وقد يكون «الشيخ علي» رجلا تعسا في رأي الناس؛ لأنه حيوان ضعيف وإنسان أضعف، ولكنها تعاسة بالغة؛ فهي من تلك الآلام الحادة التي بالغت الطبيعة في تكوينها لتخرج منها ذلك النوع الشديد الحاد الذي يسمونه اللذة، وربما كانت التعاسة السامية خيرا من سعادة سافلة!
إن المجنون لم يزل عن منهج الحياة بجنونه، ولكنه يتبع سنة هذه الحياة على طريقة خاصة غير ما ألفه الناس أو تواضعوا عليه؛ ليرى في كل شيء أثر جنونه، فهو حي مع الأحياء ، بيد أنه يشبه أن يكون تفسيرا للحياة الغامضة التي تلوذ بكل جانب مهجور على وجه الأرض، وبكل رأس تحتسبه جانبا مهجورا؛ لأن الناس لا يفهمونها ولا يتسعون لفهمها.
وهذا «الشيخ علي» رجل غامض متلفف بحقيقته العجيبة، كدهاة السياسة في شباكهم التي يأخذون بها الأمم والشعوب، فلا تبرح ترتبك فيها ارتباك الصيد في الحبالة؛ وأولئك الفلاسفة الذين يعيشون في السحب العالية من فضائلهم، فيمطرون الكون مرة ويرجمونه مرة ... إلى غيرهم من روابي الخلق،
16
ومن كل رجل عظيم أظله أحد الجناحين المنبسطين على الأرض والسماء: جناح الوحي أو جناح التاريخ، ولكن «الشيخ» على غموضه من كل جهاته واضح من جهة واحدة، هي جهة الجنون في اصطلاحنا، وتلك هي جهة الفضيلة الخالصة فيه؛ إذ قطعت ما بينه وبين الرذيلة، وجعلت له في الناس رذيلة مجنونة مثله، فكانت سبته أنه رجل مطلق لا ينزل على حكم، ولا يتحمل على أمر، ولا ينازع إلى عادة معروفة، بل هو قد نجا بنفسه من هموم الناس، وأصبح كالروح الوثابة التي لا يمسكها قيد ولا يخضعها زمام، والتي هي فيه كما هي في موجة البحر وعاصفة الريح؛ فكل مخلوق يحجل في الحياة لمكان القيود منه، وهذا يجمع الوثبة العالية ثم يثب مقبلا ومدبرا، ويتخطى مد بصره في الحياة كأنه براق الأنبياء!
وليت شعري هل يأمل الناس أن يشهدوا الحقيقة مغلوبة على أمرها، وما كانت الحقيقة أحد الخصمين قط إلا كانت الهزيمة على الآخر، ولو أن هذا الآخر عصر من تاريخ الأرض. ثم ما هي الحقيقة إلا أن تكون عقلا مطلقا لا زيغ فيه، أو حقا مطلقا لا كذب فيه، أو يقينا مطلقا لا شك فيه؟
وهذا «الشيخ علي»، أما عقله فعند الله، وأما حقه فقد أوجبه الله، وأما يقينه فلا يعلمه إلا الله؛ فكيف يرى مغلوبا لاصطلاح أو عادة وأكثره راسخ في السماء؟
إنه ليجوع ويظمأ ويعرى، ولكن كما يجوع الطير وتظمأ الأرض ويعرى الشجر، ليس من حلة إلا وسبيلها من رحمة الله، فإن تخلت عنه السماء مرة ، وقطعت مقاوده من الغيب، وخذلته الوسيلة؛ فما تغمز منه الحاجة إلا حجرا صلدا يقع على أي جانب ترميه ثم لا يقع إلا حجرا؛ لأن آلام هذا الرجل من الألم القفر الذي لا ينبت فيه شيء من الخوف، ولا يهتدي إليه وهم من الحياة، ولا مجرى فيه للدمع، ولا ظل للحسرة، وهو ألم إن أفضى إلى الموت أفضى إليه برجل لا يعرف الموت ما هو، وإن أبقى على الحياة أبقى عليها في رجل عرفت الحياة من هو.
رجل حط الله أوزاره، وكتب عليه أن يكون فقيرا من المال وحب المال وذل المال؛ فخرج وليس له في أفئدة الناس إلا الرأفة والحنان، وجاء وليس له من الناس حاسد أو عدو، وخلق ذا حدين من نفسه الماضية لا يكتنفه ذل أو هم إلا قطعهما وانطلق كالفرس العتيق في ميعة حضره،
17
Página desconocida