الأخوة صمام أمان لهذه الأمة وضرورة حتمية لإقامة كيانها
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فمع المحاضرة العاشرة من محاضرات: كن صحابيًا، وما زلنا نبحث عن معالم الطريق الذي سار فيه الصحابة، والذي نسأل الله ﷿ أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، وسنتحدث بمشيئة الله تعالى عن مفهوم جديد من المفاهيم الإسلامية، وكيف تعامل الصحابة مع هذا المفهوم، هذا المفهوم الذي لا يستقيم لأمة الإسلام أن تقوم بغيره، والذي بعدُّ من دعامات المجتمع الصالح، ولبنة أساسية من لبنات إقامة الأمة الإسلامية الصالحة، ألا وهو: مفهوم الأخوة، فأي مجتمع صالح لابد أن يقوم على أساس الأخوة.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)، وانظروا إلى هذا التشبيه الجميل، فبنيان الأمة الإسلامية مثل العمارة الضخمة الكبيرة، فهل تستطيع أن تبني عمارة بأن تضع طوبة بجانب طوبة فوق طوبة من غير إسمنت وغيره من المواد؟ لا يمكن ذلك، لأنه لابد أن يكون هناك شيء يربط بين كل طوبة وأخرى، وإذا فرضنا أنك تستطيع أن تعمل ذلك في ارتفاع متر أو مترين فإنك لن تستطيع أن تعمله في عمارة ضخمة، والإسمنت الذي بين طوبة وطوبة أخرى، أو الخرسانة التي بين دور ودور آخر هي الأخوة، فلا تستطيع أن تبني عمارة كبيرة من غير إسمنت، أو من غير خرسانة، وكذلك الأمة الإسلامية، فلا تستطيع أن تبني أمة من غير أخوة، لذا قال ربنا ﷿: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:١٠]، حصر منه ﷿، فلا ينفع أن تكون أمة المؤمنين من غير أخوة، ولذلك كان من أوائل الأساسات التي أنشأها رسول الله ﷺ في المدينة المنورة بعد هجرته أساس الأخوة، فأقام المؤاخاة بين الأوس والخزرج، وفك النزاع القديم الأصيل في المدينة، وليس فقط ذلك، بل جعل كل طرف يحب الطرف الثاني، ووجدت المحبة والمودة في المدينة لأول مرة، ونحن لا نريد مجرد التعايش السلمي، بل نريد الأخوة في الله، والحب في الله.
ثم أقام النبي ﷺ المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، ووصلت هذه المؤاخاة إلى حد الميراث، يعني: كأنها أخوة حقيقية تمامًا، بل أشد من الأخوة الحقيقية، والغريب أن الأوس والخزرج قحطانيون من اليمن، بينما قريش عدنانيون من مكة، لكن الإسلام جمع بينهم، وليس فقط أقام لهم دولة، بل جعل كل فرد في هذه الدولة يحب الفرد الآخر، وهذا هو ما عمله الإسلام في المدينة، ولذلك نجد أن معظم شعائر الإسلام تقوم على الجماعة، أي: على المجتمع، ولذا كان لابد لهذا المجتمع أن يكون فيه أواصر أخوة ومحبة، فمثلًا: صلاة الجماعة تفضُل على صلاة الرجل في بيته بسبع وعشرين درجة، وذلك حتى يرتبط المسلم بجماعة المسلمين، وكذلك الزكاة، لابد أن تكون من واحد لمجموعة، أو من واحد لواحد، ولا ينفع أن تكون الزكاة شيئًا فرديًا، والحج أيضًا مؤتمر جماعي كبير، يأتي إليه الناس من كل أقطار الأرض، ليجتمعوا وليعملوا هذا المؤتمر العظيم كل سنة، وكذلك الجهاد لابد أن يقوم به مجموعة من الناس، ولا ينفع أن يكون الجيش فردًا أو فردين أو ثلاثة، لأنه عمل يشمل كل الأمة في أقطارها، وفي الدعوة لابد أن يكون هناك داعية ولابد أن يكون هناك مدعوون، وفي العلم لابد أن يكون هناك عالم ومتعلمون، والشورى أيضًا لابد أن تكون بين مجموعة من المسلمين، فكل شيء محتاج إلى مجموعة من الناس، وكل شيء في الإسلام محتاج إلى العمل الجماعي، وأعظم دليل على ذلك: قضية الاستخلاف على الأرض، فلن تقوم إلا بعمل جماعي، فهناك من يزرع، وهناك من يبني، وهناك من يبيع، وهناك من يعالج، وهناك من يخترع، وهناك من يحارب ويدافع، ولابد من تفاعل وتنسيق بين كل هؤلاء، وذلك حتى يخرجوا بعمل طيب ونافع، وهذا كله لا يحصل إلا إذا وجدت محبة بين المسلمين، وفوق ذلك هناك صراع حتمي بين أهل الحق وأهل الباطل، وهو سنة من سنن الله ﷿ في الأرض، وهذا الصراع سيحتاج إلى وحدة بين أهل الحق في مواجهة أهل الباطل، ولا يمكن أن يتصارع أهل الحق مع أهل الباطل وهناك فرقة وبغضاء وشحناء بين أهل الحق، ولذلك فإنه إذا تصارع أهل الحق فيما بينهم فلن يكون هناك شرائع ولا جهاد ولا شورى ولا استخلاف، ولذا أوجب الله ﷿ الأخوة والحب في الله بين أفراد المجتمع المسلم، ونهاهم عن الشحناء والبغضاء والكراهية، وبذلك يستطيع المؤمنون بالله أن يقوموا بأمر الاستخلاف كما أراد الله ﷿، ومن هنا فقه الصحابة أهمية الأخوة بين بعضهم البعض دون ارتباط بنسب ولا مال ولا مصلحة، فهموا أنه لن تقوم لهم أمة، ولن يعبدوا الله حق عبادته
10 / 2