الموقف الأول
الموقف الأول: روى النسائي عن شداد بن الهاد ﵁ أنه قال: (جاء رجل إلى النبي ﷺ فآمن به واتبعه)، وهو رجل من الأعراب، (ثم قال: أُهاجر معك)، وهنا نتعلم الإخلاص من هذا الأعرابي البسيط الذي أسلم قريبًا، من هذا الرجل الذي أصبح صحابيًا وحقق شروط الصحابي كما ذكرناها، وقد قلنا: إن الصحابي هو الرجل الذي آمن برسول الله ﷺ في حياته ورآه أو اجتمع به ومات على هذا الإيمان، وهذا الصحابي ﵁ عند إسلامه أوصى به الرسول ﷺ بعض أصحابه ليعلموه الدين فعلّموه، ثم جاءت غزوة مباشرة بعد هذا التعليم البسيط لأمور الدين، وغنم النبي ﷺ سبيًا -هو النساء- فقسمه بين أصحابه، وجعل لهذا الصحابي قسمًا، وقال لأصحابه: عندما يأتي هذا الرجل أعطوا له قسمه، ثم جاء الرجل فدفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: قسم قسمه لك النبي ﷺ.
والرسول ﷺ هو الذي يقسم، أي: أن هذا حلال خالص، وأيضًا هناك ميل فطري لهذا السبي، ومع ذلك لنتأمل ما كان رد هذا الصحابي الأعرابي البسيط الذي أسلم منذ أيام قليلة؟ فأخذه وجاء به إلى النبي ﷺ وقال: (ما هذا؟)، قد يظن من يقرأ هذا الحديث أنه مستقل لهذا العطاء، (قال الرسول ﷺ: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا)، وأشار إلى مكان في الحلق، وهو مكان مميت لو ضُرب فيه بسهم لقُتل لا محالة، (ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا بسهم فأموت فأدخل الجنة)، وهنا نقف وقفة مع فعل هذا الصحابي الذي قد يستغربه البعض، بل وقد يعتقدون أن هذه مبالغة، وهي فعلًا مبالغة لكنها مبالغة في الخير، فالصحابي هذا مع أن عمره في الإسلام قليل جدًا، لكن كان فهمه عميقًا جدًا، ورؤيته واضحة جدًا، والجنة قد كبرت في عينيه، والجهاد عنده يساوي الدنيا كلها، فهو يخاف أن يأخذ شيئًا يشغله عن الجهاد، ومن ناحية أخرى هو يخاف أن تتغير نيته، وعند ذلك سوف يبتدئ عملًا جديدًا بنية خالصة لله ﷿، وبعد أن يكثر المال أو يجد منفعته من هذا العمل تتغير نيته، كالذي ينشئ مدرسة -مثلًا- بنية أن هذا مشروع تربوي إسلامي، وسيفيد به الأمة الإسلامية جميعها، وبعد أن يبدأ المال بالكثرة يغير في نيته، ويبدأ يجعل الدنيا هي همه، ويرفع من أسعار المدرسة، ويعمل رحلات بأسعار عالية ليكسب من ورائها، ويغيّر لبس المدرسة كل سنة ليضطر أولياء الأمور لأن يشتروا الزي المدرسي كل سنة، ويكثِّر عدد الطلبة في كل فصل، أي: فبعد أن كان الفصل فيه عشرين أو خمسة وعشرين طالبًا لدوافع تربوية، صار في الفصل خمسون طالبًا وأكثر من أجل تكثير المال؛ لأنه يعرف أن الأبعاد التربوية التي كان يرجوها لا يستطيع أن يعملها في ظل هذا العدد الكبير من الطلاب، إذًا تغيرت النية هنا.
فالصحابي الأعرابي البسيط لم يكن يريد أن يدخل في هذه التجربة، لأنه يريد أن يعيش حياة مخلصة لله ﷿ وإن قصرت، ولهذا رفض المغنم الحلال، وقرر أن يعمل لله ﷿ بدون أجر، هذا وإن لم يكن فرضًا فهو من فضائل الأعمال، والرسول ﷺ لم يُنكر عليه ذلك، ولم يقل: إن هذا تشدد منك، بل قال: (إن تصدق الله يصدقك) أي: لو أنت صادق في نيتك فإن الله سيحقق لك كل الذي تريده، ولهذا يجب على كل واحد منا أن يكون له أعمالُ خيرٍ كثيرة لا يأخذ عليها أجرًا من أحد، وذلك ليثبت إخلاص نيته لله ﷿، كالمدرس يمكن أن يُدرس من غير فلوس للناس المحتاجين، وكذلك الطبيب يمكن أن يعالج من غير فلوس للناس المحتاجين، وأيضًا المحامي يمكن أن يترافع عن مظلوم محتاج من غير فلوس؛ لأنه محامي يعمل لله ﷿، وهذا ليس فرضًا ولكنها وسيلة لإثبات الإخلاص لله ﷿.
هنا قد يأتي سائل ويسأل فيقول: ما هي الوسيلة التي من الممكن أن تعرف أنك مخلص تمامًا لله ﷿ في عملك؟ كلنا نقول: إننا مخلصون، لكن أحيانًا قد يكون هناك أجر على العمل، فيا ترى إذا كل واحد منا أخذ أجرًا على العمل ليس مخلصًا؟ لا، فالصحابة كانوا يأخذون أجرًا على عملهم، فقد أخذوا في هذه الغزوة السبي، وهو من الأجر على عملهم، ومع ذلك فإخلاصهم عالي جدًا، والمقياس الحقيقي لتعرف إخلاصك من عدمه هو: أنك تعمل العمل بغض النظر أخذت أو لم تأخذ، أما إذا ربطت عملك بالأجر فهذا يدل على ضعف الإخلاص أو غيابه أصلًا.
نرجع مرة أخرى لقصة الصحابي الأعرابي، قال الصحابي: أنا لا أريد أن آخذ من السبي شيئًا، فأنا لم أدخل في الإسلام إلا لأُقتل في سبيل الله، فقال له ﷺ: (إن تصدق الله يصدقك)، قال راوي الحديث شداد بن الهاد ﵁ وأرضاه: (فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي ﷺ يُحمل) أي: أتوا به شهيدًا ﵁، (قد أصابه س
4 / 5