نظرة الصحابة إلى الدنيا
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد.
فمع الدرس السابع من مجموعة: كن صحابيًا، ولا زلنا نبحث عن معالم طريق الصحابة ﵃، وقد تحدثنا عن الإخلاص وعن العلم وعن العمل، واليوم سنتحدث عن مفهوم جديد حير كثيرًا من الناس، فقد حيّر الفلاسفة وحيّر المفكرين وحيّر العلماء، ألا وهو الدنيا.
فيا ترى ما هو مفهوم الصحابة للدنيا؟ وما هي نظرة الصحابة إلى الدنيا؟ في الحقيقة إن نظرة الصحابة إلى الدنيا كانت نظرة عجيبة جدًا، فقد كانت نظرة متوازنة بشكل ملفت للنظر، فهم من جانب لا يُعطون لها قيمة تُذكر في حياتهم، فيتنازلون عنها بسهولة وببساطة شديدة، وكأنها لا تساوي درهمًا، ومع ذلك هم من جانب آخر يعملون فيها بجد واجتهاد، فيزرعون ويتاجرون ويتكسّبون المال، ويعمّرون الأرض، فكان منهم الأغنياء الذين لا تُحصى أموالهم، والمُلّاك الذين تجاوزت أراضيهم مئات الأفدنة، فالدنيا في أعين الصحابة لم تكن غاية ولم تكن هدفًا، بل كانت وسيلة إلى إرضاء الله ﷿، ومعبرًا إلى الآخرة، ومن ثم كانت وسيلة إلى تنفيذ كل ما أمر الله ﷿ به، فالله ﷿ أمر بإعمار الدنيا، فليكن الإعمار، والله ﷿ أمر بكفالة الأسرة والزوجة والأولاد والآباء والأمهات، فليكن العمل في الدنيا لتحصيل المال لكفاية هؤلاء، والله ﷿ حض على الجهاد بالمال، فلا بد من وجود المال حتى يجاهد به، والله ﷿ حض على الوقوف في وجه الكافرين، فلا بد من العمل في الدنيا لإعداد العدة لمواجهة الكافرين.
إذًا: فأنا أشتغل في الدنيا لإرضاء الله ﷿، فأكسب المال لإرضاء الله، وأتزوج لإرضاء الله، وأخلّف لإرضاء الله، وأعمل كل شيء في الدنيا لإرضاء الله، ومن الممكن أن أكون من أغنى الناس في الدنيا، وفي نفس الوقت أرضي الله ﷿ بهذا المال، وفي نفس الوقت أيضًا لا يوجد عندي مانع أن أترك الدنيا بكاملها وأصبح أفقر واحد فيها إرضاء لله ﷾.
إذًا: فهذه علاقة تفاعلية رائعة فقهها الصحابة ﵃ وأرضاهم، ومعادلة صعبة جدًا حققوها بسهولة ويسر، عندما ساروا على منهج الله ﷿.
إن الدنيا في حقيقتها لا تساوي عند الله شيئًا، ومن ثم فهي لا تساوي عند المؤمنين بالله شيئًا، فلا يجوز التصارع من أجلها، ولا يجوز التشاحن والبغضاء من أجل جزء منها ولو كان عظيمًا في أعين الناس، وفي ذات الوقت لا يجوز اعتزالها وتركها وإهمالها، ولا يجوز التأخر فيها، ولا يجوز تركها غنيمة في أيدي أعداء الدين.
إذًا: لنتأمل كيف فقه الصحابة هذا الفقه المستنير لحقيقة الدنيا؟ وكيف حققوا هذه المعادلة الصعبة، بل المستحيلة في أعين الكثيرين؟ إن هناك من الناس من يقول لك: إما دنيا وإما آخرة، ولا ينفع أن تعمل للدنيا والآخرة في نفس الوقت! وعليه فكيف تكون من طلاب الآخرة، وأنت تعمل في الدنيا وتكافح وتتزوج وتكسب وتفرح وتضحك!؟ إن الصحابة الكرام وصل إليهم هذا الفقه العميق والدقيق عن طريق معلمهم ﷺ، ومعلم البشرية أجمعين ﷺ، فوصل إليهم عن طريق كلماته وأفعاله ﷺ، وعن طريق ما نقله عن رب العزة ﷾ من آيات ومعجزات القرآن الكريم، فقد كانت حياته ﷺ تطبيقًا حيًا دقيقًا لكل كلمة قالها ﷺ.
7 / 2