواع المختلفة من اللانهائيات والمقارنة بينها، وهذا تحديدا هو الجزء الذي يتطلب دعما بالأدلة في تعريف ديديكند للأعداد غير النسبية. وبالمقابل، أوضح أسلوب الحد (التقسيم) أن المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي يمكن أن تكون ذات فائدة حقيقية في التحليل. وبعبارة أخرى، فإنه بقدر ما يجب أن تظل اللانهائيات مجردة حسيا وإدراكيا؛ فمن الممكن على الرغم من ذلك أن تكون في الرياضيات بمثابة تجريدات واقعية بدلا من أن تكون مجرد شطحات خيال غريبة ومتناقضة.
24
كما أن التوقيت كان غريبا في الغالب. كانت المرة الأولى التي علم فيها ديديكند بوجود جي كانتور في مارس 1872، عندما قرأ مقاله «حول توسيع نطاق فرضية من نظرية المتسلسلات المثلثية»
25
في دورية علمية كبيرة بينما كان بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقاله «الاتصال والأعداد غير النسبية»، الذي وضع في المسودة الأخيرة منه اقتباسا عن كانتور وفقرة «شكر وامتنان» ل «هذا المؤلف العبقري» الذي جاءت نظريته عن الأعداد غير النسبية في بحثه «... متوافقة، ناهيك عن أسلوب العرض والتقديم، مع ما أسميته جوهر الاتصال.» ثم التقيا مصادفة في وقت لاحق من العام نفسه في ملاذ لقضاء العطلات في سويسرا. اصطدم كل منها بالآخر حرفيا. كان كانتور دكتورا في جامعة هاله وكان ديديكند يدرس في المدارس الثانوية في برونزفيك.
26
تصادقا بمجرد أن التقيا، وشرعا في تبادل الخطابات ، وكثير من نتائج كانتور الأكثر أهمية على الإطلاق صيغت في هذه الخطابات. لكن لم يحدث قط أن تعاون الاثنان معا تعاونا حقيقيا، ووقع صدام كبير على ما يبدو بينهما في أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما خدع كانتور ديديكند بأن عرض عليه وظيفة أستاذ بجامعة هاله وريتشارد ديديكند رفضها (وإن كان من المفترض أنهما قد تصالحا في نهاية المطاف بالنظر إلى لقاءات الغداء الكثيرة التي جمعت بينهما خلال عام 1899). مرة أخرى، نحرص على تخطي معظم هذا النوع من المعلومات الشخصية.
الجزء 6(ه) ⋆
جزء تكميلي يتضمن معلومات شبه إضافية
كانت نظرية جي كانتور عن الأعداد غير النسبية، التي كما ذكرنا نشرت غالبا في مقال عام 1872 «حول ... المتسلسلات»، معقدة تقنيا ومن ثم أقل أهمية عن بحثه الأكبر عن نظرية المجموعات التي هي جزء منه،
27
وبناء على نسبة (الاهتمام/الإنهاك) الكلية لديك ربما لا ترغب فيما هو أكثر من المرور سريعا وسطحيا على التعليق التالي، الذي يشغل حيزا بلاغيا صعبا وصنف على أنه معلومة شبه إضافية.
نهاية «جزء تكميلي يتضمن معلومات شبه إضافية» •••
كان اهتمام كانتور بتعريف الأعداد غير النسبية في حد ذاتها أقل من اهتمامه بابتكار أسلوب يمكنه من خلاله تعريف كل الأعداد الحقيقية، النسبية وغير النسبية، بنفس الطريقة. وكان كانتور في الواقع أول من قدم إلى الرياضيات فكرة مجموعة مكونة من كل الأعداد الحقيقية تتضمن كلا من الأعداد النسبية والأعداد الصماء (وهو ما اعترض عليه ديديكند لأسباب مبهمة). من الواضح أن نظرية كانتور تعتمد على المجموعات غير المنتهية أيضا، ولكنها كانت بالنسبة إلى كانتور أشبه بمجموعات غير منتهية من متتابعات غير منتهية من الأعداد النسبية. ومن هنا يأتي جزء من صعوبة نظريته. ويكمن جزء آخر في أن كانتور كان يريد استخدام فكرة فايرشتراس عن الأعداد غير النسبية كنهايات دون مسألة الدوران في حلقة مفرغة التي ذكرناها في الجزء 6(أ)، وهو ما أدى به إلى استخدام المتتابعات المتقاربة بدلا من المتسلسلات.
وعلى نحو أكثر تحديدا، فإن كانتور لكي يتلافى الاستدلال الدائري العقيم في تعريف فايرشتراس استخدم حقيقة أن (1) كل الأعداد الحقيقية يمكن تمثيلها بواسطة أعداد عشرية لا نهائية (هذه الأعداد العشرية النسبية دائما إما أن تكرر الجزء الدوري الأساسي بها (كما في الحاشية السفلية رقم 10 في الجزء 6(ج)) وإما أن تنتهي بعدد لا نهائي من الأصفار أو التسعات (وهو ما يكافئ، بالرجوع إلى المناقشة المطروحة في الحاشية السفلية رقم 35 في الجزء 2(ج)، المقدار الكامل ))، وحقيقة أن (2) الأعداد العشرية اللانهائية هي بمثابة نهايات للكسور العشرية. (لقد درست الكسور العشرية في الصف الرابع أو الخامس، وهي الطريقة التي نعلم بها الأطفال فهم الأعداد العشرية بدلالة الكسور الاعتيادية، كما على سبيل المثال في . وفيما يلي مثال آخر حيث يتضح أن التحليل الحديث يشكل أساس علم الحساب لدى النشء: القاعدة العامة هي أن أي عدد عشري لا نهائي يمكن تمثيله على صورة متسلسلة غير منتهية متقاربة ، التي يبلغ مجموعها/تتقارب إلى العدد العشري الأصلي؛ أي إن العدد العشري هو نهاية المتسلسلة.)
28
وبعد ذلك، من خلال توظيف ذكي للرياضيات وعلم الدلالات، استطاع كانتور تجميع كل الأعداد العشرية في بوتقة واحدة بملاحظة أن تقارب أي متتابعة
29
من الأعداد النسبية يكافئ في معناه إمكانية تمثيلها بواسطة عدد عشري لا نهائي، وبذلك يكون هذا العدد العشري معرفا رياضيا بواسطة المتتابعة. (معلومة إضافية: إذا كانت الفقرة أعلاه تبدو مراوغة وملتفة، فإنه يمكننا اختزال الحجة في قياس منطقي بسيط: «بما أن (1) كل الأعداد قابلة للتعريف بواسطة أعداد عشرية و(2) كل الأعداد العشرية قابلة للتعريف بواسطة متتابعات، (3) فإن كل الأعداد قابلة للتعريف بواسطة متتابعات.» وهو أمر صحيح تماما.)
على ضوء هذا كله، تتمثل فكرة كانتور الأساسية في أن متتابعة غير منتهية
من الأعداد النسبية تعرف عددا حقيقيا إذا كانت المتتابعة تتقارب بحيث تكون
لأي قيمة اختيارية
30
أي، إذا كان الفرق بين أي حدين متتاليين يقترب من الصفر
31
كلما تقدمت لمسافة أبعد وأبعد في المتتابعة (وهذه بالطبع هي آلية عمل الأعداد العشرية: بالوصول إلى المنزلة العشرية رقم ، يمكن أن يصبح الفرق بين القيم المتتابعة
تقريبا). ويسمي كانتور المتتابعات التي تسلك هذا المسلك بالمتتابعات الأساسية، وتنص نظرية كانتور للأعداد الحقيقية على أن كل عدد حقيقي يعرف بواسطة متتابعة أساسية واحدة على الأقل.
ثمة اعتراضان على هذه النقطة. إذا استوقفك هذا لكونه ضربا من الاستدلال الدائري أو المصادرة على المطلوب أن يعرف كانتور «العدد الحقيقي» بأنه ذلك العدد الذي يعرف بواسطة متتابعة أساسية - مثلما تعرف «الكلب» بأنه ذلك الذي يعرف بتعريف لفظة «كلب» - فلا بد إذن أن نوضح معنى «يعرف» فيما يخص نظرية كانتور. الفعل «يعرف» يعني ببساطة «هو» أو «يساوي». أي إن ما يتيح للنظرية تلافي الدوران في حلقة مفرغة هو أن المتتابعة الأساسية ذات الصلة «هي/تساوي» العدد الحقيقي، مثلما أن «هو/يساوي»
والدالة المثلثية «هي/تساوي» مفكوك متسلسلتها المتقاربة. على الجانب الآخر، بما أن الأعداد الحقيقية تشمل كلا من الأعداد النسبية وغير النسبية، فربما تتساءل عما إذا كانت متتابعات كانتور الأساسية من الأعداد النسبية يمكنها أيضا تعريف الأعداد النسبية، وكيف، أو عما إذا كانت الفكرة منطقية في الأساس. والإجابة هي أن الفكرة منطقية ويمكن للمتتابعات الأساسية حقا تعريف أعداد نسبية: شرط كانتور هو أنه عندما كل حد بعد
من حدود المتتابعة الأساسية
يساوي إما
أو ، فإن المتتابعة تعرف (= تكون هي) العدد النسبي .
32
ولكي تكون النظرية قابلة للتطبيق حقا، كان على كانتور أن يوضح كيفية إثبات الخصائص الحسابية وتنفيذ العمليات الأساسية على متتابعاته الأساسية والأعداد الحقيقية التي تعرفها. ونتناول فيما يلي مثالين من الشروح التي استعرضها في بحثه، حيث نفترض أن العددين الحقيقيين هنا هما
و : (أ)
بما أنه تبين أنك تستطيع تعريف نفس العدد الحقيقي
عن طريق أكثر من متتابعة أساسية واحدة،
33
فإن قاعدة كانتور تنص أن متتابعتين أساسيتين
و
تعرفان نفس العدد الحقيقي
إذا كان وإذا كان فقط
يقترب
34
من
عندما يقترب
تئول إلى . (ب)
لإثبات العمليات الحسابية الأساسية، لنفترض أن
و
متتابعتان أساسيتان يعرفان
و
على التوالي. أثبت كانتور (بأسلوب متخصص مليء بالرموز، وهو ما حذفناه هنا) أن ( ) و( ) هما أيضا متتابعتان أساسيتان، ومن ثم يعرفان العددين الحقيقيين
و . في برهانه أن
هي متتابعة أساسية تعرف ، الشرط الوحيد هو أن
لا يساوي بالتأكيد .
وختاما، لعلك لاحظت اعتراضا آخر محتملا، وهو اعتراض سفيه إلى حد ما. وربما يكون الشيء الوحيد الأكثر إثارة للإعجاب عن نظرية كانتور للأعداد الحقيقية وإمكانية تعريفها عن طريق متتابعات أساسية - الذي جعل ديديكند يلقبه بالعبقري - هو أسلوب كانتور في تجنب الاعتراض الهدام المتمثل في الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق الذي بدت نظريته في البداية أنها عرضة له. ذلك لأنه إذا كانت متتابعات أساسية من الأعداد النسبية تعرف الأعداد الحقيقية، فماذا عن متتابعات أساسية من الأعداد الحقيقية (= كلا من الأعداد النسبية وغير النسبية)؟ يمكنك بسهولة إنشاء متتابعة من الأعداد الحقيقية تتقارب وفقا لمواصفات كانتور، وكثير من أنواع المتسلسلات المثلثية تتقارب بالفعل. هل نحن في حاجة إلى ابتكار فئة من الأعداد جديدة تماما لتكون بمثابة نهايات لهذه المتتابعات من الأعداد الحقيقية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فسوف نحتاج مع ذلك إلى فئة أخرى لتكون بمثابة نهايات للمتتابعات الأساسية من تلك الأعداد الجديدة، ثم فئة أخرى ... وهكذا دواليك؛ وسيكون هذا تكرارا لحجة «الرجل الثالث» لأرسطو. إلا أن كانتور رد على هذا بإثبات
35
النظرية التالية: إذا كانت
هي متتابعة من الأعداد الحقيقية بحيث إن
لأي قيمة اختيارية - بمعنى إذا كانت
متتابعة أساسية صحيحة من الأعداد الحقيقية - فثمة عدد حقيقي وحيد ، تعرفه متتابعة أساسية
من العدد النسبي ، بحيث إن . بعبارة أخرى، استطاع كانتور أن يوضح أن الأعداد الحقيقية نفسها يمكن أن تكون بمثابة نهايات لمتتابعات أساسية من الأعداد الحقيقية، بمعنى أن نظام التعريفات الخاص به منغلق على ذاته ونوع من برهان الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق.
الجزء 6(و)
حسبما أشرنا في الجزء 6(د)، كانت نظريات ديديكند وكانتور تتعارض مع مبدأ آخر لكرونكر، يعرف غالبا ب «الإنشائية» أو «البنائية»، والذي سوف يصبح جزءا كبيرا من الحدسية ومن الخلافات والقضايا الجدلية التي أثارتها نظرية المجموعات بشأن الأسس الفلسفية للرياضيات.
36
ويتسم هذا كله بالصعوبة والتعقيد الشديدين، ولكنه مهم. ومن ثم، سوف نستعرض فيما يلي المبادئ الأساسية للإنشائية حسبما طبقها كرونكر وقننها كل من جيه إتش بوانكاريه وإل إي جيه براور وغيرهما من الشخصيات الكبرى في الحدسية: (1) أي نظرية أو عبارة رياضية تكون أكثر تعقيدا أو تجريدا من العمليات الحسابية البسيطة القديمة على الأعداد الصحيحة يجب أن تشتق (أي «تنشأ») صراحة من العمليات الحسابية الخاصة بالأعداد الصحيحة من خلال عدد محدود من الخطوات الاستنتاجية تماما. (2) البراهين الصحيحة الوحيدة في الرياضيات هي براهين إنشائية، بمعنى أن البرهان يقدم وسيلة لإيجاد (أي «إنشاء») الكيانات الرياضيات التي يعنى بها أيا ما كانت.
37
وفيما يخص ميتافيزيقيا الرياضيات، فإن الإنشائية بذلك هي النقيض المباشر للأفلاطونية: باستثناء الأعداد الصحيحة على الأرجح، لا توجد حقائق رياضية بمعزل عن العقل البشري. وفي الواقع، فيما يتعلق بكرونكر ومن تلاه، فإن القول بأن كيانا رياضيا معينا «موجود» يعادل حرفيا القول بأنه في مقدور البشر إنشاؤه بالورقة والقلم في غضون فترة زمنية محدودة.
ومن ثم، يمكنك ملاحظة أن أتباع المدرسة الإنشائية سوف يواجهون مشكلة كبرى فيما يخص النظريات والبراهين التي تتضمن اللانهائية والمجموعات غير المنتهية والمتتابعات غير المنتهية وهكذا - لا سيما عندما تكون هذه المقادير غير المنتهية معروضة بوضوح على أنها فعلية. وفيما يتعلق بتقسيمات ديديكند وحدوده، على سبيل المثال، من الواضح أن عيوب الإنشائيين ونقائصهم ستكون في مأزق صعب منذ البداية. فالأمر لا يقتصر فقط على عدم وجود الأعداد غير النسبية فعليا، ولا على استخدام ديديكند للبرهان بنقض الفرض لإثبات أن بعض التقسيمات (الحدود) لا تناظر أعدادا نسبية. بل هناك أيضا المسألة الكاملة لتعريف عدد ما بدلالة مجموعات غير منتهية من أعداد أخرى. وأحد الأسباب هو أن ديديكند لم يحدد القواعد الرياضية التي يستطيع المرء بموجبها اشتقاق المجموعتين
و . وهو يقول ببساطة إنه إذا كان خط الأعداد يمكن تقسيمه إلى ، دون إعطاء أي طريقة أو خطوات يمكن للمرء بموجبها أن ينشئ فعليا هاتين المجموعتين، وهما مجموعتان لا يمكن فعليا إنشاؤهما أو التحقق منهما على أية حال، بما أنهما غير منتهيتين . وبينما نحن نتحدث عن هذا الموضوع، دعونا نطرح تساؤلا: ماذا تعني كلمة «مجموعة» بالضبط من الناحية الرياضية المتخصصة، وما هي خطوات إنشائها؟ وهكذا.
يقدم السؤال المركب الأخير للإنشائيين (الذي لم يستطع ديديكند الإجابة عنه باعتراف الجميع)
38
مثالا أوليا على عبقرية جي كانتور الابن اللافتة للنظر وعلى الأسباب التي جعلته يستحق لقب «مؤسس نظرية المجموعات». تذكر ما ورد في الجزء 3(ج) عن كيف أن كانتور قد أخذ ما كان يعتبر سمة متناقضة ولا يمكن التعامل معها إطلاقا للانهائية - وهو أن التجمع/الفئة/المجموعة غير المنتهية يمكن وضعها في تناظر أحادي مع مجموعتها الجزئية - وتحويلها إلى تعريف رياضي متخصص للمجموعة غير المنتهية. لاحظ كيف أنه فعل نفس الشيء هنا، بتحويل ما يبدو أنه اعتراضات هدامة إلى معايير دقيقة، عن طريق تعريف مجموعة
على أنها تجمع أو مجموعة من كيانات منفصلة تحقق شرطين: (1) يتعامل العقل البشري مع
على أنها تجمع و(2) ثمة قاعدة معينة أو شرط معين يمكن للمرء من خلاله تحديد ما إذا كان ، لأي كيان، عنصرا من عناصر
أم لا.
39
لا شك أن هذا التعريف لم يظهر فجأة على حين غرة. من المناسب الآن مراجعة المحتوى الوارد في الجزء 5(د) عن تقارب المتسلسلات المثلثية، وإمكانية التمثيل، ونظرية التوطين لريمان، وغيرها، لنعرف من أين جاءت حقا أبحاث كانتور حول الأعداد الصماء والمجموعات.
هوامش
الجزء السابع
الجزء 7(أ)
يحتوي هذا الجزء على عبارات مقتبسة:
انبثقت نظرية اللامتناهي الحديثة نتيجة تطور متقارب من الرياضيات التي سبقتها.
إس لافين
لكن غير الملمين بالموضوع قد يتساءلون كيف يمكن التعامل مع عدد غير قابل للعد.
بي راسل
يرجى من الجميع التأهب وربط أحزمة الأمان لأننا على وشك صعود ارتفاع شاهق شديد الانحدار.
أيه آر جوريس
لأسباب صارت معروفة الآن، سيكون كل ما سوف نتناوله فيما يلي سريع الإيقاع حقا. وسيكون أيضا صعبا إلى حد ما في البداية، ولكن على غرار كثير من موضوعات الرياضيات البحتة فإنه سيصبح أسهل كلما تعمقنا فيه أكثر. كما ذكرنا سلفا، فإن جي إف إل بي كانتور أدى بحث تخرجه في جامعة برلين تحت إشراف فايرشتراس وكرونكر؛ إذ كانت باكورة مقالاته المنشورة عبارة عن بحث معروف إلى حد ما حول بعض المسائل المتعلقة بنظرية الأعداد.
1
وبعد نيله الدكتوراه حصل كانتور على وظيفة منخفضة الدرجة كمحاضر خاص (وهي فيما يبدو نوع من وظيفة «المعيد» الحر)
2
في جامعة هاله، وهناك التقى بإي إتش هاينه (1821-1881)، وهو مختص في التحليل التطبيقي الذي له بحث مهم في موضوع الحرارة، وتحديدا في معادلة طاقة الوضع.
3
على أية حال، اعتبارا من عام 1870 تقريبا، أصبح هاينه جزءا من كوكبة علماء الرياضيات الكبرى الذين يعملون على متسلسلات فورييه والقضايا التي أثارها ريمان «حول قابلية تمثيل ...»، وفيما يبدو أن هاينه هو من جعل كانتور يهتم بما عرف بعد ذلك بمسألة الوحدانية: إذا كانت أي
معطاة يمكن تمثيلها بواسطة متسلسلة مثلثية، فهل هذا هو التمثيل الوحيد، بمعنى هل يمكن لمتسلسلة مثلثية واحدة فقط أن تفعل ذلك؟ لم يستطع هاينه نفسه إثبات الوحدانية إلا شريطة أن تكون المتسلسلة المثلثية ذات الصلة متقاربة تقاربا منتظما.
4
ومن الواضح أن هذا لم يكن جيدا بما يكفي، حيث توجد الكثير من المتسلسلات المثلثية، بل ومن متسلسلات فورييه، التي ليست متسلسلات متقاربة تقاربا منتظما.
في عام 1872، عرف مقال كانتور «حول توسيع نطاق فرضية من نظرية المتسلسلات المثلثية»
5
نظرية أكثر تعميما بكثير عن الوحدانية وأثبتها، ولا تشترط هذه النظرية وجود تقارب منتظم، كما أنها تسمح باستثناءات فيما يخص التقارب عند عدد لا نهائي من النقاط، بشرط أن تكون هذه النقاط الاستثنائية
6
موزعة بأسلوب خاص معين. وكما سوف نرى، فإن هذا التوزيع الدقيق معقد إلى حد ما كما هو الحال في النظرية عام 1872 نفسها، التي كان كانتور قد صاغها في واقع الأمر في عدد من الأبحاث السابقة ونشر ملاحق لها، حيث تطورت معاييره للفردية تدريجيا من ضرورة أن تتقارب المتسلسلة المثلثية المعطاة لجميع قيم
إلى السماح بعدد محدود من النقاط الاستثنائية، إلى الصيغة النهائية العامة تماما من مبرهنة الوحدانية. ومن المثير للاهتمام أن البروفيسور إل كرونكر هو من ساعد كانتور في تنقيح برهانه وتبسيطه في عدة نقاط أولية. وفي الوقت نفسه، كان نهج كرونكر ملما بعمق بأبحاث فايرشتراس حول الاتصال والتقارب، على سبيل المثال، ملاحظة أنه لكي تكون متسلسلة مثلثية عامة ما على الصورة
قابلة للتكامل حدا حدا (وهو الأسلوب الذي حاول به هاينه وكل علماء الرياضيات الآخرين دراسة مسألة الوحدانية)، فلا بد أن تكون المتسلسلة متقاربة تقاربا منتظما. لاحظ المؤرخون أن علاقات كانتور وفايرشتراس أخذت في الفتور وأن خطابات إل كرونكر أصبحت أكثر تعقيدا عندما بدأت تنقيحات كانتور لمبرهنة الوحدانية تسمح بعدد لا نهائي من النقاط التي يمكن أن يسمح عندها باستثناء إما تمثيل دالة
معطاة أو السماح بتقارب المتسلسلة.
7
في كل نسخة من نسخ البرهان المتتالية، كان كرونكر بالأساس يراقب كانتور وهو ينتقل من منطقه الجبري الإنشائي إلى منطق خاص بنظرية الدوال ليصبح أقرب إلى فايرشتراس. واكتمل هذا الارتداد عند ظهور النسخة النهائية من بحث عام 1872 وكان الجزء الأول برمته من هذا البحث مخصصا لنظرية الأعداد غير النسبية/الحقيقية الموضحة بالتفصيل في الجزء 6(ه).
إن فهم الأسباب التي تؤكد ضرورة وجود نظرية متسقة عن الأعداد غير النسبية هي وسيلة جيدة لمعرفة كيف أن أبحاث كانتور عن مبرهنة الوحدانية قادته إلى دراسة المجموعات غير المنتهية في حد ذاتها. يتطلب النقاش، الذي أصبح معقدا نوعا ما، أن تتذكر قانون نظرية بولزانو-فايرشتراس بأن كل مجموعة غير منتهية من النقاط تحتوي على نقطة نهاية واحدة على الأقل، ومن ثم نتساءل بالتأكيد عن مفهوم نقطة النهاية.
8
وبالإضافة إلى أن عليك أن تضع في اعتبارك أن المفاهيم الأساسية لبرهان الوحدانية تدور جميعها حول خط الأعداد الحقيقية (أي عند استخدام مصطلحات مثل «مجموعة نقاط» أو «نقطة استثنائية» أو «نقطة نهاية»، فإنها جميعا تشير في الحقيقة إلى نقاط هندسية مناظرة لأعداد.
9
ويرجى أن نلاحظ أيضا أن «المجموعات غير المنتهية من النقاط» قيد البحث في كل من نظرية بولزانو-فايرشتراس وبرهان كانتور هي في الحقيقة متتابعات، وهي أيضا أسهل كيانات يمكن من خلالها فهم نقاط النهاية - على سبيل المثال، المجموعة غير المنتهية من نقاط خط الأعداد
10
لها نفس نقطة النهاية
التي هي نفس نهاية المتتابعة غير المنتهية .
سنتناول فيما يلي الكيفية التي توصل بها كانتور إلى نتيجته العامة على نحو متزايد. في البداية (عام 1870)، كان كانتور يحتاج إلى متسلسلة مثلثية غير متقاربة تقاربا منتظما،
11
ولكنها متقاربة عند كل موضع، بمعنى أنها متقاربة لجميع قيم . في الخطوة التالية (عام 1871)،
12
استطاع أن يثبت أنه إذا كانت متسلسلتان مثلثيتان مختلفتان فيما يبدو تتقاربان لنفس الدالة (الاختيارية) عند كل موضع باستثناء عدد محدود من نقاط ، فهما في الحقيقة نفس المتسلسلة. سوف نتخطى هذا البرهان؛ لأن الموضوع وثيق الصلة بنقاشنا الحالي هو ما سوف نتناوله في النقطة التالية، وهو النتيجة التي توصل إليها كانتور عام 1872 حيث استطاع أن يسمح بعدد لا نهائي من النقاط الاستثنائية وأن يثبت مع ذلك أن المتسلسلتين المثلثيتين الممثلتين متطابقتان في النهاية.
13
واستطاع كانتور أن يفعل ذلك من خلال تقديم مفهوم المجموعة المشتقة، التي تعريفها بالأساس كالتالي: إذا كانت
مجموعة نقاط (بمعنى أي مجموعة من نقاط الأعداد الحقيقية، مع أن من الواضح أن ما كان يعنيه كانتور هو مجموعة غير منتهية من جميع النقاط الاستثنائية بين المتسلسلتين المثلثيتين)، فإن المجموعة المشتقة
للمجموعة
هي مجموعة كل نقاط النهاية الخاصة بالمجموعة . أو ينبغي لنا بالأحرى أن نقول إن
هي المجموعة المشتقة الأولى من ؛ لأنه ما دامت مجموعات النقاط ذات الصلة غير منتهية، فإن العملية بأكملها تكون مبدئيا تكرارية إلى ما لا نهاية -
هي المجموعة المشتقة من ،
هي المجموعة المشتقة من ، وهكذا، حتى يكون لديك بعد
من التكرارات
وهي المجموعة المشتقة رقم
من . في شرح مبرهنة الوحدانية في الفقرتين السابقتين، يرتكز المعيار «شريطة أن تكون هذه النقاط الاستثنائية موزعة بأسلوب خاص معين.» على هذه المجموعة المشتقة رقم ، وعندئذ يكون السؤال الجوهري هو ما إذا كانت
غير منتهية أم لا.
تنطوي بعض المفاهيم الرياضية الحقيقية لمبرهنة الوحدانية على معلومات تقنية تماما عن كيفية عمل نقاط النهاية، ولكن سنستعرض فيما يلي ما تعنيه في الأساس فكرة توزيع النقاط الاستثنائية في مبرهنة الوحدانية. ربما لم يأن تنفس الصعداء بعد.
14
افترض أن لديك مجموعة غير منتهية من النقاط
بحيث تكون، لأي عدد محدود ، المجموعة المشتقة رقم
للمجموعة ، أي ، غير منتهية بينما مجموعتها المشتقة رقم ، أي ، محدودة ومنتهية. وعليه، إذا تقاربت متسلسلتان مثلثيتان إلى نفس
باستثناء عند بعض أو كل النقاط في ، فإنهما يكونان متسلسلتين متكافئتين؛ ومن ثم تثبت الوحدانية. ربما لم يكن هذا واضحا ومفهوما للغاية. والجزء الذي من الضروري توضيحه هو شرط أن تكون
محدودة ومنتهية. ولكي نشرح ذلك، يجب أن نتعرف على فرق آخر: أي مجموعة
تكون مجموعتها المشتقة
محدودة ومتناهية لعدد محدود
هي ما أسماه كانتور مجموعة من النوع الأول، في حين إذا كانت
غير منتهية لأي قيمة منتهية ل ، فإن
هي مجموعة من النوع الثاني. (هذا هو سبب وصف آلية المجموعات المشتقة أعلاه بأنها غير منتهية «مبدئيا» - والمجموعات من النوع الثاني فقط هي التي لا ينتج عنها أبدا مجموعات مشتقة منتهية، ومن ثم تسمح بعدد لا نهائي من التكرارات التي نحصل فيها على مجموعة مشتقة لمجموعة مشتقة أخرى وهكذا دواليك.)
حسنا إذا. نستعرض فيما يلي السبب الذي جعل كانتور، في برهانه لنظرية الوحدانية، يحتاج إلى أن تكون المجموعة غير المنتهية الأصلية من النقاط الاستثنائية
مجموعة من النوع الأول، ومن ثم أن تكون
منتهية. والسبب هو أنك تستطيع بالتأكيد، من خلال نظرية القيم المتطرفة لفايرشتراس، إثبات أنه إذا كانت أي مجموعة مشتقة
منتهية، فإنه عند نقطة ما أبعد من ذلك
سوف تأخذ المجموعة المشتقة
أصغر قيمة مطلقة لها ، التي ستكون في هذه الحالة إما
وإما بلا نقاط نهاية على الإطلاق. وهو ما يعني، بعبارة أخرى، أنه في أي وقت تصل فيه داخل المتوالية الكاملة
إلى مجموعة مشتقة منتهية، عليك أن تعلم أن العملية التكرارية بأثرها سوف تتوقف في مكان ما؛ حيث إنك ستحصل في النهاية على مجموعة
بدون عناصر. ونعلم بالطبع أن عناصر هاتين المجموعتين المختلفتين
و
هي نقاط نهاية، كما نعلم من نظرية بولزانو-فايرشتراس أن أي مجموعة غير منتهية تكون لها على الأقل نقطة نهاية واحدة. وإذا كانت
بلا عناصر، فإن المجموعة التي هي المجموعة المشتقة لها تكون بلا نقطة نهاية، ومن ثم فلا بد طبقا لنظرية بولزانو-فايرشتراس أن تكون هي نفسها منتهية، ومن ثم لا بد طبقا لنظرية القيم المتطرفة لفايرشتراس عند نقطة ما أن تأخذ قيمتها الصغرى وهي
من العناصر، وهي النقطة نفسها التي تصبح عندها المجموعة التي هذه هي مجموعتها المشتقة منتهية، وهكذا رجوعا عبر
و
و
و... و ، وهو ما يعني أن الأمر برمته يتلخص في أنه عند نقطة ما قابلة للإثبات يمكن توضيح أن المتسلسلتين المثلثيتين الممثلتين يتحولان إلى متسلسلة واحدة، وهو ما يثبت الوحدانية ويؤكدها.
ومع ذلك، سوف تتذكر من الجزأين 5(ه) و6(أ) أنه لكي تكون نظرية القيم المتطرفة قابلة للتطبيق 100٪ في كل الحالات، فإنها تتطلب نظرية عن الأعداد الحقيقية، وأن نسخة فايرشتراس من هذه النظرية كانت (كما أوضح كانتور نفسه) خرقاء. وهذا هو أحد الأسباب التي استلزمت أن يكون لبرهان كانتور لعام 1872 نظريته الخاصة عن الأعداد الحقيقية. أما عن السبب الآخر والمتعلق أيضا بنفس الموضوع، فهو أن كانتور لكي يستخدم نظرية بولزانو-فايرشتراس الأكثر تعميما في بناء نظريته عن المجموعات المشتقة وأنواعها، كان عليه التوفيق بين الخصائص الهندسية للنقاط على تسلسل أحد الخطوط - وهو ما يعني هنا مفاهيم مثل «نقطة النهاية» و«الفترة» وغيرها - واتصال الأعداد الحقيقية (أو ما يعرف أيضا بالاكتناز المترابط)، حيث تكون بالطبع الكيانات المتضمنة في التحليل أعدادا حقا وليست نقاطا.
15
إذا لاحظنا أن المجموعات المشتقة لدى كانتور تشبه الفكرة العامة للمجموعة الجزئية، وأن القيمة الصغرى
هي بالأساس تعريف المجموعة الخالية نفسه، فمن الممكن أن نستشف بذور ما يعرف الآن بنظرية المجموعات
16
في برهان كانتور للفردية. كما أن المجموعات المشتقة واتصال مجموعة الأعداد الحقيقية/الخط الحقيقي، ومبرهنة الوحدانية هي اللبنات الأولى لرياضيات الأعداد فوق المنتهية لكانتور، وإن كانت بأساليب معقدة نوعا ما. لقد رأينا توا أن
في مبرهنة الوحدانية تستلزم أن تكون
منتهية؛ أي إن كانتور لم يطبق عملية إيجاد مجموعة مشتقة لمجموعة مشتقة أخرى في برهانه إلا لعدد محدود فقط من المرات. وبما أن هناك بالفعل العديد من المجموعات غير المنتهية التي تحوم حول البرهان، مع أنه (كما في:
الأصلية غير منتهية، وكل المجموعات من
و
وهكذا وصولا إلى
يمكن أن تكون غير منتهية، وبالطبع المتسلسلات المثلثية ذات الصلة هي متسلسلات غير منتهية، ناهيك عن أن نقاط النهاية تحتوي على عدد لا نهائي من النقاط داخل الفترات، وأن تلك الفترات هي نفسها يمكن أن تكون متناهية في الصغر)، فلا غرو في أن يبدأ كانتور بالنظر عن كثب في خصائص مجموعاته المشتقة بموجب عدد من التكرارات اللامتناهية.
وعلى نحو أكثر تحديدا، بدأ كانتور يتساءل عما إذا كانت لا نهائية مجموعة مشتقة من النوع الثاني غير متناهية التكرار
قد تختلف عن - أو تفوق بطريقة ما - لا نهائية المجموعة
من النوع الأول غير المتناهية التكرار. وعلى نحو أكثر تحديدا أيضا، لاحظ (كانتور) مدى التشابه الكبير للغاية بين هذه الأسئلة والسؤال حول اللانهائيات النسبية لكل من الأعداد النسبية على خط الأعداد في مقابل الأعداد الحقيقية على خط الأعداد الحقيقي. يتعلق هذا السؤال الأخير بالموضوع الذي نوقش لأول مرة في الجزء 2(ج) - على الرغم من أن الأعداد النسبية لا نهائية وغير متناهية الكثافة، فإنها ليست متصلة (أي إن خط الأعداد تتخلله فراغات)، في حين أن كلا من ديديكند وكانتور قد أثبتا الآن اتصال مجموعة كل الأعداد الحقيقية كما هو مخطط على خط الأعداد الحقيقية، ومن هنا، من الطبيعي فيما يبدو أن يتساءل كانتور
17 - الذي في سبيل مبرهنة الوحدانية قد وضع أساليب لفحص كل من الأعداد الحقيقية مقابل الأعداد النسبية وخصائص المجموعات غير المنتهية - عما إذا كانت المجموعة غير المنتهية من جميع الأعداد الحقيقية أكبر بطريقة ما من المجموعة غير المنتهية من جميع الأعداد النسبية. وذلك باستثناء ما يفترض أن تعنيه كلمة «أكبر» هنا ، وكذلك كلمة «تفوق» في السؤال الوارد أعلاه عن
مقابل - أي كيف يمكن وصف المقادير النسبية من اللانهائيات المختلفة وتفسيرها رياضيا؟ وهي النقطة التي، أثارها جيه جليسون بكلماته الخالدة ...
جزء تكميلي حول نهج الكتاب
يوجد الآن موضوعان إجرائيان يتعين تناولهما. ثمة مجلدات علمية بأكملها مكرسة لإنجازات كانتور.
18
ويمكنك أن تحصل على دورة دراسية مدتها فصلان دراسيان عن نظرية المجموعات تحت عناوين خاصة بأقسام المنطق أو الرياضيات أو الفلسفة أو علوم الحاسب
19
ومع ذلك تكون قد درست القشور الخارجية فقط. من الناحية التاريخية، تمتد نظريات كانتور وبراهينه حول الأعداد فوق المنتهية على مدى ما يزيد عن 20 عاما
20
بالإضافة إلى عشرات الأبحاث المختلفة المصحوبة غالبا بتنقيحات وتعديلات متتالية للمحتوى السابق، حتى إنه توجد أحيانا أكثر من نسخة للبرهان الواحد. وعليه، فمن الواضح أن من المستحيل هنا أن نشرح رياضيات الأعداد فوق المنتهية بشكل كامل، أو أن نتحدث باستفاضة عن تطورها في أبحاث كانتور المنشورة، ونوفيها حقها في هذا الصدد.
21
من جهة أخرى، توجد بعض الكتب الحديثة المبسطة التي تعطي معلومات سطحية ومختزلة عن براهين كانتور (وعادة ما تكون هذه المعلومات، كما ذكرنا، في مرتبة أدنى مما قاله بروميثيان عن مشاكل كانتور النفسية أو انتماءاته الغامضة المزعومة) لدرجة أن الرياضيات شوهت وحجب جمالها؛ ولا شك أننا لا نريد أن نسلك هذا المسلك أيضا.
وعليه، فقد اتخذنا قرارا لتحقيق التوازن بأن يكون النهج من الآن فصاعدا هو التضحية بالتسلسل الزمني وبقدر معين من الاستفاضة في مراحل التطوير لصالح الشمولية المفاهيمية والترابط المفاهيمي؛ أي لعرض مفاهيم كانتور ونظرياته وبراهينه بأسلوب يلقي الضوء على العلاقات القائمة فيما بينها وعلاقاتها بالرياضيات في حد ذاتها. وهذا لن ينطوي فقط على التنقل من موضوع لآخر على نحو عشوائي قليلا، ولكننا في الغالب لن نخبرك أننا نفعل ذلك، أو أنه يوجد أحيانا عدة نسخ مختلفة من برهان معطى وأننا لا نتناول سوى أفضلها فقط، أو التواريخ الفعلية والعناوين الإنجليزية في مقابل الألمانية لكل المقالات ذات الصلة،
22
وهكذا. ويستلزم هذا أيضا مسرد مصطلحات خاصا عن نظرية المجموعات، وإن كان يلزم إعداده هذه المرة على نحو تدريجي وفي موضعه المناسب؛ لأن بعض المعلومات التي يتضمنها مجردة للغاية، حتى إنه لا يمكن عرضها عليك مقدما دفعة واحدة وبدون سياق.
نهاية «جزء تكميلي حول نهج الكتاب»
الجزء 7(ب)
كما ينبغي أن يكون واضحا، انبثقت بعض الأفكار المهمة للغاية حول اللانهائية من برهان «مبرهنة الوحدانية» العامة. تتعلق إحدى هذه الأفكار بالأحجام النسبية لمجموعة كل الأعداد النسبية في مقابل مجموعة كل الأعداد الحقيقية، بينما تدور أخرى حول ما إذا كان اتصال خط الأعداد الحقيقية له علاقة بطريقة ما بحجم المجموعة الأخيرة أو تركيبها. بل وثمة فكرة ثالثة، وهي مفهوم العدد فوق المنتهي، الذي استنتجه كانتور من الاعتبارات نفسها التي قادته إلى التمييز بين المجموعات غير المنتهية من النوع الأول والنوع الثاني في برهان عام 1872.
ولكي نعرف كيف تصور كانتور الأعداد فوق المنتهية واستحدثها، علينا أولا التأكد من استيعاب المحتوى الوارد في مسرد المصطلحات حول بعض مصطلحات نظرية الأعداد التي من المحتمل أنك رأيتها لأول مرة في مرحلة التعليم الأساسي.
23
بعبارة أخرى: مجموعة
هي مجموعة جزئية من المجموعة
إذا كان وإذا كان فقط لا يوجد عنصر من
غير موجود في . واتحاد المجموعتين
و
هو مجموعة كل عناصر
وكل عناصر ، بينما تقاطع
و
هو المجموعة التي تتضمن فقط عناصر
الموجودة التي هي أيضا عناصر في . ويرمز عادة إلى الاتحاد والتقاطع بالرمزين
و
على الترتيب. وأخيرا المجموعة الخالية، ورمزها المعتاد هو (فاي)، وهي مجموعة لا تشتمل على أي عناصر - واعلم أنه من خلال ما يبدو للوهلة الأولى على أنه ضرب من المراوغة في تعريف «المجموعة الجزئية»، فإن أي مجموعة مهما تكن سوف تتضمن
كمجموعة جزئية منها. نهاية الجزء الأول من مسرد المصطلحات الثالث. إضافة إلى ذلك، ينبغي أن تتذكر هنا ما تناولناه بشأن النوع الأول في مقابل النوع الثاني لمجموعات النقاط في الجزء السابق. كما توجد في الواقع بعض المعلومات التقنية التي تتضمن معايير خاصة بالمجموعات «الكثيفة» في مقابل المجموعات «كلية الكثافة» التي سوف نتجاوزها هنا، ولكن في جوهر الأمر سوف نتناول الطريقة التي تصور بها كانتور الأعداد فوق المنتهية واستحدثها، وهي كالتالي:
24
افترض أن
هي مجموعة نقاط غير منتهية من النوع الثاني. أثبت كانتور أن المجموعة المشتقة الأولى من ، وهي ، يمكن «تحليلها»
25
أو تقسيمها إلى اتحاد مجموعتين جزئيتين مختلفتين:
و ، حيث
هي مجموعة تضم كل النقاط التي تنتمي إلى المجموعات المشتقة من الجيل الأول للمجموعة ، و
هي مجموعة تضم كل النقاط المتضمنة في كل مجموعة مشتقة واحدة من ، بمعنى أن
هي مجموعة تضم فقط النقاط المشتركة بين كل المجموعات المشتقة من . ولتقرأ هذه الجملة الأخيرة مرة أخرى.
26
هي الجزء المهم، وهي فعلا الطريقة التي عرف بها كانتور «تقاطع» المجموعات لأول مرة، من خلال المتتابعة غير المنتهية من المجموعات المشتقة (المتتابعة غير منتهية؛ لأن
هي مجموعة من النوع الثاني). وعلى عكس رمز التقاطع لدينا ، كان رمز كانتور للتقاطع غريبا ومائلا للغاية ، (مرة أخرى، لن نستفيض في شرح كل شيء في هذا الصدد). وعليه، فإن تعريف
رياضيا هو: ، وهو ما يعني مع تعريف «المجموعة من النوع الثاني»، أن كلا من العلاقتين التاليتين صواب: (1) (2)
27
جزء تكميلي صغير مضمن
في الواقع، تمثل الخطوتان (1) و(2) معا نوعا من البراهين، وهو برهان آخر شهير بجانب البرهان بنقض الفرض. يسمى هذا البرهان «الاستنتاج الرياضي». لإثبات جملة ما
لكل ( ) من الحالات باستخدام الاستنتاج الرياضي، عليك (أ) إثبات أن
صواب للحالة الأولى ، ثم (ب) افتراض أن
صواب لأول
من الحالات (رغم أنك لا تعلم العدد الذي يمثله ، فإنك تعلم من الخطوة (أ) أنه موجود، وهو
إذا لم يكن خلاف ذلك)، ومن ثم (ج) إثبات أن
صواب لأول ( ) من الحالات. وسواء بدا الأمر غريبا أم لا، فإن النقاط من (أ) إلى (ج) تؤكد أن
سوف تكون صوابا مهما تكن قيمة ، أي إن
هي نظرية حقيقية.
نهاية «جزء تكميلي صغير مضمن» •••
أتاحت الخطوتان (1) و(2) لكانتور تعريف ، بوصفها مشتقة من ، كالتالي: - أي إن
هي المجموعة المشتقة رقم
من . وبما أن (مرة أخرى)
هي مجموعة من النوع الثاني، فلا يوجد أي احتمال أن تكون ، وهو ما يعني أن
نفسها سوف تؤدي إلى المجموعة المشتقة ، التي ستؤدي بدورها إلى المجموعة المشتقة
وهكذا، إلا أن كلمة «وهكذا» هنا تعني أننا يمكن أن نستمر في استنتاج عدد لا نهائي من المجموعات المشتقة من الصورة المجردة
28 . وبما أن
و
في هذه الصيغة متغيران، استطاع كانتور تكوين المتتابعة غير المنتهية التالية من المجموعات غير المنتهية: . ويقول كانتور عن هذه المتتابعة: «نرى هنا إنتاجا للمفاهيم على أسس جدلية، وهو ما يؤدي إلى أبعد من ذلك بكثير، ومن ثم فإنه يظل في حد ذاته خاليا بالضرورة وبالتبعية من أي اختيارات عشوائية» ... وهو ما يعني به أن هذه «المفاهيم» هي كيانات حقيقية في الرياضيات - الأعداد فوق المنتهية - برهنت بدقة باستخدام نظرية بولزانو-فايرشتراس وتعريفات جي كانتور نفسه فيما يخص «العدد الحقيقي» و«المجموعة المشتقة» و«التقاطع» والاستنتاج الرياضي.
إذا اعترضت (مثلما فعل البعض منا مع د. جوريس) بأن الأعداد فوق المنتهية لكانتور ليست في الواقع أعدادا على الإطلاق، لكنها بالأحرى مجموعات، فاعلم أن المقصود بشيء مثل
أنه رمز لعدد عناصر في مجموعة معطاة، تماما كما أن
هو رمز لعدد العناصر في المجموعة . وبما أن الأعداد فوق المنتهية مختلفة وتكون متتالية مرتبة غير منتهية مثل الأعداد الصحيحة تماما،
29
وهو أمر يمكن إثباته فعليا، فإنها أعداد حقا، ويمكن تمثيلها باستخدام نظام كانتور المعروف المشتمل على الحرف «أليف» أو .
30
ونظرا لأن الأعداد فوق المنتهية أعداد فعلية، فإنها تقبل نفس أنواع العلاقات والعمليات الحسابية شأنها شأن الأعداد العادية، وإن كانت قواعد هذه العمليات - كما في حالة الصفر تماما - تكون مختلفة جدا في حالة ، ويتعين إثباتها والبرهنة عليها على نحو مستقل. (معلومة إضافية: لن نسترسل كثيرا في ذلك، لكن إذا كان لديك فضول للاستزادة، فإليك بعض النظريات القياسية لجمع الأعداد فوق المنتهية وضربها ورفعها لأس، وجميعها نظريات استنتجها كانتور أو اقترحها. (يرجى ملاحظة أن حاصل جمع/ضرب عدد لا نهائي من الحدود هنا لا علاقة له تماما بمجاميع/نهايات المتسلسلات غير المنتهية في التحليل ، وهي المتسلسلات المعروفة الآن - بعد كانتور - بالمجموعات «شبه المنتهية»). افترض أن
عدد صحيح منته، وأن لدينا عددين مختلفين من الأعداد فوق المنتهية، هما
و ، حيث ،
31
ومن ثم كل العلاقات التالية صحيحة: (1) (2) (3) (4) (5) (6) (7) (8)
لاحظ أن عمليتي الطرح والقسمة لا يمكن إجراؤهما إلا في حالات معينة فقط، ليست بين الأعداد فوق المنتهية في حد ذاتها، كما هو الحال - على سبيل المثال - لعدد محدود ، حيث تكون ، و . (مرة أخرى، لا يختلف هذا على الإطلاق عن العمليات الحسابية في حالة الصفر.) لاحظ أيضا أن أسس الأعداد فوق المنتهية مثل ، و ، وهكذا هي حالة خاصة وسوف نشرحها بإسهاب لاحقا.
نهاية المعلومة
الإضافية.)
في حال إذا كنت تتساءل عن علاقة أي من هذا بالموضوعات الكبرى الأخرى المتعلقة باللانهائية - أي العلاقة المقارنة بين لا نهائية الأعداد النسبية في مقابل لا نهائية الأعداد الحقيقية، ودور الأعداد الصماء في اتصال خط الأعداد الحقيقية - اعلم أن إحدى حجج كانتور المفضلة عن حقيقة
32
الأعداد فوق المنتهية هي تشابهها رياضيا/ميتافيزيقيا مع الأعداد غير النسبية، التي سبق أن عرفها ديديكند بنجاح بمصطلحات المجموعات غير المنتهية. وهكذا صاغ كانتور الأمر:
إن الأعداد فوق المنتهية في حد ذاتها هي بمفهوم معين الأعداد غير النسبية الجديدة، وأرى في الواقع أن أفضل طريقة لتعريف الأعداد غير النسبية المنتهية مماثل تماما؛
33
بل ربما يجوز لي القول من حيث المبدأ إنها نفس طريقتي في تناول الأعداد فوق المنتهية. ويمكن للمرء أن يؤكد قطعا أن: الأعداد فوق المنتهية يعتمد وجودها أو عدم وجودها على الأعداد غير النسبية المنتهية؛ فكلاهما متماثل في جوهره؛ إذ إن كليهما بمثابة أشكال أو صور معينة ومحددة بدقة من اللانهائية الفعلية.
من المثير للاهتمام أن هذه العبارات الواضحة التي لا التباس فيها ظهرت في بحث «إسهامات في دراسة الأعداد فوق المنتهية» حيث نرى - بالعودة إلى الجزء 3(أ) - كانتور يستشهد باعتراض القديس توما الإكويني على الأعداد غير المنتهية بوصفها مجموعات غير منتهية ويصدق عليه. ومع ذلك، كانت حجة كانتور الأولى بشأن الأعداد فوق المنتهية - وهي حجة تكررت بأشكال عدة في الفترة ما بين عام 1874 وأواخر التسعينيات من القرن التاسع عشر - أن «وجودها يترسخ مباشرة من خلال تجريدها من وجود المجموعات غير المنتهية.»
34
ومن ثم، كان المشروع الأساسي لأبحاث كانتور ما بين عامي 1874 و1884 هو وضع نظرية مترابطة ومتسقة عن المجموعات غير المنتهية - ويرجى ملاحظة أن كلمة «مجموعات» هنا بصيغة الجمع؛ لأنه لكي لا تكون مثل هذه النظرية بسيطة لا بد من وجود أكثر من نوع واحد (أي: أكثر من نوع حسابي، وهو ما يعني بالأساس «حجم»
35
بالإضافة إلى مجموعة من القواعد لتقييم هذه الأنواع والمقارنة بينها.
الجزء 7(ج)
من الواضح أن هذا ينقلنا بسلاسة إلى السؤال عما إذا كان اتصال خط الأعداد الحقيقية يعني أن المجموعة غير المنتهية لكل الأعداد الحقيقية تكون بطريقة أو بأخرى أكبر من المجموعة غير المنتهية لكل الأعداد النسبية. لاختصار الموضوع، واصل كانتور العمل في أبحاثه بشأن هذه المسألة على نحو متزامن تقريبا مع ما صاغه من نتائج بشأن المجموعات المشتقة والأعداد فوق المنتهية.
36
حسنا. توصل كانتور أثناء محاولة إيجاد طريقة ما لمقارنة حجمي مجموعتين كل منهما متناهية الكبر إلى المفهوم الدقيق المستخدم حاليا في الصف الرابع لتعريف تساوي مجموعتين، وهو التناظر الأحادي. (في الحقيقة، الفعل «توصل إلى» ليس صحيحا تمام الصحة؛ إذ رأينا كلا من جاليليو وبولزانو يستخدمان التناظر الأحادي لإثبات مفارقاتهما الخاصة. (وإن كانت بعد نظرية كانتور لم تعد مفارقات).) التناظر الأحادي - حسبما تعرف - هو الطريقة المستخدمة لإثبات تساوي مجموعتين من عدمه دون الحاجة إلى إحصائهما. تستخدم الكتب الدراسية كل السيناريوهات على اختلاف أنواعها لتوضيح فكرة التناظر الأحادي وآلية استخدامه في المقارنة، ومثال ذلك أصابع اليد اليمنى في مقابل أصابع اليد اليسرى، وعدد الحضور في مقابل عدد المقاعد المتاحة في إحدى دور المسرح، وعدد الأكواب في مقابل عدد الأطباق في أحد المطاعم. وتضمنت عبارة د. جوريس المجازية المفضلة لديه (التي من الواضح أنها اختيرت بما يناسب الحضور وقتها) عدد الأولاد في مقابل عدد البنات في حفل راقص، حيث يكون كل منهم ثنائيا مع الآخر ويرقصان معا، وملاحظة ما إذا كان أي منهم يقف حزينا وحيدا وظهره إلى الحائط. أظن أن الفكرة قد اتضحت الآن. فيما يلي تعريفان اصطلاحيان: يوجد تناظر أحادي بين المجموعتين
و
إذا وفقط إذا وجدت طريقة (وهو ما لا يتعين رياضيا الإحاطة به) لتكوين أزواج من عناصر
وعناصر
بحيث يقترن كل عنصر من عناصر
مع عنصر واحد فقط من عناصر
والعكس صحيح. وتعرف المجموعتان
و
بأن كلتيهما لها نفس العدد الكاردينالي (وهو ما يعرف أيضا بالأصلية أو «الكاردينالية») إذا وإذا فقط كان هناك بالفعل تناظر فعلي بينهما.
37
والآن، فيما يخص التعريف التالي، يرجى استرجاع الطريقة التي استحدث بها جاليليو المفارقة المسماة باسمه في الجزء 1(د). وسيكون من المفيد أيضا تذكر التعريف الاصطلاحي للمجموعة الجزئية في الجزء السابق. تكون مجموعة
مجموعة جزئية فعلية من المجموعة
إذا وإذا فقط كانت
مجموعة جزئية من
وكان هناك عنصر واحد على الأقل من
ليس عنصرا في .
38
ومن ثم، طبقا للتعريف، كل مجموعة هي مجموعة جزئية من نفسها، ولكن لا توجد أي مجموعة تكون مجموعة جزئية فعلية من نفسها. أهذا منطقي؟ كان ينبغي أن يكون كذلك، على الأقل في حالة المجموعات التي تتضمن عددا محدودا من العناصر.
لكن ما افترضه جي كانتور على أنه الخاصية الأساسية المميزة للمجموعة غير المنتهية أن هذه المجموعة يمكن أن توضع في تناظر أحادي مع مجموعة واحدة على الأقل من مجموعاتها الجزئية الفعلية. وهو ما يعني بعبارة أخرى أن أي مجموعة غير منتهية يمكن أن يكون لها نفس العدد الكاردينالي مثل مجموعتها الجزئية الفعلية، كما في حالة مجموعة جاليليو غير المنتهية التي تضم كل الأعداد الصحيحة الموجبة، والمجموعة الجزئية الفعلية لهذه المجموعة التي تضم كل المربعات الكاملة، التي هي نفسها مجموعة غير منتهية.
تجعل هذه الخاصية فكرة مقارنة «أحجام» المجموعات غير المنتهية برمتها غريبة للغاية، حيث إن المجموعة غير المنتهية يمكن بحكم التعريف أن يكون لها نفس حجم (كاردينالية) أي مجموعة تكون هي أكبر منها طبقا للتعريف. ما فعله كانتور هنا
39
أنه أخذ عنصرا آخر من مفارقة جاليليو وحوله إلى أداة فعالة ومهمة للغاية لمقارنة المجموعات غير المنتهية. وهذه - إذا أردت تعقب الأمر والبحث فيه - هي أولى أفكاره العبقرية المدهشة التي لا تصدق، على الرغم من أنها ربما لا تبدو بالفكرة العظيمة في البداية. إنها فكرة التناظر الأحادي مع مجموعة تتضمن كل الأعداد الصحيحة الموجبة؛ أي . والسبب في أهمية هذا أن مجموعة كل الأعداد الصحيحة الموجبة يمكن - من حيث المبدأ - عدها،
40
كما في إمكانية المضي قدما على المنوال التالي: «ها هو العنصر الأول، ، والعنصر التالي هو ، و...» وهكذا، على الرغم من أن العملية لا تنتهي أبدا من الناحية العملية. على أية حال، من هنا جاء مفهوم كانتور عن «قابلية العد»: تكون مجموعة غير منتهية
قابلة للعد إذا وإذا فقط كان هناك تناظر أحادي بين
ومجموعة كل الأعداد الصحيحة الموجبة.
41
أثبتت أيضا مجموعة كل الأعداد الصحيحة الموجبة نوعا من العدد الكاردينالي الأساسي للمجموعات غير المنتهية؛ حيث يرمز كانتور إلى كاردينالية هذه المجموعة برمزه الشهير .
42
والفكرة هي أن الأعداد الكاردينالية للمجموعات غير المنتهية الأخرى يمكن حسابها عن طريق هذا العدد الكاردينالي الأساسي؛ أي يمكنك مقارنتها ب
عن طريق معرفة ما إذا كان يمكن وضعها في تناظر أحادي مع مجموعة الأعداد الصحيحة الموجبة. وفيما يلي مثال على ذلك (ليس لكانتور نفسه، لكنه مثال جيد ويفي بالغرض):
انظر ما إذا كانت المجموعة
التي تضم كل الأعداد الصحيحة الموجبة والمجموعة
التي تضم كل الأعداد الصحيحة (بما فيها الصفر والأعداد الصحيحة السالبة) لهما نفس الكاردينالية. المشكلة هي أن هناك اختلافا جوهريا بين هاتين المجموعتين: المجموعة
بها عنصر أول (أي، أصغر)، وهو ، بينما المجموعة (التي هي أساسا المجموعة ) لا يوجد بها ذلك. ومن الصعب أساسا معرفة الطريقة التي يمكننا بها اختبار مجموعتين لإثبات التناظر الأحادي من عدمه إذا كانت إحداهما ليس بها عنصر أول. ولحسن الحظ أن ما نتحدث عنه هنا هو الكاردينالية، وهو ما ليس له أي علاقة بالترتيب المحدد لعناصر المجموعات؛
43
ومن ثم يمكننا التلاعب بترتيب المجموعة
بطريقة ما بأن نقول إنه على الرغم من أن
ليس بها عنصر أصغر، فإن بها بالفعل عنصرا أول، ولنقل هنا إنه . ويسمح لنا هذا التلاعب البسيط بإعداد تناظر أحادي كامل، وتمثيله بطريقة تخطيطية.
وهذا يثبت أن
و
لهما نفس الكاردينالية. لاحظ أنه على الرغم من أنك لا تستطيع الانتهاء حرفيا من عملية مطابقة المجموعات غير المنتهية، طالما أنك تستطيع إرساء إجراء للتناظر الأحادي يصلح للحالة الأولى والحالة رقم
والحالة رقم ، فقد أثبت بالاستنتاج الرياضي أن التناظر سوف يتحقق مع كل عناصر المجموعتين. في المثال أعلاه، أثبتنا أن مجموعة كل الأعداد الصحيحة تكون قابلة للعد على الرغم من أننا ربما لا نستطيع عد كل عنصر.
44
ترجع هذه الطريقة في البرهان إلى جي كانتور بالأساس، وجدير بالملاحظة أنه استطاع مرة أخرى استخدام خاصية ضمنية لشيء ما - وهو هنا قدرة الاستنتاج الرياضي على تجريد عدد محدود من النتائج بحيث يشمل عددا لا نهائيا من الحالات الممكنة - وجعلها قابلة للتطبيق بوضوح وبدقة على المجموعات غير المنتهية.
وهكذا يتضح كيف استطاع كانتور إجراء مقارنة بناء على الحجم بين المجموعة غير المنتهية التي تضم كل الأعداد النسبية والمجموعة غير المنتهية التي تضم كل الأعداد الحقيقية:
45
استطاع أن يعرف ما إذا كانت إحدى المجموعتين أو كلتاهما قابلة للعد. وسنتناول فيما يلي سلسلة من البراهين المشهورة للغاية، التي صيغ معظمها ووضع في مراسلات مع آر ديديكند، ونشرت في سبعينيات القرن التاسع عشر، ثم نقحت ووسع نطاقها في أوائل التسعينيات. أولا، الأعداد النسبية.
46
عندما تتأمل الكثافة اللانهائية التي استخدمها زينون فقط في النسب الهندسية بين
و ، فإن الأمر يبدو كما لو كان أن مجموعة كل الأعداد النسبية يستحيل أن تكون قابلة للعد. والسبب في ذلك لا يقتصر على أنها ليس بها «أصغر عنصر» ولكنها ليس بها حتى «أكبر عدد تال» بعد أي عدد نسبي معطى (كما رأينا برهانين مختلفين على ذلك). ومع هذا، لاحظ كانتور أنه بتجاهل «علاقات المقادير» بين العناصر المتتالية، يمكننا بالفعل ترتيب مجموعة كل الأعداد النسبية في صف، على غرار الصف الذي يتضمن كل الأعداد الصحيحة الموجبة، وفي هذا الصف سيكون هناك عنصر أول
وعنصر ثان
وهكذا. وفي الواقع، فإن المصطلح التقني لوضع مجموعة في صف كهذا هو «عد المجموعة» - بالإضافة إلى أن الصف نفسه يسمى «صف عد» المجموعة - وهو ما يعني هنا إنشاء صف مرتب على نحو صحيح سيكون بمثابة برهان على أن مجموعة كل الأعداد النسبية قابلة للعد حقا (أي إنها تقبل التناظر الأحادي مع مجموعة كل الأعداد الصحيحة، ومن ثم فإنها تكون مكافئة لها من حيث الكاردينالية). وهكذا انتشر تفسير كانتور الذي أحيانا ما يشار إليه خطأ ب «البرهان القطري»:
47
كما رأينا في الجزء 6(ج)، كل الأعداد النسبية يمكن وضعها على صورة نسبة بين عددين صحيحين . ومن ثم، ننشئ مصفوفة ثنائية الأبعاد من كل ، حيث نجد في الصف الأفقي العلوي كل الأعداد النسبية على الصورة (أي: الأعداد الصحيحة) وفي العمود الرأسي الأول كل الأعداد النسبية على الصورة ، وكل عدد نسبي
سوف يقع في الصف رقم
والعمود رقم ، على هذا النحو:
من المؤكد أن المصفوفة الثنائية الأبعاد ليس هي نفسها الصف/التسلسل المرتب الفردي للعد الحقيقي، إلا أن كانتور قد أوضح كيفية ترتيب الأعداد النسبية في المصفوفة بالتسلسل عن طريق خط واحد متعرج ومتصل، هكذا: ابدأ عند
انتقل شرقا بمقدار موضع واحد إلى ، ثم قطريا باتجاه الجنوب الغربي إلى ، ثم جنوبا إلى ، ثم قطريا باتجاه الشمال الشرقي إلى الصف الأول مرة أخرى و ، ثم شرقا إلى ، ثم الجنوب الغربي وصولا إلى ، وجنوبا إلى ، والشمال الشرقي إلى
وهكذا، كما في:
سوف تكون النقاط في الصف العلوي المتتابعة: ، التي يجوز لنا أن نحذف منها كل النسب التي يوجد فيها قاسم مشترك بين
و ، ومن ثم يظهر كل عدد نسبي مختلف مرة واحدة فقط في أبسط صوره. ونحصل بعد ذلك من عملية الحذف/الاختصار هذه على المتتابعة الخطية ، وهو التسلسل الذي يشكل الصف المرتب المطلوب للعد،
48
بمعنى أن مجموعة كل الأعداد النسبية قابلة للعد فعلا ؛ ومن ثم تكون لها نفس كاردينالية مجموعة الأعداد الصحيحة، أي نفس
القديم الشهير.
ظهر البرهان القطري الفعلي في رد كانتور على مسألة ما إذا كانت مجموعة كل الأعداد الحقيقية أكبر من مجموعة كل الأعداد النسبية. ينبغي أن يكون واضحا الآن أن برهان كانتور هنا يتعلق بقابلية عد الأعداد الحقيقية، على سبيل المثال، إذا كانت الأعداد الحقيقية قابلة للعد فإن كرديناليتها تساوي كاردينالية الأعداد النسبية، وإذا لم تكن كذلك فإن الأعداد الحقيقية تكون أكبر من الأعداد النسبية. البرهان بالكامل هو برهان بنقض الفرض، وتعتبر الآن طريقته في التحويل إلى الصورة القطرية (التقطير) واحدا من أهم أساليب البرهان في نظرية المجموعات بأكملها. وتجدر هنا الإشارة إلى أمرين مبدئيين. (1) أول برهان لكانتور في الفترة ما بين عامي 1873 و1874 - كما أشار ديديكند - حول عدم قابلية الأعداد الحقيقية للعد يتضمن نهايات المتتابعات فيما يخص «الفترات المتداخلة» على خط الأعداد الحقيقية، وهو معقد جدا. والبراهين التي نستعرضها هنا هي نسخ منقحة من براهين كانتور التي تعود إلى عام 1890 تقريبا، وهي أبسط وأكثر معنى من البرهان السابق. (2) لاحظ مرة أخرى فيما سيلي كيف أن كانتور استخدم الصورة العشرية للأعداد الحقيقية، واستفاد بالحقيقة الواردة في الجزء 2(ج) بأن
لتمثيل كل الأعداد الحقيقية وليس فقط الأعداد النسبية على صورة أعداد عشرية غير منتهية، كما في ... و
وهكذا. أكدت هذه الخطوة (التي كانت في الحقيقة اقتراح ديديكند) أن هناك تمثيلا صحيحا واحدا فقط لكل عدد عشري، وسوف نعرف حالا السبب الذي اضطر كانتور إلى أن يرتب الأعداد الحقيقية بهذه الطريقة.
إذن، إليكم البرهان. ونظرا لأنه برهان بالتناقض، نفترض أولا أن مجموعة كل الأعداد الحقيقية قابلة للعد فعلا؛ أي يمكن وضعها في صف مرتب أو متتابعة.
49
وسوف تتمثل هذه المتتابعة في جدول لا نهائي من أعداد عشرية لا نهائية غير منتهية، ويمكننا عرض بداية هذا الجدول على الأقل، كما يلي:
أول عدد حقيقي
ثاني عدد حقيقي
ثالث عدد حقيقي
رابع عدد حقيقي
خامس عدد حقيقي
سادس عدد حقيقي
وهكذا ...
في هذا الجدول ، يشير
إلى أي وكل الأعداد الصحيحة التي قبل العلامة العشرية، والأحرف
و
إلى آخر ذلك تمثل المتتابعات غير المنتهية من الأرقام بعد العلامة العشرية، ويتمثل فرض البرهان في أن النسخة اللانهائية من هذا الجدول ستكون شاملة لكل الأعداد الحقيقية. وهذا يعني أن التناقض المطلوب إثباته لنقض هذا الفرض سوف يستلزم منا إثبات أن هذا الجدول لا يشمل بالفعل مجموعة كل الأعداد الحقيقية، ولإثبات ذلك علينا إيجاد عدد حقيقي لا يوجد - ولا يمكن أن يكون موجودا - في الجدول.
ما فعله برهان كانتور القطري هو استحداث هذا العدد الذي دعونا نطلق عليه . البرهان عبقري وجميل؛ فهو إقرار تام بالوجود المشترك للفن في الرياضيات البحتة. أولا، ألق نظرة مجددا على الجدول أعلاه. يمكننا أن نفترض أن القيمة الصحيحة
هي أي
تريده؛ فهذا لا يهم. أما الآن، فانظر إلى أول صف في الجدول. سوف نتأكد من أن أول رقم بعد العلامة العشرية في ، وهو ، مختلف عن
في الجدول. وهذا يمكن أن نفعله بسهولة على الرغم من أننا لا نعرف هوية العدد
بعينه: لنحدد أن
ما عدا إذا حدث ما لم يكن
يساوي صفرا، حيث في هذه الحالة . والآن انظر إلى الصف الثاني في الجدول؛ لأننا سوف نكرر الشيء نفسه مع الرقم الثاني في ، وهو :
أو
إذا كان . هذه هي فكرة الجدول. وسوف نستخدم الخطوات نفسها مع الرقم الثالث في
وهو ، و
في الجدول، وكذلك لكل من
و
و
و
وهكذا، إلى ما لانهاية. ورغم أننا لا نستطيع فعليا إنشاء
بالكامل (تماما كما أننا لا نستطيع إكمال الجدول اللانهائي بالكامل)، ما زال في إمكاننا أن نرى أن هذا العدد الحقيقي
سيكون مختلفا بشكل واضح عن كل عدد حقيقي في الجدول. سوف يختلف عن أول عدد حقيقي بالجدول في أول رقم به بعد العلامة العشرية، وعن ثاني عدد حقيقي في ثاني رقم به، وعن ثالث عدد حقيقي في ثالث رقم به ... وسوف يختلف، على ضوء الطريقة القطرية هنا،
50
عن العدد الحقيقي رقم
بالجدول في رقمه العشري رقم . وعليه، فإن
ليست - ولا يمكن أن تكون - مدرجة في الجدول اللانهائي أعلاه؛ ومن ثم فإن الجدول اللانهائي لا يشمل كل الأعداد الحقيقية، وهو ما يعني (طبقا لقواعد البرهان بالتناقض) أن الفرض المبدئي جرى نقضه وأن مجموعة كل الأعداد الحقيقية غير قابلة للعد؛ أي إنها لا تقبل التناظر الأحادي مع مجموعة الأعداد الصحيحة. وبما أن مجموعة كل الأعداد النسبية قابلة للتناظر الأحادي مع الأعداد الصحيحة، فإن كاردينالية مجموعة كل الأعداد الحقيقية أكبر من كاردينالية مجموعة كل الأعداد النسبية، وهو المطلوب إثباته. ⋆
جزء تكميلي سريع متدرج من العام إلى الخاص
دعونا نرجع إلى الوراء قليلا ونتأمل لوهلة مدى التجريد الفائق الذي ينطوي عليه الأمر برمته. ونتأمل كذلك السبب في أن نظرية المجموعات، التي تعد كما يزعم أهم جزء في الرياضيات الحديثة، النظرية الأكثر استغلاقا والأصعب فهما أيضا. في الواقع، تعد نظرية المجموعات بسيطة تماما ما دمت تتعامل مع مجموعات منتهية؛ لأن كل العلاقات بين تلك المجموعات يمكن تحديدها عمليا؛ فما عليك سوى إحصاء عناصرها. في نظرية المجموعات الفعلية، نتعامل مع تجمعات مجردة من كيانات مجردة كثيرة للغاية حتى إننا لا نستطيع إحصاءها أو إكمالها أو حتى فهمها ... ومع ذلك نبرهن، استنتاجيا ومن ثم نهائيا وبشكل حاسم، حقائق حول إنشاء هذه التجمعات وعلاقاتها. وفي خضم كل البرهان والتفسير، من السهل ألا نستشعر الغرابة الشديدة التي تنطوي عليها المجموعات غير المنتهية، ولم تتضاءل هذه الغرابة ولو قليلا بما أوضحه كانتور وديديكند من أن هذه اللانهائيات تضرب بجذورها في جوهر الرياضيات، وأنها ضرورية للتعامل مع شيء أساسي من قبيل الخط المستقيم. وبخصوص هذه الغرابة، تحضرنا هنا مقولة لطيفة للفيلسوفين بول بن الصراف وإتش بوتنام:
هناك المجموعات، وهي جميلة، وخالدة، ومتعددة الكيانات، ومترابطة على نحو معقد. كما أنها لا تتفاعل معنا بأية حال، وهذا هو جوهر المشكلة. ومن ثم، كيف من المفترض أن نتوصل إليها بالمعرفة والإدراك؟ وبالكاد ما تكون الإجابة ب «بواسطة الحدس » مرضية. نحن نريد وصفا للآلية التي يمكننا بها معرفة هذه الكيانات الصغيرة.
ونقلا عن الحدسي المتشدد إتش بوانكاريه:
إن واقعا مستقلا تماما عن العقل الذي يدركه أو يراه أو يشعر به هو ضرب من الاستحالة. وإن عالما خارجيا كهذا، حتى إن كان موجودا، سوف يظل أبدا صعب المنال بالنسبة لنا.
وإليكم رد مبهج إلى حد ما من الأفلاطوني كيه جودل:
على الرغم من بعدها عن التجربة الحسية، فإن لدينا أيضا شيئا أشبه بإدراك ما لعناصر نظرية المجموعات، حسبما ترى من حقيقة أن المسلمات تفرض نفسها علينا على أنها صحيحة. ولا أرى أي سبب يستوجب أن تكون ثقتنا في هذا النوع من الإدراك أو التصور، أي في الحدس الرياضي، أقل من ثقتنا في الإدراك الحسي، الأمر الذي يدفعنا إلى وضع نظريات مادية وإلى توقع أن ملاحظات الإدراك الحسي المستقبلية سوف تتفق معها ...
نهاية «جزء تكميلي سريع متدرج من العام إلى الخاص»، وعودة إلى موضوع الجزء 7(ج) بعد عبارة (وهو المطلوب إثباته. ⋆ ) أعلاه •••
سوف نستعرض مزيدا من المعلومات حول هذين البرهانين الأولين. (1) بما أن العدد الكاردينالي للمجموعات القابلة للعد هو ، فإنه يبدو كما لو أن من المنطقي الإشارة إلى كاردينالية مجموعة كل الأعداد الحقيقية بالرمز ، إلا أن كانتور - لأسباب معقدة - أشار إلى العدد الكاردينالي لهذه المجموعة بالحرف ، وهو ما أطلق عليه أيضا «قوة الاتصال»، حيث تبين أن عدم قابلية الأعداد الحقيقية للعد هو ما يفسر اتصال خط الأعداد الحقيقية. وهذا معناه أن عدد النقاط اللانهائي المتضمن في الاتصال المستمر يكون أكبر من عدد النقاط اللانهائي المكون بأي نوع من الاتصال المتقطع، حتى لو كان تسلسلا متناهي الكثافة. (2) نجح كانتور من خلال برهانه القطري أن
في تحديد خصائص الاتصال الحسابي تماما من حيث الترتيب والمجموعات والقابلية للعد، وغير ذلك. أي إنه حدد خصائصها على نحو تجريدي تماما دون الإشارة إلى الزمن أو الحركة أو الشوارع أو الأنف أو الفطائر أو أي ملمح آخر من العالم المادي، وهذا هو ما جعل راسل ينسب إليه «الحل الحاسم» للمسائل العويصة وراء التقسيم الثنائي.
51 (3) فسر أيضا البرهان القطري - وفقا لشرح د. جوريس في الجزء 2(ه) السابق - لماذا سوف يكون هناك دائما أعداد حقيقية أكثر من المناديل الحمراء. وساعدنا في فهم السبب في أن الأعداد النسبية تحتل في النهاية حيز صفر على خط الأعداد؛
52
إذ بات واضحا أن الأعداد غير النسبية هو ما يجعل مجموعة كل الأعداد الحقيقية غير قابلة للعد. (4) ساعد امتداد لبرهان كانتور في تأكيد برهان جيه ليوفيل لعام 1851 بأن ثمة عددا لا نهائيا من الأعداد غير النسبية المتسامية في أي فترة على خط الأعداد الحقيقية. (هذا أمر مثير للاهتمام حقا. وسوف تتذكر من الجزء 3(أ) الحاشية السفلية رقم 15 أن من بين نوعي الأعداد غير النسبية، تكون الأعداد المتسامية من قبيل
و
التي هي ليست جذورا لكثيرات حدود معاملاتها أعداد صحيحة. ويمكن تعديل برهان كانتور بأن لا نهائية الأعداد الحقيقية تفوق لا نهائية الأعداد النسبية لتوضيح أن الأعداد غير النسبية المتسامية هي فعليا غير القابلة للعد، وأن مجموعة كل الأعداد غير النسبية الجبرية لها نفس كاردينالية الأعداد النسبية،
53
وهو ما يثبت أن الأعداد الحقيقية غير النسبية المتسامية هي في نهاية المطاف ما يفسر اتصال خط الأعداد الحقيقية.) (5) نظرا لأن البرهان القطري هو برهان بالتناقض (أي بنقض الفرض) وأن مقاديره غير قابلة للإنشاء على أية حال، فمن غير المستغرب أن البروفيسور إل كرونكر وآخرين من الإنشائيين الأوائل لم يرق لهم البرهان على الإطلاق (سوف نتناول المزيد حول هذا الموضوع في جزأين أدناه). وبناء على كل ما ورد من أخبار، كانت أبحاث كانتور فيما يخص
الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل حملة كرونكر العامة ضد كانتور.
الجزء 7(د)
ربما يمكنك أن تدرك من الناحية الرياضية خطوة كانتور الكبرى التالية. بعد ما أثبت باستخدام
أن هناك قوة للانهائية أكبر من ، بدأ في البحث عن مجموعات غير منتهية عددها الكاردينالي قد يكون أكبر من . وبرهانه الرئيسي التالي (الذي ستلاحظ أنه ما زال يتعلق بمجموعات النقاط) هو محاولة لإثبات أن المستوى الثنائي الأبعاد يحتوي على عدد لا نهائي من النقاط أكبر من العدد
الخاصة بخط الأعداد الحقيقية الأحادي البعد، وذلك على نحو مماثل لكون العدد
أكبر من
لخط الأعداد. وهذا البرهان هو ما كتب كانتور نتيجته النهائية إلى ديديكند بمقولته الشهيرة «أنا أراه، لكنني لا أصدقه.» عام 1877.
54
ويعرف هذا البرهان ببرهان البعد لكانتور. وتتمثل فكرته العامة في توضيح أن الأعداد الحقيقية لا يمكن وضعها في تناظر أحادي مع مجموعة النقاط في فراغ بعده ، ويمثله هنا المستوى، ومن ثم فإن كاردينالية مجموعة نقاط المستوى تكون أكبر من كاردينالية مجموعة كل الأعداد الحقيقية. والحالات الخاصة لهذا البرهان هي مربع الوحدة القديم حقا لفيثاغورس والفترة
على خط الأعداد الحقيقية. (سوف تتذكر من الجزء 3 أن مفارقة بولزانو عن اللانهائي اقترحت بالفعل عام 1850 أن الفترة
تتضمن عددا من النقاط مساويا لعدد النقاط التي يتضمنها خط الأعداد الحقيقية بالكامل، وهي علاقة التكافؤ أو التساوي التي أثبتها كانتور صوريا في بحثه عن برهان البعد. وبما أننا قد رأينا من قبل عرضا بيانيا للتكافؤ في الجزء 3(ج)، سوف نتخطى هذا البرهان باستثناء الإشارة إلى ما من المرجح أنك تتوقعه: أوضح كانتور أن أيا كان نوع التحويل القطري الذي تستخدمه لإنشاء عدد حقيقي جديد أكبر من ، فمن الممكن أن تكرره لإنشاء عدد حقيقي جديد في الفترة ).
بالنسبة إلى برهان البعد الرئيسي في هذا البحث، ربما يتعين عليك نوعا ما أن تتصور مربع الوحدة الذي يشبه في إعداده شبكة كارتيزية، بإحداثيات عددية مناظرة لكل نقطة على حدة من كل النقاط الموجودة في مستواه. وكانت استراتيجية كانتور هي استخدام التحويل القطري لإثبات أن هناك أعدادا مناظرة لهذه الإحداثيات الثنائية الأبعاد يتعذر وجودها في مجموعة كل الأعداد الحقيقية. وحسبما يتضح من خطاباته إلى ديديكند، كان كانتور متأكدا منذ البداية أن مثل هذه الأعداد يمكن إنشاؤها، بما أن كل عالم هندسة من ريمان ومن جاءوا بعده قد عملوا في ظل الافتراض بأن بعد أي فراغ (كما في البعد الواحد والبعدين والثلاثة أبعاد) يمكن تحديده بطريقة فريدة عن طريق عدد الإحداثيات اللازمة لتحديد نقطة ما في هذا الفراغ.
ولكن، تبين أن هذا الافتراض غير صحيح، حيث اكتشف كانتور في محاولته إنشاء متتابعة عشرية من إحداثيات ثنائية الأبعاد تسمح بمقارنة النقاط المستوية بالكسور العشرية للأعداد الحقيقية. وكما هو واضح، فإن الشائك في الموضوع هو أن النقاط المستوية تحدد بأزواج من الأعداد الحقيقية وأن النقاط الخطية تحدد بأعداد حقيقية منفردة، ومن ثم (رجوعا إلى فيثاغورس ويودوكسوس) كان على كانتور أن يبتكر طريقة لجعل مجموعتي النقاط متقايستين (أي قابلتين للقياس). واستغرق كانتور ثلاث سنوات للتوصل إلى كيفية ذلك. مرة أخرى، افترض أن كل الأعداد ذات الصلة ممثلة بواسطة أعداد عشرية لا نهائية غير منتهية. خذ أي نقطة
على مربع الوحدة؛ إذ يمكن كتابة هذين الإحداثيين على الصورة:
وهما يكونان معا التمثيل العشري الوحيد
55
للنقطة :
ومن الواضح أن هذه النقطة سوف تناظرها نقطة وحيدة
في الفترة
على خط الأعداد الحقيقية، أي
التي تساوي العدد الحقيقي: .
56
ومن ثم، بالاستقراء المباشر من مربع الوحدة والفترة ، كل نقطة في المستوى الثنائي الأبعاد يمكن وضعها في تناظر أحادي مع نقطة على خط الأعداد الحقيقية بهذه الطريقة تماما، والعكس صحيح. والأكثر من ذلك أن طريقة كانتور البسيطة (نسبيا) لدمج الإحداثيات في عدد حقيقي واحد تعني إمكانية استخدام هذا الأسلوب العام نفسه؛ لإثبات أن المكعب الثلاثي الأبعاد أو المكعب الفائق الرباعي الأبعاد، أو في الواقع مجموعة النقاط الإجمالية لأي شكل بعدد
من الأبعاد، لها نفس كاردينالية مجموعة الأعداد الحقيقية على خط الأعداد الحقيقية، أي . وهذه نتيجة رائعة، ولهذا السبب لم يجد الإحباط سبيلا إلى نفس كانتور عندما لم يتمكن من إثبات فرضيته الأصلية: لقد اكتشف عمقا وثراء مذهلين في هذا الاتصال، وكشف برهانه (حسبما كتب مراسلا ديديكند) عن «مدى القوة الرائعة الموجودة في الأعداد الحقيقية، حيث يمكن للمرء تحديد عناصر أي فراغ متصل في
من الأبعاد تحديدا وحيدا متفردا، باستخدام إحداثي واحد.»
إن اكتشاف كانتور أن الخطوط والمستويات والمكعبات والبوليتوبات
57
جميعها متكافئة بوصفها مجموعات من النقاط قطع شوطا طويلا نحو تفسير السبب الذي جعل نظرية المجموعات تطورا جذريا للرياضيات، وهو تطور جذري على مستوى النظرية والتطبيق معا. يرجع بعض ذلك إلى مسألة قابلية القياس عند الإغريق والعلاقة المتضاربة لحساب التفاضل والتكامل الكلاسيكي بالهندسة. استمر القلق بشأن استخدام مقادير مثل
و
في نفس المعادلة (حيث تستلزم المربعات مساحات وتستلزم المكعبات حجوما) لقرون، وعمل التركيز على الدقة في بدايات القرن التاسع عشر على جعل أوجه الغموض الهندسية أقل قبولا. واختصارا للموضوع، ساعدت نظرية المجموعات لكانتور في توحيد الرياضيات وبلورتها، بمعنى أن كل الكيانات الرياضية يمكن فهمها الآن على أنها شيء واحد من نفس النوع، ألا وهو المجموعة. وفضلا عن ذلك، في موضوعات الهندسة غير الإقليدية الجديدة،
58
كان لاكتشاف كانتور أن كل مجموعات النقاط الهندسية متكافئة على نحو لا نهائي (أي إن جميعها له نفس العدد الكاردينالي ) أهمية كبرى، لا سيما في فكرة البعد، حسبما أشار أيضا كانتور إلى ديديكند:
تبدو هذه الرؤية [= رؤية كانتور] عكس ما هو سائد عموما، لا سيما بين مؤيدي علم الهندسة الجديد، حيث إنهم يتحدثون عن اللانهائي ببساطة، عن المجالات اللانهائية في بعدين، وفي ثلاثة أبعاد ... وفي
من الأبعاد. بل سوف يجد المرء أحيانا أن فكرة أن عددا لا نهائيا من النقاط في سطح [ثنائي الأبعاد] ربما جاءت - إن جاز التعبير - من التربيع، وفي حالة المجسم ربما جاءت من تكعيب عدد لا نهائي من النقاط في خط ما.
ومع ذلك، غني عن القول إن «التطور الجذري» و«الأهمية الكبرى» لم يدركا إلا في وقت لاحق. وحسبما أشير كثيرا من قبل، ليس الوضع أن الرياضيات السائدة رحبت على الفور ببراهين ما بعد مبرهنة الوحدانية لكانتور. وبالنظر إلى برهان البعد على وجه الخصوص، فقد احتشد علماء الرياضيات من كل الأطياف والمدارس للاعتراض عليه. وبالإضافة إلى الاعتراضات العامة في الجزء 7(ج)، مقت الإنشائيون تحديدا فكرة إنشاء أعداد نسبية أحادية البعد من تجمعات ثنائية البعد من أعداد نسبية أخرى، وكذلك «التطبيق غير المتصل» الذي اكتشفه برهان البعد بين نقاط الخط المستقيم ونقاط المستوى،
59
وفي الواقع كان هذا هو بحث كانتور عن برهان البعد
60
الذي تواطأ إل كرونكر في البداية لرفض نشره في دورية علمية كان عضوا في مجلس تحريرها، وهو ما دفع كانتور إلى إرسال العديد من الخطابات التي يعبر فيها عن استيائه. لكن الأمر لم يقتصر على الإنشائيين أو الأصوليين فحسب. انظر، على سبيل المثال، الأسطر التالية المقتبسة عن بي دو بوا-ريموند الذي لم يكن من أتباع كرونكر ولكنه كان محللا من أنصار الاتجاه السائد في التحليل على غرار أرسطو وجاوس في تناول اللانهائيات الاحتمالية فقط - في مقال نقدي عن برهان البعد:
إنه متعارض تماما مع حسن البديهة. والحقيقة ببساطة أن هذا نتيجة نوع من التفكير يسمح للخيال المثالي [= الأفلاطوني] للاضطلاع بدور الكميات الحقيقية، حتى إن لم تكن حقا نهايات تمثيل الكميات.
61
الجزء 7(ه)
على أية حال، هكذا نكون قد أنشأنا على الأقل - وربما على الأكثر - نوعين مختلفين من المجموعات غير المنتهية:
و ،
62
ومن المناسب الآن أن نسأل ما هي بالضبط علاقة هذه الأعداد الكاردينالية بأعداد فوق المنتهية التي ابتكرها كانتور من
و
والمجموعات المشتقة من مجموعات مشتقة أخرى، وهي موضوعات تحدثنا عنها في الجزء 7(ب). ويبقى السؤال المهم والمحدد هل يمكن إثبات أن المتتابعة غير المنتهية من المجموعات غير المنتهية
مناظرة لتسلسل هرمي لا نهائي من أعداد كاردينالية أكبر وأكبر، أو هل
و
هما العددان الكارديناليان اللانهائيان الوحيدان ولا توجد أي لا نهائيات فعلية فيما وراء «قوة الاتصال» اللانهائية البعد.
يتمثل اكتشاف كانتور الكبير التالي في إمكانية إنشاء متتابعة غير منتهية من مجموعات غير منتهية ذات أعداد كاردينالية أكبر وأكبر بشكل صحيح، وذلك باستخدام الخصائص الأساسية للمجموعات فحسب.
63
تتضمن هذه الخصائص مفاهيم المجموعة الجزئية ومجموعة القوى، وتعرف مجموعة القوى - لمجموعة ما - بأنها ببساطة مجموعة كل المجموعات الجزئية للمجموعة . بمعنى أن كل عنصر في
هو مجموعة جزئية من . ولكن، اتضح أن الأمر أصعب مما يبدو عليه. وكل مجموعة، سواء منتهية أو لا، لها مجموعة قوى،
64
بيد أن ما استطاع كانتور إثباته هو أنه حتى إذا كانت المجموعة
غير منتهية، فإن مجموعة القوى
لها سوف يكون لها دائما عدد كاردينالي أكبر من - وعلى نحو أكثر تحديدا، استطاع كانتور إثبات أن العدد الكاردينالي لمجموعة القوى
سوف يساوي دائما .
65
وأصبح
في نهاية المطاف ضروريا للتنقل عبر عالم فوق المنتهية، الذي اتضح أنه يمكن فيه القيام بنوع من القفزات، الشبيهة بالقفزات الكمومية، من فئة ما من الأعداد إلى الفئة التي تليها، دون وجود شيء بينهما:
وهكذا (إذا جاز التعبير).
تتسم براهين مجموعة القوى لكانتور بأنها معقدة للغاية، ومن ثم علينا التدرج نوعا ما في استعراضها. ولا شك أنه قد مضى وقت طويل على التحاق الجميع بالصف الرابع، ولذا دعونا نوضح - إن لم نكن قد فعلنا ذلك من قبل - أن الطريقة الرسمية لتحديد مجموعة ما هو أن نضع عناصرها داخل حاصرتين على هذا النحو ، وأن الصورة التي نعبر بها عن أن «العنصر
عنصر في المجموعة
باستخدام الرموز هي . ودعونا نذكركم أيضا أن «المجموعة الجزئية» بحكم تعريفها أكثر شمولا من «المجموعة الجزئية الفعلية»، وأنه سوف يندرج ضمن المجموعات الجزئية لأي مجموعة (1)
نفسها و(2) المجموعة الخالية التي يرمز لها بالرمز
أو في بعض الأحيان .
66
وبناء عليه، بما أن أي مجموعة لها بعض المجموعات الجزئية على الأقل، هذا يستتبع بدوره أن لكل مجموعة مجموعة قوى. ولكي نعرف بطريقة غير رسمية أن عدد عناصر مجموعة القوى الخاصة بالمجموعة
يساوي ، نفترض أن
هي المجموعة ذات العناصر الثلاثة . والمجموعات الجزئية للمجموعة
هنا هي: ، التي يوجد منها بالضبط
أو . وتوجد طريقة أدق لإثبات أن
وهي باستخدام الاستنتاج الرياضي، والذي لم يكن تقنيا، الأسلوب الذي استخدمه كانتور لكنه مضمن على الأقل في برهان كانتور، بالإضافة إلى أنه سهل نسبيا. يرجى مراجعة محتوى الجزء 7(ب) حول خطوات البرهان الثلاث باستخدام الاستنتاج الرياضي أو استرجاعه، والتي سوف نستعرضها هنا على النحو التالي: (أ)
أثبت أن كاردينالية
تساوي
لمجموعة
ذات عنصر واحد فقط. وتكون للمجموعة
هذه المجموعتان الجزئيتان التاليتان:
و
نفسها، وهو ما يعني أن
بها عنصران، أي
من العناصر، أي
من العناصر ، وهكذا نكون نجحنا في إثبات ما نريد.
67 (ب) نفترض أن من الصائب أنه إذا كانت
تحتوي على
من العناصر فإن العدد الكاردينالي للمجموعة
يساوي . (ج) أثبت أنه إذا كانت
تحتوي على ( ) من العناصر، فإن . ونعلم من الخطوة (ب) أن أول
من عناصر
يعطينا
من المجموعات الجزئية للمجموعة . والآن، نأخذ كل مجموعة من هذه المجموعات الجزئية التي عددها
ونكون منها مجموعة جزئية جديدة تماما والتي تحتوي أيضا كل منها على آخر
من العناصر للمجموعة (أي إن العنصر الإضافي الجديد يحدده ). ويمكننا تكوين
بالضبط من هذه المجموعات الجزئية الجديدة ، بمعدل مجموعة جزئية جديدة واحدة لكل من المجموعات الجزئية الأصلية. وعليه، يصبح لدينا الآن
من المجموعات الجزئية الأصلية التي لا تحتوي على العنصر
الجديد، و
من المجموعات الجزئية الجديدة التي تحتوي فعلا على هذا العنصر الجديد. وبذلك، نحصل على ( ) من المجموعات الجزئية، وهو ما يكافئ
مجموعة جزئية، وهو ما يساوي
من المجموعات الجزئية. وهكذا نكون أثبتنا أيضا النقطة (ج). وعليه، فإن
بكل تأكيد.
فيما يخص أهداف النقاش الحالي، صاغ كانتور برهانين رئيسيين فيما يتعلق بمجموعة النقاط. ولم يكن يلقي بالا بعد في أي منهما بشأن : ما كان يهتم بإثباته في الأساس هو أنه حتى لمجموعة غير منتهية ، فإن .
68
وتعد النسخة الأولى، التي يرجع تاريخها إلى حوالي عام 1891، مهمة بصفة رئيسية لأنها توضح مدى أهمية أسلوب التحويل القطري كأداة فعالة للبرهان بنقض الفرض. ويمكن أن نعتبره برهانا على أن مجموعة كل المجموعات الجزئية لمجموعة الأعداد الصحيحة غير قابلة للعد،
69
وهو ما سوف يعني بديهيا - بما أن كانتور قد أوضح أن مجموعة الأعداد الصحيحة قابلة للعد - أن العدد الكاردينالي لمجموعة القوى الخاصة بها سيكون أعلى من .
إليكم البرهان. دعونا نسم مجموعة كل الأعداد الصحيحة ، ونسم مجموعة القوى لها . نعلم من الجزء 7(ج) أنه لكي تكون
قابلة للعد، فلا بد من إمكانية إنشاء تناظر أحادي بين
و . البرهان الحالي هو برهان بنقض الفرض، ومن ثم نفترض أن التناظر الأحادي بين
و
ممكن حقا. وهذا (كما نعلم أيضا من البراهين القطرية الواردة في الجزء 7(ج)) يعني إمكانية تخطيط التناظر الأحادي على صورة مصفوفة تشبه المثال الجزئي التالي، حيث توجد عناصر
على الجانب الأيسر والمجموعات الجزئية للمجموعة (التي هي أيضا عناصر ، ويمكن أن تكون بأي نوع من الترتيب العشوائي الذي نريده) على الجانب الأيمن:
وفي الواقع، يمكننا تعديل نطاق المصفوفة المعلوم من المعطيات عن طريق استخدام إحدى خصائص التناظر الأحادي لها التي ربما تكون قد لاحظتها بالفعل إذا استغرقت بعض الوقت في التفكير لماذا تكون دائما العلاقة بين المجموعات ومجموعات القوى الخاصة بها هي
وليس
أو أي
آخر. الإجابة الحاسمة هي أن العدد
في
يعكس نوعا خاصا من أسلوب الحسم. لكل مجموعة جزئية
من مجموعة ما ، يكون لديك خياران بالضبط فيما يخص كل عنصر
من : إما أن يكون
عنصرا في ، وإما ألا يكون عنصرا فيها. وربما يتطلب الأمر قراءة الجملة الأخيرة أكثر من مرة. وعلى الرغم من صعوبة صياغتها بوضوح باللغة الطبيعية، فإن الفكرة في حد ذاتها ليست معقدة.
مجموعة، و
عنصر معين في ، و
مجموعة جزئية من . والسؤال هو: هل
في الواقع عنصر في ؟ حسنا، إنه إما أن يكون كذلك أو لا. وعليك أن تستنفد كل الاحتمالات بخصوص كون
عنصرا في
بتضمين
في
تارة، واستبعاد
من
تارة أخرى، وهو ما ينتج عنه زوج من المجموعات الجزئية
و
فيما يخص كل . (معلومة شبه إضافية: فيما يلي أحد تلك المواضع التي يستحيل فيها ببساطة معرفة ما إذا كان ما قيل توا منطقيا أم لا بالنسبة إلى قارئ عادي غير متخصص. إذا كانت الفكرة المجردة حول ما إذا كان
عنصرا في
أو لا واضحة بما يكفي؛ بحيث تستوعب السبب الذي يجعلها تفسر وحدها لماذا ستكون دائما لمجموعة
ذات ثلاثة عناصر
من المجموعات الجزئية، ويمكنك تخطي بقية هذه الفقرة. أما إذا لم تكن هذه الفكرة واضحة بالقدر الكافي، فسوف نتناول مثالا ماديا. لنفترض أن
هي نفسها المجموعة
التي تحدثنا عنها قبل بضع صفحات، حيث سردنا المجموعات الجزئية للمجموعة ، وكانت كالتالي: . ألق نظرة على هذه المجموعات الجزئية ولاحظ عدد المرات التي كان أي عنصر معين من - لنقل مثلا العنصر - مضمنا في المجموعات الجزئية الثمانية بالكامل. سوف تلاحظ أنه ضمن في أربع من المجموعات الجزئية واستبعد من أربع. وإذا نظرت إلى العنصر
في ، فسوف تلاحظ أن الشيء نفسه ينطبق عليه:
موجود في أربع مجموعات جزئية وغير موجود في أربع مجموعات جزئية، وهكذا الحال مع . أيمكنك إدراك السبب؟ توجد إجمالا ثماني مجموعات جزئية، نصفها يتضمن أي عنصر معين من
والنصف الآخر لا يتضمن ذلك. ويمكنك فعليا إنشاء مجموعة بها كل المجموعات الجزئية الخاصة بالمجموعة
بهذه الطريقة. خذ أي عنصر من . إذا كانت أول مجموعة جزئية لديك
لا تتضمن هذا العنصر، فسوف تتضمنه المجموعة الجزئية التالية ، أو العكس. أي إنه لأي عنصر معين ولأي مجموعة جزئية معينة، ثمة خياران، وسوف تتضمن مجموعة كل المجموعات الجزئية كليهما، بواقع خيارين لكل عنصر. ومن ثم، فإن عدد المجموعات الجزئية للمجموعة
سوف يكون
أو . وإذا كانت الفكرة الأساسية لا تزال غير واضحة بعد هذا المثال، فيرجى أن تقبلها كما هي؛ لأن هذا هو أفضل شرح لها.)
ومن ثم، هذا يعني أن في مقدورنا أخذ المصفوفة رقم (1)، وتوسيعها إلى حد ما أفقيا بالتساؤل أمام كل عدد صحيح في المجموعة
عما إذا كان هذا العدد هو حقا جزء من المجموعة الجزئية المناظرة في العمود ، وكتابة «نعم» إذا كان العدد الصحيح موجودا في هذه المجموعة الجزئية بعينها و«لا» إذا لم يكن موجودا. وذلك كما يلي:
وعندما ننتهي من إنشاء هذه المصفوفة رقم (2)، نستطيع بسهولة إثبات أن التناظر المفترض بين
و
غير شامل، ومن ثم فإنه ليس تناظرا أحاديا صحيحا. أوضحنا ذلك باستخدام أسلوب التحويل القطري لإنشاء مجموعة جزئية من
لن تظهر أبدا في تناظر
بالجدول. إنها المجموعة الجزئية المعرفة بأنها تبدأ عند أقصى الركن الشمالي الغربي لجدول «نعم»/«لا» بالمصفوفة رقم (2) وتنتقل قطريا باتجاه الجنوب الشرقي، حيث تتغير «نعم» إلى «لا»، والعكس صحيح، على طول هذا المسار - على النحو التالي:
كل ما نعرفه عن هذه المجموعة الجزئية الجديدة هو أنها تتضمن
و
و
و ، وأنها تختلف بفارق عنصر واحد على الأقل عن كل مجموعة جزئية (وهو ما يعرف أيضا بكل عنصر من ) في التناظر الأحادي الأصلي. وبطبيعة الحال، فإن المصفوفة رقم (3) ما هي إلا جزء فحسب، ولكن بالاستمرار في عملية التبديل البسيطة بين «نعم» و«لا» على طول المسار القطري، نستطيع أن نضمن أن المجموعة الجزئية الجديدة الناتجة بموجب هذا سوف تختلف عن كل المجموعات الجزئية للتناظر الأحادي، بغض النظر عن مدى عمليات الاقتران التي أجريناها. وبناء عليه، من المستحيل أن يوجد تناظر أحادي حقيقي بين
و . وهذا يعني أن
غير قابلة للعد،
70
أي إن عددها الكاردينالي أكبر من . وهو المطلوب إثباته.
على الرغم من وجود أسباب وجيهة حول شرح البرهان بهذه التفاصيل البيانية المعروضة هنا، فإنه يرجى العلم أن هذا لم يكن الأسلوب الذي شرح به جي كانتور البرهان. الحقيقة أنه لم يضع أبدا البرهان القطري المتعلق بإثبات أن ، ومن ثم إثبات أن ؛ فقد أشار إليه تلميحا فقط بأنه «امتداد طبيعي» لبرهانه القطري المتعلق بإثبات عدم قابلية الأعداد الحقيقية للعد.
71
والحجة التي قدمها على أن
لم تكن سوى مجموعة أفكار متناثرة غير مدعومة بالأدلة التي تثبت صحتها، إلا أنها في نهاية المطاف قد لعبت دورا رئيسا في موضوعنا الرئيسي؛ ومن ثم توجب شرحها بالتفصيل. هذا البرهان مجرد تماما وغير محدد، وصمم خصيصى لإثبات أنه من أي مجموعة غير منتهية ، يمكن إنشاء مجموعة غير منتهية
عددها الكاردينالي يفوق العدد الكاردينالي للمجموعة . وربما يجدر بك أن تهيئ نفسك لقراءة الفقرة التالية أكثر من مرة:
إن
مجموعة غير منتهية؛ ومن ثم فإن
هي مجموعة كل المجموعات الجزئية للمجموعة .
72
ونظرا لأن كل المجموعات هي بحكم تعريفها مجموعات جزئية من نفسها، فإن
هي مجموعة جزئية من ، بمعنى أن
عنصر في ، ومن ثم يمكن بالتأكيد إنشاء تناظر أحادي بين كل عناصر
وعنصر واحد على الأقل من . ومع ذلك، لا يمكن إنشاء تناظر أحادي بين كل عناصر
وكل عناصر . وسوف نثبت ذلك بأسلوب البرهان بنقض الفرض، ومن ثم نتصور الوضع المعتاد ونفترض أن التناظر الأحادي أنشئ بالفعل وأنه يشمل كلتا المجموعتين غير المنتهيتين. الآن، نفترض أن
عنصر في
و
عنصر في (إذن،
هي أي مجموعة جزئية من ). كما رأينا في حالة المصفوفة رقم (2) أعلاه، يمكن أن يكون التناظر الأحادي بين
و
عشوائيا تماما بمعنى أنه في أي تناظر فردي ، قد يكون
عنصرا في
التي يقترن بها أو لا. على سبيل المثال، يقترن العدد الصحيح
بالمجموعة {كل الأعداد الصحيحة الفردية} وهو نفسه عدد صحيح فردي، في حين أن
يقترن بالمجموعة {كل المربعات الكاملة} ولكنه ليس مربعا كاملا. سوف ينطبق الشيء نفسه على التناظر الأحادي الحالي وأوجه الاقتران اللانهائية له : سوف يكون
أحيانا عنصرا في المجموعة الجزئية
التي يقترن بها، ولكنه في أحيان أخرى لن يكون كذلك. هذا كله واضح ومباشر إلى حد ما. أما الآن، فدعونا نتأمل كل عناصر
الموجودة في التناظر الأحادي التي ليست عناصر في المجموعة
التي ترتبط بها. لنفترض أن
هي مجموعة كل عناصر
هذه.
هي بالطبع مجموعة جزئية من ، وهو ما يعني أن
عنصر في ، ومع ذلك يمكن إثبات أن
لا يمكن أن تكون مضمنة في التناظر الأحادي بين
و
الذي يفترض أنه شامل. وذلك لأنه في حال وجود
ضمن هذا التناظر الأحادي، فإنها تقترن بعنصر ما ، ولا يوجد - كما رأينا - سوى خيارين فقط: إما أن يكون
نفسه عنصرا في
وإما لا. ولا يمكن أن يكون
عنصرا في ، حيث إن هذا يتعارض مع تعريف المجموعة الخالية . ولكن إذا كان
ليس عنصرا في ، فإنه يكون بحكم التعريف عنصرا في ، وهو أمر يتأرجح ما بين الاستحالة والضرورة: لا يمكن أن يكون عنصرا فيها، ولكنه لا بد أن يكون كذلك. وهكذا نكون قد وصلنا إلى حالة من التناقض المتمثلة في غياب حل وسط في كلا الاتجاهين. ومن ثم، لا يمكن أن يوجد تناظر أحادي بين
و . وعليه، فإن العدد الكاردينالي للمجموعة
أكبر من العدد الكاردينالي للمجموعة . وهو المطلوب إثباته. ⋆ ⋆
الجزء 7(و) شبه التكميلي
يرجى ملاحظة أوجه التشابه بين هذا البرهان الأخير ومفارقة «أنا أكذب» لدى الإغريق،
73
حيث إذا كانت الجملة صحيحة فإن هذا الزعم يكون كذبا، وإذا كانت خطأ فإن الزعم صحيح، وهذا يقودنا مرة أخرى إلى الاحتمال الأول، وهكذا ندخل في حلقة مفرغة من الإحالة الذاتية التي يكون دالها هو مدلولها بأكثر من معنى، وذاتها الواصفة هي موضوعها الموصوف. وهذا هو السبب الحقيقي للصعوبة التي واجهتنا في فهم برهان
لكانتور وجعلنا نجتهد في قراءته، وقد أتاح هذا مستوى جديدا تماما من الصعوبة في الرياضيات الحديثة.
ومع أنه خارج سياق موضوعنا تماما، حري بنا أن نعلم أنه في ثلاثينيات القرن العشرين استخدم البروفيسور كيه جودل
74
شيئا شبيها جدا بطريقة كانتور
لإثبات نظريتي عدم الاكتمال الهادمتين خاصتيه، (بمصطلحات بسيطة، أثبت جودل أن بعض الفرضيات الرياضية المتسقة تكون صحيحة، ولكن لا يمكن إثباتها عن طريق استنتاج «الفرضية : الفرضية
لا يمكن إثباتها» على أنها نظرية). والأهم في نقاشنا هنا هو فكرة أن المجموعات يمكن أن تتضمن مجموعات أخرى كعناصر، وهو ما يعد جوهريا في مفهوم مجموعات القوى، ويبدو بالطبع بسيطا بما فيه الكفاية ... إلا أنه بعد برهان كانتور اتضح أن الأمر بمثابة انتحار حقيقي في متاهة الإحالة الذاتية. مثال: تأمل النظرية التي أثبتها كانتور توا، أن مجموعة كل المجموعات الجزئية من المجموعة
سوف تحتوي دائما على عدد عناصر أكبر مما تحتوي عليه
نفسها. ولكن افترض الآن أن
تعرف بأنها «مجموعة كل المجموعات». طبقا للتعريف، سوف تضم هذه المجموعة
كل مجموعاتها الجزئية، بما أن هذه المجموعات الجزئية عبارة عن مجموعات، ومن ثم لا يمكن هنا بأية حال أن تكون . وبناء عليه، فإن مبدأ «مجموعة كل المجموعات» نفسه الذي كان كانتور بحاجة إليه لبناء تسلسل هرمي من المجموعات غير المنتهية قد أسفر على نحو مباشر تقريبا عن مفارقة.
توضح الأدلة التاريخية أن كانتور علم بمفارقة «مجموعة كل المجموعات» حوالي عام 1895،
75
ولكنه لم يذكرها ولو مرة واحدة في أبحاثه المنشورة. ومع ذلك، فإنها تعرف الآن ب «مفارقة كانتور». كما أنها تعتبر الأساس لأشهر مفارقة على الإطلاق في نظرية المجموعات، التي عادة ما يطلق عليها «تناقض راسل»؛ لأن بي راسل الذائع الصيت استخدمها لنسف كتاب «أسس الحساب» لمؤلفه جي فريجه عام 1901.
76
يمكننا استعراض تناقض راسل بإيجاز شديد وبسهولة؛ لأنه ما من أحد تقريبا إلا وسمع عنه في وقت أو آخر. ومع أنه ينبثق مباشرة من برهان «مجموعة القوى» المجرد لكانتور، فإن هذا التعارض لعب أيضا دورا خطيرا في هدم المعيار الرئيسي في تعريف كانتور لمصطلح «المجموعة»، وهو (حسبما تذكر من الجزء 7(أ)، الحاشية السفلية رقم 16) أن ثمة طريقة دائما بحيث يمكنك لأي عنصر معطى أن تحدد دائما ما إذا كان هذا العنصر عنصرا في مجموعة منتهية أم لا.
77
وإليكم تناقض راسل. كما رأينا، بعض المجموعات تكون عناصر من نفسها وبعضها لا. وفي الواقع، أغلبها لا يكون كذلك، كما هو الحال، على سبيل المثال، في مجموعة كل الكراسي التي هي في حد ذاتها ليست كراسي، ومجموعة كل الكيانات التي يمكنها عمل عقدة في ساق الكرز باستخدام طرف الربط خاصتها، ومع ذلك لا تستطيع هي نفسها عمل هذه العقدة، وهكذا. ولكن بعض المجموعات تتضمن حقا نفسها كعناصر، كالحال - على سبيل المثال - في مجموعة كل المجموعات، ومجموعة كل التجريدات، ومجموعة كل الكيانات التي لا تستطيع عمل عقدة حول ساق الكرز. أطلق راسل على المجموعة التي ليست عنصرا من نفسها اسم «المجموعة العادية»، وعلى المجموعة التي تحوي نفسها داخلها اسم «مجموعة غير عادية». ومن ثم، تأمل الآن المجموعة
التي تتضمن كل المجموعات العادية، هل
مجموعة عادية؟
78
حسنا، إذا كانت
مجموعة عادية فإنها - طبقا للتعريف - ليست عنصرا من نفسها، ولكن
هي مجموعة كل المجموعات التي ليست عناصر من نفسها، ولذا فإن
تكون عنصرا من نفسها إذا كانت ليست عنصرا من نفسها، وعلى الرغم من أنه إذا كانت
في الحقيقة عنصرا من نفسها فإنها لا يمكن أن تكون عنصرا في مجموعة كل المجموعات التي هي ليست عناصر من نفسها، ومن ثم
ليست فعليا عنصرا من نفسها، وفي هذه الحالة تكون ... وهكذا إلى ما لا نهاية.
تعرف المفارقات من هذا النوع، مثل جملة
في برهان كانتور القائم على نقض الفرض، اصطلاحيا بأنها «دائرية مفرغة». وتحمل كلمة «مفرغة» هنا نفس المعنى تقريبا الذي تحمله في الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق في الجزء 2(أ)، وهو أنه أصبح من المستحيل منطقيا أن نفعل شيئا كان علينا منطقيا أن نفعله. في المفارقات الدائرية المفرغة مثل مفارقة راسل ومفارقة كانتور، ما لم نستطع فعله هو تحديد ما إذا كان شيء ما عنصرا في مجموعة معينة أم لا، وهو ما يتعارض مع التعريف الاصطلاحي لكلمة «مجموعة» و(الأسوأ من ذلك) مع قانون الوسط المستبعد. ومن ثم، هذه ليست مشاكل هينة.
ببلوغ هذه المرحلة، لا شك أنك أدركت الديناميكية الكلية لقصة اللانهائية، التي بموجبها تؤدي بعض المفارقات إلى تطورات مفاهيمية يمكنها معالجة تلك المفارقات الأصلية، ولكنها تثير في المقابل مفارقات جديدة، تؤدي بدورها إلى تطورات مفاهيمية أكثر، وهكذا. وإذا كنت من القراء الذين يهتمون بقراءة تذييلات «المعلومات الإضافية»، فلا شك أنك رأيت تذييلا عن الحل الرياضي لتناقض راسل، وهو إحلال مبدأ التجريد المحدود محل مبدأ التجريد غير المحدود، على يد تسيرميلو وآخرين. ويوجد حل من نوع آخر، وهو منع التعريفات غير الإسنادية «الذاتية الإحالة» الذي دعا إليه جيه إتش بوانكاريه (1854-1912)، وهو شخصية بارزة في مجال الطوبولوجيا، وقادت المصادفة - بعد وفاة كرونكر عام 1891 - إلى أن يصبح المعارض الأول لرياضيات الأعداد فوق المنتهية.
79
يتسم تعريف بوانكاريه لمعنى «غير الإسنادي» بأنه غامض بعض الشيء، لكن يعني في جوهره تعريف شيء ما بدلالة مجموعة كاملة من الأشياء التي هو جزء منها. وعلى نحو أكثر تحديدا، يعتمد التعريف غير الإسنادي على خصائص وأوصاف ذاتية الإحالة، وتعد «مجموعة كل المجموعات التي هي ليست عناصر من نفسها» مثالا رائعا على هذا التعريف (كما هو الحال مع «مجموعة كل المجموعات» وتعريف كانتور للمجموعة
في برهان
أعلاه ). يبدو الأمر برمته معقدا للغاية، لكن خطة بوانكاريه العامة كانت وصف التعريفات غير الإسنادية بدلالة النتائج المتناقضة التي يمكن أن تفضي إليها،
80
وهو ما يشكل عندئذ الحجة المنطقية لإنكارها وعدم إيجازها. وذلك على نحو مماثل تقريبا لعدم جواز القسمة على صفر. وللأسف فإن التعريفات الاصطلاحية لكل أنواع المصطلحات والمفاهيم الواردة في التحليل، من «متتابعة» و«متسلسلة» حتى «نقطة نهاية» و«حد أدنى»، هي أيضا تعريفات غير إسنادية ذاتية المرجعية - ناهيك عن أن مفهوم «ذاتية المرجعية» يمكن في حد ذاته أن يولد سلسلة معقدة من الحلقات المفرغة،
81
ومن ثم لم يلق حل بوانكاريه رواجا أبدا.
كان أسلوب راسل المقترح لتفادي المفارقة المسماة باسمه، وكذلك مفارقة كانتور، هو نظرية الأنماط، التي هي باختصار جزء من برنامج راسل التأسيسي لمحاولة توضيح أن الرياضيات بأكملها يمكن اختزالها في المنطق الرمزي. نظرية الأنماط هي نوع من قواعد التجريد التي ترفض أنماطا معينة من الافتراضات التي تعامل فيها أنماط مختلفة من الكيانات على أنها متكافئة. وهو ما يعني، في جوهره، أنها متكافئة ميتافيزيقيا.
82
والفكرة هي أن مجموعات العناصر الفردية ليست من نفس نمط كيان العناصر الفردية نفسها، ومجموعات المجموعات ليست من نفس نمط مجموعات العناصر الفردية، وهكذا. ويعتمد نمط كيان بعينه اعتمادا مباشرا على مدى تجريد هذا الكيان، ومن ثم ينتهي بنا المطاف إلى تسلسل هرمي خاص بنظرية المجموعات يشبه مستويات التجريد غير الرسمية التي تحدثنا عنها في الجزء 1(ب): النمط الأول = العناصر الفردية، النمط الثاني = المجموعات، النمط الثالث = مجموعات المجموعات، النمط الرابع = مجموعات مجموعات المجموعات، وهكذا.
83
وما يتيح للنظرية احتواء الحلقات المفرغة هو أن نفس نمط التسلسل الهرمي يمكن تطبيقه على الافتراضات - على سبيل المثال، النمط = كيان من نمط معين، والنمط = افتراض ما حول هذا الكيان، والنمط = افتراض ما حول هذا الافتراض المتعلق بالكيان، وهكذا. (لاحظ أن «الافتراض» بالنسبة إلى راسل يمكن أن يعني إما جملة ما باللغة الطبيعية، وإما إقرارا رياضيا مثل ).
84
والقاعدة الرئيسية هي أنه لا يمكن تطبيق افتراض أو مجموعة من النمط
على فرضية/مجموعة من النمط
أخرى، ولكن فقط على فرضية/مجموعة من نوع ما ، حيث
و
عددان صحيحان و .
وفيما يتعلق بموضوعنا هنا، فإنه يمكن النظر إلى نظرية الأنماط على أنها مثال رائع لمحاولة المرء تسويغ النهج الذي يسلكه للخروج من مفارقة ما. فالنظرية في واقع الأمر تقدم «حلا» للموضوعات الشائكة لدى راسل وكانتور - أي إنها تعطي تفسيرا للخطوة غير الجائزة للمفارقتين - ومع ذلك، فهي أيضا غامضة ومعقدة على نحو لا يمكن تصوره، وفي النهاية أضرت بالرياضيات بالقدر نفسه الذي أضرت به الإحالة الذاتية لبوانكاريه. وفيما يلي مثال سريع على ذلك: بما أن الأعداد النسبية تعرف بأنها نسب بين أعداد صحيحة، والأعداد الصماء بأنها مجموعات/متتابعات من الأعداد النسبية، فإن هذه الفئات الثلاث من الأعداد هي أنواع مختلفة، وطبقا لقواعد النظرية لا يمكننا التأكيد على وجود أشياء مشتركة بين هذه الأنواع الثلاثة دون الخوض في سلسلة متلاحقة من البراهين والمستويات والقيود المختلفة التي لا تنتهي. ولمعلوماتك، حاول راسل معالجة بعض هذه الصعوبات من خلال ما أسماه مسلمات قابلية الاختزال، لكنها كانت أكثر تعقيدا وافتعالا ... وبصفة أساسية ذهبت نظرية النمط برمتها أدراج الرياح، ولا يبقى منها الآن سوى أهميتها التاريخية.
85
إذا كان من الضروري أن نقول مجددا إننا بالكاد نزيل الغبار عن السطح هنا، فاعتبر أننا قلنا ذلك. وفي الواقع، فإن إجراءات الرد على المفارقات ونقضها على غرار ما فعله راسل وبوانكاريه جزء من أزمة أكبر وأعمق بكثير، وهي أزمة سابقة على جي كانتور، ولكن نظرياته عن اللانهائية جعلتها أزمة حرجة تستوجب ضرورة البت فيها. والفكرة بصفة عامة أن: المفارقات الموجودة في نظرية المجموعات، مقرونة بالمشاكل التأسيسية التي بدأت مع أبيل وكوشي وبلغت ذروتها مع فريجه وبيانو، أدت مباشرة إلى خلافات كبرى ما بين الشكليين والحدسيين في مستهل القرن العشرين. ومرة أخرى، لا يسعنا إلا أن نستعرض الخطوط العريضة لهذه الخلافات فحسب. فيما يتعلق بالمجموعات غير المنتهية، على سبيل المثال، سرعان ما أصبحت الحدسية معارضة لكانتور والشكلية مؤيدة له بثبات وإخلاص ، على الرغم من أن كلا من الحدسية والشكلية كان معارضا لأفلاطون ، بينما كانتور كان أفلاطونيا متشددا. وسواء أكان الأمر مزعجا أم لا، فإن هذا يرجع بنا مرة أخرى إلى الميتافيزيقا: الجدل الحديث حول أساليب الرياضيات تحول في نهاية المطاف إلى نزاع حول الوضع الأنطولوجي للكيانات الرياضية.
عرضنا من قبل مقدمة إلى الحدسية في المناقشات التي تضمنها الجزء 6 عن الإنشائية، والشكلية موضوع مختلف تماما. وربما يكون أفضل أسلوب لتناول ذلك هو أن نعيد صياغة الفكرة العامة المذكورة أعلاه، بعبارة أخرى: مفارقات نظرية المجموعات جزء من مشكلة أكبر تتعلق باتساق الرياضيات، طرحها دي هيلبرت على صورة المسألة الرئيسية الثانية
86
في مؤتمر باريس نفسه الذي رأيناه يتحدث فيه بحماسة عن كانتور في الجزء 1(أ). وبرنامج هيلبرت الخاص لإعادة هيكلة الرياضيات على النحو الذي لا تؤدي به النظريات إلى مفارقات، هو الشكلية، التي تهدف إلى إضفاء الطابع التجريدي على الرياضيات كليا وجزئيا. الفكرة الأساسية للشكلية هي فصل الرياضيات تماما عن العالم وتحويلها إلى لعبة حرفيا. وتقتضي اللعبة التلاعب ببعض الرموز وفقا لقواعد معينة تتيح لك بناء تسلسلات من الرموز من تسلسلات رموز أخرى. وهذا يتم على نحو شكلي تماما وصوري، ومن هنا جاءت التسمية. ولكن لا علاقة للاسم بما تعنيه رموز لعبة الرياضيات، أو بما إذا كانت تشير إلى شيء على الإطلاق؛ وعندما نقول إن كيانا رياضيا ما «موجود» فإن هذا يعني ببساطة أنه لا يؤدي إلى تناقض.
87
وما يهم حقا هي القواعد، ويقوم برنامج الشكلية بأكمله على نظرية البرهان التي تتعامل مع البرهان على أنه كائن رياضي شكلي: الهدف هو وضع مجموعة من المسلمات وقواعد الاستدلال
88
التي يمكن منها استنتاج الرياضيات بأكملها، بحيث يكون الموضوع كله استنتاجيا تماما ودقيقا وواضحا، مثل لعبة قائمة بذاتها، وهذا كل ما في الأمر.
إذا كان لديك أي قدر من الخلفية المعرفية بالمنطق أو بفلسفة الرياضيات، فسوف تدرك أن هذا وصف مختصر جذريا للشكلية. (لسبب واحد، يقتضي أيضا برنامج هيلبرت تقسيم الرياضيات إلى مستويات من التفكير المنطقي على نحو مماثل نوعا ما لأنواع راسل، وذلك مرة أخرى دون السماح بوجود فرضيات بين المستويات). ومن المرجح أنك ستعرف أيضا أن الحركة اصطدمت بمشاكل خطيرة قبل فترة طويلة من براهين جودل المذكورة سلفا بأن النظام الشكلي لا يمكن أن يكون كاملا ومتسقا
89
معا، كالحال - مثلا - مع الشكليين الذين لم يستطيعوا حتى أن يجعلوا علم الحساب الأساسي كاملا ومتسقا في حال اشتماله على الضرب بوصفه عملية رياضية جائزة، الأمر الذي من الواضح أنه كان يمثل مشكلة كبيرة. ومن ثم، لسنا مضطرين إلى الحديث عن الإفقار الفلسفي أو الغرابة المطلقة الذي عليه لعبة رياضيات مفتقرة إلى المرجع الإسنادي؛ لأن الشكلية عجزت حتى عن النجاح وفقا لشروطها الخاصة.
انبثقت ردود الفعل الأكثر توافقا تجاه المفارقات الدائرية المفرغة من داخل نظرية المجموعات نفسها (التي بحلول عام 1900 تقريبا أصبحت مجالا خصبا في كل من الرياضيات والمنطق، ولك أن تخمن بفضل من)، وقادها مؤيد كانتور الأول والمنظم البروفيسور إي تسيرميلو.
90
وكانت إحدى النتائج المترتبة على هذه الردود هي تقسيم نظرية المجموعات المجردة إلى نوعين فرعيين: «نظرية المجموعات المبسطة» و«نظرية المجموعات البديهية». نظرية المجموعات المبسطة هي ببساطة نظرية المجموعات العادية لكانتور بكل مميزاتها وعيوبها، بما في ذلك تعرضها للمفارقات.
91
أما نظرية المجموعات البديهية، فهي محاولة لاستنتاج نسخة أدق وأكثر رسوخا من الناحية التأسيسية من نظرية المجموعات، تتوفر فيها كل الفاعلية المفاهيمية لنظرية المجموعات المبسطة، ولكنها وضعت بأسلوب يتفادى المفارقات الجسيمة. ويعد برنامج نظرية المجموعات البديهية شكليا إلى حد ما في جوهره، وإقليديا: هدفها هو أن تجعل من نظرية المجموعات نظاما شكليا مستقلا خاصا بها
92
باستخدام مجموعتها الخاصة من المسلمات التي تحقق أقصى درجات الاتساق والاكتمال. وكما سبق أن ذكرنا في موضع سابق، يسمى عادة أشهر نظام مسلمات «تسيرميلو-أيه فرانكل-تي سكوليم»، كما يوجد نظام مسلمات «فون نويمان- بيرنايز» الأكثر تقييدا، بالإضافة إلى نظم أخرى، تشتمل على العديد من المزايا المساعدة غير الأساسية التي تقوم على مبدأ النظرية الشمولية التي تتحدث عن نظرية أخرى، وتحللها لتستنبط النتائج الرئيسية منها، صممت على أيدي شخصيات بارزة من أمثال أيه تارسكي، ودبليو في أوه كواين، وإف بي رامزي وآخرين.
في واقع الأمر، كان لنظرية المجموعات البديهية والمنطق الخاص بها تطبيقات مثمرة في كل شيء؛ بدءا من نظرية الدوال الحقيقية والتحليل والطوبولوجيا في الرياضيات، ومرورا بدراسات النحو التوليدي وقواعد التركيب في اللغويات، ووصولا إلى نظرية القرار والخوارزميات والدوائر المنطقية واحتمالات التوقف/دراسات ثابت تشايتين ( ) والذكاء الاصطناعي والمعالجة التوافقية في علوم الكمبيوتر. وعلى الرغم من ضيق المساحة المتزايد، فالأمر يستحق أن نقوم بجولة سريعة في النظام المسلماتي الأساسي الذي تعد كل النظم الرئيسية صورا مختلفة منه، مع تقديم شروح وإيضاحات موجزة ووثيقة الصلة بالموضوع إذا لزم الأمر. وفيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، يمكنك بالطبع أن تتخطى الموضوع بأكمله - إن أردت - باعتباره معلومة إضافية يمكنك مطالعتها إن كنت مهتما بذلك فحسب. والنظام كالتالي:
المفهوم الأولي: علاقة الانتماء ، حيث
تعني أن
عنصر في المجموعة .
مسلمة 1:
تتساوى المجموعتان إذا كانتا تشتملان على العناصر نفسها (لاحظ أن الجملة هنا ليست «إذا وفقط إذا ...»؛ لأن المجموعات غير المنتهية ومجموعاتها الجزئية الفعلية يمكن أيضا أن تتساوى).
مسلمة 2:
إذا كان
و
إما عنصرين أو مجموعتين، فإن
مجموعة.
مسلمة 3:
توجد صورتان مختلفان من هذه المسلمة؛ الصورة الأولى هي: لأي مجموعة
و«مسند محدد»
93 ، توجد المجموعة
التي تحتوي فقط على العناصر
94
التي لها الخاصية التي يشير إليها المسند . أما الصورة الثانية فهي: توجد مجموعة
بالسمات التالية: (أ) ، و(ب) لأي ، إذا كان
فإن . (هاتان الصورتان هما نسختان مختلفتان تقنيا من مبدأ التجريد المحدود المذكور أعلاه، وتؤديان معا وظيفتين مهمتين. أولا، أنهما يثبتان وجود المجموعة الخالية. وثانيا، أنهما يعرفان ويؤكدان صحة طريقة «الاستقراء فوق المنتهي» في نظرية المجموعات، ويثبتان بهذه الطريقة وجود مجموعة غير منتهية على نحو غير قابل للعد
عناصرها هي
و
و
و
وهكذا.
95
ومن ثم، إذا وضعنا في هذه المجموعة
بدلا من ، وافترضنا لأي
أن
تساوي ، فإن
تصبح المجموعة المرتبة لكل الأعداد الصحيحة الموجبة (وهو ما يشبه كثيرا الطريقة التي انتهجها بيانو في فرضياته
96
لتوليد الأعداد الصحيحة).)
مسلمة 4:
اتحاد مجموعة من المجموعات هو مجموعة في حد ذاته. يعد هذا بمثابة تعريف تقني لمفهوم «الاتحاد»، الذي يمكن أن يشتق منه «التقاطع» وحاصل الضرب الديكارتي
97
وغيرهما عن طريق المعالجة المنطقية (بدلا من طريقة أن تعرف الرابط المنطقي
and (الذي يدل على التقاطع) باستخدام
not
و
or ).
مسلمة 5:
مسلمة مجموعة القوى الشهيرة: لأي مجموعة ، توجد مجموعة القوى
للمجموعة . (تؤسس هذه المسلمة للتسلسل الهرمي اللامحدود للمجموعات غير المنتهية. وتذكر من الجزء 7(ب) أن نظرية المجموعات بأكملها تكون «بسيطة» في حالة المجموعات المنتهية، حيث تعني كلمة «بسيطة» أن في مقدورك التحقق من صحة أي افتراض يتعلق بنظرية المجموعات بمجرد النظر إلى عناصر المجموعات ذات الصلة. والفكرة كلها في هذه المسلمات أن تتمكن من برهنة النظريات ما بعد التجريبية، المجردة 100٪، تماما مثل اللانهائية نفسها.)
مسلمة 6:
مسلمة الاختيار الشهيرة والأكثر جدلا. تنص مسلمة الاختيار بمصطلحات نظرية المجموعات على أنه: «إذا كانت
مجموعة من المجموعات الثنائية المنفصلة غير الخالية، فإن حاصل الضرب الديكارتي لعناصر
98
هو مجموعة غير خالية؛ حيث يعين لكل عنصر في حاصل الضرب الديكارتي هذا مجموعة مختارة من ». وبطريقة مبسطة، يمكنك أن تنشئ من أي
مجموعة جزئية
ذات خصائص معينة حتى إذا كنت لا تستطيع تحديد إجراء لاختيار العناصر الفردية للمجموعة الجزئية . (وضع تسيرميلو نظرية الاختيار في بدايات القرن العشرين، وهي طريقة شديدة التخصص بما لا يتيح لنا شرحها بالتفصيل هنا،
99
ولكن إحدى النتائج المهمة لمسلمة الاختيار هي «مبدأ الترتيب الجيد»، بمعنى أن أي مجموعة جزئية
من أي مجموعة
يمكن اختيارها وترتيبها بحيث تكون
بها عنصر أول. ورأينا أهمية هذا المبدأ في الأمثلة التوضيحية على التناظر الأحادي، والتي كان أولها - على سبيل المثال - أن {كل الأعداد الصحيحة} و{كل الأعداد الصحيحة الموجبة} لهما نفس الكاردينالية. وكان لمبدأ الترتيب الجيد محوريا أيضا في براهين كانتور بأن
و ، حيث من الواضح أن المصفوفات المختلفة لهذه البراهين كانت تقتضي حتما أن يكون بها عنصر أول. ومع ذلك، كانت مسلمة الاختيار مثيرة للجدل أيضا على نحو بالغ (لسبب واحد، تستطيع أن تستوعب لماذا رفض الحدسيون والإنشائيون فكرة أن في مقدور المرء تحديد مجموعة جزئية دون أي إجراء لاختيار عناصرها)، وظلت إحدى المسائل الكبرى الشائكة في نظرية المجموعات حتى (1) أثبت كيه جودل عام 1940 الاتساق المنطقي لمبدأ الاختيار مع المسلمات الأخرى لنظرية المجموعات، ثم (2) أثبت البروفيسور بي كوهين
100
عام 1963 الاستقلال المنطقي لمبدأ الاختيار عن المسلمات الأخرى لنظرية المجموعات، وهما البرهانان اللذان أسهما معا إلى حد كبير في حسم الجدل حول المسلمة).
101
مسلمة 7:
تعرف هذه المسلمة عادة بمسلمة الانتظام، ولها أيضا صور عدة. وأبسطها هي أنه سواء أكان
عنصرا أو مجموعة، فإن . وتوجد صيغة أوضح لها، وهي: «كل مجموعة غير خالية
تحتوي على عنصر
بحيث لا يوجد بين
و
عنصر مشترك.»
102 (تلخص مسلمة الانتظام إلى حد ما اعتراضات بوانكاريه وراسل على الإحالة الذاتية، أو على أية حال هذه هي المسلمة التي غيرت اتجاه تناقض راسل وقلبته رأسا على عقب. ومنعت أيضا صيغا مثل «مجموعة كل المجموعات» و«مجموعة كل الأعداد الترتيبية»، ومن ثم تفادت مفارقة كانتور وكذلك مفارقة بورالي-فورتي التي سوف نشرحها قريبا. لاحظ أنها نقضت أيضا برهان كانتور المستند إلى المجموعة الخالية ( ) الذي أثبت فيه أن
في الجزء 7(ه). ولهذا السبب، توجد مسلمة مجموعة القوى المنفصلة الكاملة أعلاه، التي يمكن أن يستنتج منها أن
دون أي برهان يتعارض مع مسلمة الانتظام. لكن، يرجى العلم أنه حتى مع مسلمة الانتظام، يمكن أن تظل دراسة مسلمات مثل مسلمات «تسيرميلو-أيه فرانكل-تي سكوليم» عرضة لبعض المفارقات المتعلقة بنظرية النموذج،
103
ومن ثم اعتبارا من عام 2000 ميلادية أصبح هناك تسلسل هرمي كامل من المسلمات المتعلقة بنظرية المجموعات، التي لكل منها حصانته الخاصة ضد المفارقات، وهو ما يعرف في التجارة بقوة الاتساق. وإذا كنت مهتما، فإن النظم الرئيسية الحالية مرتبة تصاعديا حسب قوة الاتساق كالتالي: فرضيات بيانو، والبرهان التحليلي، ونظام مسلمات «تسيرميلو-فرانكل-سكوليم»، وماهلو، ونظام مسلمات «فون نويمان-بيرنايز»، وكواين، وضعيف التراص، وماهلو فائق، وفائق الوصف ، ورامزي، وفائق التراص، و
الضخم.) ⋆
نهاية «جزء تكميلي» في الجزء 7(و )
الجزء 7(ز)
لا شك أنك قد لاحظت أنه مضى بعض الوقت منذ آخر مرة أشرنا فيها إلى كانتور، ولعلك تساءلت أين هو في كل هذا الصخب التأسيسي في الجزء 7(و). كانت إجراءات بوانكاريه وراسل الوقائية ومسلمات تسيرميلو وغيرها في بدايات القرن العشرين تقريبا، وهي الفترة التي وضع فيها كانتور أفضل أبحاثه وراء ظهره، وانصرف في الأغلب عن الرياضيات نظرا للهواجس التي استحوذت عليه خلال سنواته الأخيرة.
104
كما أنه أصبح الآن يتردد على المستشفيات طوال الوقت. والمفارقة المحزنة أنه عندما بدأت أبحاث كانتور تلقى قبولا واسع النطاق وازدهرت نظرية المجموعات خاصته في كل مجالات الرياضيات والمنطق، كان مرضه يزداد سوءا، وانعقدت كل أنواع المؤتمرات الخاصة والحفلات الخاصة وحفلات التكريم وتقديم الجوائز التي لم يستطع حضورها بسبب مرضه الشديد.
أحد الأمور الأكثر صلة بهذا الموضوع هو أن كانتور عندما اصطدم بمفارقاته لأول مرة في ثمانينيات القرن التاسع عشر (تقريبا)، لم يعرها - أو بالأحرى لم يستطع أن يعيرها - اهتماما كبيرا؛ نظرا لأنه كانت لديه مشاكل أكثر إلحاحا. كما هو الحال على مستوى الرياضيات نفسها. وكان أهمها ما يعرف الآن ب «فرضية الاتصال».
105
تبلورت فرضية الاتصال بطرق شتى - «هل قوة الاتصال مكافئة لقوة فئة الأعداد الثانية؟» و«هل الأعداد الحقيقية تكون مجموعة قوى الأعداد النسبية؟» و«هل
هو نفسه ؟» و«هل ؟»، ولكن فيما يلي جوهر الموضوع. أثبت كانتور بالفعل وجود تسلسل هرمي لا نهائي من المجموعات غير المنتهية ومجموعات القوى الخاصة بها، وأثبت أن
و
نظريتان للمجموعات غير المنتهية. لكنه لم يبرهن بعد على مدى ارتباط هذه النتائج المختلفة ببعضها. ويدور السؤال الرئيسي حول ما إذا كان
يشكل قانونا حصريا لطريقة ترتيب التسلسل الهرمي للأعداد فوق المنتهية - أي ما إذا كانت المجموعة الأكبر التالية لأي مجموعة غير منتهية
هي دائما ، دون لا نهائيات وسيطة بينها - ومن ثم ما إذا كانت عملية «الرفع لأس» هذه هي أسلوب الانتقال من مجموعة غير منتهية إلى المجموعة التي تليها، تماما مثلما يتيح الجمع الانتقال من عدد صحيح إلى الذي يليه. والإجابة ب «نعم» على هذا السؤال تلخص مضمون فرضية الاتصال. الصورة العامة لفرضية الاتصال الآن هي ،
106
إلا أن نسخة كانتور الأصلية أكثر تحديدا. نعلم أن كانتور أثبت وجود وكاردينالية مجموعتين غير منتهيتين منفصلتين، وهما: مجموعة كل الأعداد الصحيحة/النسبية/الجبرية ( ) ومجموعة كل الأعداد الحقيقية/المتسامية/الفترات المتصلة والفراغات ( )، وأثبت أن . فرضية الاتصال الخاصة به هي أن
هي فعليا ، وهي المجموعة غير المنتهية التي تأتي مباشرة بعد ، دون وجود شيء بينهما.
107
استمرت محاولات كانتور لبرهنة فرضية الاتصال خلال العقدين التاسع والعاشر من القرن التاسع عشر، وتوجد بعض الخطابات المليئة بالحسرة التي أرسلها إلى ديديكند، والتي يعلن فيها بحماس برهانا ما، ثم يكتشف فيه خطأ بعد بضعة أيام ويضطر إلى مراجعته. والواقع أنه لم يثبت فرضية الاتصال أو ينفها أبدا، وبعض المؤرخين الرائجين يرون أن فرضية الاتصال هي التي دفعت في الواقع بكانتور إلى المرض النفسي بلا عودة.
من وجهة نظر الرياضيات، تعد حقيقة فرضية الاتصال أكثر تعقيدا مما أذاعه الكتاب الرائجون؛ لأن كانتور تطرق فعلا إلى المشاكل المختلفة لفرضية الاتصال خلال بحثه عن الأعداد الترتيبية، التي علاقاتها تشبه كثيرا العلاقة
التي تناولناها في الجزء 7(ب)، والتي لا يسعنا الآن - رغم نوايانا الحسنة - سوى أن نتحدث بإيجاز عنها.
108
أولا، توفيرا للوقت، يرجى استرجاع أو مراجعة المعلومة التمهيدية الواردة في الجزء 5 ه(1)، الحاشية السفلية رقم 78، حول الأعداد الترتيبية في مقابل الأعداد الصحيحة الكاردينالية. ما يعنينا الآن هو الأعداد الترتيبية في نظرية المجموعات، التي هي مختلفة بعض الشيء، وتتضمن مفهوم أنماط ترتيب المجموعات. وفيما يلي شرح بسيط لها: نعلم أنه إذا كان للمجموعتين
و
نفس العدد الكاردينالي، فمن الممكن أن يوجد بينهما تناظر أحادي. وإذا كان هذا التناظر الأحادي يمكن إيجاده بطريقة يظل معها ترتيب العناصر في كل من
و
كما هو دون أن يتغير، فإن
و
يكون لهما نفس نمط الترتيب. (عرضنا في الجزء 7(ه) مثالا مباشرا على مجموعتين لهما نفس العدد الكاردينالي ولكنهما مختلفتان في نمط الترتيب، وهما {كل الأعداد الصحيحة الموجبة} و{كل الأعداد الصحيحة}). تذكر أننا اضطررنا إلى التلاعب بترتيب المجموعة الأخيرة حتى يكون لها عنصر أول يتطابق مع
في مجموعة الأعداد الصحيحة الموجبة.
يمكنك إدراك السبب الذي يجعل موضوع الأعداد الترتيبية أكثر تعقيدا من الأعداد الكاردينالية: ما يعنينا الآن ليس فقط عناصر المجموعة، ولكن أيضا طريقة ترتيبها. أو بالأحرى طرق ترتيبها؛ لأن الطرق الممكنة لتبديل ترتيب المجموعات تشغل حيزا كبيرا ومهما في صلب نظرية الأعداد الترتيبية. وسوف نتحدث الآن عن مضمون هذه النظرية، ولكن ينبغي لك أن تعلم أن هناك قدرا كبيرا من المصطلحات التقنية والاختلافات المميزة - «مرتبة» و«محكمة الترتيب» و«مرتبة جزئيا» و«كلية الكثافة» مقابل «منعدمة الكثافة» و«عدد العلاقة» و«نظرية العد» وهكذا - التي سوف نتجاهلها في الغالب.
109
بعض الحقائق الأساسية: بالنسبة إلى المجموعات المنتهية، كاردينالية = نمط ترتيب؛ أي إن أي مجموعتين متناهيتين لهما نفس العدد الكاردينالي سوف يكون لهما تلقائيا نفس نمط الترتيب. وذلك لأنه يوجد نمط ترتيب واحد لكل المجموعات التي تشتمل على عنصر واحد، ونمط ترتيب واحد لكل المجموعات التي تشتمل على عنصرين، وهكذا.
110
وفي الواقع، فإن العدد الكلي لأنماط الترتيب الممكنة للمجموعات المتناهية هو نفسه العدد الكاردينالي لمجموعة الأعداد الصحيحة الموجبة، أي . ولكن، في المجموعات غير المنتهية تصبح أنماط الترتيب أكثر تعقيدا. وينبغي ألا نستغرب ذلك. افترض أن المجموعة غير المنتهية القابلة للعد التي تضم كل الأعداد الصحيحة الموجبة:
لها أكثر من نمط ترتيب واحد. هذا لا يعني مجرد تبديل مواضع أعداد معينة في المتتابعة غير المنتهية، حيث إن المجموعة ستظل قابلة للتناظر الأحادي مع مجموعة الأعداد الصحيحة الموجبة الأصلية، حتى لو كان التناظر شيئا على هذا النحو:
لكن إذا افترضنا أنك أخذت أحد عناصر مجموعة الأعداد الصحيحة الموجبة ووضعته في آخر المجموعة، كما في ، فسوف يكون لديك نمط ترتيب مختلف تماما. ومن ثم، لم تعد المجموعة
قابلة للتناظر الأحادي مع مجموعة منتظمة الترتيب
ليس لها عدد أخير ؛ ومن ثم لا تتيح لك مجالا للتوصل إلى شيء لمطابقته مع . لاحظ أيضا أن في نمط الترتيب الجديد أصبح
له عدد ترتيبي مختلف؛ فهو لم يعد العنصر الثاني في المجموعة، ولكنه الآن العنصر الأخير، ولم يعد يوجد عنصر محدد قبله مباشرة. ومن ثم، يكون التعريف الشامل للعدد الترتيبي أنه عدد يحدد الموضع الذي يظهر فيه عنصر مجموعة معين بنمط ترتيب معين.
111
في نظرية المجموعات لكانتور توجد قاعدتان أساسيتان لتوليد الأعداد الترتيبية: (1) لأي عدد ترتيبي ، يمكنك دائما استنتاج العدد الترتيبي التالي، وهو . (2) لأي مجموعة
من الأعداد الترتيبية
مرتبة في متتابعة تصاعدية (على سبيل المثال، مجموعة الأعداد الصحيحة الموجبة)، يمكنك دائما استنتاج عدد ترتيبي أخير يكون أكبر من كل الأعداد الترتيبية
الأخرى. ويكون هذا العدد الترتيبي الأخير وظيفيا بمثابة نهاية متتابعة
ويمكن كتابته على الصورة .
112
لا تبدو هذه القواعد سيئة للغاية، إلا أن الأمور تأخذ في التعقيد عندما نتناول ليس فقط مجموعات الأعداد الترتيبية ولكن أيضا الأعداد الترتيبية كمجموعات، وهو ما يمكن فعله لأن ثمة مبدأ أساسيا في نظرية المجموعات بأن كل الكيانات الرياضية يمكن تمثيلها كمجموعات (على سبيل المثال، العدد الكاردينالي فوق المنتهي
هو مجموعة الأعداد الكاردينالية ، بالإضافة إلى ما ذكرناه في الجزء 2(أ) سابقا عن أن
هي حرفيا مجموعة كل الخماسيات). ولكن، السؤال عندئذ هو: ما معنى أن المجموعة هي عدد ترتيبي ما ؟ والإجابة هي قاعدة كانتور الكبرى الثالثة: لأي عدد ترتيبي ، = مجموعة كل الأعداد الترتيبية الأقل من ؛ أي إن
تحدد فقط باستخدام مجموعة الأعداد الترتيبية التي نهايتها هي .
113
أو بالمصطلحات الرياضية،
114 . ويمكنك بهذه الطريقة تكوين متتابعة الأعداد الصحيحة العادية بأكملها (إما على صورة أعداد كاردينالية أو ترتيبية): ، ، ، وهكذا. ويرمز إلى العدد الترتيبي للمجموعة غير المنتهية القابلة للعد
بأكملها بحرف أوميجا الصغير . وهذا العدد الترتيبي فوق المنتهي هو نهاية متتابعة عناصر المجموعة، أي إنه أصغر عدد يكون أكبر من كل الأعداد الصحيحة المنتهية. ويوجد أسلوب آخر أكثر شيوعا لوصف
وهو أنه العدد الترتيبي للمجموعة التي
هو العدد الكاردينالي لها.
115
جزء تكميلي يتضمن معلومات إضافية
مهما كانت الصعوبة التي بدت عليها الفقرة الأخيرة، فإن كل شيء تقريبا فيما وراء ذلك في نظرية الأعداد الترتيبية غامض ومتخصص على نحو بالغ، حتى إنه لا يسعنا سوى أن نقدم بعض الملاحظات العامة عنه. الملاحظة الأولى هي أن حساب الأعداد الترتيبية فوق المنتهية يكون مختلفا - وإن كان لا يقل غرابة - عن حساب الأعداد الكاردينالية فوق المنتهية، على سبيل المثال، ، لكن ؛ لأنه طبقا للتعريف
هو العدد الترتيبي التالي مباشرة بعد . وتوجد ملاحظة أخرى، وهي أنه - على غرار العدد الكاردينالي - أي تسلسل هرمي لا نهائي من الأعداد الترتيبية فوق المنتهية من المجموعات غير المنتهية للأعداد الترتيبية يكون قابلا للتكوين (قد يكون عليك قراءة الجملة الأخيرة مرة أخرى)، ولكنه يكون في هذه الحالة عملية مختلفة تماما عن . يرتبط التسلسل الهرمي للأعداد الترتيبية فوق المنتهية بكيانات مجردة تسمى «أعداد إبسيلون» وكذلك بعملية حسابية تسمى «التكرار». لن نتحدث عن الأولى إلا لنقول إنها بصفة أساسية فئة من الأعداد بحيث إن .
116
ولكن التكرار أبسط، وربما صادفته في موضوعات مثل نظرية الحقول أو التوافقيات في المرحلة الجامعية. والتكرار بصفة أساسية عبارة عن رفع عدد لأس على نحو مغالى فيه وغريب. فالتكرار الرابع للعدد
مثلا يكتب على الصورة:
ويعني ، وهو ما يساوي ، الذي يساوي ، ويمكنك حسابها بهذه الطريقة. وفنيا، الصلة بين التكرار والأعداد الترتيبية فوق المنتهية وأعداد إبسيلون هي حقيقة أن ، وهو ليس بالأمر المهم إلى هذا الحد. لكن إذا استطعت أن تتصور - على نحو تجريدي - متوالية مثل ، فيمكنك الحصول على فكرة - ما يمكن أن نسميه «فكرة» على أية حال - عن التسلسل الهرمي والارتفاعات التي لا يمكن تصورها للأعداد الترتيبية لمجموعات غير منتهية من المجموعات غير المنتهية من الأعداد الترتيبية للمجموعات غير المنتهية التي يتضمنها.
نهاية «جزء تكميلي يتضمن معلومات إضافية» •••
ومن ثم، فإن المدخل الذي صاغ منه كانتور فرضية الاتصال هو الأعداد الترتيبية وأنماط الترتيب. وكما رأينا، يوجد أكثر من نمط ترتيب واحد للمجموعات غير المنتهية، كالحال مع
في مقابل
اللتين عرضناهما أعلاه. وفي الواقع، يوجد عدد لا نهائي من أنماط الترتيب المختلفة لأي مجموعة غير منتهية، وما أثبته
117
كانتور هو أن مجموعة أنماط الترتيب الممكنة لمجموعة غير منتهية قابلة للعد تكون هي نفسها غير قابلة للعد. وهذا يعني أن هناك طريقة أخرى لإنشاء تسلسل هرمي لا نهائي من المجموعات غير المنتهية - إذا كانت
مجموعة غير منتهية قابلة للعد، فإن
هي المجموعة غير المنتهية غير القابلة للعد من أنماط الترتيب الممكنة ل ، و
سوف تكون مجموعة أنماط الترتيب الممكنة ل ، وهكذا. (في الواقع، قد يكون وصف العمليات المختلفة لاستنتاج عدد لا نهائي من التسلسلات الهرمية بأنها «منفصلة» مضللا نوعا ما؛ لأنها في الحقيقة مرتبطة بكل الطرق. ورغم أن شرح رياضيات هذه العلاقات خارج نطاق نقاشنا الحالي، يمكنك أن تحصل على فكرة على الأقل عن هذه العلاقات من التعريف الاصطلاحي الذي قدمه كانتور للمجموعة (آخذا في الاعتبار أن «فئة الأعداد» هنا تشير في الحقيقة إلى مجموعات الأعداد الترتيبية)، والتعريف كالتالي: «فئة الأعداد الثانية
هي
بأكملها لكل أنماط الترتيب
للمجموعات المنتظمة الترتيب التي لها العدد الكاردينالي »).
ومع ذلك، ليس من الضروري التعمق في هذا الموضوع. وباستبعاد الأعداد الترتيبية فوق المنتهية مثل ، يمكننا أن نرى تماثلا واضحا وليس عرضيا بالتأكيد بين (1)
بوصفها مجموعة كل الأعداد الحقيقية (في مقابل الأعداد النسبية ل )، و(2)
بوصفها مجموعة قوى ؛ أي بوصفها )، و(3)
بوصفها مجموعة كل أنماط ترتيب . المشكلة الحقيقية هي أن كانتور لم يستطع إثبات وجود صلة جوهرية معينة بين هذه التطابقات الثلاثة. وحسبما تذكر من بضع صفحات سابقة، فإن فرضية الاتصال الأصلية لكانتور تنص أن (1) هي نفسها (2)، وأن ، وأنه لا يوجد أي مقدار وسيط من اللانهاية بين
و . ومن ثم، نحن مهيئون الآن لكي نفهم ولو بصفة تقريبية على الأقل صلة العلاقة (3) بالموضوع هنا. في الأجزاء السابقة من بحث كانتور «إسهامات لوضع نظرية للأعداد فوق المنتهية»، استطاع كانتور - من خلال عملية تفكير تقني متعمقة ومطولة - أن يستنتج أمرين مهمين: (أ) أنه
لا يمكن أن تكون ، و(ب) أنه في حالة وجود أي مجموعة غير منتهية أكبر من
ولكنها أصغر من ، لا بد أن تكون هذه المجموعة هي المجموعة
غير القابلة للعد، التي تعرف أيضا بفئة الأعداد الثانية. وجدير بالذكر أن النقطة (ب) هي التي أثارت شكوكه تجاه فرضية الاتصال؛ إذ حاول إثبات أن العلاقتين (2) و(3) أعلاه هما في الحقيقة شيء واحد، ولو أن كانتور استطاع أن يثبت أن ، لكان من الممكن - طبقا للاستنتاج (ب) - إثبات عدم وجود أي مجموعة وسيطة بين
و ، وهو ما يستتبع أن . ولكنه لم يستطع أن يثبت تحديدا أن ، رغم سنوات من المحاولات الكثيرة على نحو لا يمكن تصوره. ولا يمكن البت في مسألة ما إذا كان هذا هو السبب وراء مرضه النفسي أم لا، ولكن الحقيقة هي أن عجزه عن إثبات فرضية الاتصال تسبب له في ألم استمر معه لبقية حياته؛ فقد اعتبر كانتور فرضية الاتصال هي فشله الأكبر. كما أننا لم ندرك أن الأمر محزن إلا متأخرا؛ لأن علماء الرياضيات المحترفين باتوا يعلمون تماما الآن لماذا لم يستطع كانتور أن يبرهن صحة فرضية الاتصال أو خطأها. والأسباب عميقة ومهمة وتضرب بجذورها في صميم الاتساق الشكلي لنظرية المجموعات البديهية، على نحو مماثل تقريبا لبراهين عدم الاكتمال لكيه جودل التي تقتلع الرياضيات بأكملها من جذورها كنظام شكلي. مرة أخرى، لم يسعنا هنا إلا أن نعرض هذه الموضوعات بإيجاز أو على نحو مجمل (وعلى الرغم من أن جودل له دخل مباشر هذه المرة، فربما تجد معالجة مستفيضة لهذا الموضوع في كتيب آخر في السلسلة نفسها يتحدث عن جودل تحديدا).
إن فرضية الاتصال ومسلمة الاختيار المذكورة سلفا هما أكبر مشكلتين محدقتين بنظرية المجموعات في بدايتها. وفيما يخص فرضية الاتصال على وجه التحديد، من المهم التمييز بين سؤالين مختلفين. أحدهما ميتافيزيقي يدور حول ما إذا كانت فرضية الاتصال صوابا أو خطأ. والآخر هو ما إذا كان يمكن برهنة فرضية الاتصال أو نفيها اعتمادا على مسلمات نظرية المجموعات القياسية.
118
والسؤال الثاني هو ما أجاب عنه على نحو حاسم ، وعلى مدى عدة عقود، كيه جودل وبي كوهين، بعبارة أخرى:
عام 1838:
أثبت جودل شكليا أن الصورة العامة لفرضية الاتصال متوافقة مع نظام مسلمات «تسيرميلو-فرانكل-سكوليم» - بمعنى أن فرضية الاتصال إذا عوملت على أنها مسلمة قائمة بذاتها وأضيفت إلى مسلمات نظرية المجموعات، فلن يكون هناك احتمال لوجود أي تعارض منطقي.
عام 1963:
في إحدى الرشقات النارية المجهولة المصدر التي تستهوي الباحثين الرائجين وصناع السينما، أثبت بروفيسور شاب من ستانفورد يدعى بول جيه كوهين أن نفي فرضية الاتصال العامة يمكن أن يضاف أيضا إلى نظام مسلمات «تسيرميلو-فرانكل-سكوليم» دون تعارض.
119
أكدت هاتان النتيجتان معا ما يعرف الآن باستقلالية فرضية الاتصال، بمعنى أن فرضية الاتصال تحتل مكانة مماثلة تقريبا لمكانة مسلمة التوازي
120
بالنسبة إلى بقية مسلمات الهندسة الإقليدية: لا يمكن إثباتها ولا نفيها باستخدام المسلمات القياسية لنظرية المجموعات.
121
وبالإضافة إلى ذلك، ربما تذكر من الجزء السابق أن جودل وكوهين استطاعا استنتاج نفس النتائج إلى حد كبير فيما يخص مسلمة الاختيار التي لعبت دورا محوريا للغاية في البراهين القطرية المختلفة لكانتور، فقد أثبت جودل أن المسلمة غير قابلة للدحض في نظام مسلمات «تسيرميلو-فرانكل-سكوليم» ونظام مسلمات «فون نيومان-بيرنايز»، في حين أثبت كوهين أنها غير قابلة للإثبات في نظامي المسلمات سالفي الذكر.
122
وكما ذكرنا من قبل، يوجد نظام مسلمات بديل تكون فيه فرضية الاتصال ومسلمة الاختيار قابلتين للإثبات/للنفي (على سبيل المثال، صيغت نظرية المجموعات لكواين بأسلوب جعل مسلمة الاختيار متناقضة ظاهريا)، على الرغم من أن كثيرا من هذه النظم الشديدة الاتساق تستخدم كلمة «مجموعة» على نحو مغاير تماما للتعريفات الأصلية لكانتور وغيره.
تظل فرضية الاتصال فاعلة بطرق أخرى. إنها، على سبيل المثال، السبب الأساسي وراء العديد من المسلمات النظرية والإضافات المختلفة التي تضمنتها نماذج نظرية المجموعات التي تزعم أن فرضية الاتصال وما يكافئها من موضوعات مختلفة قابلة للإثبات أو النفي.
123
وتعد هذه النظم التأملية النظرية من بين أكثر البنى الفائقة التجريد في الرياضيات الحديثة، وتحتوي مصطلحات مثل «كانتوري» (نسبة إلى كانتور ) في مقابل «تجمعات من الرتبة الأولى»، و«مجموعات قابلة للإنشاء» في مقابل «مجموعات غير قابلة للإنشاء»، و«أعداد كاردينالية قابلة للمقايسة»، و«أعداد ترتيبية متعذر بلوغها»، و«ارتداد فوق منته»، و«اكتمال فائق»، ومصطلحات كثيرة أخرى، من الظريف أن نذكرها حتى لو لم تكن لدى المرء فكرة واضحة عما يفترض أنها تعنيه.
124
وختاما، أهم شيء ينبغي أن نضعه في الاعتبار هو كيف أن عدم القدرة على إثبات فرضية الاتصال يحيلنا إلى التساؤل المهم الآخر عما إذا كانت الفرضية صحيحة من الأساس. ومن غير المستغرب وجود عدد لا حصر له من وجهات النظر الممكنة المختلفة حول هذا الموضوع. كانت إحدى الرؤى في تناول هذا الموضوع، وهي لدى الشكليين، أن مختلف المسلمات لها نقاط قوة ونقاط ضعف متنوعة، وأن فرضية الاتصال سوف تكون قابلة للإثبات/النفي في بعضها وغير قابلة للحسم في البعض الآخر، وأن أي نظام تقره سوف يعتمد على غايتك المحددة من ورائه. وتوجد إجابة أخرى أكثر تحديدا لهيلبرت؛ وهي أن «صحيحة» في هذا السياق لا يمكن في الحقيقة أن تعني أي شيء سوى «قابلة للإثبات في نظام مسلمات «تسيرميلو-فرانكل- سكوليم».» ومن ثم أن الاستقلال المنطقي لفرضية الاتصال عن نظام مسلمات «تسيرميلو-فرانكل-سكوليم» يعني حرفيا أنها ليست صحيحة وليست خطأ.
125
ويميل الحدسي الأصيل إلى التعامل مع هذه الجلبة برمتها حول المفارقة التي تنطوي عليها الفرضية وعدم قابليتها للإثبات في نظرية المجموعات بوصفها النتيجة الطبيعية لإجازة استخدام مفاهيم غامضة وغير استنتاجية مثل المجموعات والمجموعات الجزئية والأعداد الترتيبية وبالطبع اللانهائية الفعلية في الرياضيات.
126
ولكن، كان علماء الرياضيات الأفلاطونيون (الذين أحيانا ما يعرفون أيضا بالواقعيين أو أتباع كانتور أو أتباع مذهب الأعداد فوق المنتهية) هم الأكثر استياء من عدم حسمية فرضية الاتصال، وهو أمر مثير للاهتمام، حيث كان أشهر اثنين من أتباع الأفلاطونية الحديثة هما جي كانتور وكيه جودل، اللذين يتحملان معا ثلثي المسئولية على الأقل عن هذه البلبلة بأكملها. ويلخص الموقف هنا جيدا الأفلاطوني جودل، حيث كتب عن براهينه وبراهين كوهين بخصوص استقلال فرضية الاتصال:
لا يقنع بهذا الحل سوى شخص (مثل الحدسيين) يرفض أن يكون لمفاهيم نظرية المجموعات الكلاسيكية ومسلماتها أي دلالة، وليس شخصا يؤمن بأنها تصف واقعا معالمه محددة جيدا. ذلك لأن حدسية كانتور - في الحقيقة - يجب أن تكون إما صحيحة أو خطأ، واستحالة حسمها على ضوء مسلمات كالمعروفة حاليا لا يعني إلا شيئا واحدا، وهو أن هذه المسلمات لا تشتمل على وصف كامل للواقع.
وهذا يعني أن ما تثبته براهين فرضية الاتصال في حقيقة الأمر، بالنسبة إلى عالم رياضيات أفلاطوني، هو أن نظرية المجموعات ينبغي أن تجد مجموعة من المسلمات الجوهرية أفضل من نظام مسلمات «تسيرميلو-فرانكل-سكوليم»، وإلا فسوف يكون عليها على أقل تقدير أن تضيف بعض الفرضيات الأخرى التي تتسم - مثل مسلمة الاختيار - بأنها «واضحة في ذاتها» ومتوافقة مع المسلمات الكلاسيكية. وإذا كنت مهتما بمعرفة وجهة نظر جودل الشخصية تجاه فرضية الاتصال، فقد رأى أنها غير صحيحة، وأن هناك حقا عددا لا نهائيا من لا نهائيات زينون المتضمنة بين
و ، وأنه آجلا أو عاجلا سوف يتوصل إلى مبدأ يثبت ذلك. ولكن لم يتوصل أحد إلى هذا المبدأ حتى الآن. توفي كل من جودل وكانتور منعزلا،
127 ،
128
مودعين عالما بلا حدود متناهية. عالم يدور الآن في نوع جديد من الفضاء الصوري تماما. وما زالت الرياضيات تواصل النهوض من كبوتها.
هوامش
ثبت المراجع
كتب
Niels H. Abel,
Oeuvres complètes,
v. 2, Johnson Reprint Corp., 1964.
Alexander Abian,
The Theory of Sets and Transfinite Arithmetic,
W.B. Saunders Co., 1965.
Howard Anton,
Calculus with Analytic Geometry,
John Wiley & Sons, 1980.
John D. Barrow,
Counting, Thinking, and Being,
Clarendon/Oxford University Press, 1992.
Readings,
J. A. Benardate, I
nfinity: An Essay in Metaphysics,
Clarendon/Oxford University
Eric T. Bell,
Men of Mathematics,
Simon & Schuster, 1937.
David Berlinski,
A Tour of the Calculus,
1995.
Max Black,
Analysis,
Cornell University Press, 1954.
Carl Boyer,
A History of Mathematics,
2nd ed. w/Uta Merzbach, John Wiley & Sons, 1991.
T. J. I. Bromwich and T. MacRobert,
An Introduction to the Theory of Infinite Series,
3rd ed., Chelsea Books, 1991.
Bryan H. Bunch,
Mathematical Fallacies and Paradoxes,
Van Nostrand Reinhold Co., 1982.
Georg Cantor,
Contributions to the Founding of the Theory of Transfinite Numbers,
trans. P. E. B. Jourdain, Open Court Publishers, 1915; Reprint = Dover Books, 1960.
Georg Cantor,
Transfinite Numbers: Three Papers on Transfinite Numbers from the Mathematische Annalen,
G. A. Bingley Publishers, 1941.
Georg Cantor,
Gesammelte Abhandlungen mathematischen und philosophischen Inhalts (= Collected Papers). Eds. E. Zermelo and A. Fraenkel. 2nd ed., G. Olms Verlagsbuchhandlung, Hildesheim FRG, 1966.
Augustin-Louis Cauchy,
Cours d’analyse algébrique, = v. 3 of Cauchy,
Oeuvres complètes,
2nd ed., Gauthier-Villars, Paris FR, 1899.
Jean Cavaillès,
mathématique,
Hermann, Paris FR, 1962 (has French versions of all the important Cantor-Dedekind correspondence on pp. 179-251).
Nathalie Charraud,
Infini et Inconscient: Essai stir Georg Cantor,
Anthropos,
Christopher Clapham, Ed.,
The Concise Oxford Dictionary of Mathematics,
2nd ed., Oxford University Press, 1996.
Set Theory and the Continuum Hypothesis,
W. A. Benjamin, Inc., 1966.
Frederick Copleston,
A History of Philosophy,
v. I pt. II, Image Books, 1962.
Richard Courant and Herbert Robbins (Revised by Ian Stewart),
What is Mathematics? An Elementary Approach to Ideas and Methods,
Oxford Press, 1996.
Joseph W. Dauben,
Georg Cantor: His Mathematics and Philosophy of the Infinite,
Richard Dedekind,
Essays on the Theory of Numbers,
trans. W. W. Beman, Open Court
1963.
The Encyclopedia of Philosophy,
1st ed., v. 1-8, Collier MacMillan Publishers, 1967.
Real Numbers, Generalizations of the Reals, and Theories of Continua,
Kluwer Academic Publishers, 1994.
J.-B. Joseph Fourier,
Analytic Theory of Heat,
Dover Books, 1955.
Abraham Fraenkel,
Set Theory and Logic,
Addison-Wesley Publishing Co., 1966.
Galileo Galilei,
Dialogues Concerning Two New Sciences,
Dover Books, 1952.
Alan Gleason,
Who Is Fourier?
Transnational College of LEX/Language Research Foundation, 1995.
Kurt Gödel,
The Consistency of the Axiom of Choice and of the Generalized Continuum-Hypothesis with the Axioms of Set Theory,
Ivor Grattan-Guinness, Ed.,
From the Calculus to Set Theory,
Gerald Duckworth & Co., London UK, 1980.
Leland R. Halberg and Howard Zink,
Mathematics for Technicians, with an Introduction to Calculus,
Wadsworth Publishing Co., 1972.
Michael Hallett,
Cantorian Set Theory and Limitation of Size,
Oxford University
G. H. Hardy,
Divergent Series,
Oxford University/Clarendon Press, 1949.
G. H. Hardy,
A Mathematician’s Apology,
Cambridge University Press, 1967/1992.
T. L. Heath,
The Thirteen Books of Euclid’s Elements,
v. 1-3, Dover Books 1954.
Hugh Honour and John Fleming,
The Visual Arts: A History,
1982.
Geoffrey Hunter,
Metalogic: An Introduction to the Metatheory of Standard First Order Logic,
University of California Press, 1971.
E. V. Huntington,
The Continuum and Other Types of Serial Order, with an Introduction to Cantor’s Transfinite Numbers,
Harvard University
Stephen C. Kleene,
Introduction to Metamathematics,
Van Nostrand, 1952.
Morris Kline,
Mathematical Thought from Ancient to Modern Times,
v. 1-3, Oxford University Press, 1972.
George J. Klir and Bo Yuan,
Fuzzy Sets and Fuzzy Logic: Theory and Applications,
Shaughan Lavine,
Understanding the Infinite,
Harvard University Press, 1994.
From Brouwer to Hilbert: The Debate on the Foundations of Mathematics in the 1920s,
Oxford University Press, 1998.
W. G. McCallum, D. Hughes-Hallett, and A. M. Gleason,
Multivariable Calculus (Draft Version), John Wiley & Sons, 1994.
Richard McKeon, Ed.,
Basic Works of Aristotle,
Random House, 1941.
Elliott Mendelson,
Introduction to Mathematical Logic,
2nd ed., D. Van Nostrand Co., 1979.
Robert Miller,
Bob Miller’s Calc I Helper,
McGraw-Hill, 1991.
David Nelson, Ed.,
The Penguin Dictionary of Mathematics,
2nd ed., Penguin Books, 1989.
Theoni Pappas,
Mathematical Scandals,
Wide World Publishing, 1997.
Henri Poincaré,
Mathematics and Science: Last Essays,
trans. J. W. Boldue, Dover Books, 1963.
W. V. O. Quine,
Set Theory and Its Logic,
Belknap/Harvard University Press, 1963.
Georg F. B. Riemann,
Collected Mathematical Works,
Dover Books, 1953.
Rudy Rucker,
Infinity and the Mind,
Birkhäuser Boston, Inc., 1982.
Bertrand Russell,
Introduction to Mathematical Philosophy,
Allen and Unwin, London UK, 1919.
Bertrand Russell,
Mysticism and Logic,
Doubleday Anchor Books, 1957.
Bertrand Russell,
Mathematics,
2nd ed., W. W. Norton & Co., 1938.
Gilbert Ryle,
Dilemmas: The Tarner Lectures 1953,
Cambridge University Press, 1960.
R. M. Sainsbury,
Cambridge University Press, 1987.
Ferdinand de la Saussure,
Cours de linguistique générale (R. Engler, Ed.), Harrasowitz, Wiesbaden FRG, 1974.
Charles Seife,
Zero: The Biography of a Dangerous Idea,
Viking Press, 2000.
Waclaw Sierpinski,
Hypothèse du Continu, Monografie Matematyczne,
Warsaw PL, 1934.
Axiomatic Set Theory,
D. Van Nostrand Co., 1965.
University of St. Andrews,
MacTutor History of Mathematics Web Site: '
www.groups.dcs.st-and.ac.uk/~history ’.
I. M. Vinogradov, Ed.,
Soviet Mathematical Encyclopedia,
v. 9, Kluwer Academic
Eric W. Weisstein,
CRC Concise Encyclopedia of Mathematics,
CRC Press, 1999.
Hermann Weyl,
Mathematics and Natural Science,
مقالات وأبحاث
George Berkeley, “
The Analyst,
Or a Discourse Addressed to an Infidel Mathematician Wherein It is Examined Whether the Object, Principles, and Inferences of the Modern Analysis are More Distinctly Conceived, or More Evidently Deduced, than Religious Mysteries and Points of Faith. 'First Cast the Beam Out of Thine Own Eye; and Then Shalt Thou See Clearly to Cast Out the Mote Out [
sic ] of Thy Brother’s Eye,”’ in A. A. Luce, Ed.,
The Works of George Berkeley, Bishop of Cloyne,
Thomas Nelson & Sons, 1951.
Jorge L. Borges, “Avatars of the Tortoise,” in D. Yates and J. Irby, Eds.,
Labyrinths,
New Directions, 1962, pp. 202-208.
Luitzen E. J. Brouwer, “Intuitionism and Formalism,” trans. A. Dresden,
Bulletin of the American Mathematical Society
v. 30, 1913, pp. 81-96.
Georg Cantor, “Foundations of the Theory of Manifolds,” trans. U. R. Parpart,
The Campaigner
No. 9, 1976, pp. 69-97.
Georg Cantor, “
Theorie der Ordnungstypen ” (= “Principles of a Theory of Order-Types”), mss. 1885, in I. Grattan-Guinness, “An Unpublished
Acta Mathematica
v. 124, 1970, pp. 65-106.
Joseph W. Dauben, “Denumerability and Dimension: The Origins of Georg Cantor’s Theory of Sets,”
Rete
v. 2, 1974, pp. 105-135.
Joseph W. Dauben, “Georg Cantor and Pope Leo XIII: Mathematics, Theology, and the Infinite,”
Journal of the History of Ideas
v. 38, 1977, pp. 85-108.
Joseph W. Dauben, “The Trigonometric Background to Georg Cantor’s Theory of Sets,”
Archive for the History of the Exact Sciences
v. 7, 1971, pp. 181-216.
H. N. Freudenthal, “Did Cauchy Plagiarize Bolzano?”
Archive for the History of the Exact Sciences
v. 7, 1971, pp. 375-392.
Kurt Gödel, “Russell’s Mathematical Logic,” in P. A. Schlipp, Ed.,
The Philosophy of Bertrand Russell,
Northwestern University Press, 1944.
Kurt Gödel, “What is Cantor’s Continuum Problem?” in Benacerraf and Putnam’s
Mathematics,
pp. 258-273.
Ivor Grattan-Guinness, “Towards a Biography of Georg Cantor,”
Annals of Science
v. 27 No. 4, 1971, pp. 345-392.
G. H. Hardy, “Mathematical Proof,”
Mind
v. 30, 1929, pp. 1-26.
David Hilbert, “
Über das Unendliche, ”
Acta Mathematica
v. 48, 1926, pp. 91-122.
Leonard Hill, “Fraenkel’s Biography of Georg Cantor,”
Scripta Mathematica
No. 2, 1933, pp. 41-47.
Abraham Robinson, “The Metaphysics of the Calculus,” in J. Hintikka, Ed.,
The Philosophy of Mathematics,
Oxford University Press, 1969, pp. 153-163.
Rudolf V. B. Rucker, “One of Georg Cantor’s Speculations on Physical Infinities,” Speculations in Science and Technology, 1978, pp. 419-421. Rudolf v. B. Rucker, “The Actual Infinite,”
Speculations in Science and Technology,
1980, pp. 63-76.
Bertrand Russell, “Mathematical Logic as Based on the Theory of Types,”
American Journal of Mathematics
v. 30, 1908-1909, pp. 222-262.
Waclaw Sierpinski, “
L’Hypothèse généralisée du continu et l’axiome du choix, ” Fundamenta Mathematicae v. 34, 1947, pp. 1-6.
H. Wang, “The Axiomatization of Arithmetic,”
Journal of Symbolic Logic
v. 22, 1957, pp. 145-158.
R. L. Wilder, “The Role of the Axiomatic Method,”
American Mathematical Monthly
v. 74, 1967, pp. 115-127.
Frederick Will, “Will the Future Be Like the Past?” in A. Flew, Ed.,
Logic and Language,
2nd Series, Basil Blackwell, Oxford UK, 1959, pp. 32-50
Página desconocida