توجد أدلة أخرى على هذا الاقتراح؛ وهي تاج من الحجر الجيري مأخوذ من تمثال عثر عليه فلندرز بتري في أثناء عمليات التنقيب التي أجراها في مدينة قفط، أضاف هذا التاج إلى الملكة، التي كانت على الأرجح كليوباترا السابعة، لقبا جديدا : «أخت الملك» (شكل
3-12 ). كان هذا التاج لتمثال بالحجم الطبيعي لملكة من عصر البطالمة. يمكن تقليص احتمالات شخصية صاحبة التمثال على أساس سمة شكلية معينة: وجود ثلاثة رءوس أفعى (كوبرا) بدلا من رأس واحد. كانت أرسينوي الثانية أخت بطليموس الثاني وزوجته وكانت ترتدي أفعيين من نوع الكوبرا على جبهتها، ومع ذلك، فإن نوع التاج الموجود في تمثال بتري (المكون من ريشتين وقرص الشمس وقرني بقرة) ليس التاج الذي ترتديه هذه الملكة على وجه الخصوص. منحت أرسينوي تاجا أكثر زخرفة كانت تقترضه منها أحيانا كليوباترا الثالثة والسابعة ويختلف عن الشكل العام الذي كانت ترتديه الغالبية العظمى من نساء الأسرة، فنجد هنا أن السمة الوحيدة المميزة لهذا التاج هي رءوس الأفعى الثلاثة. للأسف لا يوجد في النص المكتوب على الجزء الخلفي من التاج أي اسم، لكن نظرا للتقليد البطلمي المتبع المتمثل في تكرار الاسم الأول كان من غير المحتمل أن يساعد هذا في التعرف على شخصية صاحبته. ترتبط رءوس الأفعى الثلاثة بقرن الخصب والنماء المزدوج ولا توجد إلا ثلاث ملكات فقط هن اللاتي يعتقد في وجود صلة مباشرة بينهن وبين هذا الرمز؛ أرسينوي الثانية وكليوباترا الثالثة وكليوباترا السابعة. كانت أرسينوي الثانية ترتدي دوما رأسين من رءوس الأفعى، ولذا من غير المحتمل أن يبدأ الفنانون فجأة في استخدام ثلاثة رءوس. كذلك يظهر قرن الخصب والنماء المزدوج على الوجه الخلفي من العملات التي ضربت في أثناء فترة حكم كليوباترا السابعة وعلى العملات التي يرجع تاريخها إلى حكم بطليموس الثامن (أشتون 2001أ: 40-43).
لقد أدت إعادة فحص التاج مرة أخرى على يد عدد من الباحثين إلى تكرار مشكلات العمل على أدلة مجزأة ترجع إلى عصر البطالمة. لا تكمن المشكلة في عدد الأشياء المتبقية حتى الآن ، وإنما في غياب العبارات المنقوشة على التماثيل على وجه الخصوص، التي تمثل نوعا من الأدلة. كما أشرنا، فإن تمثال بتري الذي على شكل تاج كان منسوبا في الأصل إلى أرسينوي الثانية على أساس موقع العثور عليه، والألقاب ورءوس الأفعى المتعددة. لكن هذه الفكرة فندت واقترحت كليوباترا بدلا منها. وردا على هذا الاقتراح أشير إلى أن الألقاب الموجودة على العمود الثاني مع لقب حور تأكد انتماؤها إلى بطليموس الثاني (ومن ثم إلى أرسينوي الثانية بالتبعية)، لكن ليس إلى كليوباترا السابعة (بيانشي 2003: 18-19). هذا اللقب يجعلنا نستبعد، كما أشرنا، أن يكون الزوج هو بطليموس الخامس عشر لأنه لم يلقب بالكامل بلقب حور (بصفته الحاكم الوحيد). تظل مشكلة عدم معرفتنا بخراطيش بطليموس الثالث عشر والرابع عشر. يستنتج بيانشي أن التاج الذي به ثلاثة رءوس أفعى هو لأرسينوي الثانية، على الرغم من عدم وجود أدلة على ارتباط هذا الشكل من التيجان بهذه الملكة على وجه الخصوص. ومن الممكن، في ظل الارتباك بشأن الألقاب، أن تكون مرتبطة بأبناء بطليموس الثاني عشر. إن وجهة نظر بيانشي بشأن القيمة الدينية للألقاب في مقابل قيمتها الحقيقية صحيحة؛ ففي تلك الفترة كان يطلق على الملكات اللاتي لسن أخوات الملك هذا اللقب. وتحتاج مسألة رءوس الأفعى الثلاثة إلى مزيد من الاهتمام.
بالإضافة إلى إهداءات المعابد توجد أدلة أخرى على حكم كليوباترا في صورة نقش إهدائي بارز يخلد ذكرى وفاة ثور بوخيس في أثناء حكم أغسطس. على الرغم من أن هذه الوثيقة نقشت في أثناء حكم خليفة كليوباترا، فإنها تقدم دليلا مهما على الفترة الأولى من حكم الملكة الذاتي. أمر بصنع هذا اللوح عام 51 قبل الميلاد، عندما كانت كليوباترا تحكم مع بطليموس الثالث عشر. كتب على السطر العاشر: «... لقد وضعه [ثور بوخيس] الملك بنفسه في السنة الأولى، 19 برمهات. الملكة، سيدة الدولتين، (خرطوشة فارغة)، الإلهة المحبة لأبيها، (11) نقلته في مركب آمون مع مراكب الملك، ومعه كل أهالي طيبة وأرمنت والكهنة ...» (ترجمة فيرمان في كتاب موند ومايرز 1934: 11-13، وفي كتاب جونز 2006: 35-38). على الرغم من بقاء خرطوشة كليوباترا فارغة فإن لقب «الإلهة المحبة لأبيها» يشير إلى أن هذه الملكة كانت هي كليوباترا. وجدير بالذكر أن اللوحة تسجل وجود دور ديني فعال لها في إدخال الثور الجديد وربما يعكس هذا سلطتها بالإضافة إلى اهتمامها بالتقاليد الدينية المصرية.
أخيرا، عثر على جزء من أحد التماثيل في مدينة فوه في دلتا مصر يبلغ طوله 53 سنتيمترا ومحفوظ من منطقة البطن إلى ما فوق (ووكر وهيجز 2001: 169، رقم 168)، وربما يعبر عن صورة مبكرة لكليوباترا السابعة. نجد الذقن فيه ناتئا للغاية ويشبه ذلك المحفور في تمثال بطليموس الثاني عشر من الحجر الجيري الذي عثر عليه في منطقة أم البريجات في محافظة الفيوم (أشتون 2001أ: 24، 86-87 رقم 11، وستانويك 2002: 123، 203، إي3). يتمتع تمثال فوه بمظهر شاب؛ فالعينان على شكل حبتي لوز، والحاجبان شكلهما طبيعي، والفم صغير ويبدو كما لو أنه قد أجبر على الابتسام، وهذه السمة على وجه الخصوص معتادة في تماثيل البطالمة المبكرة. ومع ذلك، فإن اللباس الفضفاض والذقن يوحيان بتاريخ يرجع إلى القرن الأول. يثير الرداء الاهتمام بقدر كبير؛ فقد ربط الشال في عقدة في وسط الصدر، وأسفل هذا الشال يوجد رداء تقليدي يشبه الثوب الضيق الذي ترتديه النساء في الأسر الملكية والإلهات. يمكن رؤية ملابس مشابهة على البوابة الموجودة بالقرب من معبد خونسو في الكرنك (شكل
3-13 )، حيث تظهر برنيكي الثانية مع زوجها بطليموس الثالث، الذي يرتدي عباءة احتفالية. وعلى الأرجح يؤدي الرداء المعقود الذي ترتديه برنيكي الهدف نفسه. يشير ظهور هذه السمة في تمثال مدينة فوه أيضا إلى وجود مناسبة رسمية، وعلى الأرجح أنها أقيمت من أجل الاحتفال بحدث معين. يعبر الثوب المعقود عن إحدى السمات المنسوبة إلى مجموعة من الصور الإلهية سنتحدث عنها في الفصل السادس. ومع ذلك، فإن تمثال مدينة فوه يضم السمات الثلاث التقليدية، الشعر المستعار المهندم مع وجود رأس أفعى واحد، ولا ينطبق بسهولة على أي من الفئات الأخرى المقترحة. لا يمكن الجزم بأن صاحبة التمثال هي كليوباترا السابعة، لكن التشابه الموجود بين تمثالها وتمثال بطليموس الثاني عشر يشير إلى أنه كان لسيدة لها علاقة به، ربما كليوباترا الخامسة أو ابنتها كليوباترا برنيكي.
شكل 3-13: بوابة معبد خونسو، الكرنك. (9) مشكلات في الفترة الأولى من حكم كليوباترا
كان للفيضان السنوي لنهر النيل أهمية كبرى لمحاصيل مصر واقتصادها. وكانت الزيادة الشديدة في الفيضان أو انخفاضه الشديد لعدد من السنوات المتعاقبة يمثلان كارثة على دولة تعتمد بالكامل على النهر في زراعة أراضيها. وكان سلوك ملك مصر يرتبط ارتباطا وثيقا بنجاح الفيضان. وكان للفيضان السنوي احترام كبير حتى إنه كان محظورا على الحكام الإبحار في أثناء موسم الفيضان السنوي، وهو مبدأ استمر تطبيقه بحزم في القرن الثاني الميلادي تحت حكم هادريان، الذي كان الإمبراطور الروماني؛ ومن ثم كان ملكا على مصر.
كانت كليوباترا سيئة الحظ في السنة الأولى من حكمها المشترك عندما عانت البلاد من تكرار ضعف إنتاج المحاصيل. وكان لنقص الغذاء الذي نتج عن انخفاض الفيضان تأثير كبير على المدن أكثر من الريف بمراحل؛ إذ يمكن في الريف زراعة الطعام محليا. في عام 50 قبل الميلاد أصدر بطليموس الثالث عشر وكليوباترا السابعة مرسوما في محاولة للتصدي لهذه المشكلة. صدر هذا المرسوم بتاريخ 27 أكتوبر عام 50 قبل الميلاد، وهو أقدم شكل من هذه الوثائق الصادرة في فترة حكم كليوباترا. عند ذكر الحكام يذكر الملك أولا (الذي كان هو بطليموس الثالث عشر) ثم كليوباترا. قضى هذا المرسوم بالسماح بنقل الحبوب إلى الإسكندرية فقط. وكانت عقوبة تجاهل هذا القرار الموت. بالإضافة إلى ذلك، ينص المرسوم على أنه في حالة ثبات التهمة، يكافأ الذين أخبروا عن المجرم بالحصول على ممتلكاته. تشير إضافة هذه الوسيلة لتشجيع الناس على الإبلاغ عن الذين ينتهكون هذا المرسوم الملكي إلى مدى جدية أهدافه. في وقت لاحق من هذا العام تحققت مخاوف كليوباترا، عندما حدث فيضان آخر منخفض. يذكر بليني أنه كان أكثر فيضان منخفض مسجل (التاريخ الطبيعي 5. 58). وتزامن في الخلفية مع هذه المشكلات الطبيعية الاضطراب السياسي الناتج عن الحروب في الإسكندرية (طومسون 2003: 32-33).
استمر عدد من المشكلات الإضافية في إعاقة حكم كليوباترا؛ ففي عام 42 قبل الميلاد ، حدثت فيضانات أخرى منخفضة (سينيكا 4أ، 2. 16)، ووفقا لما قاله أبيان («الحروب الأهلية» 4. 61 و4. 63) تلاها حدوث مجاعة ووباء. في 12 أبريل عام 41 قبل الميلاد صدر مرسوم ملكي آخر. كانت المشكلة هذه المرة في الضرائب المرتفعة التي فرضت على ملاك الأراضي. وكانت استجابة الأسرة الحاكمة إعفاء الضيعات في الريف من ضريبة «التاج» الإضافية. كان هذا الحكم نتيجة لضغط ملاك الأراضي في إقليم بوبستيت وبروسوبيت (مراكز إدارية) كانت تقع بالقرب من الإسكندرية وكانت تتصل مباشرة بالأسرة الحاكمة (طومسون 2003: 33).
Página desconocida